جوان كول – أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث
جامعة ميشيغان الأمريكية
المستقبل العربي – العدد 298 – ديسمبر 2003
لا يخفى أن الظروف الحالية في العراق والمنطقة قد جعلت الشيعة في العراق لاعباً رئيساً في الأحداث, وغدوا اليوم حلفاء للولايات المتحدة ضد أهل السنة.
مقال جوان كول يتطرق إلى المخطط الأمريكي في المنطقة, والنظرة إلى الشيعة, وإمكانية الاعتماد عليهم في تنفيذ هذا المخطط.
كما يعرض للجماعات الشيعية البارزة في العراق وتطورها, ونظرتهم إلى المرجعية الدينية وولاية الفقيه وتشابه بعض أساليب عملها مع الأحزاب الشيوعية.
وسوف نعرض بتصرف أهم النقاط والأفكار الواردة في المقال بهذا الشأن من وجهة نظر أمريكية أكاديمية, مع تصحيح لبعض ما ورد في الترجمة.
الشيعة العراقيون:
حدثان رئيسان دفعا بالشيعة في العراق إلى التطرف والفظاظة:
1-الإجراءات الصارمة البعثية ضد أي نشاط سياسي شيعي في أواخر عقد السبعينات وفي عقد الثمانينات من القرن العشرين.
2-سحق انتفاضة عام 1991 وما تلاها من اضطهاد وحتى مذابح جماعية ضد الشيعة في الجنوب([1]).
ونتيجة للقسوة التي مورست عليهم في التسعينات اكتسبت الأفكار الخمينية مزيداً من القابلية لدى الجيل الشاب الذي قهره الفقر واليأس, أكثر مما كان يحلم به منفيون ينتمون إلى الطبقة المتوسطة مثل الشلبي. والحقيقة أن أحمد الشلبي غادر العراق في عام 1958, وقد تزامن ذلك مع بدايات العمل السياسي الشيعي المنظم.
ترجع السياسات الدينية الشيعية في العراق إلى حد كبير إلى وقت تأسيس حزب الدعوة في عام 1957. وكان حزب الدعوة يسعى إلى إقامة دولة إسلامية في العراق. وكان بين منظريه الرئيسيين محمد باقر الصدر, وهو رجل دين ومفكر ديني بارز كرس حياته لتطوير عقيدة شيعية حديثة يمكن أن تنافس الماركسية.
وعلى الرغم من أن آية الله روح الله الخميني طور نظريته في ولاية الفقيه بينما كان منفياً في النجف (1964-1978) إلا أن هذه النظرية لم تكتسب شعبيتها بصورة فورية بين معظم رجال الدين هناك, وكانت النجف لزمن طويل مركزاً للتعليم الديني والفقه الشرعي, وكان الشيعة بوجه عام يتبعون مرجعها الفكري – الذي يوصف ببحث الخارج (المقصود خارج النصوص) – في أمور الشريعة. ويؤمن الشيعة من هذا الفرع بأن خلفاء النبي محمد أو الأئمة هم ابن عمه وزوج ابنته علي والأحد عشر المتحدرين من نسل علي وابنة النبي فاطمة. وهم يؤمنون بأن الثاني عشر بين هؤلاء الأئمة قد اختفى في عالم مفارق وسيعود منه يوماً. وفي غياب الإمام الثاني عشر, فإن التيار الرئيس للتقليد الشيعي قد انتقل تدريجياً إلى فقهاء مدربين كقادة لهم.
