الكاتب : فيصل نور ..
شورى الفقهاء
ذكرنا عند حديثنا عن ولاية الفقيه أنه مصطلح فقهي عند الشيعة تعني نيابة الفقيه الجامع لشروط التقليد والمرجعية[1] عن مهديهم المنتظر في ما له من صلاحيات مفوضة له من قبل الله عزوجل عبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بزعمهم لإدارة شؤون الأمة.
ولم يختلف الشيعة في أصل المسألة، وإنما إختلفوا في حدود هذه الولاية، بين قائل بالولاية الخاصة أو المقيدة في الأمور الحسبية وهي الأمور التي لا يجوز فواتها إن تركت لحالها كالموقوفات العامة التي هي بحاجة الى من يتولى أمرها ولم يعين لها الواقف متولياً خاصاً، وكذلك أموال اليتامى والقاصرين الذين ليس لهم أولياء وما شابه ذلك. ولا يرى أصحاب هذا الرأي انها تتعدى إلى سواها من الأمور.
والرأي الآخر هو القول بالولاية المطلقة أو العامة، وأنها غير محدودة بتولي الأمور الحسبية، بل أن دائرتها أوسع بكثير وتشمل جميع صلاحيات الامام المعصوم "حسب معتقد الشيعة" في قيادة الأمة الإسلامية وإدارة شؤونها وتولي الحكومة الاسلامية.
وشورى الفقهاء هي رؤية مغايرة للرأي الأخير هذا،ي لهلري ذا صاغها المرجع الشيعي محمد الشيرازي (ت : 1422 ه) الذي ذهب إلى أن الأمة تختار جماعة من الفقهاء لإدارة الحكم يكون بينهم الشورى ويؤخذ بأغلبية آرائهم في الإدارة".
التفاصيل:
يرى الفريق الآخر لولاية الفقيه المطلقة أن النصوص المتعلقة بالحكم تكاد تكون مفقودة؛ فأغلب الأخبار المعتمدة هي تلك التي تتعلق بالقضاء، وبعضها جاء في الأُمور العامة كالحث بالرجوع إلى العلماء، وحيث أن آيتي الشورى ليستا كافيتين بأن تغطيا مشكلة الحكم، وأن ظاهرهما يتعلق بالمؤمنين عموماً وليس العلماء منهم فقط؛ لذا عمدت الإطروحة الجديدة (شورى الفقهاء) إلى المزاوجة بين ما يُفاد من الآيتين في الحث على الشورى وبين ما تنص عليه الأخبار في الرجوع إلى الفقيه وقبول حكمه كما في القضاء، فكانت الحصيلة من عملية الجمع هذه هي التبشير بفكرة الشورى لكل من الأُمة والفقهاء. فشورى الأُمة تتمثل بإنتخابهم لشورى الفقهاء بما لهم من منصب من قبل الإمام، فيكون الحكم للأُمة والفقهاء، حيث لا يتم تنصيب الفقهاء إلا برضا الأُمة.
وتقتضي أدلة التقليد لزوم إتباع الخبير، وتقتضي أدلة الحكومة إتباع حكم الحاكم لا مطلق الخبير في شؤون الحكم، أما أدلة الشورى فهي ناطقة بوجوب الإستشارة على الحاكم وإتباعه للأكثرية، وبالتالي تكون الحكومة لكل الفقهاء لا لأحدهم، أو لأحدهم مشروطاً بإمضاء الأكثرية.
ويرى هذا الفريق أن إطلاق معنى الحاكم ليشمل كل أمر ونهي بحيث يكون كلامه هو القانون، والقانون هو كلامه وامضاءه، ليس على إطلاقه، ولابد من تقييده بأمور كالتقييد بتطبيق الاحكام الشرعية العامة بحيث إذا لم يحكم بالحكم الشرعي يجب الرد عليه ورفضه. والتقييد بالمرتبة السفلى عن مرتبة المعصومين الذين لهم تمام الولاية على الاموال والأنفس، فلا تكون للفقيه تلك الصلاحية. والتقييد بالمصلحة، فلابد أن يكون حكمه مطابقاً للمصلحة ولا ينفذ من دونها، وهذا لابد من معرفة واقعه لأن الفقيه متمسك بالمصلحة نظرياً وفي حدود دليله.
ومن هذا كله صحت تسمية الفقيه بالحاكم الشرعي وليس بالولي الشرعي أو الولي العام الاّ مجازاً، لأن صفات الحاكم تختلف عن صفات الولي كما هو واضح جلي.
