قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بجولة عربية، في مطلع أكتوبر الماضي شملت أربعة بلدان، استهلها بالجزائر ثم السودان وعُمان واختتمها بسوريا، على رأس وفد وزاري رفيع المستوى يضم وزراء الخارجية كمال خرازي، والدفاع على شمخاني، والصناعة والمعادن أسحق جهانجيري، ومدير إدارة أفريقيا في وزارة الخارجية على سبحاني وعدد آخر من كبار المسئولين الإيرانيين. وتأتي هذه الجولة في إطار سياسة "الانفتاح" الإيراني على الدول العربية التي دشنها خاتمي مع وصوله إلى سدة الحكم في عام 1997، في الوقت الذي يمر فيه المشروع الإصلاحي بفترة صعبة في الداخل الإيراني، خصوصاً بعد استقالة محمد أبطحي مساعد رئيس الجمهورية للشئون القانونية من منصبه بسبب الصدام بين السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية والحكومة، والسلطة التشريعية ممثلة في مجلس الشورى السابع.
ويمكن تناول واقع العلاقات العربية ـ الإيرانية وحدود الانفراج التي شهدتها كالتالي:
1ـ العلاقات الإيرانية ـ الجزائرية
تأتي زيارة خاتمي إلى الجزائر بعد مرحلة من الجفاء وقطع العلاقات الدبلوماسية طيلة ثماني أعوام ولم يعد التحسن إليها إلا بعد اللقاء الذي جمع الرئيس الإيراني محمد خاتمي والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عام 2000 في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة الأمم المتحدة. وهو اللقاء الذي دشن مرحلة جديدة في مسار العلاقات بين طهران والجزائر والتي ترسخت بعودة التمثيل الدبلوماسي المتبادل، إلى جانب تبادل الزيارات والبعثات الرسمية (دبلوماسيون،واقتصاديون،وبرلمانيون، ومثقفون) وكذا توقيع عدة اتفاقيات تعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
وقد تطرقت محادثات الجانبين للعلاقات الثنائية وخاصة التعاون العسكري بينهما وسبل تطويره وطرحت الحكومة الجزائرية مشروعاً كبيراً للاستثمار الأجنبي في مجال الكهرباء والماء والري بقيمة مليار دولار أمريكي. وتم على هامش الزيارة التوقيع على خمس اتفاقيات تعاون في مجالات الصحة الحيوانية، المالية، التعليم العالي، الصناعات الصغيرة واتفاق حول التعاون القضائي. ويهدف الجانبان الإيراني والجزائري إلى تطوير النشاط الاقتصادي بالناطق الصناعية فيهما ومشاريع الاستثمار المشترك في قطاع البتروكيماويات.
وعلى صعيد آخر أبرزت الزيارة أيضاً تطابق وجهتي نظر إيران والجزائر حول القضايا الإقليمية والدولية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والمسألة العراقية (وخصوصاً ما يعلق بتدهور الوضع الأمني) وغيرها.
2ـ العلاقات الإيرانية ـ العُمانية
تناولت زيارة خاتمي إلى سلطنة عمان ـ التي تعد الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ 34 عاماً ـ التعاون الثنائي ومستجدات الوضع في المنطقة، خصوصاً التطورات المتعلقة بالمسألة العراقية والقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى موضوع الإرهاب الدولي وإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.
وتنظر عمان إلى إيران والدور الإيراني في الخليج بوصفه إحدى الحقائق التي لا يمكن التصرف بدون أخذها في الاعتبار. فإيران ليست دولة مصنوعة أو مستحدثة أو مقامة على أنقاض حقوق الآخرين، مثل دول كثيرة أقيمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنها بلد ذو تاريخ وحضارة.
