بعد أقل من أسبوع على انتهاء الانتخابات الايرانية، وفوز احمد نجادي رئيسا، وقبل تسلمه سدة الرئاسة (رسميا) في بلاده، فاجأت الخارجية الايرانية الدول العربية، وعلى الأخص نظيراتها في دول الخليج العربي، بتحذير شديد اللهجة طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى وهدف التحذير في هذا الوقت بالذات، الذي يبحث فيه الخليجيون على إشارات تدل على رغبة في تحسين العلاقات. هذا الموقف الايراني المفاجئ، أعاد إلى الذاكرة منحنى العلاقات الخليجية الايرانية عبر أكثر من خمسة وعشرين عاما، كان التقلب فيها هو سيد الموقف.
وبالرغم من أن ايران ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية، إلا أن العلاقات السياسية ليست كذلك. وإذا كانت العلاقات الدولية تعتمد على الاقتصاد كعنصر أساسي لقياس مدى قوة العلاقات، فإن الحالة الخليجية ـ الايرانية، تنفرد بأنها مختلفة تماما عن هذه القاعدة. ولعل المتابع للعلاقات الخليجية الايرانية يستطيع أن يلاحظ بسهولة قدر التناقض بين العلاقات الاقتصادية وقوتها وبين العلاقات السياسية وتقلباتها، فالتعاون الاقتصادي على أشده بين الطرفين. فالسعي للمحافظة على سوق النفط الدولي كان باديا، والرحلات الجوية لا تتوقف اطلاقا، والبضائع الايرانية تكاد تغلب على البضائع الخليجية في بعض الدول مثل الامارات العربية المتحدة والبحرين، إلا أن الجانب السياسي كان الغالب الأكبر على العلاقات الخليجية ـ الايرانية، وتأثرت العلاقات بين المواطنين في الخليج عامة بهذا التجاذب السياسي الخليجي الايراني.
لكن ما مناسبة هذا التحذير القوي؟.. القصة بدأت بكاريكاتير نشر في صحيفة محلية بحرينية، اعتبرته الخارجية الايرانية (مساسا) بمرشد الثورة الايرانية آية الله علي خامنئي، طلبت على أثرها السفارة الإيرانية في المنامة من صحيفة «الايام» تقديم اعتذار رسمي عن الرسم الكاريكاتيري. وذكرت السفارة في بيان لها، أنها تتابع القضية عبر القنوات الدبلوماسية، مؤكدة في بيانها ان ما نشر يعتبر «خرقا للمبادئ الأخلاقية والدينية التي يتحتم على الصحافة الالتزام بها»، واعتبرت ما نشر «إهانة لمكانة قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله السيد علي الخامنئي».
وبالرغم من أن الخارجية البحرينية، وعلى لسان الدكتور عبد الغفار عبد الله، وزير الدولة للشؤون الخارجية، حاولت تطويق الأزمة منذ بدايتها، والتقى الوزير البحريني مع السفير الايراني في المنامة، مؤكدا على العلاقات الوثيقة بين البلدين، وأنها تشهد تطورا مستمرا، مضيفا بأن «البحرين وايران قطعتا شوطا طويلا في تنمية العلاقات الثنائية على مختلف الأصعدة»، في الوقت الذي أكد السفير الايراني على أن العلاقات البحرينية ـ الإيرانية هي «أقوى بكثير من أن تتأثر بأية أمور عابرة».
وفي ما اعتبر الجميع أن الأزمة في طريقها للتسوية عبر القنوات الدبلوماسية، فاجأت الدبلوماسية الايرانية بتصريح هددت فيه دول المنطقة التي قد تقدم على التقليل من احترام النظام الايراني. وضمن المتحدث باسم الخارجية الايرانية، محمد رضا آصفي، تصريحاته تحذيرا الى «دول المنطقة» (يعني الدول الخليجية)، قائلا إن على هذه الدول أن «تعرف أنها ستكون الخاسرة»، إذا قللت من احترام أقطاب النظام الإيراني ورجال الدين فيه. وقال آصفي: «إن قدراتنا تفوق بأشواط قدراتهم (..) وعليهم ان يكونوا أكثر حذرا».
ويمكن القول إن «العقيدة» في الآيديولوجية الايرانية بعد الثورة، لعبت دور الركيزة الأساسية لرؤية إيران «الثورية» للعالم الخارجي، خاصة في العقد الأول من عمرها. ولعل مقولة الخميني تعتبر أصدق تعبير عن ذلك، عندما أعلن قائلا: «إننا نواجه الدنيا مواجهة عقائدية». وهذا ما يفسر اقدام الثورة على لغة خطابية جديدة ومتفردة للتعبير تجاه الخارج. ويرى المراقبون أن المنظور الإيراني ـ في تلك الفترة ـ الذي اعتبر مفهومي الاستقلالية والحكم الإسلامي المحورين الآيديولوجيين الرئيسيين، هما في الواقع المدخلان الآيديولوجيان اللذان أثرا بشكل أو بآخر على تطور العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، فحينما زاد التمسك بهما زادت درجة التوتر في هذه العلاقات، وهو ما ساد في الثمانينات، خاصة في ظل الحرب العراقية ـ الإيرانية، وموقف العرب المساند للعراق أمام ما عرف بالتهديد الإيراني للمنطقة، وارتبطت هذه الفترة بمبدأ «تصدير الثورة»، الذي تعاني دول الخليج من حساسية مفرطة تجاهه لوجود أقليات شيعية كبيرة فيها خاصة البحرين ثم السعودية والكويت.
