في أعقاب فوز محمود أحمدي نجاد برئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طرحت أسئلة كثيرة وعلامات استفهام عدة بشأن مستقبل علاقات إيران الخارجية ما بعد خاتمي، ذلك الزعيم الإصلاحي الذي حافظ خلال فترة ولايته على سياسة تنحو نحو المرونة والاعتدال وتغليب منطق الحوار مع الآخر.
وثمة توجس من إمكانية حدوث تحولات كبرى خلال فترة ولاية أحمدي نجاد، بما ينعكس على علاقات إيران مع الدول العربية، لاسيما وأن الاعتبارات الأيديولوجية مازالت تلعب دوراً في تحديد توجهات السياسة الخارجية الإيرانية بدرجة لا يمكن التقليل منها، خاصة عند التيار المحافظ المتشدد، وإن كانت تطورات الأوضاع الداخلية في إيران تتطلب الأخذ بمنهاج المصلحة الوطنية بما يشير إلى أن إيران انتقلت من منطق الثورة إلى منطق الدولة، وأصبحت طهران بمقتضاه أميل للتصرف كدولة طبيعية وليس كدولة صاحبة رسالة.
وقد أكد الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد أنه على أتم استعداد لبداية مرحلة جديدة في العلاقات مع الدول العربية. وأضاف أحمدي نجاد في رسالة "جوابية" إلى عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية أن طهران على استعداد كامل للتعاون مع الدول العربية وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية. وقال: إن إيران تفخر بأن هناك الكثير من القواسم المشتركة التي تجمعها بالدول العربية.
انتخاب أحمدي نجاد توافق مع التحرك الإيراني لتسويق مشروع "الشرق الأوسط الإسلامي" وتتمحور أهداف إيران من طرح هذا المشروع حول بعدين أساسيين:
البعد الأول، عقائدي يتمثل في إيمان طهران بحتمية قيام الحكومة العالمية الإسلامية عاجلا أم آجلاً، أما البعد الثاني، فهو بعد استراتيجي، يتركز جانب منه على الشق الأمني، وينطلق من معارضة إيران لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الأمريكية بعد احتلالها العراق تحت زعم الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، علاوة على شعور إيران بالقلق تجاه محاصرتها بقوات أجنبية في العراق وأفغانستان وآسيا الوسطى والخليج، وهو الحصار الذي تحاول اختراقه من خلال إبرام اتفاقات أمنية مع دول الجوار. ووفقاً لتصريحات المسئولين الإيرانيين، فإن مشروع "الشرق الأوسط الإسلامي" لو تم تطبيقه فلن يضعف منظمة المؤتمر الإسلامي، ولن يكون بديلاً لمجلس التعاون الخليجي أو محاولة للقضاء عليه، بل إن المشروع الإيراني يستهدف الدول الإسلامية بالمنطقة في الوقت الذي تضم فيه منظمة المؤتمر الإسلامي دولاً إسلامية ليست من داخل المنطقة، وبالتالي فهو يقوي المنظمة ويخلق بداخلها كتلة متجانسة، كما أن إيران طلبت قبولها عضوا مراقباً في مجلس التعاون الخليجي، ما يعني أنها تعترف بهذا المجلس وتتعاون معه.
ومن ثم،من المتوقع أن يعطي أحمدي نجاد الأولوية في التحرك الخارجي للفضاء الإسلامي،من خلال محاولة تطوير علاقات إيران مع دول الجوار العربي، وهو ما أكد عليه أحمدي نجاد عقب إعلان فوزه، وبرغم التوجسات والشكوك المتبادلة بين الجانبين، فإن المتغيرات الجديدة التي تعيشها المنطقة تدفع باتجاه التعاون وليس التباعد أو التصادم بين الجانبين.
أولاً: العلاقات العربية ـ الإيرانية: صراع أم تعاون؟
في مرحلة ما بعد 1979، طغى هدف تصدير الثورة على المفردات الخطابية للكثير من وجوه النظام الإيراني الجديد، فحاصر الآمال بتطوير العلاقات. وجاءت الحرب العراقية ـ الإيرانية في العام 1980، والتي بدأها النظام العراقي لتخفق هذه الآمال وتحولها إلى جحيم أودى بحياة مئات الألوف من العرب والإيرانيين في المعارك العسكرية التي استنفدت طاقات البلدين الجارين، بحيث يمكن القول أن عقد الثمانينيات قد ميز العلاقات العربية ـ الإيرانية باعتبارها علاقة "صراعية"، وما زالت آثاره تتطلب بعض الوقت والكثير من العمل لمعالجة ومداواة "الجروح النازفة".