لذا يرى ويدعو التيار المعارض لنظرية الولي الفقيه إلى تبني شورى الفقهاء أو المراجع مستدلين بقوله تعالى : (أمرهم شورى بينهم) وقوله تعالى في آية أخرى (وشاورهم في الأمر). وأن الأصل أن الله عزوجل لم يعين أحد المراجع للحكم، الأمر الذي يقتضي إباحة اختيار أي منهم. ولخصوا رؤيتهم هذه على أن الحكومة الإسلامية قوامها شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس فهم نواب الأئمة، ولا وجه لأن يكون بعض المراجع في الحكم دون بعض. وأن ولاية الفقهاء العامة محصورة بالأمور الحسبية والتنظيمية. وأن الرجوع إلى الفقيه ليس أمراً مبهماً لا يمكن التعرف على ملاكه، وإن الرجوع إلى المختصين في الأمور السياسية إنما يهدف إلى تحسين الأداء السياسي. وأن الفقيه؛ بسبب تخصصه في علم الفقه، لا يُعّد هو القدر المتيقّن من المخوّلين في التصدي لمثل هذه الأمور، فلا بد من التمييز بين التخصّص في الفتوى والتخصّص في الإدارة والتنفيذ، فقد يكون الفقيه أعلم في الإفتاء، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون مختصّاً في الإدارة والتطبيق.
وفصل هؤلاء البديل لنظرية ولاية الفقيه وهي نظرية شورى الفقهاء التي ذكرنا بعض ملامحها بالقول بأن الأمة تختار مجموعة من الفقهاء (ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم) وإذا تحقق أن انتخبت الأمة مجموعة من الفقهاء تأتي مسألة جديدة، إذ يتخذ الوضع أحد حالتين:
أ- أن يقرر الفقهاء المنتخبون ترئيس أحدهم، ويمارس الباقون مهمة الاستشارة، فهم (مشاورون).
ب- أن تنفذ أمور الدولة والحكم بـ (الرهينة الجماعية).
وعليه يكون للدولة الإسلامية رئيسها الأعلى هو الفقيه الجامع للشرائط، سواء كان بصورة فردية أو بصورة جماعية- حسب اختيار الأمة أحد الأمرين.
ويرون أن أن الأمة إذا اختارت اكثر من فقيه جامع لشرائط الحكم وتشكلت من ذلك هيئة حاكمة، إنما نكون قد افرزت (شورى المراجع) كصورة للحكم الإسلامي على ارض الواقع، ولكن تفطنوا إلى نتيجة خطيرة مؤداها، أن أن (شورى المراجع) كطريقة في الحكم متوقفة على إمضاء الأمة لها. وبهذا يجسد الشيرازي على الرغم من أنه يرى في (شورى المراجع) أنها امثل الصور وأدقها وأروعها واجدرها في إدارة شؤون الدولة، إلا أنها يجب أن لا تفرض على الناس بقوة أو إيهام أو بأي لون من ألوان الفرض، بل يجب أن تكون نتيجة انتخاب شعبي شامل حيث تعمل عملية الانتخاب هنا دورها الإيجابي الفاعل وتعود إلى القاعدة الأساسية الأولى التي أرساها الشيرازي، إلا وهي على ضرورة تعيين الحاكم- فردا أو جماعة- بالانتخاب.
فخلاصة نظرية الشيرازي تتلخص بالتسلسل الآتي:
أولا: لا بد من حاكم إسلامي.
ثانيا: هذا الحاكم إما فرد واحد (ولاية الفقيه)، أو جماعة من الفقهاء الجامعين للشرائط (شورى المراجع).
ثالثا: في حالة الشورى، إما أن تجتمع العناصر على ترئيس أحدها، أو تتفق أن يكون الحكم استشاريا بينها.
رابعا: ولاية الفقيه أو شورى المراجع إنما تتقرر بالانتخاب المباشر أو بواسطة نواب منتخبين لهذا الغرض.
والشيرازي يؤمن بـ (شورى المراجع) كنظرية خاصة، ولكن يقيد أو يشترط إمضاءها على ارض الواقع برضا الأمة، لأن الانتخاب عنده أصل لا يمكن خرقه أو تنحيته.
وسيأتي المزيد من آرائة في المسألة.
ويقول محمد كاظم الخاقاني[2] منتقداً لنظرية ولاية الفقيه مؤيداً لنظرية شورى الفقهاء : لا بدّ من تشكيل لجان خاصة لكافة الاختصاصات تجري فيها قاعدة الشورى أيضاً حتى تتبلور النظريات وتحصل اللجان المختلفة على النظريات الراجحة بعد مناقشة الآراء فيما بين كل أهل اختصاص سواء كانت اللجان الشورائية اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو ثقافية وهكذا ليرفع ما حصلت عليه هذه اللجان من النظر الراجح إلى شورى الفقهاء ليحصل تشريك أهل الكفاءات لبناء مجتمعهم ولتجري قاعدة الشورى في كافة مجالات الاختصاص، ثم يكون الراجح بعد عرضه على شورى الفقهاء للنظر فيه من ناحية التطابق مع الشرع مسلماً بيد الفقيه الذي هو على رأس الشورى والمعبر عنه برئيس الدولة الإسلامية ليكون هو المنفّذ للقوانين على رأس كافة اللجان المختلفة، وان كان هذا الفقيه له كبقية الفقهاء رأي في شورى الفقهاء فيما كان يرجع للأمور العامة وأما بعض الصلاحيات الخاصة في مواطن الأمور الجزئية في مرحلة التطبيق فقد يكون الحاكم متوحداً فيها.
