يستطيع كل متتبع للفقه الإمامي أن يجد بالاستقراء الحقيقة الآتية:
إذا كانت المسألة متعلقة بالعبادات، واللفظ الخاص بها متشابها يحتمل وجهين: وجهاً يأمر بالفعل ويدعوللتوسع والزيادة فيه، ووجهاً يمكن حمله - ولوبشبهة بعيدة جداً - على الحذف أوالتضييق فُسِّرَ اللفظ وحمل على الوجه الثاني.
أما إذا كانت المسألة متعلقة باللذة أوالاستمتاع المالي أوالجسدي فيتبع في تفسيره الوجه الأول.
إن هذه الحقيقة المطردة هي المنهج الذي يتبعه الإمامية في تفسير النصوص المتشابهة في عامة المسائل الفقهية أوالعملية.
ضع هذه القاعدة أمام عينيك. ثم - قبل أن ندخل في صلب الموضوع - تعال معي في جولة سريعة مع مثالين أحدهما يخص العبادة، والآخر يخص المتاع الجسدي لنرى كيف تعامل الإمامية معهما؟ بحيث حملوا النصوص المتعلقة بالأول على أضيق ما يمكن. والنصوص المتعلقة بالآخر على أوسع ما يمكن! طبقاً للقاعدة السابقة:
المثال الأول
الصلاة
أوقاتها
قالوا: إن أوقاتها ثلاثة. وأجازوا الجمع بين الصلوات في جميع الأحوال، حتى صار الجمع لهم شعاراً! ولا دليل لديهم على ذلك سوى الشبهات! منها كون النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في السفر والمرض وما شابه. وأقوى ما احتجوا به من ذلك قوله تعالى: {أَقِمْ
الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآن الْفَجْرِ إِنَّ قرآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء:78).
قالوا: لم تذكر الآية إلا ثلاثة أوقات. فهي ثلاثة إذن لا خمسة.
أما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تواتر عنه، وثبت ثبوتاً قطعياً، وعلم علماً ضروريا لا يمكن دفعه. وكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع الأذان من مسجده خمس مرات، ويصلي كذلك دون جمع إلا في الحالات الاستثنائية، وقد استمر ذلك في أجيال الأمة جميعاً. ولا زال الأذان يرفع من المسجد النبوي والمسجد الحرام ومسجد قباء كما كان يرفع في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. ولا يعرف تاريخياً حدوث تغيير في التوقيت من ثلاث مرات إلى خمس في هذه المساجد وغيرها من المساجد في ربوع دولة الإسلام. إنما لا زال الأذان كما كان يرفع على عهده الأول، لم يحدث تغيير لا في كلماته ولا أوقاته. وهذا دليل عقلي واقعي ملموس على أن التغيير إلى ثلاث هوالحادث. كل هذا وغيره رمي خلف الحائط! إضافة إلى الآيات الأخرى الكثيرة التي صرحت بالمواقيت! وتمسكوا بما يقولون متخذين من فهمهم للآية سنداً يتحججون به دون اعتبار لكل ما أشرت إليه.
ولوتركنا كل شيء واقتصرنا في نقاشنا على الآية الكريمة موضع الشاهد لوجدناها خير مثال على اتباع المتشابه من أجل التخفف مما أمكن من العبادات عند الشيعة. وقد فصلت القول فيها في كتابي (مواقيت الصلاة في المصادر المعتمدة عند أهل السنة والشيعة). وإليك البيان باختصار:
موضع الشبهة في آية الإسراء
إن القرآن كلام، والكلام يجب أن نتعامل معه بدقة. لأن حرفاً واحداً قد يغير معناه من الضد إلى الضد! تقول: (اذهب) وتقول (لا تذهب) والأمر معكوس في الحالين. وتقول: (رغبت فيه) وهوعكس قولك: (رغبت عنه). فالنظر إلى الكلمات دون اعتبار للحروف الرابطة اتباع للمتشابه.
وموضع الشبهة في آية الإسراء هوحرف الجر (إلى) جعلوه بمعنى حرف العطف (الواو)، مع اختلافهما لفظاً ومعنى!
لم يقل الله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس (و) غسق الليل وقرآن الفجر) حتى يصح تفسيره بثلاثة أوقات. هذا على افتراض أنها الآية الوحيدة في المواقيت. وإلا فلا بد من النظر في بقية الآيات المتعلقة بها. إنما قال سبحانه: {أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وقرآن الْفَجْرِ إِنَّ قرآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.