وتنظر عمان إلى إيران بوصفها دولة مسلمة تشارك عمان في الجزء الأعظم من روافدها الثقافية والحضارية، فالإسلام انتقل من الجزيرة العربية إلى إيران عبر عمان، وبالتحديد عبر مضيق هرمز حيث الروابط المباشرة بين شرق عمان وجنوب غربي إيران. كما تنظر عمان إلى إيران بوصفها إحدى القوى التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ العماني. ففي القدم شاركت القبائل الفارسية في استيطان الأجزاء الشمالية من عمان مع القبائل العربية التي نزحت من الجنوب (القحطانيون)، أو من نجد والشمال (العدنانيون). وفي العقود الأخيرة شهدت العلاقات الإيرانية العمانية ازدهاراً ملحوظاً، خصوصاً حينما استعانت عمان بإيران لتصفية التمرد في ظفار وإعادة الاستقرار إلى البلاد.
ومن ثم فإن عمان تنظر إلى العلاقات مع إيران على هذا الأساس بوصفها "علاقات تاريخية قديمة ووطيدة تحكمها سياسة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية". وفي هذا السياق فإن سقوط الشاه وتغير النظام السياسي في إيران لم يؤثر سلبياً على هذه العلاقات.
وقد شهدت العلاقات الإيرانية العمانية على مر التاريخ فترات من الصراعات أو التعاون المشترك. ودخل كل منهما في تحالفات متنوعة إما لضمان التفوق في مواجهة الآخر أو للتخلص من سيطرته. وتتجاوز الروابط التاريخية بين عمان وإيران، خصوصاً المناطق الجنوبية الغربية من إيران مجرد صراعات المنافسة أو التعاون للسيطرة على الخليج، وتمتد إلى علاقات نسب ودم على جانبي مضيق هرمز حيث اختلطت القبائل على الجانبين بعلاقات المصاهرة التي تعززت خصوصاً بعد مجئ الإسلام واعتناق الإيرانيين له.
كما ترتبط إيران وعمان بروابط الدين الإسلامي وتقارب الحضارتين العربية والفارسية عبر مضيق هرمز، إلى جانب روابط المصاهرة التاريخية على جانبي المضيق. وتعتبر هذه الأسس هي مرتكزات السياسة العمانية تجاه إيران، سواء فيما يتعلق بالموقف من التحولات الداخلية في عمان أو بالموقف من الدور الإقليمي لإيران، أو فيما يتعلق بالحرب العراقية ـ الإيرانية.
وفيما يتعلق بالحرب العراقية ـ الإيرانية على وجه الخصوص فإن الموقف العماني من هذه الحرب ينطلق من القناعات المشتركة لمجلس التعاون الدول الخليج والتي تقوم على أساس الحياد ورفض الحرب والمطالبة بوقفها والدخول في مفاوضات سلمية لحلها، وذلك عن طريق الحرص على استمرار الحوار وتكثيفه مع جميع الأطرف وعلى رأسهم الطرفان المعنيان.
وفي إطار هذه القناعات انتهجت عمان سياسة ثابتة قامت على المحددات الآتية:
(*) تنمية العلاقات العمانية مع كل من العراق وإيران وعدم إهمال الحوار مع أي منهما في أي وقت من الأوقات.
(*) رفض كل الدعوات المتشددة لقطع العلاقات مع إيران أو فرض عقوبات حادة عليها أو اتخاذ إجراءات إقليمية أو عربية ضدها.
(*) محاولة إنهاء حدة الحرب وتخفيف المضاعفات الناتجة عنها في إطار قبول إقليمي ودولي واضح لمثل هذا الدور.
وبناء على ذلك، يمكن تفسير موقف سلطنة عمان الرافض للدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسياً واقتصادياً خلال اجتماعات المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية في أغسطس وسبتمبر عام 1987 وكذلك رفض مسقط قبل ذلك إصدار بيان تنديد بإيران بسبب أحداث المسجد الحرام خلال موسم الحج في العام نفسه، ورفض عمان السماح للعراق باستخدام أراضيها أو تسهيلاتها العسكرية في شن هجمات على الجزر العربية التي تحتلها إيران في مدخل الخليج (أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى) أو المشاركة في التخطيط لمثل هذه الهجمات.