وعلى الرغم من أن الشيعية الفقهية الإثني عشرية (وهي الفرع المتبع في إيران والعراق) تعتنق مثلاً أعلى يقول بأن العامة يتبعون بأحكام بحث الخارج (المقصود خارج النصوص) الفرد الأكثر علماً وبروزاً. والحقيقة أنه كان هناك دائماً متنافسون عدة على هذا المركز, وهكذا فإن السلطة الدينية متعددة. وليس للشيعة "بابا", حتى وإن كان يبدو أحياناً على منظري سلطة رجال الدين أنهم يرغبون في أن يكون لهم حبر أعظم. بالإضافة إلى هذا, فإن التقليد الشيعي الخاص بالتفكير بشأن السلطة السياسية لم يستشرف أن سيمارس رجال الدين سلطة سياسية مباشرة, وقد أفاض معظم رجال الدين في العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة مديحاً مفرطاً في الرياء على الملوك الشيعة الذين يدافعون عن العقيدة. أما فكر الخميني فكان ثورياً, وكان يعتقد أن الملكية لا تتواءم مع الإسلام([2]), وكان يصرّ على أنه في غياب الإمام الثاني عشر الغائب يحكم رجال الدين, وعلّم الخميني نظرية "ولاية الفقيه", حيث على رأس الحكومة الإسلامية –كرئيس للدولة- ينبغي أن يقوم فقيه ديني يحمي مصالح الإسلام الشيعي, ويمكن للعامة أن يخدموا في البرلمان أو أن يتولوا حتى منصب الرئيس, أما السلطة العليا فتكون في أيدي رجال الدين. وتختلف هذه الرؤية اختلافاً عميقاً عن الصيغ العادية للأصولية الإسلامية التي تريد تفسيراً وسيطياً للشريعة الإسلامية أن يصبح قانون البلاد, ولكنها لا تفرد مكاناً خاصاً أياً كان في نظام الحكم لرجال الدين المسلمين.
وفي حين أن كثيرين من رجال الدين الذين يتبعون تقاليد النجف كانوا يريدون دولة تحكمها المبادئ الإسلامية, فإنهم رفضوا فكرة الخميني القائلة بأن رجال الدين أنفسهم ينبغي أن يحكموا. بالإضافة إلى هذا, فإن المنظر العراقي للحكومة الإسلامية محمد باقر الصدر كان يتطلع إلى جمعية منتخبة لا داعي لأن تتألف من رجال دين. وهكذا, فإن الفكرة الشيعية العراقية المبدئية عن دولة إسلامية كانت تتعارض مع النظرية الخمينية التي وصلت إلى الهيمنة على إيران في عام 1979.
حزب الدعوة:
رداً على تظاهرات شيعية ضخمة في عام 1977 وعلى الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979, قمع البعث الأحزاب الدينية الشيعية والزعماء الدينيين الشيعة بطريقة فظة. وأعدموا الصدر في عام 1980 وجعلوا العضوية في حزب الدعوة جريمة يعاقب عليها بالإعدام. وألقي القبض على عديدين من أعضاء حزب الدعوة, وتحول الحزب إلى العمل السري, وأخذ يوسع تنظيم خلاياه في الوقت نفسه الذي كان يتفرق فيه جغرافياً.
كان لحزب الدعوة في عقدي الثمانينات والتسعينيات من القرن العشرين قواعد عديدة, وقد لجأت مجموعة من أعضائه وزعمائه إلى إيران. وأقامت مجموعة أخرى في لندن. أما داخل العراق فإن التنظيم بقي قوياً في منطقة الفرات الأوسط (في جنوب العراق) وخاصة حول مدينة الناصرية. ورفض فرع البصرة –المسمى تنظيم الدعوة- المذهب الخميني. ولم تكن هناك صلات جيدة بين هذه الفروع وتطورت بصورة مختلفة من ناحية العقيدة والتنظيم.
قامت مجموعة "الجهاد الإسلامي" الموالية للخميني –والتي ترتبط بالدعوة وتقيم قواعدها في لبنان وإيران- بنسف السفارتين الأمريكية والفرنسية في الكويت في أواخر عام 1983 واختطفت طائرة ركاب كويتية بعد عام (في تلك الفترة من الحرب العراقية –الإيرانية كانت الولايات المتحدة والكويت تساندان صدام حسين).
وربما كان الجهاد الإسلامي مجموعة منشقة, أو لعلها كانت عملية شبه عسكرية سرية لحزب الدعوة الذي يقيم قاعدته في طهران. ولكن الهدف –فيما يتعلق بمدى انخراط الدعوة نفسه في العنف وإعلانه مسؤوليته عنه- كان هو البعث في العراق.
