يتعرض المقال إلى الكهنوت الذي يمارسه رجال الدين الشيعة في إيران, ويذكرنا بالحُكم الذي أصدره القضاء الإيراني ضد أستاذ جامعي انتقد رجال الدين الذين يوجهون سيوفهم وألسنتهم ضد كل من ينتقدهم أو يحاول إثارة قضية ولاية الفقيه أو سلطة رجال الدين.....................المحرّر.
احتدم الصراع السياسي بين المحافظين والإصلاحيين في إيران خلال الفترة الأخيرة ووصل إلى مفترق طرق حاسم, وقد أدى تطوران سياسيان إلى تصعيد هذا الصراع ووضعه على شفا المواجهة.
التطور الأول: هو اتجاه الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي إلى تقديم مشروعين قانونيين إلى البرلمان (مجلس الشوري) لتدعيم صلاحيات رئيس الجمهورية, والحد من صلاحيات القوى الدينية المحافظة في النظام وخاصة مجلس صيانة الدستور.
ويسعى خاتمي إلى تقليص صلاحيات مجلس صيانة الدستور في الإشراف على الانتخابات حيث يتولى هذا المجلس الذي يهيمن عليه المحافظون من رجال الدين ورجال القانون تحديد من يصلح لخوض الانتخابات ومدى أهليته لذلك.
ويرى المحافظون أن مجلس صيانة الدستور قد تغاضي في انتخابات السنوات الماضية عن ممارسة صلاحياته حيث سمح لمرشحين إصلاحيين كثيرين مؤيدين لخاتمي بخوض الانتخابات الأمر الذي مكن الإصلاحيين من تحقيق انتصارات مدوية على التيار المحافظ.
ويخشى الاصلاحيون من أن يعود مجلس صيانة الدستور إلى التشدد أمام المرشحين الإصلاحيين في الانتخابات القادمة فلا يسمح لهم بالترشيح من الأصل, لكي يتمكن المحافظون من العودة للهيمنة على البرلمان والهيئات التشريعية مما يوجه ضربة قاصمة للإصلاح الديمقراطي والدستوري في إيران.
وهنا يرى المحافظون أن السماح بتقليص صلاحيات مجلس صيانة الدستور سينذر بأضعاف نفوذ القوى المحافظة والتمكين للإصلاحيين من توسيع نفوذهم وتأثيرهم مما يهدد سلطة المحافظين من علماء الدين, وقد يمهد تاليا إلى انقلاب عليهم ووضع حد لسيطرتهم على مقاليد الحكم في إيران لأول مرة منذ انتصار ثورة الأمام الخميني عام 1979.
وفي ذات الوقت, فإن الرئيس خاتمي يشعر بأن فشله في إقرار هذه الإصلاحات والتعديلات الدستورية سوف يعني تكريس عجزه عن تحقيق الإصلاحات التي طالما وعد بها ناخبيه ومؤيديه خلال حملتين انتخابيتين ومدتين رئاسيتين.
ولهذا لم يخف خاتمي عزمه على الاستقالة في حال نجاح المحافظين عبر مجلس صيانة الدستور, أو عبر مجلس تشخيص مصلحة النظام في إجهاض محاولته لإقرار هذه الإصلاحات الدستورية, وذلك حتى يبقى على شيء من المصداقية أمام أنصاره ومؤيديه وخاصة في أوساط الشباب والطلبة والنساء الذين عقدوا على توجهاته آمالا كبارا في إحداث الإصلاح المنشود.
وهناك اعتبار آخر يتعلق بهذه المسألة وهو أن خطاب خاتمي الداعي إلى الإيمان بإمكانية إحداث التغيير في بنية نظام الجمهورية الإسلامية من الداخل وعبر الوسائل السلمية والديمقراطية والقانونية, سوف ينهار تماما ويفقد أي مصداقية لأن إخفاق خاتمي في إقرار هذه الصلاحيات المنشودة والموعودة سوف يعزز الآراء المنتقدة لهذا التوجه والقائلة بأنه من الصعب زحزحة هيمنة رجال الدين المتشددين والمحافظين على مقاليد الحكم بوسائل سلمية وأن طريق التغيير لابد أن يمر بوسائل عنيفة أو ثورية ودامية وانقلابية.
