يحظى البعد الإقليمي بأهمية خاصة في السياسة الخارجية الإيرانية على مدى العصور، وقد اعتمدت إيران في توجهها الإقليمي على التأثير الفكري وتصدير فكر النضال ضد الاستعمار الحديث.وتمثل الهدف الأساسي أثناء هذه الفترة في تقديم إيران كنموذج مثالي ناجح على مستوى المنطقة، وكان العصر البهلوي هو العصر الوحيد الذي سعت إيران فيه للاستفادة من تركيا كنموذج بدلاً من أن تكون هي النموذج على مستوى المنطقة، وفي هذا النموذج كان أتاتورك هو المثال لرضا شاه.
إيران والتوجهات الإقليمية:
على مدى الثلاثة عقود الأخيرة طغت أربعة توجهات إقليمية على السياسة الخارجية الإيرانية هي:
1ـ الظهور في صورة النموذج عن طريق تشكيل حكومة حديثة قائمة على الدستور والمدنية والديمقراطية.
2ـ التوجه القومي ضد الاستعمار.
3ـ التوجه العالمي نحو نشر الإسلام.
4ـ التحالف مع الغرب والتحول إلى سياسة فرض الهيمنة العسكرية الإقليمية.
كان النموذجان الأولان يستخدمان حتى نجاح الثورة الإسلامية، فيما استخدم النموذج الثالث على يد الإمام الخميني ولكن لم تكن هناك إمكانية لتفعيله من ناحية التنظيم والتنفيذ حتى نجاح الثورة.
في النموذج الأول كان هدف النخبة الفكرية والتنفيذية خلق نموذج إيراني مؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية، وكان دعاة هذا النموذج يطرحون شعارات الدستور والديمقراطية والمدنية، لكن بعد انقلاب رضا خان قامت إيران باحتذاء النموذج التركي، وهو ما بدا جليا في انضمامها إلى المعسكر الغربي في إطار حلف بغداد الإقليمي، وفي فترة تأميم النفط (1953) اتجهت إيران نحو القومية والنضال ضد الاستعمار، وقد أصبحت هذه الدولة، بالمزج بين عنصري الدين والتوجه القومي، نموذجاً للنضال ضد الاستعمار ممثلاً في قضية تأميم النفط.
ويتمثل النموذج الثالث الذي انتهجته إيران في كونها بؤرة العالم الإسلامي، إلا أن ثمة عقبات عدة حالت دون تنفيذ هذا التوجه.
ومع تبلور النظام الدولي الثنائي القطبية وانسحاب بريطانيا من الخليج (الفارسي) بدأت إيران في انتهاج سياسية خارجية تقوم على تدعيم مكانتها الإقليمية والهيمنة على شئون المنطقة.
وقد ساعدت نظرية الركيزتين التي انتهجتها إدارة نيكسون على الوصول بإيران إلى مرتبة القوى الأكبر في منطقة الخليج (الفارسي). وقد قامت هذه النظرية على "أنه يتعين على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن يتولوا مهام الأمن في المنطقة" ولهذا تبنت الولايات المتحدة فكرة التعاون الدفاعي بين حلفائها، وهو ما حظي بتأييد الشاه الذي رأى أن تكوين تحالف إقليمي سيثبت سيادة إيران كقوة مهيمنة على المنطقة.
وقد أعرب العراق عن معارضته لهذا المشروع، وقامت دول الخليج باستثناء إيران والعراق بتأسيس "مجلس التعاون الخليجي"، الأمر الذي رفضته الحكومة الإيرانية في البداية وأعلنت أنها لن تسمح بتكوين مثل هذا التكتل الإقليمي.
على أية حال،تم تطبيق نظرية نيكسون، وكانت إيران بسبب قوتها العسكرية وعضويتها في حلف الناتو وامتلاكها أكثر من 2500 كم حدود مشتركة مع الاتحاد السوفيتي السابق، هي الأهم بالنسبة للولايات المتحدة.
الفكر الإقليمي بعد الثورة الإسلامية:
سعت إيران بعد الثورة الإسلامية للتحول إلى قوة مهيمنة، وكان مفهوم الأمة الإسلامية من المفاهيم التي احتلت حيزاً هاماً في الخطاب السياسي للثورة الإسلامية الإيرانية إلا أن القضايا الداخلية والحرب المفروضة كلها عوامل جعلت إيران تواجه مشكلات في تحقيق أهدافها الإقليمية. وعندما تزايد ضغط النظام الدولي على إيران اتجهت الأخيرة نحو الجماعات والحركات التحررية، بهدف الحد من ضغوط القوى العظمى، ولم تلعب إيران مطلقاً دور نموذج الاتحاد السوفيتي السابق، بل كان هدف إيران هو أن تشارك شعوب المنطقة في تحديد مصيرهم بشكل يمكن القول معه أن الإصلاحات التي تحدث الآن في المنطقة ناجمة عن تأثير الثورة الإسلامية والحركات الإصلاحية والإسلامية، لكن ما يؤخذ على إيران في هذه الفترة هو أنها لم يكن لديها تعريف واضح للمنطقة ولم تستطع تدشين تعاون ثنائي أو متعدد الجوانب مع سوريا وفلسطين والسعودية وباكستان وسائر الدول في إطار إقليمي.
التوجه نحو الإقليمية الجديدة:
كان التوجه الإقليمي لإيران دائماً موضع انتقادات المحافل الأكاديمية الإيرانية، على خلفية أن إيران تهتم بجوارها المباشر، ولا تعطي أهمية مباشرة لامتدادها الاستراتيجي الأبعد. وفي هذا السياق طرحت بعض المحافل فكرة "حوزة إيران الحضارية" التي تشمل المنطقة الواقعة على حدود الصين شرقاً والمحيط الهندي جنوباً والخليج (الفارسي) غرباً، والقوقاز والبحر الأسود والبحر المتوسط شمالا.
