غزل بلا أمل بين إصلاحيي إيران وديمقراطيي أميركا
تبقى العلاقات الإيرانية - الأميركية فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية على مدار نصف القرن الأخير, اذ راوحت بين أقصى درجات التقارب وأشد مراحل العداوة, وتقلبت على ألوان طيف بين هذين الحدين, لكنها ظلت, في تقاربها وعداوتها, علامة واضحة على خرائط الشرق الأوسط. وتعود أهمية العلاقات بين البلدين إلى حزمة من العوامل الموضوعية يتصدرها الدور الدولي القائد الذى تلعبه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية, والمنفرد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية, في تقرير مصائر النظام العالمي عموماً ومنطقتنا خصوصاً, وأيضاً دور إيران المحوري في منطقة الشرق الأوسط والعائد إلى موقعها الجيوسياسي ومواردها من الطاقة معطوفين على قدراتها البشرية والعسكرية.
والعلاقات الإيرانية - الأميركية لها سمات التطور والتحرك, بحيث لا يمكن الانطلاق من فرضيات دائمة ومعطيات ثابتة عند تحليل مكوناتها ومحاولة قراءة زواياها وانعطافاتها, وهي العلاقات التي تحمل في طياتها مقومات الاستمرار وعوامل التناقض في آن واحد.
وشهدت الفترة الواقعة بين الثورة المضادة التي أسقطت حكومة الزعيم الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق عام 1953 وقيام الثورة الإيرانية عام 1979 ذروة التلاقي والتصالح في العلاقات الأميركية - الإيرانية وتمتين التحالف وتنسيق الأدوار والمصالح بين البلدين في المنطقة, لتدخل بعدها في نفق مظلم. وعلى مدار ربع القرن الممتد بين هاتين النقطتين الفاصلتين, اعتقد المراقبون بأن العلاقات الثنائية الممتازة بين البلدين هي المثال الواجب اتباعه بين القوى الإقليمية والدولية, حيث تبدت المصالح الوطنية لكل منهما في مناطق الجوار الجغرافي لإيران على وفاق كامل. وبعد قيام الثورة الإيرانية انقلبت هذه العلاقات لتصبح في مجملها علاقات صراعية قلما شهدت نظيرها العلاقات الدولية الحديثة, إذ أنتجت خطاباً إعلامياً جديداً صارت الولايات المتحدة بمقتضاه "الشيطان الأكبر", في حين أصبحت إيران توصف على نحو متزايد بأنها الدولة "الراعية للإرهاب". ومنذ انتصار الثورة الإيرانية وحتى صعود الرئيس الإيراني محمد خاتمي وتياره الإصلاحي قادت إيران التيار الراديكالي في المنطقة, والمعارض لسياسات واشنطن وحلفائها, وإن بوتائر تفاوتت حدتها بحسب المعطيات الإقليمية. وجاءت الحرب العراقية - الإيرانية لتكرس حال العداوة بين طهران وواشنطن, إذ رأت الأولى أن واشنطن رمت بثقلها في المعسكر المعادي لها, على رغم وجود استثناءات مثل "فضيحة الكونترا" التي حصلت بمقتضاها إيران على سلاح أميركي من وراء ظهر المؤسسات التشريعية الأميركية وبمعرفة مكتب الرئاسة الريغانية الجمهورية.
واتخذت العلاقات الصراعية بعدها منحى أكثر حدة بإدراج إيران على قائمة "الدول الراعية للإرهاب" في اللائحة التي تنشرها الخارجية الأميركية سنوياً, وكذلك بموافقة الكونغرس الأميركي على "قانون داماتو" الذي يحظر على الشركات الأميركية الاستثمار في إيران بأكثر من 20 مليون دولار سنوياً. وجمّدت الولايات المتحدة الأرصدة والأصول المالية الإيرانية وأوقفت اتفاقات التوريد الثنائية مع إيران.
وتغيرت أدوات الصراع بين الطرفين منذ صعود التيار الإصلاحي بقيادة خاتمي إلى سدة الرئاسة في إيران عام 1997 في ظل إدارة بيل كلينتون الديموقراطية. وصدرت وقتها إشارات متبادلة صبت في اتجاه تلطيف حدة التوتر, اذ إن المصالح الوطنية الإيرانية تطلبت تحسيناً في العلاقات مع واشنطن, القطب الدولي الأوحد في نظام عالمي أحادي القطبية. وتتلخص هذه المصالح في موضوع رئيس هو الدور الإقليمي لإيران, وعدم قدرتها على فرض إيقاعها في المنطقة وتوسيع نفوذها في جوارها من دون موافقة واشنطن.