نعم الفقيه الذي يكون على رأس الشورى لحنكته ولمسه لواقع الزمن الذي يعيشه الأثر البليغ في إدارة دفة الأمور وإن كان ليس من حقه بناء على الولاية الوسطى التوحّد بالرأي بالنسبة إلى ما يكون من شأن شورى الفقهاء أو بالنسبة ما يرجع لبقية اللجان لأنهم أهل اختصاص فيما هم فيه إذا ثبتت صلاحيتهم الدينية وكان ما رأوه راجحاً متطابقاً مع الشرع القويم حين عرضه على شورى الفقهاء.
بالجملة إن الكثير من القوانين الإسلامية هي من ضروريات الدين فلا محلّ لرأي أو شورى بالنسبة إليها وسيكون شورى الفقهاء مشرفة لتنفيذ المنهج الإسلامي.. فمسألة الشورى هي المثل الأعلى لحرية الرأي وتحقيق التوازن بين الحاكم والرعية.
ثم دلل عل ذلك بشواهد تاريخية على جريان الشورى تكريماً لحرية الرأي بذكر ما جرى في حرب الأحزاب (الخندق) وهو من أشد الظروف التي مرّت على حياة مسلمي صدر الإسلام لكن مع ذلك نشاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك روح الحرية في مثل هذا الموطن العصيب أيضاً حيث بعث صلى الله عليه وآله وسلم على رؤساء الأنصار يشاورهم في أعضاء بني غطفان نصف ثمر تمر المدينة ثم نراه يتراجع عما رآه صلاحاً لتفتيت عضد القوم وشق صفوف الكفار ويأخذ برأي الأنصار. وفي موطن أخر نشاهد امرأة تخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء يدعوها للعودة إلى زوجها قائلة: يا رسول الله: أأنت آمر أم شافع؟ فلما قال لها بل شافع، أخذت تخاطبه قائلة لا أقبل لك شفاعة، فلم يتأثر منها ولم يجبرها على أمر.
ويقول أحمد الكاتب في نقده لنظرية ولاية الفقيه: وإذا تحررنا من نظرية (النيابة العامة) بعد وضوح ضعفها وعدم صحتها لعدم وجود (المنوب عنه : الإمام المهدي ) وعدم ثبوت ولادته، فاننا يمكن ان نقيم أساس الدولة على قاعدة (الشورى) وولاية الأمة على نفسها، بمعنى ان يكون الإمام منتخبا من الأمة ونابعا من إرادتها ونائبا عنها ومقيدا بالحدود التي ترسمها له وملتزما بالصلاحيات التي تعطيها له. وذلك لأن الأدلة العقلية تعطي للامة حق اختيار الحاكم ليحكم بالنيابة عنها، كما تعطيها الحق في ان تهيمن على الإمام وتشرف عليه وتراقبه وتحاسبه وان تعطيه من الصلاحيات بقدر ما تشاء وحسبما تشاء، وذلك لأن منبع السلطة في غياب النص الشرعي وعدم وجود الإمام المعين من قبل الله تعالى هي الأمة الإسلامية. حيث لا تعطي الأدلة العقلية الحاكم العادي (غير المعصوم) القابل للخطأ والصواب والانحراف والهدى، من الصلاحيات المطلقة مثلما تعطي للرسول المرتبط بالله عبر الوحي، ولا تساويه أبدا مع (الإمام المعصوم).
ويمكن الاستدلال على كون الأمة هي منبع السلطة بما يلي:
-
القرآن الكريم الذي يقول:· وأمرهم شورى بينهم، والذي يتوجه في خطابه من اجل تنفيذ الأحكام الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والجهاد والخمس والزكاة والصلاة وما إلى ذلك، إلى الأمة الإسلامية، ويلقي على عاتقها مسئولية تطبيق الدين، ولما كانت الأمة بحاجة إلى رئيس وقائد أو امام، لتنفيذ ذلك، فأنها تنتخب رجلا عالما عادلا من بين صفوفها، وتكلفه تنفيذ الواجبات العامة والقيام بمهام الإمامة الكبرى.
-
الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم واهل البيت عليهم السلام والتي تنص على الشورى، وتأمر بانتخاب الإمام العادل الملتزم بتعاليم الدين، كالحديث النبوي الذي يقول :· إذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها.
والحديث الذي يرويه الصدوق في :(عيون أخبار الرضا) عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:· من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فان الله عز وجل قد إذن ذلك.
وقول الإمام علي عليه السلام في رسالة له إلى معاوية بن أبى سفيان :·... الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل.. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدءوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة.