وقد توجهت السياسة الخارجية الإيرانية في الثمانينيات وبسبب الحرب العراقية ـ الإيرانية إلى تمتين التحالف مع سوريا، حتى اختزلت العلاقات السورية ـ الإيرانية مجمل العلاقات العربية ـ الإيرانية. وقدم نظام صدام حسين بغزوه للكويت في 2 أغسطس 1990 فرصة جديدة للنظام الإيراني،لإعادة وصل ما انقطع في الثمانينيات مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وذلك بحكم الثقل السياسي والتاريخي والديني والاقتصادي الذي تمثله الدولتان. وقد توجت العلاقات بتوقيع الاتفاقية الأمنية في أبريل 2001، حيث حولت التطورات الإقليمية إيران من صيغة "العدو" الإقليمي إلى صيغة "الطرف" الإقليمي.
وعلى مدار عقد ونصف العقد (1990ـ 2005) لعبت التطورات الداخلية التي شهدتها إيران في عهد الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وخاصة بالنسبة لفترة حكم الأخير (1997ـ 2005)، دوراً كبيراً في تغير طبيعة وأداء السياسة الخارجية الإيرانية، مما ساهم في تسريع وتيرة التحسن مع دول الجوار، بالاستناد إلى مفاهيم الحوار، وتحسين الأجواء الإقليمية وتجسيد التعاون الإقليمي، واستبعاد سياسات التدخل في الشئون الداخلية، والتخلي عن مفهوم تشكيل أمة واحدة للدفاع عن المستضعفين في الأرض، وأن تكون إيران مركزاً لهذه الأمة فيما كان يوصف بنظرية "أم القرى"، وهما المفهومان اللذان كانا مصدراً لكل الصدامات التي واجهتها إيران مع بيئتها الخارجية المباشرة والبعيدة على السواء. مثل هذا الخطاب الخارجي الإيراني ساهم في زيادة مساحة الالتقاء بين الدول العربية وإيران.
هذه المتغيرات المتداخلة في مجملها جعلت العلاقات العربية ـ الإيرانية تخضع لحالة من الشد والجذب، حيث استمرت منذ نجاح الثورة الإسلامية في عام 1979 تتراوح بين الصراع والتعاون. ويمكن في هذا السياق تقسيم الدول العربية تبعا لأنماط علاقاتها مع إيران إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى، هي الدول العربية التي كان الطابع التعاوني غالبا على علاقاتها مع إيران. وتنحصر هذه المجموعة في عمان وسوريا، حيث كان يمكن حصر قضايا الصراع بينها وبين إيران وتوقيتات إثارتها.
أما المجموعة الثانية فتضم الدول التي غلب الجانب الصراعي على علاقاتها مع إيران ويأتي على رأسها العراق التي دخلت مع إيران في حرب طويلة، ومصر التي تأجل التطبيع الكامل للعلاقة معها حتى الآن (أغسطس 2005)، وفي الحالتين اقترنت كل محاولة للانفراج برد فعل مضاد أو متبوعة به من هذا الطرف أو ذلك.
أما المجموعة الثالثة فتشمل دولا مثل الكويت والبحرين التي خضعت سياستها إزاء إيران لعوامل مثل المكانة الإقليمية المتباينة لدول منطقة الخليج، والحسابات الدقيقة لتوازنات القوة فيما بينها، وهو ما دفعها إلى انتهاج سياسة متوازنة تجاه الدول الإقليمية الأكبر وهي: إيران ـ العراق ـ السعودية.
لكن ثمة نقطة جديرة بالملاحظة في هذا الإطار وهي أن العلاقات العربية ـ الإيرانية تعاني من ضعف الارتباط المؤسسي، الأمر الذي يجعلها أكثر عرضة للتغيير وعدم الاستقرار. وعلى الرغم من أن الدول العربية ـ وكذلك إيران ـ شرعت في تجاوز هذه السلبية بإيجاد الأطر المؤسسية التي تنظم علاقاتها على المستوى الثنائي (الرسمي والشعبي)، إلا أن هذا الاتجاه لا يزال في بداياته الأولى. ومما يذكر في هذا الخصوص أن عددا من اللجان الاقتصادية قد تكونت بين إيران ودول عربية كثيرة، منها سوريا والسودان والمغرب وتونس ولبنان والأردن والسعودية واليمن، نشطت في مجال تشجيع التجارة والاستثمارات المشتركة. كما تكونت جمعيات لرجال الأعمال مع سوريا وتونس وقطر، وللصداقة مع مصر. وهناك على المستوى البرلماني جمعية سورية ـ إيرانية.