ورغم تصاعد حدة الحرب في الخليج وامتداد رذاذها إلى بعض الدول المجاورة فإن السلطان قابوس أعاد التأكيد على أهمية الحوار حيث قال في هذا الصدد: "لا أظن أن هناك بديلاً آخر عن ضرورة التمسك بفكرة الحوار. ومهما بدا لنا الآن أن الطرف الآخر لا يريد الإصغاء. فلاشك أن هناك في طهران من يتوقون أيضاً إلى السلام".
وقد لعبت سلطنة عمان دوراً مهما لحفظ التوازن في منطقة الخليج،وتوفير قناة للحوار بين دول الخليج وإيران. وكان للدبلوماسية العمانية دور حيوي في استمرار الحوار المباشر وغير المباشر بين مصر وإيران خلال فترة انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ العام 1979 وحتى استئناف هذه العلاقات في 26 مارس 1991 وساهمت عمان بنجاح في العمل على إطلاق سراح البحارة والصيادين المصريين الذين كانت إيران قد احتجزتهم خلال سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية، كما ساهمت كذلك بنجاح في العمل على إطلاق سراح الأسرى المصريين الذين احتجزتهم إيران خلال الحرب مع العراق. فقد كان موضوع الإفراج عن الأسرى المصريين في مقدمة الموضوعات التي بحثها يوسف بن علوي عبد الله وزير الدولة العماني للشئون الخارجية مع المسئولين الإيرانيين في أغسطس 1988، لاسيما وان هؤلاء الأسرى غير عسكريين وإنما هم مدنيون من المصريين العاملين في العراق، كما أسهمت عمان في إعادة العلاقات بين إيران والسعودية التي استؤنفت بالفعل عام 1991.
كما عملت إيران على تدعيم علاقتها بسلطنة عمان وخاصة في مجال استثمارات الطاقة ويذكر في هذا الإطار إن شركة إدارة مشروعات الكهرباء التابعة لوزارة الطاقة الإيرانية قد فازت في أغسطس 1998 بعقد بناء محطة كهرباء "صلالة" بجنوب عمان بمبلغ 15 مليون دولار يتضمن أعمال التخطيط والإنشاء والتجهيز والصيانة وإنشاء المباني وتشغيل محطة الكهرباء، كما تم إبرام عقد قيمته 150 مليون دولار لاستيراد وتركيب وتشغيل وحدة طاقتها 30 ميجاوات بمحطة كهرباء قرب صلالة.
وتمثل اجتماعات اللجنة العمانية الإيرانية المشتركة تتويجا لجهود البلدين لتكوين الرؤية المشتركة لدعم مختلف مستويات التعاون الثنائي سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الأمني (مكافحة المخدرات والتهريب بكافة أنواعه) وإن كان الحوار يتسع أيضاً ليشمل التنسيق في إطارات أوسع مثل منظمة المؤتمر الإسلامي الذي تنضوي كل من عمان وإيران في عضويتها.
وعلى مستوى اللجان المشتركة بين عمان وإيران فإنه إلى جانب لجنة الصداقة العسكرية العمانية الإيرانية المشتركة واللجنة السياسية بين وزارتي الخارجية في البلدين والتي تجتمع سنوياً بالتناوب في كل من مسقط وطهران هناك اللجنة الاقتصادية العمانية الإيرانية المشتركة. وقد أدت أنشطة هذه اللجان إلى إبرام عدة اتفاقات منها على سبيل المثال اتفاقية تبادل الاستثمارات واتفاقية تجنب الازدواج الضريبي واتفاقية التعاون العلمي والفني والبحثي بين البلدين. وفي الثامن من يوليو عام 2003 تم في مسقط التوقيع على الاتفاقية التجارية بين البلدين، وتعمل هذه الاتفاقية من أجل إزالة المعوقات غير الجمركية وتنظيم المعارض المشتركة وتطوير التعاون بين القطاع الخاص وغرف التجارة الصناعية في البلدين لتطوير التبادل التجاري فيما بينهما, مع الأخذ في الاعتبار أن حجم التبادل التجاري بين البلدين لا يزال يقل عن طموحاتهم في هذا المجال فضلاً عن أنه لا يتواكب مع الإمكانات الكبيرة المتوافرة على صعيد التعاون والتبادل التجاري ومجالات الاستثمار وغيرها حيث بلغت المبادلات التجارية بين البلدين 208 ملايين ريال عماني (543 مليون دولار) في عام 2003 مقابل 192 مليون ريال (500 مليون دولار) في عام 2002.