والفرق في المعنى كبير جداً بين التعبيرين. مع أن الفرق اللفظي حرف لا غير! وهذا كالفرق بين قولك: (عملت يوم السبت (و) يوم الخميس)، وقولك: (عملت يوم السبت (إلى) يوم الخميس) فاللفظ الاول يعني يومين من العمل فقط. أما اللفظ الثاني فيعني ستة أيام بالتمام والكمال. أرأيت قوة الفرق بين الحرفين؟!!
إن الآية الكريمة تعني ما يلي: ان وقت الصلاة يبتدئ من (دلوك الشمس) أي الظهر، ويمتد إلى ... (غسق الليل)، وهواعتكاره واشتداد ظلمته. وما بين الدلوك (إلى) الغسق أربع أوقات هي الظهر والعصر والمغرب والعشاء) وبقي وقت خامس هووقت صلاة الفجر، جاء التعبير عنه بقوله: (وقرآن الفجر). فجاء بحرف العطف (الواو) دون حرف الجر (إلى). فلم يقل: (إلى قرآن الفجر). وذلك ليبين أنه لا وقت لصلاة مفروضة بين الغسق والفجر. وكذلك بين الفجر والدلوك، لذلك بدأ التوقيت من الدلوك (صلاة الظهر).
وليس معنى الآية أن عدد الأوقات فيها ثلاثة. ولا يصح لغة تفسيرها بذلك، إلا إذا جاء التعبير بحرف العطف (الواو). كما تقول: (عملت يوم السبت والثلاثاء والخميس) فهي ثلاثة أيام. أما إذا قلت: (عملت يوم السبت إلى الثلاثاء ويوم الخميس)، فالأيام هنا أكثر من ثلاثة. إنها خمسة، وان كانت الأسماء المذكورة في العبارة ثلاثة. لأن الحرف (إلى) غيَّر العدد.
وكذلك قوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآن الْفَجْر}. فلوقال سبحانه: (لدلوك الشمس وغسق الليل) لكانت الإقامة في وقتين. أمَا وقد قال: {لدلوك الشمس إلى غسق الليل} فقد عنى سبحانه بذلك: الوقت الذي تؤدى فيه الصلوات ابتداءاً وانتهاءاً. فهويبتدئ من دلوك الشمس، ويمتد إلى غسق الليل. دون تحديد للعدد. إنما فهمنا العدد من آيات آخرى. ومن السنة النبوية التي تواترت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعُلمت علماً ضرورياً.
الجمع بين الصلوات لعذر
أما الجمع بين الصلوات - كما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان - فإنما يجوز
لسبب كالمرض أوالسفر أوالقتال أوالحرج عموماً. وكلها أحوال استثنائية لا يصح اعتمادها كحالة دائمة. ولوكان ذلك جائزاً لاعتمده النبي - صلى الله عليه وسلم - لميله إلى التخفيف عن الأمة. فقد كان لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً. وكان كما وصفه الله تعالى بقوله: {عزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة/128.
وتفريق الصلوات على خمسة أوقات هوالذي تواتر من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت قطعاً عنه، وعن الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم بإحسان. ولا زال المسجد النبوي على الحال الذي تركه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع فيه الأذان خمس مرات يومياً. ولا يعرف تاريخياً أن الأمر كان ثلاثاً ثم غير في زمن من الأزمنة إلى خمس. إنما العكس هوالذي وقع في البلدان التي تؤذن مساجدها ثلاث مرات: كإيران بعد حكم الصفويين.
وهذا مما اتفقت عليه المصادر السنية والشيعية وبعشرات الروايات، كهذه الرواية التي يرويها أحمد والترمذي والنسائي، واللفظ لأحمد: (ان النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل - عليه السلام - فقال له: قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله أوقال صار ظله مثله ثم جاءه المغرب فقال قم فصله فصلى حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال قم فصله فصلى حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فقال قم فصله فصلى حين برق الفجر أوقال حين سطع الفجر ثم جاءه من الغد للظهر فقال قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه للعصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه للمغرب المغربَ وقتاً واحداً لم يزُل عنه ثم جاءه للعشاء العشاءَ حين ذهب نصف الليل أوقال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاءه للفجر حين أسفر جداً فقال قم فصله فصلى الفجر ثم قال ما بين هذين وقت).