وما في كتاب صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية على :· ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
-
العقل، الذي يحكم بالشورى كأفضل طريق لانتخاب الإمام في حالة عدم وجود النص والتعيين من قبل الله تعالى، وهو ما يلتزم به العقلاء في كل مكان وفي مختلف الأديان والمذاهب اكثر مما يلتزمون بأسلوب الوراثة الملكية أو الحكومات العسكرية القائمة على القوة والإرهاب.
-
الواقع، الذي يثبت عدم وجود امام ظاهر معين من قبل الله لقيادة الأمة الإسلامية والشيعة منذ اكثر من ألف عام، وعدم صحة نظرية (النيابة الخاصة أو العامة) القائمة على فرضية (وجود ولد للإمام الحسن العسكري) لم يظهر ليقوم بواجبات الإمامة منذ اكثر من ألف عام.
يقول الشيخ حسين علي المنتظري:· مع عدم التمكن من الإمام المعصوم فان الإمامة واحكامها لا تعطل.. بل تصل النوبة إلى الإمام المنتخب من قبل الأمة ويجب الإقدام على اختياره وانتخابه بشرائطه.
وكان الميرزا النائيني قد قال في :(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان اصل الحكومة الإسلامية شوروية، وحق من حقوق عامة الناس، وان الحاكم العادل المثالي لا يوجد، وهو كالعنقاء أو أعزّ من الكبريت الأحمر، وكذلك الأئمة المعصومين غير موجودين....
وإذا ثبت قانون الشورى كقاعدة وحيدة لشرعية الحكم في ظل غياب النص من الله وعدم صحة نظرية(النيابة العامة) فانه ينعكس على عدة مجالات، ويؤدي إلى ما يلي:
-
الشورى في التنفيذ، وهذا يعني : ضرورة انتخاب الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومبايعة الأمة له، وضرورة موافقة الأغلبية المطلقة على قراراته وسياسته العامة، وذلك بعرضها على مجلس الشورى أو التصويت عليها من قبل الشعب، وذلك لأن انتخابه الابتدائي لايعني التسليم امام كل قرار يتخذه حتى إذا لم يحضَ برضا الأمة. ويعني ذلك أيضا: ضرورة تصويت مجلس الشورى على الهيئة التنفيذية (الوزارة ( التي ينتخبها الرئيس المنتخب لمساعدته في عملية التنفيذ.
وهنا لا بد ان نستشهد بقول الشيخ النائيني في (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان رأي الأكثرية من المرجحات لدى التعارض، ويستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة. وهو الحل الوحيد لحفظ النظام لدى اختلاف الآراء، وأدلة لزومه نفس أدلة لزوم حفظ النظام، وقد التزم الرسول الأكرم في موارد عديدة بآراء الأكثرية كما في أحد والأحزاب، والتزم الإمام علي بن أبى طالب في قضية التحكيم برأي الأكثرية وقال:· انها لم تكن ضلالة بل سوء رأي، ولأن الأكثر قالوا واتفقوا على ذلك فوافقت... فالحكام البشر العاديون لا بد من تحديدهم، وإذا كانت العصمة أو التقوى تحدد الحاكم وتمنعه من الطغيان والتجاوز والاعتداء فاننا يمكن ان نصل إلى هذه النتيجة بالقوانين المسددة التي تحدد الصلاحيات للحاكم، وذلك عن طريق :
-
الدستور الذي يحدد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكومين.
-
ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة والمسئولية عبر مجلس شورى من العقلاء والخبراء والقانونيين والسياسيين، وهو الذي يمنع الولاية من التحول إلى الملك والمالكية.
ان طريقة الشورى تختلف عن عملية قيام الفقيه ( النائب العام المعين والمجعول من قبل الإمام المهدي) بتشكيل الحكومة الإسلامية، بمجرد حصوله على القوة والأنصار، حتى إذا لم تقبل به أكثرية الأمة. ويمتاز نظام الشورى عن نظام (النيابة العامة) في ان الحاكم الأعلى ( الإمام ) فيه، غير مقدس، وذلك بمعنى عدم اتخاذ الحاكم صفة دينية إلهية، حتى لو كان مجتهدا عادلا، وان قراراته غير مقدسة، وان كانت محترمة في إطار الدستور، وبعبارة أخرى : ان الحاكم في نظام الشورى يظل مدنيا وشعبيا ولا يرقى لكي يصبح ظل الله في الأرض.
و بعد.. فان الأدلة العقلية لا تحتم ضرورة تبوؤ (الفقهاء) بالمعنى المصطلح عليه، لمنصب القيادة العليا، مع إمكانية تصدي عدول المؤمنين الأكفاء لهذا المنصب وخضوعهم لمجلس تشريعي (برلمان ) يعتمد التفقه في الدين ويراعي تطابق الأحكام والقوانين مع الشرع المقدس.
-
الشورى في التشريع، وهذا يعني : ضرورة انتخاب مجلس نواب من الأمة للقيام بمهمة تشريع الأحكام والقوانين الثانوية الجديدة التي لم ينص عليها الإسلام، والقابلة للاجتهاد.
