الكاتب : حسن صبرا ..
اختار فقراء إيران وصعاليكها (أي المهمشون في المجتمع لمن قد لا يفهم معنى كلمة صعلوك) رجلاً على شاكلتهم بالغ في تصوير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية في الشكل وفي المضمون حتى تماهى في أحوالهم الحقيقية فأعطوه أصواتهم بنسبة 61.69% في انتخابات الرئاسة، وكشفوا في الوقت نفسه عن فشل كبير للنظام الذي انتمى له رمز الفقر والصعلكة أحمدي نجاد بعد 27 سنة من قيام الثورة باسمهم.
وأسقط فقراء إيران وصعاليكها (هل نحن بحاجة لشرح معنى "الصعلكة" مرة أخرى؟) رجلاً لم يحبهم يوماً بل وجنى ثرواته وأبناؤه وعائلته على حسابهم ليس من مزارع الفستق كما يدعي ويتباكى بل من تجارة النفط الإيراني أو العراقي وتهريبه، سواء عبر بواخر غير شرعية في الخليج العربي أو بناقلات النفط البرية الضخمة بين إيران والعراق وتركيا شركاء لأولاد الرئيس العراقي الأسير صدام حسين مسبباً ضرراً حقيقياً للمورد الأهم لفقراء إيران وهو النفط، وثروة أضخم لهذا الرجل علي أكبر هاشمي رفسنجاني وعائلته.
هكذا انقسمت إيران شعبياً بين فقراء هم غالبية الشعب الإيراني الكاسحة، وعاطلين عن العمل (السلطة تعترف بأنهم يشكلون 14% من القوى العاملة، والمعارضة تتحدث عن 25% أي ربع اليد العاملة) وبين أغنياء وما فوق متوسطي الحال من تجار طهران والمدن الرئيسية ومن أصحاب المصالح الكبرى، وشركات، مؤسسات، توكيلات، أصحاب أراضٍ شاسعة، كبار موظفين كنزوا ثروات طائلة من كمّ الفساد المستشري في البلاد بينهم رجال دين.
هكذا أصبح الفرز الإيراني الشعبي واضحاً في الحاجات التي يريدها الإيرانيون:
ـ الفقراء قالوا:لا نريد حريات ولا انفتاحاً ولا تحرراً،نريد أن نأكل،نريد إشباع المعدة.
ـ متوسطو الحال أو المثقفون قالوا: لم نحصل على الحريات، وكان الانفتاح أعرج والتحرر كسيحاً. نريد أن نتنفس، نريد إشباع الرأس.
ـ أما الأثرياء وكبار موظفي الدولة والرأسماليون والإقطاع فقالوا نريد الانفتاح الاقتصادي والاستثمارات الأجنبية والعلاقات مع المؤسسات الدولية ومعظمهم غربيو السياسة والميول، نريد إشباع خزائن ثوراتنا ومؤسساتنا.
انقسم المجتمع الإيراني وانتصر فيه الفقراء فهل حلت مشاكل إيران.
وقبل ذلك هل يكفي أن يذهب الفقراء بكثافة إلى أقلام الاقتراع ليختاروا واحداً منهم كي يصبح رئيساً للجمهورية؟ ومتى كان رئيس الجمهورية في إيران حاكماً بأمره، أو يملك المفتاح السحري لحل مشاكل المجتمع الإيراني؟
ومن قال أن احمدي نجاد قادر على إشباع معدة هؤلاء لمجرد أن لبس ملابس عمال بلدية طهران التي كان عمدتها.. ليس بكفاءته الشخصية التي اختبرت ونجحت في العمل البلدي وهو بالكاد يضع رجله على أبواب العمل السياسي؟ بل بما يملكه رئيس الجمهورية من صلاحيات لا تتعدى أن تعطيه قدرة مدير مكتب عند المرشد الأعلى علي خامنئي!