والتطور الثاني: هو إصدار محكمة في همدان بغرب إيران في 9 نوفمبر الماضي حكما بإعدام الكاتب الأكاديمي الإيراني الإصلاحي هاشم اغاجاري بتهمة الإساءة إلى الإسلام والأنبياء وكان اغاجاري قد ألقى محاضرة انتقد فيها سلطة علماء الدين وهيمنتهم على شئون الدين والسياسة.
وقد فجر الحكم على اغاجاري بالإعدام موجة احتجاجات عارمة وخاصة في صفوف الحركة الطلابية التي نظمت سلسلة من المظاهرات المطالبة بإلغاء الحكم والمنددة بسيطرة التيار المحافظ على جهاز القضاء وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى مطالبة مرشد الجمهورية على خامنئي بمراجعة الحكم الذي تم إلغاؤه من قبل القضاء مؤخرا, كما أن خاتمي قد انتقده واعتبره غير مناسب.
لكن التظاهرات الطلابية عكست نوعا من التململ واليأس في صفوف الطلاب وفقدان الأمل في إحداث أي إصلاحات جذرية في النظام السياسي الإيراني, واتهموا سيطرة علماء الدين بأنها تشبه نظام طالبان المتشدد في أفغانستان كما وجهوا انتقادات صريحة إلى دور المرشد أو الولي الفقيه وما يتمتع به من صلاحيات واسعة.
ورفع الطلاب شعارات من قبيل على بينوشيه, إيران لن تتحول إلى شيلي, وفي طهران وفي كابول.. الطالبان واحد ولتسقط الديكتاتورية.
كما عكست شعارات ومطالب الطلبة يأسهم من قدرة الرئيس خاتمي على إجراء إصلاحات سياسية في النظام, وطالبوه صراحة بالاستقالة وهو الأمر الذي دفع خاتمي إلى عدم حضور احتفال طلاب الجامعة بيوم الطالب في 7 ديسمبر الماضي, على غير عادته في السنوات الماضية حيث كان يتحدث إليهم في كل عام في ذكرى المذبحة التي راح ضحيتها 3 من طلاب كلية الهندسة عام 1953 في عهد الشاه في أول تظاهرة بعد الإطاحة بمحمد مصدق آنذاك, وكانت تلك التظاهرة احتجاجا على زيارة نائب الرئيس الأمريكي حينئذ ريتشارد نيكسون إلى طهران حيث كانت الاتهامات الشعبية قوية لأمريكا وبريطانيا بالوقوف وراء الإطاحة بمصدق ذي الخط الإصلاحي والاستقلالي عن الغرب.
ولم يكتف الطلبة باستقالة خاتمي, بل ذهبوا إلى حد المطالبة بإجراء استفتاء شعبي لإقرار الإصلاحات الديمقراطية والدستورية المطلوبة للحد من هيمنة علماء الدين على الحكم وأجهزة السلطة ووضع نهاية لعرقلتهم للمحاولات الإصلاحية. إن حركة الاحتجاج في صفوف الطلبة تحتل أهمية بالغة, فرغم نجاح النظام الإيراني عام 1999, في إجهاض وإخماد حركة الطلبة آنذاك التي كانت تحتج على إغلاق الصحف الإصلاحية حيث تم إغلاق مالا يقل عن 20 صحيفة ومجلة إصلاحية وكذلك على قمع المثقفين والمفكرين الإصلاحيين وحبسهم واغتيالهم في ظروف غامضة فإن ذلك لا يمنع من القول بأن دور الطلاب يظل حاسما في التعبير عن اتجاهات التغيير في إيران.
فقد لعب الطلاب دورا حاسما في إسقاط شاه إيران, وفي إنجاح ثورة الإمام الخميني عام 1979 كما خاضوا واحدة من أشهر معارك الثورة الإسلامية الإيرانية أمام أمريكا, عندما احتلوا السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا الدبلوماسيين داخلها كرهائن, وهي العملية التي وظفتها الثورة الإيرانية في إظهار تحديها للاستكبار الأمريكي.
ويشكل تراجع المرشد خامنئي عن حكم إعدام اغاجاري بعد احتجاجات الطلبة العاصفة اعترافا بقوة تأثير الاحتجاجات الطلابية.
لكن ما يلفت الانتباه في طبيعة الصراع الدائر حاليا في إيران بين القوى المحافظة والتيارات الإصلاحية على خلفية قضية اغاجاري, والإصلاحات الدستورية التي يسعى الرئيس خاتمي إلى إقرارها, هو هذه اللهجة بالغة الحدة وغير المسبوقة والتي تتسم بلغة قريبة إلى التحدي السافر بين الفريقين المحافظ والإصلاحي على نحو يشير إلى أن إيران مقبلة على معركة كسر عظام بين الجانبين لتحديد من ستكون له الغلبة خلال السنوات القادمة.