ومثل هذا الاتجاه ـ إن استمر وتعزز ـ من شأنه أن يخلق شبكة من المصالح والفئات المستفيدة منها والمدافعة عنها، على كلا الجانبين العربي والإيراني، على نحو يجعل من الصعب على الحكومات تجاهلها أو الإضرار بها. فلا يمكن إحداث نقلة نوعية في مسار العلاقات العربية ـ الإيرانية إلا في إطار مؤسسي. ومن هنا طرحت فكرة استحداث كيان جديد يسمى "جامعة الدول الشرقية" ليضم الدول العربية الراغبة في الانضمام وإيران وربما تركيا في مرحلة لاحقة، وهو ما يتطلب قرارا سياسيا ومجهودات قانونية لإخراج هذه الصيغة إلى حيز التنفيذ، وقبل ذلك، الاتفاق على حدود الإطار الجديد وآلياته.
لكن الحديث عن علاقات عربية ـ إيرانية مؤسسية قوية لا يستقيم مع استمرار الخلافات العربية ـ العربية، وإن كانت أقل حدة مقارنة بفترات سابقة، حتى بدت وكأنها نوع من "الطقوس"، علاوة على أن الرابطة المؤسسية للعرب "جامعة الدول العربية" تتسم بالضعف والهشاشة، فكيف ستدخل أطراف أخرى إقليمية لتؤثر فيها وتتأثر بها؟
ثانياً: القضايا العالقة في العلاقات العربية ـ الإيرانية:
رغم تحسن العلاقات بين غالبية الدول العربية وإيران في السنوات الأخيرة إلا أنها اقتصرت على توقيع الاتفاقيات الاقصادية والبروتوكولات الأمنية واللجان الثقافية ولم تتطرق إلى "القضايا العالقة" التي قد تقلص أو تحول دون تنامي العلاقات العربية ـ الإيرانية عموما والخليجية ـ الإيرانية خصوصاً، ولعل أهمها:
1ـ إزالة العراقيل التي تعوق إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين مصر وإيران، فلا يتصور الحديث عن علاقات عربية ـ إيرانية دون قيام علاقات بين إيران وأكبر دولة عربية، لاسيما وأن مساحة مصر في العقل الإيراني كبيرة للغاية، كما أن مساحة إيران في العقل المصري كبيرة أيضا، ولا يرجع تأخر عودة العلاقات المصرية ـ الإيرانية إلى أن مصر سنية وإيران شيعية، ولا يعود إلى أن هناك خلافات حول هذا أو ذلك، وإنما يعود لاعتبارات سياسية واستراتيجية. وكلما حانت الفرصة لعودة العلاقات تظهر سحابة سوداء في مناخ هذه العلاقة، مثل اتهام الحكومة المصرية في عام 2004 أحد المسئولين في مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة وأصوليين مصريين بالتخطيط للقيام بأعمال تخريبية في مصر.
بالإضافة إلى ذلك، لابد من إنهاء المظاهر التي ساعدت على توتير العلاقات المصرية الإيرانية على مدى أكثر من ربع قرن مثل الجدارية الضخمة التي تحمل صورة قاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ووضع اسمه على شارع رئيسي في طهران.
2ـ تسمية الخليج، والتي تعتبر إحدى أهم المشكلات التي تعكس عمق الخلافات الموروثة والشك المتبادل، فدول الخليج تفضل تعبير الخليج العربي على أساس أنه عربي الهوية، وتنفي انتساب أي قوة أخرى غير عربية له من الزاوية الحضارية والسياسية. وتعزز هذا التعبير مع استقلال دول الخليج العربية في أوائل السبعينيات.