لقد فشل اثنان من عتاولة النظام الذي أرساه الإمام الخميني في طهران بعد نجاح ثورته يوم 10/2/1979 في حل مشاكل المجتمع الإيراني وهما تلميذه المباشر السياسي المحنك علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وأحد أبرز مثقفي ثورته وأبرز وزير للثقافة في تاريخ الجمهورية الإسلامية السيد محمد خاتمي وقد حكما 16 عاماً، 8 سنوات لكل منهما، أما السنوات الباقية من عمر الثورة فمر عليها في رئاسة الجمهورية مفكر اقتصادي إسلامي هو أبو الحسن بني صدر، وأحد أبرز المثقفين الإسلاميين المحافظين د. محمد رجائي، وأحد التلامذة الذي لم يتابع دراساته الدينية وهو علي خامنئي نفسه.
فشل هؤلاء جميعاً في حل مشاكل إيران الاقتصادية والاجتماعية وزاد الفقراء فقراً والأغنياء غنى واشتكى متوسطو الحال البطالة وانعدام الحريات والعزلة في المجتمع.. وتحمل كل رؤساء إيران مسؤولية كل الفشل راحلين عدا واحد فقط كان ثابتاً متنقلاً من رئاسة الجمهورية إلى موقع المرشد الأعلى يمر به الرؤساء: وجوههم كلمى حزينة، ووجهه عابس وثغره يابس.. إنه السيد علي خامنئي.
وإذا صح أن السيد علي خامنئي الذي ملّ وضجر من تربيح الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني الجميل له وتمنينه بأنه أي رفسنجاني هو صاحب الفضل الوحيد في إيصاله إلى مرتبة ولي الفقيه أي المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية بعد رحيل مؤسسها آية الله الخميني، فعمل كل جهده لإسقاطه ذليلاً مهاناً في انتخابات أدارها مكتب خامنئي نفسه، وأنه جاء بأحد مريديه الشاب النحيف احمدي نجاد وهو من أصحاب الأصوات العذبة الذين كانوا يقرأون له الأناشيد الدينية والسيرة الحسينية كقارئ عزاء، ويقدم الشاي للضيوف في ندوة الخميس التي كان خامنئي يرعاها بحضور مثقفين وأدباء وشعراء ورجال دين قبل أن يؤمهم في صلاة العشاء ودعاء كميل المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب.
إذا كان هذا صحيحاً فإن خامنئي حسم الأمور في إيران كلها لمصلحته، فبعد 8 سنوات من حكم محمد خاتمي الذي استقطب كل قوى المعارضة الإصلاحية من داخل النظام ومن خارجه مضيعاً نحو عقد من الزمان على تطور إيران شعباً ومجتمعاً واقتصاداً مسبباً إحباطاً ونكسة لتطلعات الشباب الإيراني نحو الحرية والتخلص من هيمنة رجال الدين وتسلطهم الذين سيطروا على كل نواحي الحياة في إيران مانعين أي فرصة للتقدم وحرية الرأي والفكر، مع أوسع عمليات اغتيال عرفتها إيران في تاريخها القديم والوسيط والحديث ضد المفكرين والصحافيين وأساتذة الجامعات والكتّاب والمستنيرين في المجتمع.. بما يجعل كل ممارسات نظام شاه إيران و"سافاكه" لعب أطفال قياساً بمجازر ارتكبها سافاك "الإسلام" [1] خاصة رجال الدين ضد الحياة في إيران كلها، وقبلها بثماني سنوات من حكم علي أكبر هاشمي رفسنجاني حاول خلالها الرجل إبقاء خامنئي في الظل أو فوق دون تأثير، انصرف خلالها إلى بناء بيروقراطية الدولة الإيرانية وإفساح المجال أمام الاستثمارات التي يفيد منها كل من كان محسوباً بالمصلحة والفكر على رفسنجاني وأولاده وعائلته.