انتهى عدد يصل إلى 200 ألف شيعي عراقي في المنفى السياسي في إيران خلال مسار عقدي الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي, وقد انضم كثيرون من هؤلاء المنفيين إلى الدعوة في قاعدته في إيران, وهو الذي كان يميل إلى قبول فكرة الخميني عن حكم رجال الدين. ولكن التنظيم كانت تمزقه اقتتالات داخلية على علاقة الحزب بالمرشد الأعلى. فقد بدأ الزعماء الدينيون للدعوة منجذبين بنوع خاص إلى المذهب الخميني. بينما القادة العاديون كانوا يصرون على الاحتفاظ بالاستقلال الذاتي للحزب عن المرشد الأعلى. وكانت لهذه المسألة تعقيداتها بالنسبة إلى مستقبل الدعوة. هل كان سيصبح مجرد تابع لطهران أو يبقى حزباً عراقياً له عقيدته المتميزة؟ كان بعض الأعضاء من رجال الدين في اللجنة المركزية للحزب -مثل محمد مهدي آصفي والسيد كاظم الحائري- يريدون للحزب أن يضع نفسه تحت السلطة المباشرة للخميني, وبعد ذلك لخلفه علي خامنئي. وكان من شأن هذه الخطوة أن تقضي بتذويب الحزب في حزب الله الإيراني وذكرت تقارير إخبارية أن الخميني نفسه لم يظهر حماساً لهذه الخطوة, كذلك كان الأعضاء العاديون في اللجنة التنفيذية غير مستعدين لإخضاع أنفسهم للمؤسسة الدينية. تغلغلت هذه المسألة داخل الحزب طوال أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين وفي عقد التسعينيات في إيران. وفي عام 2000 أجبر آصفي على الاستقالة كزعيم للحزب بسبب محاولاته المستمرة لوضع الحزب تحت سلطة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
أما فرع الدعوة في لندن (بقيادة أبو علي وإبراهيم جعفري) فكان مؤلفاً من أكثر من فريق من الأعضاء العاديين. وكان يتمتع أيضاً بقدر أكبر من حرية الحركة, ولهذا فإن مركز جاذبية الحزب انتقل بعيداً عن إيران.
وكانت ظروف الدعوة الأسوأ في العراق. فأثناء وبعد الانتفاضة التي أعقبت حرب الخليج عام 1991 ألقي القبض على آلاف من أعضاء الدعوة أو من زعم أنهم أعضاء فيه وأعدموا ودفنوا في مقابر جماعية.
المجلس الأعلى للثورة الإسلامية:
وبطبيعة الحال, فإن الدعوة لم تكن المجموعة الشيعية العراقية الوحيدة, ففي عام 1982 وفي محاولة من جانب نشطاء شيعة في إيران لخلق حركة مظلة لإسقاط صدام حسين, أسسوا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق, حيث كان حزب الدعوة أحد التنظيمات المكونة له. وفي عام 1982 أصبح محمد باقر الحكيم, وهو ينتمي لأسرة شيعية عراقية بارزة ومن المقربين للصدر, رئيساً لهذا المجلس. وفي السنة ذاتها قطعت الدعوة علاقتها مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية حتى تصون استقلالها.
وكان محمد باقر الحكيم يقبل نظرية الخميني في حكم رجال الدين, وأعلن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية مسؤوليته عن تفجير القنابل ومؤامرات الاغتيال ضد البعث في بغداد, ونظم المجلس ميليشيا –هي لواء بدر- كانت تنظم هجمات عبر الحدود الإيرانية داخل العراق. وبمضي الوقت نمت هذه الجماعة شبة العسكرية التي دربها وسلحها الحرس الثوري الإيراني, لتصبح فيلق بدر, المؤلفة من 10 آلاف مقاتل بحلول نهاية التسعينيات من القرن الماضي. وفي التسعينيات تطورت بين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة منافسة فتاكة, إلى حد أن أعضاء الدعوة (حسبما تذهب الشائعات) استهدفوا محمد باقر الحكيم نفسه.
حزب المؤتمر الوطني:
جر فرع الدعوة في لندن إلى دخول المؤتمر الوطني العراقي في الأعوام من 1992 إلى 1995. وكان رجل المال العراقي أحمد الشلبي قد أسس المؤتمر العراقي كمجموعة مظلة بعد حرب الخليج بمساعدة وأموال من وكالة المخابرات المركزية (عن طريق مجموعة ريندون)([3]), وكان الشلبي قد فر من الأردن إلى لندن في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بسبب اشتباه في ارتكابه عملية اختلاس ضخمة من البنك الذي كان يرأسه هناك. وقد عمل -وهو الشيعي غير الممارس- في لندن في التسعينيات على توحيد 19 تنظيماً تجمع الشيعة المتدينين, وأقرانهم من الشيعة غير الممارسين, والعرب السنة (بمن فيهم البعثيون السابقون) والأكراد. وقد تمكن المؤتمر الوطني العراقي في وقت من الأوقات من أن يضم كلاً من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كان يرأسه الحكيم.