ويرويها من الإمامية الطوسي في (التهذيب) (1) و(الاستبصار) (2) والمجلسي في (البحار) (3)، وكذلك الحر العاملي في (وسائل الشيعة) (4) والميرزا حسين النوري الطبرسي في (مستدرك الوسائل) (5) عن جعفر بن محمد (ر).
__________
(1) 2/ 253، دار الكتب الإسلامية / طهران- الطبعة الرابعة 1365هـ. ش.
(2) 1/ 257، دار الكتب الإسلامية / طهران- الطبعة الثالثة 1390هـ. ق.
(3) 79/ 347، مؤسسة الوفاء /بيروت-لبنان 1404هـ. ق.
(4) 4/ 157، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث/قم - الطبعة الأولى 1409هـ. ق.
(5) 3/ 122، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث/قم - الطبعة الأولى 1408هـ. ق.
وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في كتابه إلى أمراء البلاد: (صلوا الظهر حتى تفيء الشمس من مربض العنز، وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية .. وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم .. وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل وصلوا بهم الفجر والرجل يعرف وجه صاحبه) (1).
ولا يمكن حمل هذا على (التقية) لان علياً - رضي الله عنه - حين أرسل هذا الكتاب كان هوالخليفة ولا مكره له.
وهكذا انطبقت القاعدة على هذا الموضوع أي قاعدة اتباع المتشابه في التضييق في أمر العبادات والتوسع في أمر الشهوات.
صلاة الجمعة
لا يوجد - حتى - نص متشابه يسوِّغ تركها وتعطيل حكمها. إنما عطلوا نصاً قرآنياً صريحاً بوجوب إقامتها، لا يمكن تأويله أوصرفه عن دلالته، ولا ناسخ له، ولا يوجد نص في القرآن كله عن أي صلاة أخرى يوازيه في صراحته وقوة دلالته. واتبعوا في تعطيله شبهات، يمكن اتباعها لتعطيل أي حكم شرعي!
يقول تعالى عن صلاة الجمعة بصراحة ووضوح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجمعة/9
ومن عظمتها عنده سبحانه أطلق عليها اسم (ذكر الله). فصلاة الجمعة خصوص ذكر الله. ومن اعرض عن (ذكر الله) فهومن الخاسرين. كما اخبر تعالى في سورة (المنافقون) التي تلي سورة (الجمعة) فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} المنافقون/9 - 10
__________
(1) 3/ 83
والمنافقون يمتازون بصفتين: {لاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} التوبة/54. وأعظم الصلاة صلاة الجمعة (ذكر الله). وإليها الإشارة والتمييز بقوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} العنكبوت/45. فالتثاقل عنها أوتركها سهواً ولهواً عادة المنافقين. وقد اخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه). وقال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أوليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين).
فكيف بمن يعطلها ويتركها ويدعي أن هذا (النفاق) من الشرع!
بل وصل الأمر إلى حد تفسيق من يصليها. كما حصل عندنا مؤخراً عندما أفتى أحد المجتهدين (1) بوجوب إقامتها، وتفسيق تاركها. فقوبل بفتوى تساويها في المقدار وتعاكسها في الاتجاه (2)!
أما صلاة الجمعة في إيران اليوم فإنما هي على أساس الوجوب التخييري (3)، وجود الإمام العادل عندهم!!
ولوسأل سائل عن دليل حرمة صلاة الجمعة، وتعطيل النص القرآني الصريح
الوارد في وجوب إقامتها؟ فالجواب هو:
إن (الإمام) غائب، والحاكم غير عادل. وعدالة الحاكم تتأتى إما من كونه (الإمام المعصوم) أو(نائبه).
وقال بعضهم (4) يحتمل أن يكون المنادي المشار إليه في الآية (إذا نودي) هو(الإمام)، وأن المقصود بهذا الإمام المحتمل هو(الإمام المعصوم)!
__________
(1) هومحمد محمد صادق الصدر.
(2) ولذلك أصل في فتاوى المتعصبين من القدماء كما كان نعمة الله الجزائري يلعن كل من يصلي الجمعة. انظر تطور الفكر السياسي الشيعي للأستاذ احمد الكاتب- ص319.
(3) أجوبة الاستفتاءات / العبادات / الجزء الأول ص180 - سؤال 617 - علي خامنئي.
