هادى خسروشاهى السفير صاحب العمامة
جانب من جوانب العلاقات بين مصر وإيران
خسرو شاهي هو السفير الإيراني السابق في مصر وهو نموذج مثالي للسفراء الإيرانيين ودورهم الرسالي في نشر التشيع في البلدان التى يعملون فيها من خلال الحرص على التواصل مع المفكرين وأساتذة الجامعات وتأليف الكتب المدافعة والمبشرة للتشيع في أوساط السنة ، وهو وجه آخر لتحركات سفراء إيران في البلاد السنية مثل ما حدث في الكويت من مدة قريبة فهل ينتبه لذلك أهل السنة حكومات وسفراء وحركات إسلامية................... الراصد
منذ بضعة أشهر ،غادر القاهرة عائدا إلى طهران السيد هادي خسروشاهى أحد كبار سفراء إيران في العالم بعد انتهاء مهمته كرئيس لمكتب رعاية المصالح الإيرانية في مصر ،وبعد أن أمضى زهاء ثلاث سنوات بمصر "الحبيبة أرض الكنانة" كما يحلو له دائما أن يسميها.
لقد غادر الرجل القاهرة في هدوء ،ودون أن تـتاح للدوائر السياسية والدبلوماسية ولا لرجال الثقافة والفكر أو أساتذة الجامعات في مصر الفرصة لتوديعه ،وقد كان جديراً بنا أن نودعه ونشد على يده معربين عن الأمل في أن يتجدد اللقاء ،لكن خسروشاهى اكتفى بخطاب أرسله إلى بعض أصدقائه المصريين يستأذنهم في الانصراف ويعتذر عن عدم اللقاء بسببب ضيق الوقت ولظروف صحية ألمت به مؤخراً.
ويبدو الحديث عن الرجل،وعن نشاطه العلمي طوال فترة إقامته بالقاهرة مدخلا صالحاً للتعرف على شئ من ملامح العلاقة المتميزة التي تربط بين مصر وإيران ،مما قد يلقى ضوءاً كاشفا على مدى عمق هذه العلاقات ويعين على السعى والتمكين لعودتها،بعد اللقاء المثمر بين الرئيسين مبارك وخاتمي في الآونة الأخيرة،والجهود الدائبة المتواصلة من المسئولين في كلا البلدين لتحقيق هذا الهدف.
يحب هادى خسروشاهى أن يلقب بالسيد،لا بالسفير صاحب السعادة ولا بالأستاذ.وكلمة السيد إذا لقب بها أحد في إيران وسائر أرجاء الشرق الإسلامي فإنما تعنى أنه ينحدر من سلالة الحسن أو الحسين ـ رضي الله عنهما ـ وينتمي إلى العترة الطاهرة وهي الأسرة النبوية الشريفة ،فإذا قيض لسيد من السادة أن ينخرط في سلك رجال الدين وارتدى زيهم فإنه لا يضع على رأسه العمامة ذات اللون الأبيض مثلهم ،بل يختص بعمامة سوداء،إشعاراً بالأصل الشريف الذي ينتمي إليه صاحبها.
ولقد ظل السيد محتفظاً بزيه التقليدي وعمامته المميزة طيلة السنوات الثلاث التي قضاها بالقاهرة،كنا نشاهده في الاحتفالات بالمناسبات العامة والاجتماعية والندوات وسط الحشود التي ترتدى الملابس الإفرنجية في زي مميز يجعله شبيهاً إلى حد كبير بالسيد جمال الدين الأفغاني.
ولا عجب،فقد هام خسروشاهى جداً بالأفغاني وعده الرائد الأول لحركات الإصلاح الفكري والسياسي في العصر الحديث ،وعكف منذ مدة طويلة على جمع كل ما كتبه الأفغاني من كتب ومقالات ورسائل بالعربية والفارسية من شتى بقاع العالم،وكان حريصاً خلال فترة وجوده بالقاهرة على زيارة دار الكتب والوثائق المصرية للبحث عن مزيد من وثائق الأفغاني النادرة،واستطاع خسروشاهى في النهاية أن يصدر من القاهرة في العام قبل الماضي (2002) موسوعته الكبيرة التي اشتملت على تسعة أجزاء في سبع مجلدات كبار،نهضت بنشرها إحدى دور النشر المصرية الكبرى بعنوان "الآثار الكاملة للسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني" وهو عمل علمي كبير بكل المقاييس أتم به خسروشاهى ما كان قد بدأه الدكتور محمد عمارة ـ المفكر المصري المعروف ـ حين أصدر منذ سنوات مجموعته "الأعمال الكاملة للسيد جمال الدين الأفغاني".
وقد بدا خسروشاهى طيلة فترة إقامته بأرض الكنانة أميل إلى الاشتغال بالبحث والتأليف وكتابة المقالات ونشرها بالصحف والمجلات المصرية وأقرب إلى المساهمة في المؤتمرات والندوات العلمية منه إلى المشاركة في الاحتفالات بالمناسبات المختلفة التي تستهلك في العادة وقت السفراء والدبلوماسيين ،وهو في ميله هذا إنما يمثل حلقة من حلقات السلسلة الرائعة التي ضمت عدداُ من كبار السفراء الإيرانيين الذين عملوا بمصر منذ سنة 1925،حين تم فيها تبادل السفراء بين البلدي. فقد ظلت إيران حريصة ـ في عهودها المختلفة ـ على أن تدفع بعدد من أخلص أبنائها النابهين ممن يشار إليهم بالبنان في ميدان الثقافة والعلم والفكر إلى العمل سفراء لها في مصر،تقديراً لمكانتها وإكراماً لدورها الحضاري الرائد وتعبيراً عن الإدراك الكامل لأهم الركائز التي تقوم عليها العلاقات بين البلدين،ولقد ضمت هذه السلسلة على سبيل المثال:الطبيب والأديب الكبير "الدكتور قاسم غنى" الذي أصبح وزيراً للصحة ثم وزيراً للثقافة بعد انتهاء مهمته كسفير لإيران في مصر (سنة 1948)، وقد جاء بعده الناقد والسياسي الإيراني المعروف الأستاذ على دشتى (1948ـ1951) الذي ارتبط برابطة الصداقة مع عدد من كبار الأساتذة والمفكرين المصريين وخاصة الدكتور طه حسين والدكتور عبد الوهاب عزام وغيرهما.