وعلى العكس من ذلك، أصرت إيران الشاه على تسمية الخليج بالخليج الفارسي، استناداً إلى تسميته القديمة منذ عهود طويلة مضت، وكان إصرارها تعبيراً عن الرغبة في الهيمنة سياسياً وثقافياً على المنطقة، أو الشعور بالعصبية الفارسية، واستمر ذلك النهج بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وحتى الآن. وقد أبدت إيران اعتراضا شديدا على ما جاء في الطبعة الأخيرة من أطلس العالم الذي تقوم مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك المتخصصة في إعداد الخرائط العالمية بإصداره، فقد احتوى الأطلس على خرائط تظهر الخليج باسمه العربي وليس الفارسي. كما منعت إيران دخول سبعة وستين كتاباً عربياً ـ من إصدارات مركز أكاديمي عربي واحد ـ إلى معرض طهران للكتاب لأن عبارة (الخليج العربي) وردت في العنوان أو المتن.
3ـ التدخل الإيراني في الشئون الداخلية لدول الخليج: تتواصل إيران قومياً ومذهبياً مع دول الخليج على مستوى العمالة الفارسية والشيعة العرب الذين يمثلون جزءاً تكوينياً أساسياً من النسيج الاجتماعي الخليجي، بحيث يلعب متغيرا القرب الجغرافي والتداخل الديموغرافي دورهما، وهو ما أدى إلى تشكيل لجان مشتركة في المجالات الاقتصادية وتوقيع عدد من الاتفاقات الأمنية،فقد سبق أن وظفت الورقة الشيعية في حرب الخليج الأولى (1980ـ1988) ودفعت ببعض العناصر في الكويت والبحرين للقيام بأعمال شغب واضطراب داخلية للضغط على هذه الدول نتيجة لموقفها المؤيد للعراق. وبعد حرب الخليج الثالثة (2003) ازدادت المخاوف من استغلال إيران لهذه الورقة، خاصة مع تزايد نفوذ شيعة العراق، وهو ما اتضح جلياً في حديث ملك الأردن عبد الله الثاني عن مشروع إيران في تكوين ما يسمى بـ "الهلال الشيعي" في المنطقة.
وقد مثلت قضية "الوجود الشيعي" واحدة من أهم القضايا الخلافية التي أثارت كثيراً من القلق والتوتر في العلاقات الإيرانية ـ الخليجية، حيث كانت بمثابة "قنبلة موقوتة" داخل دول الخليج. فعلى سبيل المثال، سبب وضع الشيعة في منطقة الإحساء السعودية الواقعة في الشمال الشرقي من المملكة مشكلات أمنية حادة للسلطات السعودية، حيث أثار سكان هذا الإقليم عدة اضطرابات على مدى العقود الماضية، وقامت السلطات السعودية بقمعها، خاصة أن المنطقة تمتلك ثروة نفطية مهمة. كما كانت المواجهات الأمنية التي شهدتها البحرين عام 1994 والتي وضعت النظام السياسي على المحك سببا رئيسيا في توتير العلاقات الإيرانية ـ البحرينية بقيام إيران بدعم الاضطرابات الداخلية التي شهدتها في هذه الآونة، علاوة على ذلك كانت البحرين مطمعاً واضحاً لإيران، حيث استندت إيران في دعاوى سعيها للسيطرة على البحرين إلى أن أغلبية سكانها من الشيعة ذوي الأصل الإيراني.
بالإضافة إلى ذلك وصل الأمر ببعض نواب مجلس الأمة الكويتي من الشيعة إلى المطالبة بنظام "المحاصصة"، حيث يتساءلون باستمرار عن سبب وجود وزير شيعي في الحكومة، وعن عدم تعيين عضو مجلس بلدي شيعي.
وقد نشرت جريدة "الأيام" البحرينية مؤخراً رسم كاريكاتير للتعليق على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية. ولأن الرسم مثل وجه ولحية "المرشد" الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ، فقد فسره البعض على أنه تعريض برمز ديني، وسرعان ما التبست الأمور واختلطت الأوراق، ونظمت مسيرات يقودها بعض رجال الدين الشيعة نحو مقر الجريدة، وأصدر المجلس العلمائي الإسلامي بياناً يستنكر فيه نشر هذا الكاريكاتير، لدرجة أن أعمال العنف وأحداث الشغب خرجت عن سيطرة قوات الأمن. ورغم ذلك أوضح رسام الكاريكاتير خالد الهاشمي أنه كان يقصد من رسمه ارتفاع أسهم وشعبية التيار المحافظ في إيران بعد فوزه في الانتخابات موضحاً أنه لم يقصد الإساءة إلى أي رمز أو طائفة.