وتختلف عملية التشريع هذه، عن عملية التشريع القائمة على نظرية (النيابة العامة) في ان عملية التشريع السابقة كانت تكتسي صفة الشرعية والقداسة والدين بمجرد قيام فقيه ما باستنباط حكم فقهي في قضية معينة، بينما تعتبر (الشورى ) كل عمل فقهي خارج حدود الشرعية والقانونية الدستورية مجرد رأي شخصي لا تتوفر فيه صفة الإلزام إلا بعد عرضه على مجلس الشورى والتصويت عليه حسب الدستور.
-
الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ان نظرية (ولاية الفقيه) القائمة على نظرية (النيابة العامة) كانت تركز عامة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدي رجل واحد هو (الفقيه) باعتباره نائبا عن الإمام المهدي، بينما تتيح نظرية (الشورى) للامة القيام إذا شاءت بالفصل بين السلطات، وإعطاء الإمام أو الحاكم الأعلى مهمة القيادة والتنفيذ فقط، وايكال عملية التشريع إلى مجلس من النواب المنتخبين من قبل الأمة، وايكال مهمة القضاء إلى قضاة مختصين ومستقلين.
وفي هذه الحالة لا تشترط نظرية (الشورى) بأن يكون الحاكم الأعلى ( فقيها قانونيا )، كما كانت تفعل نظرية (النيابة العامة) وتكتفي باشتراط العلم والكفاءة الإدارية والسياسية والعدالة والأمانة، وذلك لخضوع الحاكم إلى مجلس من النواب الذين يعتمدون التفقه في الشريعة الإسلامية.
وهذه ليست صورة مبتكرة نقدمها عن الحكومة الإسلامية، بل هي مصداق للحديث الشريف الذي يثني على الأمراء الذين يقفون على أبواب العلماء ويذم العلماء الذين يقفون على أبواب الأمراء، والذي يفيد ضرورة خضوع السلطة التنفيذية (الأمراء) إلى السلطة التشريعية (العلماء) وينهى عن العكس.
والسؤال الآن هو : أين إذن موقع (الشورى) من نظرية (الإمامة الإلهية ) ولماذا رفض المتكلمون (الاماميون ) الإيمان بها ؟.. ولماذا قالوا باشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في (الإمام) ؟.. ومن أين جاؤا بأقوالهم تلك ؟.. هل اختلقوها ؟ أم اقتبسوها من أهل البيت (ع) ؟.. وبالتالي فهل يشكل القول بنظرية (الشورى ) خروجا عن مذهب أهل البيت ؟ أم عودة إلى صفوفهم ؟
ان الإجابة عن هذه الأسئلة، والبحث عن اصل نظرية الإمامة ومنشئها وموقف أهل البيت منها هو موضوع الجزء الأول من هذا الكتاب : (تطور الفكر السياسي الشيعي) وقد بحثنا فيه بالتفصيل كل تلك المواضيع، واثبتنا التزام أهل البيت (ع) بمبدأ الشورى في الحكم والحياة، وعدم تبنيهم لنظرية المتكلمين :( العصمة والنص وتوارث السلطة في سلالتهم ).
وختاما نقول : ان الفكر السياسي الشيعي لن يستطيع التقدم نحو الإمام وإرساء قواعد (الشورى) إلا بالسير على نهج الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام)، ولن يستطيع تحقيق ذلك إلا بالتخلص من أوهام المتكلمين وفرضياتهم الخيالية التي ادخلوها في تراث أهل البيت، وعلى رأسها فرضية ولادة ووجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) التي لم يقل بها أهل البيت (ع) ولم يعرفوها في حياتهم، والتي تسببت في أبعاد الشيعة عن مسرح التاريخ قرونا طويلة من الزمن[3].
أنواع ولاية الفقهاء:
لقد حدد الشيرازي نوعين لولاية الفقهاء, الأولى أحادية الفقيه وهي وجود فقيه واحد جامع الشرائط في الدولة الإسلامية , سواء شملت حدود هذه الدولة كل العالم أو جزء منه, إذ يتولى الشخص الجامع للشرائط القيادة العليا بدون اعتراض, لان رئاسته واجب كفائي, ويزاول كافة الصلاحيات بدون الحاجة للانتخاب, وتكون مدة بقاءه في المنصب مفتوحة, طالما بقية يتمتع بكافة الشروط, ولعدم وجود من تتوفر فيه الشروط ليزاحمه على المنصب.
أما الثانية فهي تعدد الفقهاء, وهي وجود مجموعة من الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة لتولي منصب الولاية الفقهية, وهذه طبيعية في الدولة الإسلامية , ومليء المنصب يكون من خلال انتخاب احد هؤلاء الفقهاء أو تشكيل مجلس مشترك يجمعهم يسمى مجلس شورى الفقهاء, ولا يجد الشيرازي أي تعارض بين شورى الفقهاء وولاية الفقيه , لان شورى الفقهاء حسب رأيه هي عين ولاية الفقيه, إلا إن الولاية والسلطة هي لمجموع الفقهاء وليس محصورة بين شخص واحد .
