الكاتب : د. محمد السعيد إدريس
القاعدة هي التوتر في العلاقات بين مصر وإيران،على الأقل ابتداء من منتصف القرن الماضي، باستثناء سنوات معدودة أعقبت التحولات التي حدثت في السياسية الخارجية المصرية نحو الولايات المتحدة عقب حرب أكتوبر 1973، تبعها تحسن وتطور في العلاقات المصرية ـ الإيرانية، هذا التحسن كانت له نتائجه على صعيد تطور العلاقات المصرية ـ الإيرانية. وبتوقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، التي أعقبت سقوط نظام الشاه في إيران وقيام نظام الجمهورية الإسلامية، عاد التوتر وبعنف إلى هذه العلاقات بعد أن أصدر الإمام الخميني قراره بقطع العلاقات مع مصر، بناء على طلب مباشر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عقابا لمصر على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.
أتصور أن لغزا بهذا المستوى يستلزم البحث والتفكير بدلا من الركون إلى قدرية المآل المأساوي للعلاقات بين بلدين إسلاميين شقيقين تجمعهما روابط ووشائج قوية يجب عدم التفريط فيها.
أتصور أيضا أن الأوان قد آن لنسأل: لماذا بقيت العلاقات المصرية ـ الإيرانية مقطوعة ومتوترة طيلة تلك السنوات؟
فمصر هي الدولة العربية والإسلامية الوحيدة التي ليست لها علاقات دبلوماسية كاملة مع إيران، ولكي يستقيم منطق الكلام يجب أن نقول أيضا أن إيران تكاد تكون هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي وربما في العالم التي ليست لها علاقات دبلوماسية كاملة مع مصر. كيف يمكن أن يستقيم هذا الحال الأعوج وإلى متى؟ هل ما بين إيران ومصر من الصراع وتناقض المصالح والعداء يتساوى مع ما بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل؟
فالدول تتقارب وتتعاون، وربما تتحالف إما بدافع من وجود منافع ومصالح مشتركة، وإما بدافع من درء المخاطر ومواجهة الأخطار. وقد يحدث التعاون بدافع من تعظيم المنافع والمصالح ودرء ومواجهة الأخطار معا. وهنا نسأل: ألا توجد منافع ومصالح مشتركة بين مصر وإيران تغريهما بتطوير وتحسين العلاقات لدرجة التعاون والتنسيق، ولا نقول التحالف؟ وألا توجد أخطار وتهديدات مشتركة تواجه مصر وإيران تحفزهما للتعاون المشترك لمواجهة هذه الأخطار؟
من الصعب على أي باحث منصف أن يقطع بنفي وجود أي مصالح مشتركة بين مصر وإيران، ومن المستحيل على أي باحث محايد أن يقطع بنفي عدم وجود تهديدات وأخطار مشتركة تواجه مصر وإيران، لكن القضية ليست بهذه البساطة، فالمنافع والأخطار ليست في الدوافع والحوافز للنهوض بعلاقات دولتين أو عدد من الدول إلى مستوى التنسيق والتعاون، هناك عوامل أخرى جانبية لا تقل أهمية، منها مثلا مدى التوافق والانسجام بين النظم السياسية والأيديولوجيات الحاكمة، فالتوافق والتجانس بين النظم السياسية والأيديولوجيات يشجع على انتهاج سياسات خارجية متقاربة، ومنها أيضا التحالفات والارتباطات الخاصة بكل دولة من الدول فهذه التحالفات قد تضع قيودا على الدول للتقارب رغم تجانس أنظمتها السياسية، ورغم وجود منافع وأخطار مشتركة.