وقد سبق للجنة أن وافقت عام 1997 على تقديم التسهيلات اللازمة لرجال الأعمال الإيرانيين خاصة فيما يتعلق بالتأشيرات التجارية وكذلك للقوارب الإيرانية في ميناء السلطنة "قابوس" وإقامة مشروع مشترك لاستخراج النحاس في إيران وتطوير حقل "هنجام" البحري الواقع في مضيق هرمز والذي يحتوي على احتياطي غاز يقدر بـ (30) مليار متر مكعب، وتسهيل طهران "تجارة العبور" ـ الترانزيت ـ للسلع العمانية عبر الأسواق التجارية الحرة للبلدان المجاورة وآسيا الوسطى ورغبة طهران للمشاركة في المناقصة الخاصة بمشروع تمديد الغاز إلى المنازل في مسقط.
وتتحرك إيران بسرعة كبيرة نحو تطوير الحقول النفطية التي تقتسمها مع دول الخليج، وفي هذا الإطار جرت مفاوضات خلال عام 2000 بين حكومتي إيران وعمان بشأن تطوير حقل "بوخا هينجام" البحري لمكثفات الغاز والذي يقع على بعد 21 كم من ساحل شمال عمان على ممر هرمز الاستراتيجي بين البلدين، ويتم تقسيم الإنتاج حسب حصة كل طرف في الحقل بنسبة 80% لإيران مقابل 20% لعمان.
3ـ العلاقات الإيرانية ـ السودانية
رغم أنه لا توجد روابط مشتركة بين إيران والسودان، سواء في الميراث التاريخي والموقع الجغرافي والنظام السياسي والواقع السكاني، إلا أن العامل المشترك بينهما هو خضوعهما لحصار سياسي واقتصادي دولي ووضعهما على لائحة الدول الراعية للإرهاب في تقارير الخارجية الأمريكية. وكان من أبرز الاتهامات التي وجهت للبلدين معاً، ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية حول إرسال تنظيم القاعدة وحركة طالبان شحنات من الذهب خلال شهر أغسطس 2002، وذلك نقلاً عن محققين أوروبيين وباكستانيين وأمريكيين قولهم أن الذهب أرسل عن طريق البحر من باكستان إلى إيران ونقل من هناك بطائرات مؤجرة إلى الخرطوم. ونفى وزير الداخلية السوداني عبد الرحيم محمد حسنين صحة هذا التقرير، ونفت إيران أيضاً أن تكون قد لعبت دور الوسيط في العملية أو قامت بإيواء أثنين من مسئولي القاعدة، علاوة على ذلك، ما كشفته مصادر غربية ـ فرنسية بالأساس ـ عن تورط منظمة تطلق على نفسها "الكفاح من أجل البناء" في بداية عقد التسعينيات تابعة للحكومة الإيرانية في تدريب الإرهابيين في السودان، وتتولى إدارة المساعدات الإيرانية المتنوعة للنظام السوداني والتي تشمل البترول والمواد الغذائية وقطع الغيار والأسلحة.
والواقع أن حكومة الجبهة الإسلامية (الإنقاذ) في الخرطوم لم تكن أول من فتح الباب أمام إيران للوجود على الساحة السودانية، فقد كان للعلاقات السودانية ـ الإيرانية سوابق أهمها بعد سقوط جعفر نميري عام 1985 حيث تم استئناف العلاقات الدبلوماسية التي كانت مقطوعة بينها، وسمح بدخول صحيفة "كيهان" الإيرانية الناطقة باللغة العربية، وتعززت العلاقات بين البلدين بزيارة الصادق المهدي لطهران في ديسمبر 1986، وذكر بيان إيراني ـ سوداني مشترك أن إيران تعهدت بتغطية الاحتياجات البترولية السودانية، غير أن طبيعة هذه العلاقات وحدودها قد اختلفت في ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية التي جاءت إلى السلطة مع انقلاب عمر البشير في 1989،حيث اتجه السودان إلى توثيق علاقاته مع إيران على عدة مستويات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ورغم الشك الذي أبدته إيران تجاه ثورة الإنقاذ في البداية ومن توجهاتها الخارجية. ومن خلال مؤشر الزيارات المتبادلة بين البلدين يتضح أن هناك تكثيفا في الروابط السودانية ـ الإيرانية.