طريقة اختيار وتسلم الفقهاء الحكم:
ولا يقف الشيرازي عند هذا الحد، بل يذهب في تفصيل واضح مبرمج، كيف يستلم الفقهاء الحكم؟! هذه القضية خطيرة وأساسية ومهمة فالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصبح حاكما بالدعوة وجمع الأنصار وحرب الدفاع عن النفس والدين حيث قادته عملية التفاعل بين هذه الآفات إلى حكم المدينة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عين الأئمة الاثنا عشر، فما هي الطريقة التي يقلد فيها الفقهاء الحكم؟
الشيرازي يدافع هنا بقوة وحرارة عن (الانتخاب)، فالأمة هي التي تختار حاكمها في النظرية السياسية الإسلامية حسب تصور الشيرازي, ويقول الإمام:"الحاكم الإسلامي هو الذي يجمع بين شرطين هما: .
الشرط الأول كونه مرضيا لله سبحانه وتعالى, إن الولاية لله سبحانه، عقلاً وشرعاً، فلا يحق لأحد تولي الأمر بدون رضاه سبحانه؛ أما عقلاً فلأن الله سبحانه خالق الخلق، ومالك الملك، وكما لا يجوز - عقلاً - أن يتصرف أحد في ملك أحد إلاّ برضاه، كذلك لا يجوز التصرف في ملك الله إلاّ برضاه، وأما شرعاً فلورود الآيات والروايات بلزوم أن يكون من يلي الأمور مرضياً له سبحانه، مثل آية "إنما وليكم.." (المائدة: 55)، وآية "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء: 59).
والشرط الثاني كونه منتخبا من قبل أكثرية الأمة, في لقوله سبحانه وتعالى: "أمرهم شورى" (الشورى: 37)، وقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 154)، فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لا يصح الحكم، إلاّ فيما خرج، مثل حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحكم الإمام عليه السلام ، وحكم من عيّناه نصاً، مثل تعيين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسيداً على مكة، وتعيين الإمام علي عليه السلام مالكاً على مصر؛ فإنه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات، كما لا مجال للشورى مع النص في الأحكام.
وحيث أنه لا حكم إلاّ ورد به كتاب أو سنة - كما وردت بذلك النصوص - يبقى مجال الشورى في الموضوعات، فما دلّ على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، نقول بعدم وجوب الشورى فيه، وإلا فظاهر الآية الوجوب؛ ولذا نقول بوجوب الشورى في الحكم, وعلى هذا يكون هناك انتخابان للناس هما: .
الانتخاب الأول: انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، حتى يكون هو الذي يتولى عامة الأمور، وهذا ما يسمى بـ(ولاية الفقيه)، فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم، ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام؛ حيث أن الإسلام استشاري، كما أنه أقرب إلى الإتقان؛ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه"، وهؤلاء الفقهاء هم الذين يقررون السياسة العليا للدولة، بالاستشارة فيما بينهم؛ إما بأن يجعلوا أحدهم رئيساً، والبقية مشاورين، وإما بأن تنفذ الأمور بالهيئة الجماعية.
الانتخاب الثاني: انتخابهم لنواب الأمة، الذين يكونون بدورهم تحت إشراف الفقهاء، أي تكون (ولاية الفقيه) المشرفة العليا على النواب وعلى غيرهم، وبعد ذلك إن شاءت الأمة انتخبت رئيس الجمهورية، وبالتشاور بين الثلاثة يكون انتخاب الوزراء (السلطة التنفيذية) و(الهيئة العليا للقضاء) وإن شاءت الأمة جعلت انتخاب رئيس الجمهورية على عاتق السلطة التشريعية، والسلطة الفقهائية، ولعل انتخاب الأمة لرئيس الجمهورية أقرب إلى روح التشاور وإن كان يجعل الأمر أصعب.
إذن وبكل وضوح الحاكم الإسلامي يجب ان يأتي بالاختيار او بتعبير سياسي قانوني محدد بالانتخاب.