وقد تجدد الجدل حول نظرية ولاية الفقيه التي استند إليها الإمام الخميني في التأسيس لنظام الجمهورية الإسلامية, والتي تعطي لمرشد الثورة أو القائد سلطات واسعة وشبه مطلقة في الهيمنة على مقاليد الحكم, وهي سلطات تلغي موضوعيا أي دور للرئيس المنتخب ديمقراطيا من قبل الشعب لأن أي قرارات أو إجراءات يتخذها الرئيس المنتخب أو البرلمان المنتخب لا يتم اعتمادها إلا إذا أقرتها أجهزة الحكم التي يهيمن عليها علماء الدين المحافظون مثل مجلس الخبراء والجهاز القضائي وصدّق عليها مرشد الجمهورية, وبدون ذلك فإن أي قرارات أو تشريعات تقرها الهيئات المنتخبة تعتبر كأن لم تكن, الأمر الذي ينزع صفة الشرعية الشعبية أو الديمقراطية على ممارسات نظام الحكم في إيران, وتظل السيادة للولى الفقيه المرشد وليس للشعب.
ونتيجة لذلك فقد تعرضت نظرية ولاية الفقيه لانتقادات حادة حتى من داخل كبار علماء الدين أنفسهم وعلى رأسهم آية الله منتظري النائب السابق للإمام الخميني, والذي تم عزلة ووضعه تحت الإقامة الجبرية في قم مدينة الحوزة العلمية الدينية.
وشهد عام 2002 استقالة واحد من كبار علماء الدين الإصلاحيين المعتدلين الذين تتوافق آراؤهم مع توجهات منتظري, وهو آية الله جلال الدين طاهري إمام مسجد أصفهان, الذي وجه انتقادات قاسية لنظام الحكم لدرجة أنه وصف رجال الأمن وأنصار حزب الله بالفاشيين المنبوذين والصعاليك الذين يقتحمون الحرم الجامعي وينتهكون المقدسات, ويذبحون الكتاب والشخصيات السياسية, ويمارسون التعذيب والقمع على أبناء الشعب.
والملاحظ في هذا السياق أن محاضرة المفكر الإصلاحي اغاجاري عن التجديد في الإسلام في فكر علي شريعتي المفكر الإصلاحي الذي كانت ترفع صوره في مطلع الثورة الإيرانية بجوار صورة الإمام الخميني في المظاهرات, هي محاضرة اتسمت بالجرأة الشديدة في نقد هيمنة علماء الدين والملالى على الحكم في إيران مطالبا بما أطلق عليه بروتستانتينية إسلامية ومعروف أن البروتستانتينية, كانت دعوة أطلقها مارتن لوثر وكالفن للإصلاح الديني بالتمرد على هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على حياة الناس في أوروبا في القرون الوسطى وامتلاكهم صكوك الغفران ومناهضتهم للحداثة والعلم.
وقد أعاد اغاجاري استلهام تلك الأفكار مشبها هيمنة رجال الدين على الحكم في إيران بهيمنة البابا ورجال الكنيسة من الكرادلة والأساقفة على المجتمعات الأوربية في العصور الوسطى, ولعل هذا ما أثار ثائرة الملالي على اغاجاري في إيران ودفعهم إلى اتخاذ الحكم المشدد ضده بإعدامه.
إذ قال اغاجاري في محاضرته واستنادا إلى أفكار علي شريعتي: إنه لم يكن لدينا في الإسلام طبقة باسم الروحانية (علماء الدين), إن الروحانية طبقة جديدة في تاريخنا, فأصبح لدينا الكثير من هذه العناوين الجديدة, بحيث أن عمرها لا يتجاوز الخمسين أو الستين عاما, فمتى كانت لدينا سلسلة المراتب الدينية هذه قبل الصفوية, إن سلسلة المراتب كانت فقط في النظام الكنسي, كانت تبدأ من الأعلى (البابا) وتنحدر إلى الأساقفة والكرادلة والأساقفة المحليين. لقد وقعت مرحلتنا تحت تأثير هذه الثقافة وتحت تأثير الظروف الاجتماعية ودوائر النفوذ في إيران طبقا لسلسة المراتب هذه, يأتي شخص في أولها باسم آية العظمى في العالمين والسماوات والأرضين, والى آخر ذلك, هذا في الرأس وبعد ذلك تأتى سلسلة المراتب آية الله, حجة الإسلام, ثقة الإسلام وكذا وكذا الإسلام, وفي السنوات الأخيرة تحولت حوزتنا إلى مؤسسة حكومية و أصبحت المسألة حساسة بقدر ما, فهل يوجد في الجامعة من يفرق بين حجة الإسلام وآية الله؟
ودعا اغاجاري في محاضرته إلى عدم طاعة علماء الدين بشكل أعمى, أو الاستناد إليهم و حدهم في فهم القرآن واتخاذهم وسيطا لذلك.