وقد وصل هذا التنسيق ذروته مع زيارة الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني للعاصمة السودانية الخرطوم في ديسمبر 1992 على رأس وفد كبير، تلك الزيارة التي تم خلالها توقيع عدد من اتفاقات التعاون بين البلدين في مجالات التسليح والتدريب العسكري والقضائي، كما تم توقيع بروتوكول للتعاون بين أجهزة المخابرات في البلدين، والتي كانت رداً على زيارات سابقة لمسئولين سودانيين إلى طهران.
ويمكن تحديد أهم الأهداف الإيرانية التي تكمن وراء هذا التحرك في رغبة طهران في إيجاد موطئ قدم لها في أفريقيا، خصوصاً إذا كان ذلك في القرن الأفريقي، أو في بلد كالسودان، وقد رأت أن الفرصة مواتية من ناحية، وأن ثمة ضرورة استراتيجية لمثل هذا التحرك من ناحية أخرى، فقد كانت الفرصة مواتية من حيث أن الدول العربية التي كانت تتمتع ببعض النفوذ السياسي والثقافي على جزء من القارة الأفريقية قد انشغلت بالآثار المترتبة على حرب الخليج الثانية، أو أصبحت قيد المعاناة من نتائجها فضلا عن أنها انكفأت على شئونها الداخلية، وكان مثل هذا التحرك بمثابة ضرورة استراتيجية لإيران.وكان السودان بالطبع بحكم توجهاته الإسلامية، ومعاناته الاقتصادية وظروف الحرب الأهلية فضلاً عن عزلته، كان هو الطرف المناسب لإقامة مثل هذه العلاقة.
ومن الناحية الأخرى فربما تكون الحكومة السودانية قد استهدفت من وراء توثيق علاقاتها بإيران الخروج من العزلة الإقليمية والدولية، وخلق توازن جديد ـ حينذاك ـ في المنطقة بعد تدهور علاقاتها مع المملكة العربية السعودية ومصر.
وربما كان من أهدافها أيضاً تعزيز موقفها في الحرب الدائرة في الجنوب من خلال الحصول على الأسلحة من إيران بعد أن توقفت المساعدات العراقية، وفتح مجالات للتعاون الاقتصادي مع إيران بما يخفف من حدة الأزمة الاقتصادية في الداخل ويساعد على تنفيذ سياسة السودان تجاه الدول الأفريقية المحيطة بها والرامية إلى خلق حزام متعاون مع الاتجاهات الإسلامية في السودان، أو على الأقل غير مناوئ لها.
وقد كان من الطبيعي أن تثير هذه العلاقات السودانية ـ الإيرانية قلق العديد من دول المنطقة، إذ أن وجود قوى إقليمية مثل إيران في منطقة القرن الأفريقي وعلى شواطئ البحر الأحمر وفي المدخل الشمالي لإفريقيا وعلى التخوم الجنوبية لمصر قد يفتح الباب أمام تداعيات سياسية وأمنية في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، ويزداد هذه القلق بالنظر إلى النوايا الإيرانية في إقامة نظم موالية لها في المنطقة عن طريق مساندة الحركات الأصولية الإسلامية. وكانت مصر أكثر حساسية بالنسبة لهذا الوضع حيث رأت في المساعي الإيرانية تهديداً لثوابت علاقاتها مع السودان وتهديداً استراتيجياً للأمن القومي المصري.