شروط الفقهاء جامعي الشرائط:
أما الشروط التي من خلالها يتم تحقيق هذه النظرية كما يوضحها الشيرازي , إذ يدعوا إلى أن الفقيه العادل هو الحاكم الأعلى في الدول الإسلامية, وسلطته ذات منشأ الهي في ركنها الأساس, كونهم يمثلون الإمام المعصوم عليه السلام, إن الفقهاء جامعي الشرائط هم الحكام, وهي ذاتها الشروط الواجب توافرها في الفقيه ليكون مرجع تقليد, إلا إن الشيرازي إضافة شروط أخرى تجعل تولي منصب ولاية الفقيه – القيادة العليا- في الدولة لا ينطبق على كل مراجع التقليد, وهذه الشروط الإضافية على شروط التقليد هي " الكفاءة في الحكم, الإتقان في العمل, الشورى بين العلماء والفقهاء, الانفتاح على المعارضة, التواضع وعدم الغرور, التفاف الجماهير حوله, التحلي بوصايا أمير المؤمنين عليه السلام, الإصلاح, محاسبة النفس, تجنب العنف مع شعبها ومع سائر الحكومات حولها, الولاية المحدودة للفقيه – أي رفض الولاية المطلقة للفقيه-, لان الولاية المطلقة حسب رأي الشيرازي هي "من خصائص الباري عز وجل وهو عادل لا يظلم احد , كذلك من خوله الله تعالى وهو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام المعصوم عليه السلام, ورغم إن مصدر السلطة هو الله سبحانه وتعالى, إلا إن الشيرازي يولي الشعب اهتماما متميزا, حتى انه جعل عزلة الحكام عن شعوبهم وإهمالهم لهم من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين في الوقت الحاضر, لدرجة إن أي تحرك نحو الإصلاح والتغيير في واقع المسلمين لا يكتب له النجاح بدون التفاف الجماهير حوله, لان نجاح الحاكم بالتفاف الجماهير حوله, وفشله بترك الجماهير له .
فولاية الفقيه مقيدة بالإطار الإسلامي لدى الشيرازي الراحل، لان الله عز وجل جعل خليفة لـه في الأرض، ليقيم حكم الله، وينظم شؤون الخلق، حيث يقول الإمام الراحل:"إن القيادة الحقيقة هي لله تعالى، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإمام المعصوم عليه السلام، وفي زمن الغيبة لنواب الإمام المنتظر وهم الفقهاء العدول، والذين تختارهم الأمة بكامل حريتها، وتكون على صيغة (شورى المراجع)، وتعمل بأكثرية الآراء ضمن الأطر الشرعية".
من خلال استقراء الفكر السياسي للإمام الشيرازي "قدس سره" نرى إن لمجالس شورى الفقهاء دور مهم في الحكم الرشيد في الدولة الإسلامية من خلال عدة أمور أهمها:
-
التأكيد على إن مراجع التقليد عامل الاستقرار وهم الضمانة الكبيرة لشد أواصر المحبة والوئام بين أبناء البلد الواحد من أية طائفة أو قومية أو عشيرة كانوا، ومن ابرز الشواهد على ذلك الدور الذي تقوم به المرجعية الرشيدة في تكريس دعائم الأمن واللحمة الوطنية في العراق .
-
شورى المراجع من الناحية الاجتماعية والسياسية جيدة ونافعة، يعني يلزم أن يكون للمراجع الأعلام شورى ليبحثوا فيها حول المسائل العصرية التي يبتلى المسلمون بها ويتبادلوا الآراء حولها وينظروا في وجوهها وجوانبها وهو عمل مهم جداً, لأن مرجع التقليد مهما كان واجداً للشرائط والمواصفات المرجعية ومهما كان مستواه عالياً إلا أنه لا يتمكن منفرداً من الإدارة للعالم الإسلامي لأنه بشر وإنسان، والإنسان يجوز عليه الخطأ والاشتباه, وفلسفة أمر الله لنبيه (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) هو لإرشادنا إلى أهمية المشاورة, وهو في الواقع متوجه لنا إذ لا مقايسة بين شخص عادي وبين مقام العصمة إذ إن أي عالم، غير المعصومين لو لم يتشاور مع العلماء الآخرين فقد يقع في الخطأ .
-
كذلك لا يقتصر دور الفقهاء بما يملكونه من علم ودراية دينية كبيرة فقط, فان لهم باع طويل في الأمور الأخرى سواء كانت سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية, وهذه لها دور في زيادة وعي المجتمع بأموره اليومية, ومن ثم تقود إلى تشكيل نظام سياسي يتوافق عليه أغلبية الشعب, إذ نجد مثلا إن الأولوية للشيرازي كانت لنشر العلم والثقافة وتأسيس المؤسسات الدينية والثقافية والاجتماعية، وانطلاقا من ذلك فقد ألف أكثر من إلف وثلاثمائة كتاب في مختلف حقول العلم والمعرفة وكان منها (موسوعة الفقه) في مائة وخمسين مجلدا، كما إلف تلامذته أكثر من عشرة آلاف كتاب، كما أسس أكثر من إلف وخمسمائة مؤسسة علمية وتربوية ودينية وخدمية في أنحاء العالم, وهذه كان ولا زال لها دور في نهضة الأمة الإسلامية .