ولا يخفى على المتفحص أن الدور الإقليمي لإيران تصدر أولويات أمنها القومي منذ تأسيس الدولة الإيرانية الحديثة, بغض النظر عن الحاكمين فيها, سواء كانوا الصفويين أو القاجاريين, مروراً بالحكم البهلوي وحتى الجمهورية الإسلامية. وتحت عنوان الدور الإقليمي تندرج قضايا متعددة مثل الأرصدة المجمدة في واشنطن, أو مسألة توزيع الحصص في بحر قزوين الغني بالنفط أو رفع الحصار الاقتصادي المفروض على إيران. وهذه القضايا تحتاج دوراً إقليمياً معترفاً به من القطب العالمي الأوحد, بشروط محددة وتفاهمات دقيقة, وبنوع من تقسيم الأدوار والنفوذ في المنطقة.
على هذه الخلفية راحت إيران ترسل الرسائل والإشارات الإيجابية مع وصول خاتمي الى منصب الرئاسة, بدءاً من الحوار التلفزيوني الشهير الذي أجراه الأخير أواخر عام 1997 مع قناة "سي إن إن" والصحافية كريستين أمانبور, مروراً بتسهيل طهران الإفراج عن بعض الرهائن الغربيين في لبنان بعدها بشهور, والدعوة الى "حوار الحضارات" التي أطلقها خاتمي نفسه. وزادت الإشارات وضوحاً مع زيارة رئيس البرلمان الإيرانى مهدي كروبي للأمم المتحدة العام 2000 , واللقاءات التي جرت في نيويورك بينه وبين أعضاء من الكونغرس الأميركي وعدد من الرموز البارزة للجالية اليهودية في نيويورك.
وكان أن فكت الإدارة الأميركية الديموقراطية رموز شفرة هذه الرسائل, وردت التحية بأحسن منها. فاعتذرت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت, وإن متأخرة 47 عاماً, عن المشاركة الأميركية في الانقلاب على حكومة مصدق الوطنية. ووصلت الإشارات الى مرحلة متقدمة عندما وصف كلينتون إيران بأنها الدولة صاحبة "احدى أعرق الحضارات الإنسانية".
والشاهد أن التحسن النسبي في العلاقات الثنائية يعود من المنظور الأميركي الديمقراطي إلى مفهوم "الاحتواء المزدوج" لكل من إيران والعراق وتوخي عدم التورط في جبهات مباشرة مع طهران, من دون أن يعني ذلك الامتناع عن مواصلة التضييق على ايران وأوراقها في المنطقة وتحييد معارضتها للتصورات الأميركية. وإضافة إلى هذا المبدأ ظل موضوع الاقتصاد هاجساً لدى إدارة كلينتون, فعلى مدار السنوات الأربع بين 1997 عام انتخاب خاتمي و2000 الذي شهد وصول الرئيس جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض, للمرة الأولى, لم يتوقف صناع القرار في إيران عن التلويح بجزرة صفقات النفط للشركات الأميركية, وبخاصة شركتي "كونوكو" و"أموكو" اللتين كانتا قاب قوسين أو أدنى من إبرام صفقات ببلايين الدولارات, إلا أن "قانون داماتو" حال بين الشركات الأميركية والفوز بكعكة النفط الإيرانية. وأمكن ملاحظة الأداء الأميركي الديمقراطي الحذر تجاه إيران من طريق رصد المحاولات الرامية إلى تنفيذ الأهداف الأميركية في المنطقة بوسائل شتى منها العسكري أيضاً, ولكن ليس كأسلوب وحيد كما هو حادث الآن. أي بمعنى آخر تغيير ملامح المنطقة ومن ضمنها إيران في شكل متدرج, وتشجيع المعارضة الإيرانية داخل إيران وخارجها, واعتماد المزاوجة بين الوسائل للوصول إلى هذا الهدف, عبر سياسة طويلة النفس والنظر الى تحقيق مصالح واشنطن بأكبر قدر من الفوائد وبأقل قدر من التورط المباشر. وهذا ما يفسر خيبة أمل السياسة الخارجية الإيرانية في مردود الإشارات الإيجابية تجاه واشنطن, إذ جدّد الكونغرس في نهاية عهد كلينتون الحظر التجاري على إيران لمدة خمس سنوات, مع بقاء إيران على قائمة "الدول الراعية للإرهاب".