يرى بعض المراقبين أن الحكم العسكري في السودان بقيادة الجبهة القومية الإسلامية قد اضطلع بمهمة تغيير المجتمع عن طريق إقامة دولة أيديولوجية على شاكلة النموذج الإيراني، ولعل في هذه المقولة ما يشير إلى أهمية العلاقات الإيرانية ـ السودانية من حيث انعكاساتها على طبيعة النظام السياسي السوداني .صحيح أنه لا يجب أن تؤخذ هذه المقولة على علاتها، لكن وبنفس المنطق لا يمكن تجاهل مغزاها، ومن ثم فالمطلوب أن توضع في حجمها الصحيح دون تهويل أو تهوين.
الفكرة لجوهرية في هذه المقولة هي أن المكون الديني هو المدخل الأساسي لتصور إمكانية تأثير إيران على النظام السوداني، فالحقيقة أن المكون الديني في النظام السوداني أسبق من هذه العلاقات. بعبارة أخرى يمكن القول أن التوجه الإسلامي له جذوره في النظام السوداني ومن ثم فقد نشأ مستقلاً عن العلاقات مع إيران وسابقاً عليها.
كما أن الأزمات الحالية التي يشهدها النظام السوداني والتي تتمثل في: أزمة الجنوب، أزمة الديمقراطية، أزمة التنمية، أزمة دارفور، لم يكن للعلاقات مع إيران دور في صنعها. ومعنى ذلك، أنه من الصعب القول بوجود أثر للعلاقات مع إيران على سياسات النظام السوداني في الداخل.
لكن ذلك لا ينفي أن ثمة تداعيات تمخضت عن العلاقات الإيرانية ـ السودانية هي:
(*) التأييد العسكري الإيراني للنظام السوداني، فقد رفع النظام شعار "الجهاد"، ضد التمرد في الجنوب واعتبر الصدام "حرباً دينية"، وسواء كان ذلك وسيلة للحصول على الدعم العسكري الإيراني أو كان نتيجة لهذا الدعم، فإن ذلك لا ينفي الدور الإيراني في هذا الشأن.
(*) مساهمة إيران في بناء جهاز أمني في السودان، هذا الجهاز الذي تشكل من قوات الدفاع الشعبي، وشرطة الأمن، والجناح العسكري (السري) للجبهة القومية الإسلامية، والذي إلية تعزى أغلب حالات القمع وممارسات العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، التي شهدتها السودان على مدار عقد التسعينيات، فقد مكنت المساعدات الفنية والتدريبية والأسلحة التي قدمتها إيران للحكومة السودانية، من قمع العديد من الانتفاضات، والتي يذكر منها على سبيل المثال ما حدث في الشمال بسبب ارتفاع معدلات التضخم وما حدث في جبال النوبة.
(*) المساعدات المالية.
وتعد المبادرة الإيرانية للتوسط بين السودان وأوغندا من أبرز المعالم السياسية في علاقات البلدين وذلك انطلاقاً من حرص القيادة الإيرانية على استقرار السودان. ففي 9 سبتمبر 1996وقع السودان اتفاقاً مبدئياً مع أوغندا ـ ساد التوتر في العلاقات بين السودان وأوغندا بسبب نقطتين بالأساس: التدخل في الشئون الداخلية والرغبة في تسويق المشروع السوداني الإسلامي في أوغندا، والثانية تتعلق بالاستفادة من ورقة المعارضة الأوغندية لهز نظام الرئيس يورى موسيفني لتحقيق الهدف الأول والضغط عليه لوقف دعمه للمعارضة السودانية كما تدعي حكومة الخرطوم ـ في الخرطوم برعاية إيرانية خلال زيارة للرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني للعاصمتين. ورغم الوساطة الإيرانية وعقد الاتفاق السابق بيد أن العلاقات الدبلوماسية ظلت مقطوعة بين السودان وأوغندا.
ورغم أهمية هذه العلاقات للطرفين السوداني والإيراني، فإن ثمة تحفظات بشأنها، من أهم هذه التحفظات أن الجانب الإيراني قد انتهج في السنوات الأخيرة أسلوباً براجماتياً، وتعني هذه السياسية البراجماتية أمرين: أولهما تبني منهج التكيف مع المتغيرات وقد نجد ترجمة ذلك في تنشيط قنواتها الدبلوماسية مع كثير من الدول، وذلك في معنى عدم الاعتماد على ركيزة واحدة أو طرف واحد من ناحية، وأنها لم تعد تعطي أهمية محورية لعلاقاتها بطرف ما من ناحية أخرى. وثانيهما، التخلي عن التشدد، وهنا نلاحظ أن سياستها قد اتسمت بقدر كبير من التريث تحسباً لأي تفسير خاطئ لحركتها أو انتظار لما ستؤول إليه الأوضاع.