وقد عمل هؤلاء السفراء على تقديم البعد الثقافي والحضاري على ما عداه،ودعم التواصل الفكري والتقارب المذهبي من أجل تثبيت الأسس المتينة الراسخة التي تنهض عليها العلاقات بين بلدين في حجم مصر وإيران،والانطلاق منها لمباشرة العمل المثمر المشترك على الصعيدين الإقليمي والعلمي.
ولم يحل العمل الدبلوماسي بين هؤلاء السفراء وبين مواصلة إنتاجهم الأدبي والعلمي، بل كان وجودهم بالقاهرة حافزاً لهم على البحث والتأليف في حماس بالغ وهمة لا تفتر،مستفيدين في ذلك بجو القاهرة الفريد المشبع بالمؤثرات المعنوية والروحية التي تحفز النفوس المستعدة على العطاء والإبداع.
وينتمي خسروشاهى إلى هذه السلسلة من السفراء الإيرانيين،لكنه يزيد عليها بسبب عنايته بجانب آخر من جوانب تلك العلاقة التي هي من نوع خاص جداً بين مصر وإيران،وهي علاقة تجعل من بيئة مصر العلمية والثقافية ـ التي تعلى من شأن الوسطية ـ مجالا خصبا لطرح آراء مذهبية وفكرية قد يكون هناك حرج في طرحها على هذا النطاق الواسع في أغلب بلدان العالم الإسلامي.
ولعنا نذكر هنا أن مصر ممثلة في كبار مشايخ الأزهر،وفي مقدمتهم المرحوم الشيخ محمود شلتوت،هي التي تبنت فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية وبخاصة بين المذهب الأربعة لأهل السنة ومذهب الشيعة الأمامية،وقد كان لدعوة التقريب هذه أكبر الأثر في تراجع آفة التعصب المذهبي ونبذ الكثير من الآراء المغلوطة وإعلاء جوانب الاتفاق مع الأعذار فيما ورد من اختلاف بين المذاهب بعضها البعض.
كان خسروشاهى فترة وجوده في مصر يرى نفسه بحكم تكوينه العلمي وبفضل تبحره في العربية والعلوم الإسلامية ولكونه أحد أعضاء الثورة الإسلامية في إيران ولأستاذيته بجامعة طهران وسبق عمله سفيراً لإيران في الفاتيكان وتمرسه في مجال الحوار بين الأديان والحضارات كان يرى نفسه مؤهلا للسير قدماً في سبيل تقريب المفاهيم المذهبية والرؤى السياسية بين البلدين الكبيرين في جو معبأ بمشاعر التوجس والارتياب بسبب انقطاع العلاقات بينهما،كما تعددت التهديدات والانتهاكات الصارخة للأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية بدعوى مجراها من دعاوى "الإصلاح".
وقد أصدر خسروشاهى بخلاف موسوعته المذكورة ـ من القاهرة أيضاً ـ في العام الماضي ثلاثة كتب بعث إلي بنسخ منها مرفقة بخطاب التوديع بمناسبة انتهاء مهمته ،اثنان منها من تأليفه والكتاب الثالث من تأليف أستاذه آيه الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ،وهو كتاب مختصر في عقيدة الشيعة الأمامية ،وقد رأى خسروشاهى في مقدمته التي كتبها له أن إعادة نشر الكتاب في مصر من شأنه أن يكسر الحواجز التي عفا علنها الزمن ويعمل على تحقيق وحدة الكلمة بين الشعوب الإسلامية.
وفي نفس الاتجاه أيضاً جاء الكتاب الثاني لخسروشاهى يتناول فيه شخصية عبد الله بن سبأ الذي دار حول دورها في نشأة التشيع خلاف وجدل كثير ،ويبين كيف أن هذا الدور الوهمي قد جرى افتراؤه في الماضي والحاضر لتفجير القضايا الخلافية بين المسلمين.
أما الكتاب الثالث فقد ألفه خسروشاهى ردا على عدد من الآراء والمقولات التي راجعت في مصر في الفترة الأخيرة حول العلاقة بين جمال عبد الناصر والثورة اٌلإسلامية في إيران ،كما يتضمن الكتاب كثيراً من المفاهيم حول طبيعة الثورة الإيرانية ودورها وأهدافها.
لقد أرد السيد خسروشاهي خلال السنوات الثلاث التي قضاها سفيرا لبلاده في مصر أن يبرهن على أن ما يربط بين البلدين من علاقات وقرابات في مجال الحضارة والثقافة والفكر أعمق من أن تعصف به أحداث جارية أو تنال منه خلافات مؤقتة عابرة.
____________________________________
إعداد: الدكتور محمد السعيد جمال الدين
الأستاذ بجامعة عين شمس
المصدر مختارات إيرانية عدد 48 يوليو 2004