بعد 16 سنة من غياب الإمام الخميني الذي كان كل هؤلاء أدوات صغيرة زرعها الإمام المؤسس في ترسانة البناء الثوري مسامير أو براغي أو دواليب عجلات أو إطارات سيارات.. تمكن أحدهم وهو خامنئي من الانفراد بالسلطة وحيداً، فلا استجابة للإصلاحيين الذين يريدون التحرر وقد تلطوا خلف خاتمي، ولا خضوعاً لتربيح جميل من رفسنجاني الذي أراد إمساك مفاصل الإدارة والاقتصاد بين يديه.
وحده أحمدي نجاد سيكون خاتماً في إصبع خامنئي ليبدأ حكمه المباشر به ليس فقط من موقع المرشد الأعلى بل من موقع السلطة التنفيذية المباشرة يضاف إليها سيطرة كاملة على مجلس الشورى (مجلس النواب) ثم مجلس خبراء الدستور والسلطة القضائية والحرس الثوري وقيادة القوات المسلحة كاملة ليبقي لرفسنجاني رئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام ولن يكون لهذا المجمع ولا لرئيسه رفسنجاني إذا ظل في منصبه بعد هزيمته الكبيرة دور في وسط هذا الطغيان الكامل لخامنئي على كل مؤسسات البلد.
ماذا يعني هذا خارجياً؟
ليس بالمصادفة أن يكون أول تصريح يدلي به رئيس إيران المنتخب أحمدي نجاد بعد فوزه إن بلاده ليست بحاجة إلى أي علاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن كان ضمن برنامج منافسه علي أكبر هاشمي رفسنجاني شعار تصحيح العلاقات مع الولايات المتحدة نفسها، هذان التصريحان المتناقضان كشفا التوجه الذي هُزم في إيران في هذه المرحلة والتوجه الذي سينتصر منذ الآن.
والتوجه الذي انتصر هو توجه خامنئي نفسه التزاماً بنهج الإمام الخميني والتزاماً بنهج تصدير الثورة بما يعنيه دعم القوى المقاتلة ضد إسرائيل والولايات المتحدة تحديداً في الخارج [2] .
يقول أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله: إن التزام خامنئي بالقضية الفلسطينية ومحاربة إسرائيل يأتي في المرتبة الأعلى من أولوياته، كما إن التزامه يجعله الأول في إيران في هذا التوجه وأي واحد يأتي بعده سيكون رقمه المئة إذ لا يوجد ثان أو ثالث أو رابع حتى المئة.. في مثل التزام خامنئي.
وهذا الالتزام الذي كان يواجه ـ كما يعتقد البعض ـ داخل إيران بتعقيدات تعدد مراكز القوى وتأثيراتها وحاجة المجتمع الإيراني كي ينصرف حكامه لحل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية وتوفير حرية الرأي والفكر وحمايتها، وفك العزلة الدولية عن بلادهم، أصبح الآن متحرراً من أي قيد، فلا رئيس جمهورية فاتحاً على حسابه خارجياً، ولا مجلس شورى يرفض توجيهات المرشد الأعلى، ولا حكومة تنفذ تعليمات رئيس الجمهورية سواء كان رفسنجاني أو خاتمي.
الآن أصبح خامنئي هو الحاكم الأعلى لإيران ليس فقط بموجب الدستور ونظام ولاية الفقيه والمؤسسات العسكرية والحرس الثوري والقضاء ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام، بل والأهم هو رئاسة الجمهورية.
والفرق هنا أن كل المؤسسات السابقة يتم تعيين أعضائها إلا مجلس الشورى المعقود اللواء في انتخابات 2004 للمحافظين وها هي رئاسة الجمهورية يجيء إليها أحد حواريي خامنئي وقد دربه في بلدية طهران عاملاً على إنجاحه فيها بما وفّر له من إمكانات مادية وتسهيلات إدارية كانت تملأ طريق من جاء قبله الإصلاحي غلام كرباتشي حتى ادخله السجن ولم يستطع خاتمي إخراجه منه، ثم شكل له غرفة عمليات برئاسة ابنه السيد مجتبى عملت لإنجاحه بإغراق سمعة منافسه رفسنجاني وعائلته بالحديث عن الصفقات وكنز المال واستغلال النفوذ.