توجد إذن حزمة من العوامل تدفع دولا بعينها إلى التعاون والتنسيق وتوجد أيضا حزمة من العوامل تمنع مثل هذا التعاون والتنسيق، وأحسب أن الأوان قد آن لنسأل مجددا: ما الذي يمنع مصر وإيران من وضع نهاية لتوتر العلاقات فيما بينهما؟
السؤال ليس جديدا علينا، وربما نكون في مركز الأهرام للدراسات لسياسية والاستراتيجية قد طرحناه على أنفسنا مبكراً ضمن مجمل اهتمامات المركز بالمصالح الاستراتيجية المصرية، والفكر الاستراتيجي المصري، لكننا طرحناه بقوة منذ أن تأسست وحدة الدراسات الخليجية التي تعاملت مع نظام إقليمي خليجي يتكون من ثلاثة كتل رئيسية هي: إيران والعراق ومجلس التعاون الخليجي، ومنذ أن تقرر إصدار مجلة مختارات إيرانية كمجلة شهرية صدر عددها الأول في أغسطس 2000، واستهدفت خلق وتطوير ثقافة علمية عربية بالمجتمع والدولة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنذ أن تم التوقيع على بروتوكول التعاون الأكاديمي بين مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ومعهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية عام 2000، وهو البروتوكول الذي أرسى قاعدة عقد ندوة سنوية لمناقشة تطوير العلاقات المصرية ـ الإيرانية تعقد بالتبادل بين القاهرة وطهران، وقد عقدت الندوة الرابعة في القاهرة منذ أيام قليلة (27ـ 28 نوفمبر2004) تحت عنوان: التحديات الإقليمية للاحتلال الأمريكي للعراق.
رغم ذلك هناك دوافع أخرى مستحدثة لتجديد طرح السؤال أبرزها تطورين متناقضين أولهما كان عليه أن يشجع على تطوير العلاقات والآخر أساء إليها بدرجة كبيرة وربما يكون قد انتكس بها لحدود يصعب تصورها.
التطور الأول الإيجابي تمثل في مشاركة إيران بوفد على مستوى عال في مؤتمر شرم الشيخ حيث ترأس الوفد الإيراني الدكتور كمال خرازي وزير الخارجية، كما تمثل في مشاركة مصر، بعد أسابيع قليلة، في اجتماع وزراء داخلية دول الجوار للعراق الذي عقد في العاصمة الإيرانية،وترأس الوفد المصري السيد حبيب العادلي وزير الداخلية في زيارة هي الأولى من نوعها منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1980.
في مؤتمر شرم الشيخ تبين بوضوح أهمية الدور الإيراني في إنجاح المؤتمر، كما تبين وجود تنسيق مصري ـ إيراني ضمن مجموعة الدول المجاورة للعراق، وكان توقيع مصر وإيران على البيان الختامي لمؤتمر شرم الشيخ مؤشراً على وجود توافق مصري ـ إيراني على بنود هذا البيان. وتأكد التطور في العلاقات عندما تعمد المسئولون المصريون في هذا المؤتمر ترتيب جلوس وزير الخارجية الإيراني بجوار وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في حفل عشاء بدعوة من وزير الخارجية المصري السيد أحمد أبوالغيط وبالطبع لم يتم ذلك دون علم الوزيرين. وفي اجتماع وزراء داخلية دول الجوار للعراق الذي عقد في طهران، تم التوافق أيضاً على دور تقوم به هذه الدول في دعم الأمن والاستقرار في العراق، ومن بين هذه الدول مصر وإيران بالطبع.
وبرز، من مجمل تفاعلات هذين التطورين، أن ثمة فكراً يتخلق في المنطقة، وأن هناك تطوراً نحو جعل صيغة الدول المجاورة للعراق وأجندة اجتماعات هذه الدول بداية تأسيسية لمنظومة علاقات إقليمية جديدة، ربما تتطور أجندتها، وربما تتسع عضويتها، لكنها يمكن أن تكون بداية لصياغة نظام إقليمي أو نواة لنظام إقليمي في المنطقة في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تأسيس مثل هذا النظام.
مشاركة مصر وإيران في مجمل هذه الجهود اعتبر خطوة مهمة في مسار تطوير العلاقات المصرية ـ الإيرانية خصوصاً وأنه توافق مع هذا كله معلومات تحدثت عن قيام إيران بتسليم مصطفى حمزة المتهم بتدبير المحاولة الفاشلة التي استهدفت الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، لكن حميد رضا أصفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بادر بنفي هذه المعلومات، مؤكداً عدم وجود مصطفى حمزة على الأراضي الإيرانية في أي وقت من الأوقات.