(4) هومحمد رضا الكلبايكاني (ت1413) - انظر تطور الفكر السياسي الشيعي لأحمد الكاتب ص322.
ولا شك أن هذه شبهة لا تخطر إلا على بال النوادر من البشر! وذلك بعد طول تفكر واعتصار للفكر. والدين لا يقوم على الوساوس والخطرات. ودعائمه لا تهدم بالشبهات. إن المنادي للصلاة هوالمؤذن. وجاء التعبير بالبناء للمجهول (نودي) إشارة إلى عدم اعتبار من هوالمنادي! بل (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) مجرد
نداء من أيٍ كان!
إن شرط (الإمام) ثم استحداث شرط (النائب) مؤخراً أوما يسمى (بالحاكم العادل) غير موجود في كتاب الله، ولا جاء عن رسول الله، ولا عن علي، ولا غيره من أئمة الدين. إنما هواجتهاد متأخر لبعض العلماء، دون استناد إلى دليل (ولم يعرف عن أحد من علماء القرن الثالث والرابع قولاً بمقاطعة صلاة الجمعة باعتبار فقدانها لشرط وجود آلاما أوإذنه الخاص) (1).
وظل الشيعة يصلون الجمعة إلى منتصف القرن الخامس الهجري. وتحديداً إلى عام 451هـ (2) أي بعد ذهاب آخر (إمام) بحوالي قرنين من الزمان! وكان أئمة الإسلام كالإمام جعفر بن محمد (رح)، وغيره من الأئمة يصلونها في مساجد المسلمين الجامعة. مع أن الحاكم - حسب التفسير الإمامي - لم يكن عادلاً! فما الفرق بين (الإمام الغائب) و(الإمام) المقهور غير المتصرف؟ وما الفرق بينه وبين (الإمام) إذا كان في إقليم آخر، وهومقهور غير متصرف؟ إذ هوغائب - بكل ما في كلمة غائب من معنى- عن الأقاليم الأخرى. بل لا معنى لوجوده في أي مكان يحل فيه إذا كان ممنوعاً من التصرف مقهوراً-كما يقولون-
فهل كانت الجمعة أيام (الأئمة) ساقطة عن الناس؟ ولماذا تأخروا قرنين من الزمان حتى يعطلوها؟!!
__________
(1) انظر تطور الفكر السياسي الشيعي/314.
(2) أيضاً/316.
إن هذه المدة المتطاولة ما هي إلا (فترة حضانة) لا بد منها لولادة الفكرة ونضوجها! وإلا فلوكانت من الدين أصلاً لظهرت في حينها تواً ولم تتأخر طيلة هذه المدة قطعاً. مثلها كمثل ولادة فكرة إعطاء خمس المكاسب إلى الفقيه، ليتسلمه نيابة عن (الإمام). إذ لم تظهر إلا بعد قرون! والعجيب أنهم جعلوا الفقيه ينوب عن (الإمام) في أخذ (الخمس)، ولم يجعلوه نائباً عنه في أداء صلاة الجمعة!! مع أن (الخمس) - حسب اعتقادهم - حق خالص لـ (الإمام) - وحق الإنسان لا يجوز التصرف فيه دون إذنه - وصلاة الجمعة حق خالص لله تعالى، لا دخل لأحد من الخلق فيه!
وفي كلتا الحالتين أجازوا لأنفسهم التصرف فيما لا يحل لهم التصرف فيه!
فمن ناحية اسقطوا حق الله سبحانه دون إذنه. وهواعتداء عظيم وجرم كبير على
حد الشرك بالله. كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الشورى/21. ومن ناحية أخرى تصرفوا في (حق) (الإمام) دون إذنه! ولا شك أن ذلك غير جائز، كما لا يجوز لأي إنسان أن يتصرف في مال الغير في غيبته بحجة المصلحة دون إذنه الصريح.
ولأجل هذا كانت الفتوى عند قدماء فقهاء الإمامية بعدم جواز التصرف في أموال (الخمس) من قبل الفقهاء! يقول الشيخ المفيد (ت 413هـ): إن الخمس حق لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته رسماً يجب الانتهاء إليه فوجب حفظه إلى وقت إيابه) (1).