غير أن الدعوة تركت المؤتمر الوطني العراقي في عام 1995 من ناحية بسبب نزاعات مع الأكراد, الذين كانوا يريدون أن يروا العراق يحول إلى اتحاد فضفاض, فيما كان "الدعوة" يحبذ دولة مركزية قوية. وبدورهم دخل الأكراد في حرب أهلية مريرة الوقت نفسه تقريباً, وتمزق المؤتمر الوطني العراقي نتيجة لهذا التقاتل الداخلي. ونأت وكالة المخابرات المركزية (السي. آي. إي) ووزارة الخارجية بنفسيهما تدريجياً عن حزب المؤتمر الوطني, بسبب أموال لم يكن بالإمكان تحديد أوجه صرفها, على الرغم من أن المؤتمر الوطني العراقي والشلبي ظلا يتمتعان بتقدير بول وولفويتز ومحافظين جدد آخرين. وتحسنت مقادير المؤتمر الوطني حينما استرد المتشددون السيطرة على وزارة الدفاع في عام 2001. وفي أعقاب 11 أيلول / سبتمبر تمكن الشلبي من أن يعيد تشكيل ائتلاف من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والجماعات الكردية وغيرهما, على الرغم من أن حزب الدعوة ظل بعيداً عنه بشكل عام.
في الوقت نفسه –وداخل العراق- بدت حكومة صدام مصممة على أن تمحو الشيعية العراقية. حاولت أن تجذب الشيعة بعيداً نحو بعثية علمانية وشنت هجمات وحشية على قرى متمردة في الجنوب. واستخدم نحو 500 ألف من عرب الأهوار من قبائل المدن –من صيادي الأسماك والمزارعين والمهربين- مناطق المستنقعات لديهم للاختباء من القوات البعثية وللقيام بعمليات كر وفر على غرار حرب العصابات ضد هذه القوات التي كان قد نظمهم حزب الله العراقي وتلقوا بعض العون الإيراني. كذلك فإنهم نسقوا لبعض الوقت مع فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والتي تسللت وحداته إلى الأهوار من إيران. ورداً عليهم بنى مهندسو البعث سدوداً وأشغالاً للري جففت المستنقعات. وبحلول أوائل القرن الحادي والعشرين كانت نسبة 10% فقط من المستنقعات قد بقيت, وتحول الباقي إلى تراب. وتفرق عرب الأهوار, بعضهم في القرى والبلدات القريبة كعمال ورحّل فقراء, وغيرهم في المنفى في إيران.
مدينة الثورة:
كذلك, فإن كثيرين من الشيعة من خلفية قروية عشائرية كانوا قد استوطنوا في مدينة الثورة في شرق بغداد, وهي المدينة التي أقامها الدكتاتور العسكري عبد الكريم قاسم في عام 1962. قطنوا فيها في فقر مذل محرومين إلى حد كبير من مزايا الازدهار الذي جاء به النفط العراقي. فكانوا كثيراً ما يتظاهرون ضد البعث, وقد تظاهروا بقوة خاصة في عام 1977 وعام 1991. وفي كل مرة كانوا يواجهون بقمع شرس. وبحلول نهاية التسعينيات من القرن الماضي كان تعدادهم قد تضخم ليصل إلى نحو مليونين([4]), أي قرابة عشرة بالمئة من تعداد سكان البلد. وقد احتفظوا ببعض الروابط العشائرية وقدر من التنظيم في بيئتهم الحضرية الجديدة, وبدأوا يبتعدون عن الشيعية الشعبية نحو نظرة دينية حضرية أكثر مدرسية.