-
المتتبع لتراث الشيرازي يجده يعطي اهتماما واسعا ومؤثرا لـ ( شورى المراجع)، إذ يطرقها بين حين وآخر، وأن هاجسه هو لمنع الدكتاتورية, والانطلاق نحو الحكم الديمقراطي الرشيد, لحفظ كرامة الإنسان, وتطبيق مبادئ الإسلام, إذ يؤكد الشيرازي المحذور الشرعي، وهو أنه لا يحق لبعض المراجع الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووكلاء الإمام عليه السلام أن يستبد بالأمر، ولنفرض: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أربعة وكلاء إلى بلد ليكونوا حكاماً فهل يحق لأحدهم أو لاثنين منهم أو حتى لثلاثة منهم، أن يدفعوا الآخرين أو الآخر عن حقه ويستبدوا بالأمر؟ وهكذا في زمان غيبة الإمام عليه السلام حيث يقول: "جعلته حاكماً عليكم" فالفقيه حاكم من قبل الإمام عليه السلام "فإذا اختارهم الناس، كان الواجب أن تكون بينهم شورى لإدارة الحكومة..." , وحيث إنه لا حكم إلا ورد به كتاب أو سنة، كما وردت بذلك النصوص مثل قول الصادق: " ما من قضية إلا ولله فيها حكم" وقوله تعالى: " وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" و" وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ", فينحصر مجال الشورى في الموضوعات، فما دل على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، فلا وجوب للشورى فيه، وإلا فظاهر الآيتين الوجوب, والجدير بالذكر أن آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أكد في الدلالة على الوجوب لأنها إنشاء في سياق الإخبار، وقد ذكر صاحب الكفاية (الآخوند) هذه التأكيد مستدلاً بأن الإخبارات التي في مقام الإنشاء حيث إنها ترسل إرسال المسلمات فهي أكثر تأكيداً على الوجوب مما لو كان الأمر بصيغة الإنشاء .
-
ثم يؤكد الشيرازي "إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل منه إلى نظام ليس كذلك، ولا شك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص، إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية، والمجتهد العادل، وإن لم يكن مغيراً لأحكام الله بلا شك، لأنه يفهم الأحكام، ومن يختاره من المنفذين، فربما كانت المصلحة الصلح مع الأعداء وهو يحارب أو بالعكس، وربما كانت المصلحة اتخاذه فلاناً مستشاراً لا فلاناً فيتخذ مستشاره من لا صلاحية له، ولا يؤمن المجتمع من هذه الأخطاء إلا بالشورى، حيث تكون صلاحيات المرجع حينئذ محدودة، وحيث يجد له الرقيب والمنافس فيهتم أكثر فأكثر، كما أن مستشاريه يهتمون في الضبط أكثر فأكثر، وبذلك يكون الحكم مأموناً عن الانحراف الكثير وهذا الدليل (صغرى وكبرى) ضروري لكل مطلع على الموازين الإسلامية وعلى ما يراه الإنسان في الخارج من الواقع المعاش لدى المجتهدين العدول" .
وبذلك اثبت الشيرازي وفي أكثر من مناسبة انهيار الاعتقاد السائد بان الدين يقتصر على ممارسة العبادات والمعاملات، بل هو أيضا ممارسة للقيم الإنسانية والنظم الحياتية والأفكار البناءة التي صنعت عالم الأمس وستصنع عالم اليوم.
لقد استطاع الشيرازي أن يجمع بين الأمرين من خلال نظرية شورى الفقهاء المراجع التي تعني عودة الدين المحمدي وعودة الشورى والتي تمثل الحكم الشرعي للديمقراطية الحقيقية, وقد جمع بينهما بصورة فنية رائعة، راعى فيها حق العلم من جهة وحق الأمة من جهة ثانية, كما راعى فيها أصالة الحرية إلى ابعد الحدود وهي القضية التي يؤمن بها أيمانا عميقا، وربط بينها وبين العدالة ربطا جدليا محكما, وشورى المراجع هي الصورة الإسلامية المثلى للحكم الإسلامي كما يرى الشيرازي- ولكن ليس عن طريق الفرض القهري القسري, وإنما برضا أكثرية الأمة ، حيث يدخل الانتخاب هنا، والذي يستلزم الحرية والعدالة في آن واحد, ويذهب في الصدق مع الذات والغير إلى ابعد الحدود عندما يقرر أن الأمة إذا اختارت أحد فقهائها فهي حرة، ولا سبيل للاعتراض.
إن نظرية الشيرازي تحترم العقل والإرادة، وتتوافق مع تطلعات الإنسان لأن يكون مشاركا في صنع مصيره, ولا نغالي إذا قلنا أن الأخذ بالنظرية مع ملاحظة مجرياتها التي ذكرناها توفر مناخا صالحا لنمو الإرادة الشعبية والضمير الحر[4].
أنظر أيضاً : ولاية الفقيه.
[1] وهذه الشروط على خلاف بينهم هي البلوغ والعقل والإيمان (شيعي إثنى عشري) والذكورة والإجتهاد والعدالة وطهارة المولد والحياة والأعلمية وغيرها.
[2] http،//annabaa.org/nba28/faqeh.htm
[3] www.fnoor.com/main/articles.aspx?article_no=4021
[4] شورى الفقهاء في ميزان الحكم الرشيد في فكر الإمام السيد الشيرازي، لحمد جاسم محمد