وتعكس ردود الفعل من علماء الدين المحافظين على ما جاء في محاضرة اغاجاري مدى الغضب من هذه الانتقادات المتزايدة في صفوف الإصلاحيين والليبراليين لنفوذ ودور رجال الدين في النظام.
فقد اتهم آية الله محيى الدين حائري شيرازي إمام الصلاة في شيراز الإصلاحيين بشق صفوف الشعب والرغبة في الترويج للنفوذ الأمريكي والعلمنة.
واعتبر شيرازي أن انتقاد قرارات مجلس صيانة الدستور يعني انتقادا لتعاليم الإسلام وشكّاً في الله.
وأضاف: إن أعضاء مجلس صيانة الدستور(ستة من علماء الدين وستة قانونيين يعينهم مرشد الجمهورية آية الله على خامنئي) يرتبطون بالتعاليم الدينية عبر علاقاتهم بالمرشد (خامنئي) وأن رفضهم بالتالي لهذا المجلس أو اتهامه أو حتى انتقاد مندوبين يعني رفضا للمرشد الأعلى وهذا يعني في الواقع رفض الله.
هذا في حين شن محمود هاشمي شهرودي رئيس السلطة القضائية (أحد أقوى الأجهزة التي يهيمن عليها علماء الدين المحافظون) هجوما حادا على كل من ينتقد نظرية ولاية الفقيه التي تعطي سلطات واسعة شبه مطلقة لمرشد الجمهورية حيث قال شهرودي:
ليس من الإنصاف أن ينال أشخاص من هذا الأصل المهم (ولاية الفقيه) وهو الأساس لعزة وشرف وشوكة وعظمة هذه الثورة من جراء مسائل وأغراض ومصالح خاصة ومبتذلة جدا ورخيصة جدا, ونتيجة أمراضهم النفسية, وأن الذين استهدفوا هذا الأساس وشككوا فيه و أساءوا إليه بعيدون عن الإنصاف والضمير.
أضاف شهرودي: أن الدفاع عن هذا الأصل (ولاية الفقيه) في هذا اليوم واجب شرعي وفرض إسلامي على الجميع, وأن أي تشكيك في ذلك ينطلق في الواقع من الجهل, ومن جراء تلك الأهداف الرخيصة والأمراض النفسية. ولا تكون النتيجة إلا الطعن في الإسلام وفي هذا النظام وولاية الفقيه.
وهكذا, نلاحظ تعاظم درجة الحدة في الانتقادات بين المحافظين والإصلاحيين على نحو يشير إلى أن النظام الإيراني يقف في مفترق طرق, فإما يتم تبني خطاب التجديد والتغيير على نحو يمكن إيران من بناء نظام مدني ديمقراطي يحظى بقدر من الرعاية والتوجيه من قبل الأئمة وعلماء الدين وبالتالي يمكن فض الاشتباك الراهن بين الإصلاحيين والمحافظين سلميا, أو في المقابل من الممكن أن يتشدد المحافظون في الدفاع عن تركيبة النظام الراهنة استنادا إلى نظرية ولاية الفقيه ورفض أي تعديلات أو تغييرات جوهرية بما يقود إلى الصدام مع القوى الإصلاحية ويضع إيران على أعتاب أوضاع الفوضى والانفجار والاضطراب, وهو سيناريو سيكون بالغ الخطورة والقتامه على المستقبل الإيراني, ويتوقف الأمر على مدى قدرة النظام على تجديد نفسه من الداخل واحتواء اتجاهات الإصلاح والتغيير المتصاعدة خاصة في أوساط الأجيال الجديدة, وذلك عبر سياسات حكيمة وسلمية وحضارية.