ورغم التوتر المكتوم في العلاقات بين إيران وبعض دول الخليج، فقد رحب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن العطية بانتخاب أحمدي نجاد معتبراً أن انتخابه "خيار الشعب الإيراني". ودعا العطية الرئيس الإيراني الجديد إلى فتح صفحة جديدة مع دول الجوار، خاصة دول الخليج، ويبدو في لغة التصريح الصحفي ما لم يتم التصريح به علناً، وهو التأكيد على ضرورة احترام إيران للعلاقات بينها وبين دول مجلس التعاون على أساس المصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية وتسوية النزاعات الإقليمية والثنائية. وهي إشارة واضحة إلى قضية احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث. كما فسرت عبارة البيان التي نصت على "العمل مع دول المنطقة على استتباب الأمن والاستقرار الإقليمي"، بأنها تصب في القضية نفسها، وعدم دعم إيران لبعض مطالبات الشيعة في بعض دول الخليج أو حتى العراق.
وفي الواقع، فإن قضية التدخل الإيراني في الشئون الداخلية للدول العربية كان لها تأثير كبير على أنماط العلاقات الإيرانية ـ العربية عموما. فمن جانب، تحتل كل من سوريا والسودان موقعاً محورياً في السياسات الإيرانية تجاه الشرق الأوسط وإفريقيا. فبدون التعاون مع دمشق لما تمكنت إيران من الوصول إلى لبنان وتطوير سياساتها تجاه إسرائيل والأردن. أما السودان، فالوجود الإيراني بها سمح بتوثيق العلاقة المتوقعة بين نظامين إسلاميين، بل والتوغل في إفريقيا.
ومن جانب آخر، اعتبرت بعض الدول العربية وعلى رأسها الأردن ومصر والجزائر إيران بمثابة المساند الرئيسي للجماعات الإسلامية الراديكالية في المنطقة، خاصة ما أعلنته مصر عن وجود أدلة قوية تثبت التورط الإيراني في الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها مصر من عناصر مدربة في السودان، ورغم ذلك فإن هناك نقصاً شديداً في الأدلة التي تدعم من الربط المباشر بين إيران و "المد الإرهابي" في هذه الدول، خاصة إذا ما نظرنا إلى حجج الفريق الذي يركز على أن هذه الحركات ما هي إلا نتاج "لمشكلات البيت الداخلية".
وقد توترت العلاقات الإيرانية ـ الجزائرية في عقد التسعينيات، حيث قطعت العلاقات الدبلوماسية رسمياً في مارس 1993 (استؤنفت مرة أخرى في عام 2000)،في حين استمرت العلاقات الإيرانية ـ التونسية بشكل حذر منذ استؤنفت العلاقات الثنائية عام 1991، ويساعد على ذلك رغبة إيران تعويض الخسارة الاستراتيجية الناجمة عن فقدان الجزائر ولذلك ابتعدت إيران عن دعم حركة النهضة التونسية المعارضة.
في المقابل، كانت العلاقات الإيرانية ـ السودانية هي الأكثر تطوراً عما عداها مما أثر على العلاقات الإيرانية ـ المصرية، حيث نظرت مصر إلى ذلك التقارب على أساس أنه محاولة التفاف حولها، خاصة وأن مصر قد ربطت بين الوجود الإيراني في السودان ومساندة الحركات الإسلامية الراديكالية في داخلها مع ملاحظة أن غالباً ما تتحسن العلاقات الإيرانية ـ السودانية في وقت تدهور العلاقات السودانية العربية.
4ـ أمن الخليج: تشير التوترات المستمرة التي تشهدها منطقة الخليج إلى أن "أمن الخليج" لا يزال يمثل مشكلة، وأن تلك المنطقة لم تصل بعد إلى معادلة توازن تكفل تحقيق الاستقرار فيها، سواء بالنسبة لشكل موازين القوة العسكرية، أو نمط العلاقات الثنائية، أو ضبط التفاعلات الداخلية، أو ترتيبات الأمن الإقليمي.
وقد طرحت دول مجلس التعاون الخليجي محاور ثلاثة كأساس للأمن الإقليمي الفرعي، على النحو التالي:
* تحسين القدرات الدفاعية المحلية لكل دولة من دول مجلس التعاون كي تستطيع كل منها على حدة تحمل المسئولية الأساسية للدفاع عن أمنها.
* تشجيع تعزيز الدفاعات الإقليمية الجماعية بين دول مجلس التعاون لتمكين هذه الدول من التعاون معاً خلال فترة التوتر الشديد في المنطقة.
* تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الخليج.
وقد تراجعت دول مجلس التعاون بعد حرب الخليج عن دعوة "الأمن الجماعي" وعن إطار "إعلان دمشق" واستبعدت إيران عن إطار الأمن الجديد، واكتفت بتوقيع اتفاقيات أمنية ثنائية مع الولايات المتحدة، مع إعطاء الأولوية للبناء الذاتي للقوة العسكرية لكل دولة اعتماداً على الدعم الأمريكي، وخلق قنوات وآليات للتعاون المشترك فيما بينها باعتبارها خطوة أولى نحو إقامة ما يسمى بـ "حزام أمني دفاعي" يحيط بدول المجلس.
ويمكن وصف النظام الإقليمي الخليجي بأنه "نظام مأزوم" ويعيش حالة دائمة من الصراع والتوتر وعدم الاستقرار، حيث تفتقر السياسات الخارجية الخليجية لرؤية مشتركة لمفهوم الأمن الخليجي والتحديات التي تواجهه وآليات التعامل معها، الأمر الذي أفرز بدوره تباينات عدة بين سياسات هذه الدول تجاه قضايا الحدود والمياه والتعاون الاقتصادي والتعامل مع الحركات الإسلامية.
ومن جانبها، تطرح إيران فكرة منظومة "الأمن الجماعي" باعتبارها أكثر الأساليب فعالية بالنسبة للترتيبات الأمنية الإقليمية في المنطقة، والقائمة على أساس الاستقلال والاعتماد على الذات والامتناع عن عقد أي اتفاقات مع القوى خارج المنطقة والتي تهدد بصورة مباشرة أو غير مباشرة أمن سائر البلدان الأعضاء.
بعبارة أخرى، تتبنى إيران مبدأ "أمن الخليج مهمة دول الخليج" وهو ذاته الطرح التي تبنته في مواجهة إعلان دمشق الذي كان يفترض أن يمنح لكل من سوريا ومصر دوراً في الأمن الخليجي.
وفي سياق متصل تحاول الولايات المتحدة إشعار دول الخليج بخطورة البرنامج النووي الإيراني، حيث ذكر السفير الأمريكي في الكويت رتشارد لوبارون في محاضرة ألقاها في كلية مبارك العبد الله للقيادة والأركان المشتركة التابعة لوزارة الدفاع في يونيو الماضي أن "الولايات المتحدة والشرق الأوسط والعالم بأسره يواجهون خطراً مختلفاً فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني"، وان "إيران بعملها وإصرارها على تطوير السلاح النووي تجعل نفسها والدول المجاورة عرضة للأخطار"، وأنه "يجب على دول الخليج التصدي بحزم للبرنامج النووي الإيراني وأن تفتح حواراً جاداً مع طهران لوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم".
وقد قوبلت هذه التصريحات برفض كويتي، حيث اعتبر جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة الكويتي هذا الحديث "شكلا من أشكال التدخل في الشئون الداخلية للكويت"، في حين أكد رئيس لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الكويتي، النائب محمد الصقر، على أن تصريحات السفير الأمريكي لا تعدو كونها وجهة نظر فردية للإدارة الأمريكية والتي مثلها السفير في كلمته ولا تعتبر تدخلاً في الشأن الداخلي الكويتي، ولاسيما وأن الكلمة التي ألقاها السفير جاءت في مناسبة فنية وليست رسمية، كما أن ثمة اتفاقات أمنية موقعة بين الكويت والولايات المتحدة، ويوجد العديد من الضباط الأميركيين في المؤسسات العسكرية التابعة للكويت بحكم هذه الاتفاقات.
وأكد الصقر وجود مخاوف وهواجس كويتية من النشاط النووي الإيراني تتعلق غالبيتها بالمخاطر البيئية وليست الحربية الناجمة عن وجودها، لاسيما المفاعلات الموجودة على شاطئ الخليج والتي لا تبعد بدورها كثيراً عن الكويت. واللافت للانتباه في حديث السفير الأميركي هو تركيزه فقط على البرنامج النووي الإيراني، حيث صور جميع الأخطار والكوارث التي قد تحدث في المنطقة باعتبارها ناتجة عن وجود برنامج نووي إيراني. ولم يتعرض السفير للبرنامج النووي الإسرائيلي والخطر الحقيقي الذي يشكله ليس على دول الجوار وإنما على منطقة الشرق الأوسط.