وفي هذه الحوزة تحظى الثقافة الفارسية بأهمية خاصة لأنها ترتبط بالحوزة الحضارية الإيرانية، وفي هذه المنطقة يتم الاعتراف بالمصالح المشروعة لدولها، وبدور القوى الدولية في المساعدة في تحقيق الاستقرار بها، لكن رغم ذلك فإن المكانة الاستراتيجية والعلمية التي تحظى بها إيران تجعل منها فاعلاً محورياً في هذه المنطقة.
هذا التوجه الجديد كانت له تأثيرات مباشرة على الفكر الإقليمي الإيراني، وهو ما بدا جليا في الوثيقة الإيرانية التي وضعت تصورات مستقبلية على مدى العشرين عاماً القادمة.
وبناءً على هذه الوثيقة فإن دور إيران خلال العشرين عاماً القادمة سيحظى بخصوصية على المستوى الدولي، حيث ستتحول إيران إلى قوة دولية ومصدر إلهام للعالم الإسلامي اعتماداً على الإرادة الوطنية والاجتهاد الجماعي والتعاطي البناء والمؤثر في العلاقات الدولية. وطبقاً لهذا الفكر الإقليمي الجديد فإن ثمة أهدافاً عدة تبغي إيران تحقيقها وهي:
1ـ أن تكون إيران باعتبارها مركز قوة عاملاً للاستقرار والنظام.
2ـ تستطيع إيران عن طريق ازدهار مكانتها أن تحدث توازناً استراتيجياً في المنطقة.
3ـ مع وصول إيران إلى مكانة أفضل يصبح بإمكانها معاقبة اللاعبين الذين يضرون بالتعاون الإقليمي.
4ـ تستطيع إيران أن تحافظ على أمنها وسائر دول المنطقة في إطار التعاون الإقليمي، ونظراً إلى مكانتها الأفضل فإنها لن تسمح للآخرين بأن يهددوا مصالحها القومية الوطنية وقيمها الحيوية.
إن تحقيق هذه الأهداف سيتبعه تدعيم الهيمنة الإيرانية على منطقة جنوب آسيا.
إيران بؤرة الهيمنة الداخلية:
بناءً على ما جاء في الوثيقة العشرينية فإن إيران بصدد التحول إلى نواة مركزية لهيمنة تعددية داخلية في منطقة جنوب غرب آسيا، وهو ما يعني:
1ـ أن إيران ستكون بؤرة ومركز منطقة جنوب غرب آسيا بالنظر إلى قوتها وقدراتها الوطنية ومكانتها الجغرافية السياسية والجغرافية الاستراتيجية الاقتصادية ودورها الاتصالي.
2ـ ستلعب إيران دور قيادة التنظيم السياسي والاقتصادي والأمني لهذه المنطقة مع بعض القوى الإقليمية، كما أنها لن تسعى للمواجهة مع قوى الهيمنة الخارجية، إلا في الساحات التي توجد فيها مصالح متعارضة بينهما.
3ـ سيكون ترتيب مجالات التعاون الإيراني مع دول المنطقة كالتالي: المجال الاقتصادي ، المجال السياسي، المجال الثقافي، المجال الاجتماعي، والمجال الأمني، وستكون هناك إمكانية للوصول إلى نوع من السياسة الخارجية والأمنية المشتركة بين دول المنطقة في إطار مشروع طويل المدى.
4ـ ستكون الأولوية للترتيبات متعددة الأطراف خاصة في ظل وجود إمكانية للاندماج الإقليمي، ويعتقد بعض الخبراء أنه في المنطقة التي تمتد من شرق الصين حتى البحر الأسود تقتضي الضرورة أن تكون هناك مستويات عدة من التعاون الإقليمي أو التنمية المشتركة من أجل تسوية المشكلات الاقتصادية، بل السياسية دون تدخل من القوى الخارجية.
في ظل هذا الوضع ستكون مستويات التعاون على النحو التالي:
1ـ التعاون الثنائي.
2ـ التعاون متعدد الجوانب بين الدول التي تختلف كثيراً من الناحية التاريخية والسياسية والثقافية.
3ـ التعاون متعدد الجوانب بين الدول التي لها تاريخ مشترك.
4ـ التعاون متعدد الجوانب بين الدول التي توجد بينها شراكة تاريخية وثقافية.
وستكون عملية إنشاء مؤسسات إقليمية على أجندة إيران، ويمكن وضع تصورات عدة لهذه المؤسسات.
1ـ تشكيل مجلس تعاون اقتصادي في المنطقة بمحورية إيران بالاعتماد على الطاقة والتجارة والشحن.
2ـ تشكيل منطقة للتعاون الإقليمي.
3ـ تشكيل اتحاد اقتصادي بين إيران ودول المنطقة.
4ـ تشكيل منظمة الدول المنتجة للغاز.
5ـ تشكيل مجلس أمن إقليمي لتسوية الصراعات الإقليمية.
6ـ إنشاء برلمان إقليمي.
خلاصة القول، إن إيران بهذا التوجه الإقليمي الجديد يمكن أن تحقق مكاسب عدة أهمها تدعيم علاقاتها مع دول منطقة جنوب غرب آسيا، والبحث عن أسواق جديدة لتصدير المنتجات الإيرانية، ومقاومة الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى فرض عزلة إقليمية عليها.
____________________________
(الصدى) 26/3/2005
مختارات إيرانية العدد 58 – مايو 2005