وبالرغم من تذبذب العلاقات الايرانية ـ الخليجية، بسبب قضيتي الجزر الاماراتية واضطرابات البحرين، استمرت كل من قطر وعمان في علاقة قوية مع إيران، خاصة أن مضيق هرمز فرض بعضا من خصوصية التعاون العسكري والأمني بين إيران وعمان على وجه التحديد، وانضمت لهما بعد ذلك الكويت بدرجة أقل، مع استمرار العلاقات متدهورة مع كل من الإمارات وبدرجة أقل البحرين، ثم جاء الانفتاح الكبير مع السعودية، والزيارتان المتبادلتان التي قام بها الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي، إلى طهران، والرئيس رافسنجاني إلى الرياض، فكانت نقلة كبرى في توجه العلاقات الخليجية ـ الايرانية نحو بداية مرحلة جديدة.
ويمكن القول إن تولي رفسنجانى للحكم في بلاده قاد ايران إلى الاعتدال السياسي، وكان بمثابة عامل تخفيف لقيود البيئة الخارجية، حيث أحدث تحولا تدريجيا في مجالات مثل تصدير الثورة، ومع انتهاء الحرب العراقية ـ الايرانية، كان الغزو العراقي للكويت فرصة للجانبين لاظهار تقارب ضد العدو الجديد، وهو النظام العراقي السابق، فأظهر الجانبان بعض الاشارات التي ساهمت في تحسين نسبي للعلاقات بينهما، وشهدت فترة التسعينات تطبيع العلاقات بين ايران والعديد من الدول العربية، وتحديداً الدول الخليجية. وبدا أن هناك قناعة ايرانية ـ خليجية مشتركة بضرورة الاستمرار في تطبيع العلاقات الثنائية.
وكان لافتا انقطاع الشكوى الخليجية الدائمة من وجود تدخلات ايرانية في الشؤون الخليجية الداخلية، كما كانت الحال في النصف الاول من التسعينات، وما قبله، حتى التقارب الخليجي ـ الأمريكي، اصبح الايرانيون يتعاطون معه وفق عملية تطبيع سياسي اقتصادي اعلامي. وكل ذلك اسهم في التخفيف من حالات الاحتقان بين الجانبين، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية بتبادل السفراء وتبادل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات، وفرض خطاب الرئيس خاتمي الاصلاحي، تغييرا حقيقيا للسياسة الخارجية الإيرانية حيال الدول الخليجية.
وهنا يؤكد لـ «الشرق الأوسط»، سفير عربي مقيم بالمنامة، تحفظ على ذكر هويته، أنه من غير مصلحة الجانبين (الخليجي والايراني)، أن تكون علاقتهما مبنية على هاجس الحذر والترقب. معتبرا أن المصير المشترك الذي يجمع بين دول الخليج قاطبة، أكبر من أي تصعيد قد يلقي بظلاله سلبيا على الطرفين. ويقول السفير العربي إن العلاقات الخليجية ـ الايرانية، مرت بفترة توجس وحذر بعد الثورة الايرانية وتولي الزعيم آية الله الخميني الحكم في بلاده بعد ثورة شعبية أزاحت الحكم الامبراطوري للشاه السابق. وكان الحذر متبادلا، باعتبار أن الثورة الايرانية كانت مبنية على تصدير الثورة.
في الوقت الذي توجست فيه دول الخليج من هذه الاستراتيجية الايرانية، «ومما زاد من تردي العلاقات بين الطرفين، الحرب العراقية ـ الايرانية، وإظهارها كأنها بين العرب والمجوس الفرس، قبل أن يتولى الرئيس خاتمي الحكم، باعتباره قيادة واعية معتدلة، ويميل إلى تهدئة دول الخليج من هواجسها حول المخاوف الأمنية من الجانب الايراني، وهو ما أدى إلى تحسن كبير في العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين»، انتهى كلام السفير العربي.
ومع أن دول الخليج رحبت على أعلى مستوياتها بنتائج الانتخابات الايرانية الأخيرة، وفوز الرئيس نجادي بها، إلا أن الخارجية الايرانية لم «تمهل» الدول الخليجية فرصة للترحيب بالسياسة الايرانية الجديدة، فهل يكون تولي الرئيس الجديد، الذي يمثل التيار المحافظ، عودة للمربع رقم واحد في العلاقات بين الجانبين؟ أم تكون هذه التصريحات مجرد ردة فعل غاضبة تجاه فعل وتنتهي بانتهائه؟، وهل بالفعل التصريحات الايرانية الغاضبة مردها ذلك الكاريكاتير الذي تملأ الصحافة الغربية يوميا بأشد منه؟.. يجيب السفير العربي بالقول: «مهما كانت شدة التيار المحافظ في ايران، فاللغة القديمة تغيرت، ولغة المصالح أصبحت أكثر أهمية وجدوى للبقاء. ومهما اختلفت التوجهات، فليس أمام ايران ولا دول الخليج سوى تعزيز التعاون بينهما وإزالة أي ترسبات للماضي، والاستمرار في علاقات إيجابية ستكون هي الطريق الوحيد نحو بقاء الخليج متصالحا عبر ضفتيه العربية والفارسية».
______________________________
المنامة: سلمان الدوسري الشرق الأوسط 18/7/2005