التطور الثاني والسلبي، هو إعلان النائب العام المصري أن القاهرة ستحاكم دبلوماسياً إيرانياً ومواطناً مصرياً قبض عليه في اتهامات بالتجسس وتنظيم هجوم على موقع للبتروكيماويات في مدينة ينبع السعودية في مايو 2003، والإعداد لاغتيالات وتفجيرات تستهدف قطع العلاقات بين القاهرة والرياض.
النائب العام المصري كشف أن الدبلوماسي الإيراني هو ضابط في مخابرات الحرس الثوري الإيراني واسمه محمد رضا دوست. الإعلان عن هذه القضية الاستخباراتية أربك كل توقعات تحسين العلاقات المصرية ـ الإيرانية، واحتمال عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين في وقت قريب خصوصاً بعد تصريحات حميد رضا آصفى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية التي وصف فيها الاتهامات المصرية للدبلوماسي الإيراني بأنها "لا أساس لها من الصحة"، وزاد على ذلك بالقول بأن "هذا السيناريو أعد بتأثير من أعداء إيران"، وأن "الاتهامات الموجهة لدوست تأتي في إطار مؤامرة على دول في الشرق الأوسط بما يتمشى مع سياسيات إسرائيل العدائية في المنطقة".
هذه التصريحات متسرعة من ناحية لأن لا أحد يملك تأكيد أو نفي الاتهامات إلا القضاء المصري، وهي من ناحية ثانية تكرار مرفوض لتفسيرات إيرانية ترى أن تعثر تطوير العلاقات المصرية ـ الإيرانية يرجع لضغوط أمريكية.
مثل هذه التفسيرات تتجاوز حدود اللياقة في اتهام القرار السياسي المصري بالتبعية للولايات المتحدة، الأمر الذي يزيد من تأزم العلاقات.
هذه التطورات الإيجابية والسلبية باتت تفرض ضرورة البحث الجاد في أسباب استمرار حالة التوتر الدائمة في العلاقات المصرية ـ الإيرانية، خصوصاً مع وجود قناعة لدى الطرفين بوجود منافع ومصالح متبادلة تشجع على تطوير هذه العلاقات، ووجود مخاطر وتهديدات تحفز أيضا من الإسراع في هذا التطوير وبالذات المستقبل الغامض للعراق في ظل الاحتلال الأمريكي، والأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وجدية مطالبة مصر وإيران بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل.
تدرك مصر وإيران أن المستقبل المأمون للعراق يفرض تعاوناً مصرياً إيرانياً، وأن صياغة نظام أمن إقليمي جديد لا يمكن أن يتم دون تفاهم مصري إيراني، وأن الأوضاع الأمنية في الخليج وبالذات النظام الأمني الجديد في ظل الاحتلال الأميركي للعراق سوف تكون على حساب الجميع وبالذات مصر وإيران ودول الخليج العربية.
والبداية المنطقية هي ضرورة الإسراع بتشكيل لجان مشتركة للحوار بين البلدين لبحث كافة القضايا دون انتظار للعودة الكاملة للعلاقات الدبلوماسية ،لجان أمنية مشتركة ولجان سياسية واقتصادية وثقافية مشتركة، مناقشات وحوارات هذه اللجان سوف تبني جسوراً من الثقة المتبادلة،وسوف تضع حدوداً لسوء الظن الذي يبقى التوتر دائماً في العلاقات بين البدلين ويمنح الفرصة لتأويل الأحداث على شاكلة الربط بين كشف أجهزة الأمن المصرية لقضية التخابر تلك والإفراج المصري عن الجاسوس عزام عزام، الذي أتصور أنه أساء كثيراً للعلاقات بين البلدين.
______________________________
مختارات إيرانية العدد 53 – ديسمبر 2004