والسبب في تعاكس الحكمين هوأن (الخمس) أمر نفعي، وصلاة الجمعة أمر عبادي. طبقاً للقاعدة أوالمنهج الذي ذكرناه عن الإمامية في أول الفصل، في تفسيرهم للنصوص المتعلقة بالمسائل العملية. فما كان متعلقاً بالمال وسعوه وما كان متعلقاً بالعبادة ضيقوه. وكلا الأمرين سلكوا إليه سبيل الشبهة والظن وما تهوى الأنفس.
الوضوء
__________
(1) المقنعة/46 نقلاً عن تطور الفكر السياسي لأحمد الكاتب ص306.
حذفوا منه غسل الرجلين دون بينة تورث صاحبها الاطمئنان واليقين! محتجين بشبهة لغوية بعيدة الاحتمال أوردوها على آية الوضوء، مع مخالفتها لظاهر اللغة، وتعارضها مع النقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتناقضها مع العقل والذوق وأصول الصحة والنظافة!
ثم إن الوضوء شرط لا تصح الصلاة إلا به. والأرجل أحد أركانه الأربعة التي لا يصح إلا بها مجتمعة. وكل مسلم حريص على سلامة دينه ينبغي أن يحتاط في هذا الأمر العظيم صونا للدين وتحقيقاً لليقين. أما الركض وراء الشبهات تفلتاً من أداء الطاعات فلا يفعله حريص على دينه ضنين باعتقاده ويقينه. بل هوفعل المتأولين الزائغين. كما فعلوا مع آية الوضوء في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} المائدة/6.
قالوا: إن (أرجلكم) معطوفة على محل (رؤوسكم) والباء في (برؤوسكم) زائدة فيكون (رؤوسكم) مجروراً لفظاً منصوباً محلا. وإذن (أرجلكم) معطوف على (رؤوسكم)، وليس على (أيديكم). والحقيقة أن هذا كلها مجرد احتمال مبني على احتمال، لا أكثر!
وتفصيل ذلك ما يلي:
إن القول بأن (أرجلكم) معطوف على محل (رؤوسكم) مجرد احتمال!
وهذا الاحتمال يحتاج إلى إثبات أمر آخر هوأن تكون الباء زائدة لا أصلية وهواحتمال!!
وهذا الاحتمال يحتاج إلى إثبات كون (رؤوسكم) مجروراً لفظاً منصوباً محلا. وهواحتمال!!!
وهذه الاحتمالات الثلاثة تحتاج إلى إثبات أمر رابع، وإلا انهارت جميعاً، هوأن (أرجلكم) معطوفة على (رؤوسكم) دون (أيديكم). وهواحتمال!!!!
فالموضوع برمته مبني على احتمالات قائمة بعضها على بعض! ليس هذا فحسب. وإنما هذه الاحتمالات مرجوحة لغة لا راجحة!
والأمر- بعد ذلك - عبادة لا تصح الصلاة بدونها؛ فينبغي أن ينبني على اليقين، لا على الظن والشبهة.
والحق أن لفظ (أرجلكم) على أصله وظاهره، منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، (وهواللام)، لأنه معطوف على (أيديكم) المنصوبة، لأن المنصوب يعطف على منصوب مثله ويأخذ علامته وحركته، وإن فصل بينهما فاصل
مجرور أومرفوع.
ومن القرائن الدالة على ذلك أن (أرجلكم) مقيدة بالكعبين فتعطف على المقيد (أيديكم)، لا على المطلق (رؤوسكم).
وهذا يرد في اللغة كثيراً كما في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} التوبة/31. فلفظ (المسيح) منصوب معطوف على (رهبانهم) رغم أن لفظ الجلالة المجرور (الله) قد فصل بينهما. ومعناه أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم والمسيحَ بن مريم أرباباً من دون اللهِ. لا أنهم اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون اللهِ والمسيحِ ابنِ مريم (بالكسر). وإلا كان المسيح شريكاً لله تعالى.
وهكذا الأمر مع آية الوضوء سواء بسواء: فلفظ (أرجلكم) منصوب معطوف على (أيديكم) رغم أن لفظ (رؤوسكم) المجرور قد فصل بينهما. ومعناه اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم. أما تأخير ذكر الأرجل فلأجل فائدة تأخيرها في الترتيب عند أداء الوضوء. فيقدم فعلاً ما قدمه الله ذكراً، ويؤخر ما أخره الله كذلك.