وببعض الاطمئنان يمكن القول ان العلاقات الأميركية - الإيرانية شهدت عموماً, حتى قبل الإصلاحيين, ارتياحاً إيرانياً تاريخياً في التعامل مع الإدارات الجمهورية, ومرد ذلك أن اللوبي النفطي الأميركي والنافذ في سياستها قريب تقليدياً وبحكم المصالح من الجمهوريين. وهذا اللوبي هو الداعم الأساس لهيئة "المجلس الجمهوري الأميركي الإيراني" التي تضم إيرانيين في المهجر يرتبطون بالدولة الإيرانية, وسفراء ووزراء أميركيين سابقين وحاليين في عضوية هيئاته التنفيذية. ويقوم هذا المجلس منذ تأسيسه في تسعينات القرن الماضي بإعداد سيناريوهات التعاون المختلفة مع إيران واستشراف آفاق التعاون بين البلدين في المنطقة.
وتميز الأسلوب الديمقراطي الأميركي في التعامل مع إيران باعتبارها حجر عثرة في طريق مصالح واشنطن, وعلى رغم ان الخيار العسكري ضد إيران لم يكن مطروحاً, الا ان إدارة كلينتون لم ترغب في الوقت نفسه باستمالة طهران وعرض مقايضات معها, لأن حدود المقايضة من المنظور الإيراني, تطاول بالضرورة الدور الإقليمي لطهران, وهو الأمر الذي لم تستطع الإدارة الديمقراطية تقديمه بسبب تناقض ذلك مع منظومة القيم التي أعلنتها هذه الإدارة لنفسها, وبغض النظر عن نسبة صدقيتها, والتي تتصدرها قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا تضافرت عوامل موضوعية خاصة بالوضعين الإقليمي والدولي معطوفة على عوامل ذاتية لكلا الطرفين لتمنع حدوث تقارب يخدم مصالحهما الوطنية. فمن جهة, مثلت منظومة القيم الديمقراطية الأميركية عائقاً قوياً أمام كلينتون الراغب في فرض المصالح الأميركية في العالم والشرق الأوسط بقفاز من حرير, وفي إطار مشروع يعتمد على التغيير المتسلسل, والذي لا يستطيع بمقتضاه تبرير او تسويغ التقارب مع إيران في المؤسسات التشريعية الأميركية وفي العالم. وفي الجهة المقابلة لم يكن خاتمي, المخلص للدستور الإيراني والمسلّم بولاية الفقيه, مخولاً اتخاذ القرارات العليا التي هي من صلاحيات مرشد الثورة السيد علي خامنئي. فخاتمي, المثقف ودارس الفلسفة, لم يكن قادراً إلا على سك التعبيرات والمفردات التي تقترب من الأفكار الليبرالية, ولكن من دون أن تغادر المربع الديني الإيراني التقليدي. كما أن خاتمي يرمي في جوهر مشروعه السياسي إلى تفسير المشروعية الثورية الإيرانية في قالب دستوري, ومن ثم تسويق فكرة "ولاية الفقيه" في قالب جديد" عصري أحياناً ومدني في أوقات أخرى. وعليه, لم يكن خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات, المبتسم باستمرار, الفصيح والهادئ غالباً, وغير القادر على الفعل دائماًَ, الشريك القادر على إحداث اختراق في العلاقات الإيرانية - الأميركية. فكانت هذه العلاقات, على رغم كل ما مرت به من إشارات وابتسامات ولقاءات في عهد ديمقراطيي كلينتون وإصلاحيي خاتمي, مثل غزل بلا أمل. وبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر), وما أدت إليه عالمياً وأميركياً وإقليمياً, بالتوازي مع وجود إدارة جمهورية متشددة في واشنطن أحدثت ما يشبه الانقلاب في السياسة الداخلية والخارجية وتورطت في حروب على تخوم إيران في أفغانستان والعراق, وفي توقيت أفول التيار الإصلاحي في إيران وقرب انتهاء ولاية خاتمي, انفتح الباب أمام آفاق جديدة في العلاقات بين واشنطن وطهران, إذ باتت كل منهما, على رغم كل تراث القطيعة وكل العداء الإعلامي, لاعتبارات المصالح الاستراتيجية, في حاجة الى الاخرى في شكل متزايد.
______________________________
مصطفى اللباد رئيس تحرير مجلة "شرق نامه", القاهرة.
الحياة 23/12/2004