أيضاً يأتي ضمن التحفظات أن العلاقات بين إيران والسودان لم تصل إلى حد التعاون الاستراتيجي، وأن إيران تنحو دائما إلى تغليب الحذر في علاقاتها مع السودان، كما أن هناك قيودا كثيرة ترد على هذه العلاقات منها التباين المذهبي كالثورة الإيرانية شيعية المذهب بينما الجبهة القومية الإسلامية سنية الانتماء. ومنها أيضاً عدم وثوق إيران في الجبهة الإسلامية في السودان كحليف رئيسي في المنطقة، فضلاً عن علاقة الجبهة مع العراق (في عهد صدام حسين).
وهناك لجنة وزارية مشتركة بين إيران والسودان تنعقد كل عامين بهدف تأطير التعاون المشترك وقد عقدت أولى دوراتها في طهران عام 1990 فيما عقدت الدورة الثانية بالخرطوم 1991 وعقدت الدورة السابعة في يوليو 2003 بطهران تم خلالها توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم فيما عقدت الدورة الثامنة بالخرطوم في الفترة من 5 ـ 9 سبتمبر 2004 تم في ختامها التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاقيات الحجر الزراعي والتبادل المصرفي ومنع الازدواج الضريبي وقد شملت الدورات الثماني للجنة المشتركة معظم مجالات التعاون في العمران، والطاقة، واستكشاف وإنتاج البترول، السدود، الطرق والجسور، النقل، السكة الحديد، الزراعة وصيانة التربة ومكافحة التصحر، الصناعة والتجارة والاستثمار بالإضافة للتعاون بين وزارتي الداخلية في البلدين. كما أن هناك لجنة سياسية مشتركة للتنسيق والتشاور بين وزارتي خارجية البلدين تعقد اجتماعاتها كل عام بالتناوب، وقد عقدت اللجنة آخر دوراتها السادسة في إبريل 2004 وإبان زيارة الدكتور مصطفى عثمان وزير الخارجية السوداني إلى طهران في أبريل 2002 طرح على نظيره الإيراني إمكانية قيام مشروعات مشتركة بين السودان وإيران وأثيوبيا، وقد بدأ العمل في إعداد الدراسات الفنية لهذه المشروعات إلا أنها لم تر النور حتى الآن.
أما فيما يتصل بالعلاقات التجارية، فقد شملت واردات السودان من إيران المنسوجات والكيماويات والمواد الغذائية ووسائل النقل والمواصلات كما كانت تشمل المنتجات البترولية حتى عام 1991 بينما اقتصرت صادرات السودان لإيران على السمسم الأبيض فقط.
وفي نوفمبر 1997 تم افتتاح مشروع "إيران غاز" برأسمال قدره 8 ملايين دولار، كما تم التوقيع على مذكرة تفاهم عام 2000 بين الخطوط البحرية السودانية والشركة الإيرانية للملاحة إلى جانب التوقيع على اتفاقية في مجال التعاون الزراعي بينما يجري الإعداد للتوقيع على اتفاقية تعاون في مجال النقل النهري. أما في مجال التعاون بالنسبة للقطاع الخاص، فقد تم افتتاح مصنع "الأقصى" للزيوت بمدينة "الجديد الثورة" في نوفمبر 1999 فضلا عن تبادل الزيارات بين رجال الأعمال في البلدين والتي توجت بالتوقيع على إنشاء مجلس مشترك لرجال الأعمال. وتم التوقيع خلال زيارة خاتمي الأخيرة للسودان على اتفاقية للتعاون المصرفي بين قطاعي البنوك الإيرانية والسودانية وتم توقيع مشروع جديد بإنشاء محطة كهربائية في السودان بطاقة 25 ميجاوات، بالإضافة إلى الاستعانة بخدمات الشركات الإيرانية الفنية والهندسية للعمل في السودان.