وقد يعطف مجرور على مجرور مع موجود منصوب يفصل بينهما. كما في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} النور/61
فـ (صديقكم) اسم مجرور معطوف على الاسم المجرور (خالاتكم)، رغم توسط الاسم المنصوب: (مفاتحه) وفصله بينهما، وإلا صار الصديق مملوكاً كالمفاتيح، إذا عطفناه عليها بحكم الجوار!
والقول بأن (الباء) زائدة ظن باطل. إنما تسمى في اللغة (باء الإلصاق). والمعنى: (امسحوا الماء برؤوسكم).
ناهيك عن دليل العقل إذ لا يستساغ عقلاً أن الله تعالى يأمر بغسل الوجه - مع
بُعده عن الأوساخ والأتربة والرطوبات مقارنةً بالأرجل، وتعرضه للهواء والشمس وماء الغسل المعتاد أكثر منها - ولا يأمر بغسل الأرجل!
ثم ماذا نفعل بالذوق، وقواعد الصحة والطب؟ ولها مقتضيات تخص الموضوع لا يمكن دفعها بسهولة. لذلك ترى البعض يبدأ فيغسل قدميه. ثم بعد ذلك يشرع بالوضوء. حتى إذا مسح رجليه وجدهما نظيفتين فاستساغ المسح عليهما. وما ذلك إلا محاولة للتخلص من التناقض بين ما يعتقده شرعاً من وجوب المسح دون الغسل، وما
يلزمه عقلاً وذوقاً من ترجيح الغسل!
فالقول بمسح الرجل إذن مخالف لظاهر الآية. ومخالف كذلك للعقل والذوق وقواعد
الصحة والطب، ومخالف للغة. ومخالف كذلك للأحاديث المتواترة التي تنص على الغسل. ومنها ما روته المصادر المعتمدة لدى الإمامية أنفسهم.
ومع كل هذه الأدلة الظاهرة الباهرة ظل الإصرار على المسح؛ لأنه أخف على النفس من الغسل تمشياً مع القاعدة التي تقضي بالتضييق في العبادات والتوسيع في الملذات. وقس عليه بقية العبادات.
المثال الثاني
إباحة الاتصال الجنسي عن طريق المحل الآخر
الاتصال الجنسي ضرورة من ضرورات دوام الحياة البشرية، وتلبية الحاجة الجسدية. لقد خلق الله تعالى لتحقيق هذا الاتصال ما يناسبه من الوسائل والأعضاء ومن ذلك العضوالتناسلي الأنثوي (الفرج أوالقبل). إذ جعله الله مهيأً وظيفياً تهيئة تامة لذلك الاتصال، وحصول الغرض منه دونما ضرر.
أما المحل الآخر فهوغير مناسب وظيفياً (فسلجياً) للاتصال الجنسي، إذ لا يمكن أن يتم الاتصال الجنسي عن طريقه دونما ضرر، لا سيما للمرأة. كالتسلخات والقروح وما يرافقها من ألم، ويعقبها من التهاب وفطور ودمامل ونواسير، وأمراض أخرى قد تكون خطيرة جداً كمتلازمة نقص المناعة المكتسب (الأيدز AIDS). ناهيك عن تناقضه مع أصل الصحة وقاعدتها: النظافة؛ ما يؤدي إلى مختلف الأمراض لدى الرجل والمرأة.
وهذا يعني أن الله جل وعلا لم يخلق هذا العضولهذه الوظيفة، وإلا لهيأه لأدائها على أحسن وجه. لأنه سبحانه {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} السجدة/7. وهوحكيم أتقن كل شيء صنعه، ووضعه موضعه. كما أخبر عن نفسه فقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الأعلى/2 - 3.
حتى الحيوانات نراها لا تعرف هذا الاتصال، بغريزتها وفطرتها التي فطرها الله عليها. ولهذا فإن الطباع الآدمية السليمة التي بقيت على فطرتها تأنف منه وتعافه.
فإذا جئنا إلى القرآن الكريم لا نجد دليلاً واحداً على أباحته، بل ظاهر الأدلة على حرمته إلا إذا اتبعنا المتشابه من الألفاظ. وهكذا كان الأمر لدى الشيعة محتجين لشرعنته بقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة:223).