في الشيعية المدرسية يتعين على كل مؤمن أن يختار رجل دين بارز ويتبع تعاليمه في أدق أمور الشرع الدينية, مثل "حيث إن العطر يتضمن كحولاً في تركيبه والكحول محرم, هل يمكن لشيعي أن يتعطر؟" إن رجل الدين الأكثر شعبية والأوثق معرفة –أو بحث الخارج (المقصود خارج النصوص)- كان في العادة هو أهم الباحثين في مدينة النجف المقدسة ومقر علوم الدين. وفي الستينيات من القرن الماضي كان محسن الحكيم, ثم انتقلت الشعلة إلى أبي القاسم الخوئي.
السيستاني ومحمد صادق الصدر
بعد وفاة الخوئي عام 1992 حدثت فجوة أجيال, فقد مال الشيعة من كبار السن من أتباع الخوئي, إلى اتباع (آية الله العظمى) علي السيستاني الذي كان في الأصل من إيران. ولأنه كان من أنصار التهدئة, فقد رفض التدخل في أمور السياسة, ورفض نظرية الخميني في حكم رجال الدين. مع ذلك, فإن الجيل الجديد كان منجذباً إلى دارس نشط يدعى محمد صادق الصدر وهو ابن عم منظر الحكومة الإسلامية في العراق محمد باقر الصدر, وقد برز صادق الصدر كمنظم سياسي فيه لمحة عبقرية, وقد أقام شبكات من المؤمنين الموالين له في البصرة وشرق بغداد والكوفة ومدينتي النجف وكربلاء (المقدستين). وعلى الرغم من أنه لم تكن له مكانة السيستاني إلا أنه كان أيضاً يفتقر إلى حذر كبار السن, في التسعينيات تحدى الصدر الثاني –كما أصبح يعرف- صدام مرات عدة.
وكان صدام قد حاول أن يحرّم صلاة الجمعة بين الشيعة, وأصر الصدر الثاني على أن يؤمهم, وأقام شبكة من الجوامع في أزقة شرق بغداد, حيث كانت الجموع تحتشد بحماس بعد ظهر أيام الجمعة. وكان الصدر يشبّه صدام بخليفة طاغية من العصور الوسطى اضطهد الشيعة في زمانه, ونظم محاكم دينية شيعية في جميع أنحاء البلد. وحاول الصدر أن يقنع الشيعة العشائريين بأن ينضووا تحت راية الفقيه الرسمي. وقد كان يعنف النساء -بمن فيهن المسيحيات- اللاتي يجرؤن على الخروج سافرات بغير حجاب. وكان يعنّف أتباعه إذا هم ارتدوا ثياباً عليها علامات غربية, كما كان يبشر ضد إسرائيل. وقد قبل نظرية الخميني في "ولاية الفقيه", وربما كان يضع عينه على المركز نفسه في العراق.
كسب الصدر الثاني نحو مليونين من الأتباع إلى صف شيعيته المتشددة على غرار الخميني. ثم –وبعد أن أنذره صدام بالتزام الصمت- اغتالته شرطة صدام السرية واثنين من أبنائه في شباط / فبراير 1999. وانفجر الجنوب في تظاهرات أخمدت –كما يمكن التنبؤ- بأحذية العسكر.
الشيعة تحت الاحتلال
كان نجل الصدر الثاني الأصغر –مقتدى الصدر- وريث عائلة لها تراث في "الشهادة". وتزوج من ابنة محمد باقر الصدر (الصدر الأول) التي كانت قد تيتمت, وانخرط في العمل السري في الكوفة وشرق بغداد مواصلاً شبكة والده ومنظماً بين سكان الأزقة من الشيعة الشبان. وقد أثبت الغزو الأمريكي للعراق في ربيع 2003 أنه كان كسباً غير متوقع له. فحتى قبل سقوط البعث في 9 نيسان / أبريل كان أتباعه قد طردوا الحزب من ضاحية شرق بغداد, التي اطلقوا عليها اسم مدينة الصدر. وأعاد أتباع مقتدى المخلصين من رجال الدين الشبان فتح الجوامع وغيرها من المؤسسات الشيعية وأنشأوا ميليشيات الأحياء واستولوا على أسلحة وذخائر من مستودعات البعث, وفرضوا سيطرتهم على المستشفيات, وأكدوا سلطتهم المحلية في شرق بغداد والكوفة وبعض أحياء النجف وكربلاء والبصرة. وانخرطوا في سياسات استخدام الحشود داعين كثيراً إلى تظاهرات ضد الاحتلال الانغلو –أمريكي في بغداد والبصرة والنجف, وتمكنوا في بعض الأحيان من أن يخرجوا حشوداً تتراوح بين خمسة آلاف وعشرة آلاف شخص([5]).