4ـ العلاقات الإيرانية ـ السورية
اختتم الرئيس خاتمي جولته العربية بزيارة دمشق، والتي لم تكن مقررة لدى بدئه الجولة وأن اتصالات جرت قبل يومين لترتيب الزيارة. وتعتبر العلاقات الإيرانية ـ السورية "نموذجاً" لما يجب أن تكون عليه العلاقات الإيرانية ـ العربية، ولعل ما يؤكد ذلك وصف خاتمي في تصريحات للتليفزيون السوري العلاقات الثنائية بأنها "ذات روابط قوية وأساسية" وتأكيده على وقوف بلاده إلى جانب سوريا في كل "الظروف والأحوال" وقد بحث الرئيسان الإيراني محمد خاتمي ونظيره السوري بشار الأسد التهديدات الأمريكية للبلدين، خاصة بعد كشف النقاب عن وجود قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق، بالقرب من حدود إيران وسوريا.
وقد استحوذت "المسألة العراقية" على حيز كبير من الوقت أثناء مباحثات الطرفين من أجل التنسيق بشأن المؤتمر الذي استضافته القاهرة في نوفمبر الماضي بشأن العراق. كما تطرقت إلى التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية واللبنانية بما في ذلك القرار 1559 الذي يدعو إلى "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية".
وتطرقت الزيارة أيضاً إلى إيجاد وسائل لتطوير المبادلات التجارية وتفعيل الاتفاقيات الموقعة ومذكرات التفاهم في المجالات الزراعية والصناعية والمصرفية والنقل والكهرباء والثورة المعدنية، بالإضافة إلى تعاون مشترك في مجال التنقيب والاكتشاف في مجال النفط والغاز في سوريا.
وفي مايو الماضي، وقع وزير الصناعة والمناجم الإيراني اسحق جهانجيري ونظيره السوري محمد صافي أبو دان في طهران على اتفاقية تعاون في إطار الاجتماع الثالث للجنة التنسيقية للصناعة والمعادن بين البلدين. ووفقاً لهذه الاتفاقية تقوم إيران بإنشاء مصانع للسيارات والزجاج في سوريا، بالإضافة إلى التعاون في مجال الصناعات البتروكيماوية، حيث تمتلك إيران خبرة واسعة في هذا المجال ولعل التعاون الحاصل بين الشركات الأوروبية والأمريكية والشركة الإيرانية المعنية بهذه الصناعة هو دليل واضح على أهمية هذا القطاع.
وفي النهاية يمكن القول أنه في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات العربية ـ الإيرانية تحسناً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة عبر العديد من الظواهر والمؤشرات مثل الزيارات المتبادلة (الرسمية وغير الرسمية) والاتفاقيات المشتركة (في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية) واللجان الثنائية والمعارض التجارية، إلا أنه لا يمكن إحداث نقلة في مسار هذه العلاقات إلى في إطار مؤسسي، ومن هنا طرحت فكرة استحداث كيان جديد وليكن "جامعة الدول الشرقية" مثلا ليضم الدول العربية الراغبة بالانضمام وإيران وربما تركيا في وقت لاحق، وهو ما يتطلب قرار سياسي ومجهودات قانونية لإخراج هذه الصيغة إلى حيز التنفيذ، وقبل ذلك الاتفاق على حدود الإطار الجديد وآلياته.
وبرغم العوائق الموضوعية والذاتية أمام مشروع "جامعة الدول الشرقية" فإن التجارب التاريخية في أقاليم مختلفة قد برهنت على أن التعاون الإقليمي لابد له من كيانات مؤسسية ليرتكز عليها، كما برهنت هذه التجارب أن الإرادة السياسية لو توافرت لكان من الممكن الوصول إلى أعلى درجات التنسيق والتعاون في كل المجالات مثل الاتحاد الأوروبي، الذي يربط بين بلدانه أقل بكثير مما يجمع بين الدول العربية وإيران.
__________________________
مختارات إيرانية العدد 53 - ديسمبر 2004