5ـ الخلاف بين إيران والإمارات حول ملكية الجزر الثلاث:
قامت إيران في نوفمبر 1971 باحتلال جزيرتي طنب الكبرى والصغرى (اللتين كانتا تتبعان إمارة رأس الخيمة) وأنزلت قوات لها في جزيرة أبو موسى (التي كانت تتبع إمارة الشارقة). وعلى مدى ثلاثة عقود احتدم الخلاف بين إيران والإمارات على هذه الجزر واتسع ليصبح قضية خلافية حادة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، بل بين إيران والجامعة العربية. وبرغم الاحتلال الإيراني للجزر فإن الإمارات كانت تباشر بشكل أو بآخر حقوقها الوطنية فيها من حيث وضعية السكان والتنقيب عن البترول، إلا أن إقدام إيران أوائل التسعينيات على طرد الخبراء والعاملين التابعين لدولة الإمارات من جزيرة أبو موسى وفرض هوية إيرانية للجزيرة أدى إلى تصعيد حدة التوتر بين الطرفين.
وعندما عادت قضية الجزر لتتجدد وتبلور إزاءها اتجاه يدعو لانفتاح على إيران لتيسير تسوية القضية، واتجاه آخر يرى أن الانفتاح يهمش قضية الجزر، كانت إثارتها مجدداً تنطوي على دلالتين رئيسيتين خاصتين بالدور المنوط به مجلس التعاون الخليجي:
الدلالة الأولى، أن القضية تمس سيادة دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي. وللسيادة فوق أهميتها المعلومة كركن من أركان الدولة، حساسيتها الفائقة في ضوء الخصوصية التي تتسم بها دول الخليج (حداثة عمر الدولة ـ الاختلال في توزيع عناصر القوة بينها ـ العمالة الوافدة ـ الخلافات الحدودية)، وهو ما يتطلب أن يكون الموقف الخليجي موحدا في التفاعل مع هذه القضية.
الدلالة الثانية، أن قضية الجزر تضع مصداقية مجلس التعاون على المحك، وتثير الاستفهام عن علة استمراره، بل وتبشر بما يعرف بمرحلة "ما بعد مجلس التعاون"، خاصة في ظل التحسن المستمر في العلاقات بين إيران ودول الخليج، وما طرح من أفكار تدعو إلى صياغة ترتيبات إقليمية مشتركة بين دول الخليج، أو حتى إلى وضع نظام أمني خليجي بمشاركة إيرانية.
لذا كان التحفظ الإماراتي لافتا إزاء التحسن المطرد في العلاقات السعودية ـ الإيرانية عام 1999، والذي اعتبر كارثياً "بالنسبة لمجلس التعاون، حيث احتجت الإمارات على اتفاقية التعاون بين السعودية وإيران. وفي المقابل أكدت السعودية أنها "دولة إقليمية كبرى لا تسمح لأحد بأن يملي عليها ما تفعل وما لا تفعل، وأن ما فعلت كان من منطلق تقديرها لمصالحها الوطنية، وكل دولة تتصرف من منطلق مصلحتها الوطنية بما في ذلك الإمارات نفسها التي تتقرب إلى العراق (في عهد صدام حسين) على الرغم من التحفظات السعودية الكويتية".
من جهة أخرى، يقوم الموقف الإيراني على رفض أي مباحثات أو مفاوضات حول قضية الجزر الثلاث، ومن ثم فإن ما رفعته إيران رفسنجاني وإيران خاتمي من شعارات مثل الانفتاح على الدول المحيطة وتحسين العلاقات مع الدول العربية لم تترجم إلى واقع ملموس. فتسوية هذه القضية لا يكون بالشعارات وإنما باللجوء إلى طرق التسوية المعمول بها دولياً وهي المفاوضات المباشرة أو قبول الوساطة أو اللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولي، وهو ما تعارضه إيران بشدة بحجة أنه ليس من صالحها الذهاب إلى محكمة العدل الدولية لتسوية هذه القضية لأن المحكمة يغلب عليها الطابع المعادي لإيران.