الاحتجاج بقوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنى شئتمْ)
بما أن اللفظ يتعلق بالجنس واللذة، فقد حملوه على أوسع محامله، وفسروا قوله
تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} بمعنى من حيث شئتم من القبل أوالدبردون اعتبار
للقرائن اللفظية الموجودة في النص. وهذا - بلا شك - اتباع للمتشابه تحقيقاً لرغبات النفس وشهواتها (1)
__________
(1) لقد تسالم فقهاء الإمامية جميعاً في القديم والحديث على جواز إتيان المرأة من دبرها على اختلاف بينهم في حكمه: هل هومكروه أم جائز بإطلاق. ويروون في جوازه روايات ينسبونها إلى (الأئمة). منها ما يرويه الكليني تحت (باب محاش النساء) بسنده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (ع): إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة هابك واستحيى منك أن يسألك. قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: ذلك له. قلت له: فأنت تفعل؟ قال: إنا لا نفعل ذلك. وروى بسنده تحت الباب نفسه عن بعض أصحاب أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن إتيان النساء في أعجازهن؟ فقال: هي لعبتك لا تؤذها. (فروع الكافي 5/ 540).
وجاء في [رسائل الشريف المرتضى/المجموعة الأولى ص300/منشورات مؤسسة النور للمطبوعات/بيروت-لبنان]: مسألة سادسة وخمسون (حلية الوطء دبراً وقبلا): مباح للزوج أن يطأ زوجته في كل واحد من مخرجيها. وليس في ذلك شيء من الحظر والكراهة. والحجة في ذلك: إجماع الإمامية عليه. وقوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم). وأن الشرع يقتضي التمتع بالزوجة مطلقاً من غير استثناء لموضع دون آخر.
وسئل محمد محمد الصدر: هل يجوز الدخول بالزوجة دبراً؟ فأجاب: هوعلى وجه الكراهة الشديدة، وليس بحرام. [مسائل وردود / الجزء الثالث ص56/ مسألة 362].
وسئل علي الغروي: هل يجوز جماع الزوجة من الدبر في حالة الاختيار، وإذا كان مضطراً لمرض في زوجته يمنعه من مجامعتها قبلاً؟
فأجاب: جاز مطلقاً إذا كان برضا الزوجة. [طريق النجاة / ص46/ مسألة 157].
كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأْنْفُسُ} النجم/23.
القرائن اللفظية المرجحة
يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أذى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة/222،223).
في هذا النص القرآني لا توجد قرينة واحدة ترجح أن المقصود بـ (أنى شئتم) التخيير بين القبل والدبر -أي من أي موضع منهما شئتم- سوى التحكم بحمل اللفظ (أنى) على هذا المعنى المحتمل. ولا داعٍ له سوى الهوى والرغبة. فهوتفسير غير منزه عن الدوافع الذاتية والميول النفسية. مما يجعله موضع اتهام من الأساس. لا سيما وهومخالف لمقاصد الخلقة ووظيفتها.
ومثل هذا التفسير لا يمكن قبوله، ما لم تؤيده قرائن لفظية قوية جداً من النص نفسه. وذلك لا وجود له بتاتاً، إنما الموجود هوالقرائن اللفظية المعاكسة له!
من هذه القرائن:
1 - وصف النساء بالحرث: {نساؤكم حرث لكم}. والحرث هوموضع الزرع والإنبات. والأمر بالإتيان متوجه إلى الحرث -أي إلى موضع الزرع والإنبات- وليس ذلك إلا الفرج الذي منه ينبت الولد.
2 - إن قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} متعلق بالحرث لا بغيره. لأن النص يقول: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي جامعوا نساءكم في موضع الزرع والإنبات - وهوالفرج - بالوضعية التي تريدونها مقبلين ومدبرين، وغير ذلك. ولكن في الحرث، أي الفرج.
3 - قوله تعالى: {فأتوهن من حيث أمركم الله}. أي جامعوهن من الموضع الذي أمركم الله أن تجامعوهن منه وهوالحرث. ولما لم يكن لذلك إلا موضعان هما القبل والدبر. فلابد أن يكون أحدهما هوالمقصود بالإتيان. وإلا لم يكن لقوله تعالى: {من حيث أمركم الله} معنى. إذ يصبح زائداً لا يؤدي غرضاً.
وتأمل كيف عبر بـ {أَنَّى شِئْتُمْ} عندما أراد الإشارة إلى أحوال أوأوضاع الاتصال التي قيدها بالحرث! أي كيف شئتم مقبلين ومدبرين وعلى جنب .. الخ، ما دام الإتيان في محل الحرث.