الآن أصبح خامنئي هو الأول والأخير في إيران شعبياً ومؤسساتياً، يتصرف بسلوك صفة نائب الإمام المعصوم ويمسك بين يديه كل مؤسسات إيران وعلى قدر ما يسجل هذا الوضع من قيمة وقدرة ونجاح لخامنئي فإنه سيعني بسهولة توجيه كل تهمة أو حقيقة بفشل له كما يجعله في مواجهة الشعب الإيراني الذي أعطاه ثقة بقبوله مرشحه للرئاسة، وسيجعله في مواجهة المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.. وليس له عذر أو طريق إلا النجاح.. فهل هو قادر عليه؟!
لقد كان أول تعليق لأطراف معارضة إيرانية في الخارج أن مجيء أحمدي هو بداية النهاية للنظام الإيراني، ولا يقابل هذا التعليق اطلاقية إلا اطلاقية كلام خامنئي نفسه بعد نجاح نجاد حين قال: إنها صفعة للولايات المتحدة الأميركية ومثلما لم يكن نجاح رفسنجاني سيشكل نجاة للنظام الإيراني إذا لم يعدل مساره الداخلي والخارجي، فإن نجاح أحمدي لا يمكن أن يكون صفعة للولايات المتحدة لأن من المعيب أن يعتبر فشل رفسنجاني فشلاً لأميركا.. ومتى كان رفسنجاني رجل أميركا في إيران.. وهو في الأصل رجل إنقاذ إيران من مواجهة مع الولايات المتحدة.
وهذه الإطلاقية تشبه إطلاقية حزب الله حين اعتبر التصويت للائحته الانتخابية سواء الاختيارية أو البلدية أو النيابية استفتاء على المقاومة جاعلاً 80% من الذين اقترعوا لمجموعات أخرى غير حزبه ضد المقاومة خاصة في جبل عامل.
الآن يسهل على الولايات المتحدة تصعيد حملتها على إيران وتجييش العالم كله ضدها، إذا صعدت إيران من نهجها الداعي ليس إلى تصدير الثورة فحسب، بل إلى تجاهل الوجود الأميركي الذي بشّر نجاد شعبه بأنه لا يحتاج إلى العلاقة معها، وهي أي أميركا تحتاج إلى ما يتيح لها معاقبة إيران على استمرارها في مشروعها لإنتاج القنبلة النووية، بما تعتبره واشنطن تهديداً لأمنها وخاصة أمن الكيان الصهيوني.
لعل خامنئي يستطيع القول لأميركا الآن إذا أردت تفاهماً مع إيران فليتم هذا معي مباشرة لا عن طريق رفسنجاني ولا عن طريق خاتمي ولا عن طريق خرازي، فأنا الثورة.. أنا إيران، أنا المرشد، أنا الدولة والباقي كلهم موظفون.. ألم أجعل من قارئ عزاء يضيف الشاي في مجلسي، ويقرأ لي الأناشيد الدينية ويطلق رصاصة الرحمة على معارضي النظام الذين يتم إعدامهم رمياً بالرصاص.. أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية؟
________________________________
[1] من الخطأ نسبة ممارسات النظام الإيراني الحالي ورجال الدين الشيعة إلى الإسلام ،فالإسلام بريء من هذه التصرفات (الراصد).
[2] رأينا في الأسابيع الماضية أن إيران بدأت عهد نجاد بإنذار وجهه الناطق باسم الخارجية الإيرانية لدول الخليج المسلمة بأن عليها احترام رموز النظام الإيراني،وإلا فإن قوة إيران تفوق دول الخليج.وهكذا بدت وجهة تصدير الثورة. أما إسرائيل فلم نر تهديدا إيرانيا لها سواء في عهد من يسمون الإصلاحيين أو المتشددين.
مجلة الشراع ـ العدد 1193 4/7/2005