إلا أن هذا الأمر غير مقبول، بل إن الوقع يثبت عكس ذلك، حيث لجأت إيران من قبل إلى المحكمة مرتين: الأولى في قضية الطائرة الإيرانية المدنية التي أسقطتها الولايات المتحدة، والثانية في قضية تجميد الولايات المتحدة للأموال الإيرانية، في وقت كانت خاضعة فيه لعقوبات دولية، ورغم ذلك كان الحكم في المرتين لصالح إيران. ولذا فما الذي يمنع إيران من الذهاب إلى محكمة العدل الدولية بشأن جزر الإمارات؟
6ـ قضية "الجرف القاري":
تقع منطقة الجرف القاري موضع التنازع بين إيران وكل من الكويت والسعودية في المثلث الواقع بين حدود الدول الثلاث شمال الخليج وإلى الشرق من حقل زيت الخفجى البحري، ويقع في نطاق حقل غاز الدرة الذي يقدر احتياطاته بـ 21 مليار متر مكعب مع إنتاج يومي يتراوح ما بين 18 و 45 مليون متر مكعب.
وكانت كل من السعودية والكويت قد توصلتا إلى اتفاق على ترسيم الحدود بينهما في هذه المنطقة مع تحديد الكميات المستخرجة بشكل واضح بعد التوصل لاتفاق مع إيران. لكن الوضع في هذه القضية على عكس الموقف من قضية الجزر، حيث تؤكد إيران على استعدادها للتفاوض المباشر مع الكويت، وليس أدل على ذلك من توقف إيران لعمليات التنقيب عن النفط في هذه المنطقة. وقد صرح وزير البترول الكويتي في مؤتمر صحفي في طهران بأنه سيتم بحث القضية بين الجانبين بعد الانتهاء منها بين الكويت والسعودية، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق من ناحية المبدأ على اتباع مبدأ القانون الدولي وترك هذه المسألة للجنة فنية.
وفي هذا السياق أيضا أكد حسن روحاني في جولته الأخيرة قائلا: "اقتربنا من التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن قضية الجرف القاري في القريب العاجل، حيث سيتم حسم هذا الأمر وكذلك قضية ترسيم الحدود خلال العام الحالي".
مجمل ما سبق، يكشف أن السياسة الإيرانية تعمل بمنطق "الملفات" في إدارتها للعلاقات مع دول الخليج، حتى القضايا الخلافية فإنها تنتهج منهجاً مختلفاً بين دولة وأخرى، ويمكن أن نلحظ هذا المسلك في إدارة طهران لقضية الجرف القاري مع الكويت والسعودية من جهة، وقضية الجزر الثلاث المحتلة مع الإمارات من جهة أخرى. ويتوقع أن يتم تسوية قضية الجرف القاري مرحلياً على الأقل مع الكويت.
أما قضية الجزر الإماراتية فتشير التوقعات إلى صعوبة التوصل إلى صيغة مناسبة لتسويتها على المدى القصير، وذلك بحكم الطبيعة المعقدة والتاريخية لهذه القضية. كما أن إيران لا تتعامل مع دول الخليج مجتمعة ـ ولو من خلال مجلس التعاون الخليجي ـ وإنما في إطار ثنائي، ودون أن تعطي الفرصة لأي تداخل بين هذه العلاقات.
وعلى أي الأحوال، فإنه لا توجد "وصفات جاهزة" لتطوير العلاقات العربية ـ الإيرانية، فهناك دائماً فرصة لمتغير جديد أو عامل طارئ في التأثير في عملية التطوير بالسلب أو الإيجاب، وانتخاب رئيس جمهورية جديد لإيران، سواء انتمى للتيار المحافظ أو الإصلاحي، لا يعني حدوث "انقلاب" في السياسية الخارجية الإيرانية لأنه ليس صاحب سلطة مطلقة ليقرر وحده تفاعلات إيران الخارجية، إلا أن الوضع الإقليمي يحتاج من إيران بعد فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية تدشين توجه "للمصارحة والمصالحة" الإيرانية ـ العربية ، تتغلب على الرواسب المتراكمة وتتطرق إلى معالجة مجمل "القضايا العالقة" في العلاقات بين الطرفين، حتى لا تتحول إلى "خلافات مزمنة" و "أمراض مستعصية" وتتغلب على ميراث الشكوك بآفاق بناء الثقة.
ومن هنا فإن إبداء إيران وكذلك الدول العربية رغبة حقيقية في حل هذه القضايا سيكون من شأنه حدوث انفتاح أكبر في العلاقات العربية ـ الإيرانية.
_____________________________
مختارات إيرانية العدد 61 ـ أغسطس 2005