وعندما أراد المكان أوموضع الاتصال قال: (من حيث). فـ (حيث) للموضع والمكان. و(أنى) للكيفية والحال، وقد تأتي للمكان. يقول الراغب الأصفهاني في (مفرداته): أنى: للبحث عن الحال والمكان. ولذلك قيل: هوبمعنى أين وكيف لتضمنه معناهما.
وقال الرازي في (مختار الصحاح: (أنى) معناه أين. تقول: أنى هذا أي من أين
لك هذا ... وقد تكون بمعنى كيف تقول: أنى لك أن تفتح الحصن أي كيف لك هذا. ا. هـ.
والذي أراه أن لفظ (أنى) مركب من (كيف وأين) - وهذا أحد الأقوال التي ذكرها الراغب - أي من الحال والمكان. فقول زكريا - عليه السلام - الذي حكاه الله تعالى عنه وهويسأل مريم وقد رأى عندها الطعام: {يا مريم أنى لك هذا} (آل عمران/37) يحمل المعنيين أي من أين لك، وكيف وصلك هذا؟!
وأوضاع الجماع حالية ومكانية. فإتيان المرأة من الأمام والخلف وعلى جنب ومن فوق وأسفل، هذا كله يعطي تصور الكيفية والجهة ممتزجتين. وبعض الأوضاع كالقيام والقعود ليس فيه إلا معنى الكيفية والحال، دون الجهة والمكان. هذا إذا تصورناه مجرداً. أما واقعاً فلا بد فيه من جهة. وكل ذلك جائز إذا كان من صمام واحد هوموضع الحرث أي الفرج. وهذا هوالذي أرجحه سبباً لاختيار هذه الكلمة بالذات (أنى) دون غيرها لأداء المعنى المراد منه مطابقاً لما هوواقع بالفعل.
أما قصر اللفظ على معنى واحد هوالمكان دون الكيفية، وتفسير المكان بموضع الجماع دون الجهة، فهذا تحكم محض ليس له من دليل سوى الاحتمال المجرد الذي لا تسنده قرينة. فكيف إذا كانت القرائن ضده؟!
4 - قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن} اشترط للجماع طهارة المحل. وليس ذلك إلا للفرج الذي يتعرض للنجاسة بدم الحيض بضعة أيام في الشهر. ثم ينقطع الدم ويطهر المحل فيكون صالحاً للجماع. أما المحل الآخر فهودائم التعرض للأذى والنجاسة. فلا يمكن أن يكون هوالمقصود بالتطهر شرطاً للإتيان.
5 - إن الله تعالى أمر باعتزال المرأة في المحيض. وعلل ذلك بوجود الأذى فقال: {ويسألونك عن المحيض قل هوأذى فاعتزلوا النساء في المحيض}. ولا شك أن الأذى بالنجو(ما يخرج من المحل الآخر) أشد من أذى دم المحيض. وتأذيه بالجماع أشد من تأذي القبل به. ولوسألت أي طبيب عن نكاح الدبر أليس هوأذى؟ لقال: بلى. وبما أن الأمر بالاعتزال متعين بسبب الأذى بنص الآية، وبما أن الأذى ملازم لذلك دائماً فاعتزاله على الدوام هوالمطلوب إذن.
6 - إن الله تعالى نهى عن مقاربة النساء عند المحيض فقال: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. والمجامع من الخلف لا يمكن أن يكون إلا مقارباً لزوجته. وذلك منهي عنه في تلك الحال. فتعين النهي عن ذلك الجماع.
7 - إن الله ختم الآية بقوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. ولا يمكن أن يوصف ناكح الدبر بأنه من المتطهرين. كما أنه لا يمكن أن يوصف من جامع امرأته في قبلها حال محيضها بذلك الوصف. والأول من باب أولى. فإذا كان الأمر الثاني منهياً عنه تحقيقا للوصف، فالأول كذلك من باب أولى.
ولذلك وصف قومُ لوط آلَ لوط - عليه السلام - فقالوا: {إنهم أناس يتطهرون}. أي عن إتيان الأدبار. ومن هذا قول لوط عليه السلام: {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}.
كل هذا وغيره ضرب عرض الحائط! وحمل اللفظ على غير معناه الراجح اتباعاً للمتشابه طبقاً لقاعدة (التوسيع في الملذات والتضييق في العبادات).