في الوقت نفسه, عاد حزب الدعوة إلى الظهور في الناصرية والبصرة وغيرهما, وإن لم يكن على نطاق يقارب كتلة الصدر الثاني. وقد برز فرع الدعوة في لندن – الذي كان راغباً في التعاون مع الأمريكيين- باعتباره السند الأكبر بما لديه من أعضاء وخلايا في الناصرية والبصرة. وقد بقي كثيرون من الأعضاء المرتبطين مع الفرع الإيراني للحزب في طهران, غير راغبين في العودة إلى عراق تحت هيمنة أمريكية. وقد أخفقت محاولة الوريث لاسم الخوئي –عبد المجيد الخوئي- للعودة لتأكيد سلطته في النجف (ربما بمساندة أمريكية) حينما قتله حشد موال للصدر في نيسان, وقد عاد زعماء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية إلى العراق في نيسان وأيار وتسللت وحدات فيلق بدر بمقاتليها التابعين لهم إلى البلد قادمين من إيران, ووطدوا وجودهم في المدن الشرقية –مثل بعقوبة والكوت بالقرب من الحدود الإيرانية. وقد أخفقوا في أن تكون لهم شعبية في شرق بغداد أو المناطق الصدرية الأخرى. وعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية قد أثبت استعداده للعمل مع الأمريكين, فإن فيلق بدر غالباً ما تصادم مع القوات الأمريكية في بعقوبة وأماكن أخرى.
لقد سعى كل من كتلة الصدر الثاني والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية إلى إقامة جمهورية إسلامية يهيمن عليها رجال الدين في العراق, وإن كان مع اختلاف بينهما في الاستراتيجيات المعلنة. فمقتدى كان واضحاً في حديثه عن الهدف ورفض التعاون مع الولايات المتحدة في بلوغه. وعلى النقيض من ذلك, فإن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية فكر بإطار عملية من خطوتين, حين قال عبد العزيز الحكيم, قائد فيلق بدر, في مقابلة تليفزيونية, إن العراقيين سيختارون أولاً حكومة تعددية, ولكن في الأجل الطويل ستتجه الغالبية الشيعية نحو جمهورية إسلامية. وتماثل هذه الخطة مخططات الأحزاب الشيوعية في أوائل القرن العشرين, إذ كانت تتضافر مع البرجوازية الوطنية لإقامة دول في مرحلة ما بعد الاستعمار, ولكنها كانت تهدف في النهاية إلى دكتاتورية شيوعية.
الصراع الشيعي الشيعي
لم ينه انتهاء حكم البعث المعارك التي طال أمدها بين خصومه, فقد شنّ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وكتلة الصدر الثاني وحزب الدعوة وأتباع آية الله العظمى علي السيستاني حرباً خفية كل منهم ضد الآخر, تصارعوا فيها من أجل السيطرة على فضاءات رمزية أساسية. كان الفضاء الرئيس بينها ضريح الإمام الحسين في كربلاء وضريح الإمام علي في النجف. وحارب أنصار الصدر أتباع (آية الله العظمى) علي السيستاني من أجل حق إلقاء المواعظ في جامع الحسين. وفي أواخر تموز / يوليو تظاهرت جموع أنصار الصدر أمام الضريح في كربلاء ضد الوجود الأمريكي في المدينة, ورد مشاة البحرية (المارينز) على إطلاق النار بإطلاق النار على الجموع, فقتلوا واحداً على الأقل وجرحوا تسعة. ولما كان أنصار الصدر يعرفون قوة ضريح الحسين كرمز للمقاومة للأجانب, فإنهم استفزوا المارينز الذين يجهلون الأمر. وفي النجف طغت أنباء كثيرة الصيف عن عصابات من أنصار الصدر هزمت مساعدي السيستاني وأقاربه ورجال الدين المحيطين به واستولت على المعاهد الدينية في المدينة. وفي تموز / يوليو اقتحم أنصار الصدر إدارة الممتلكات الدينية للسنة في البصرة, ما أثار انزعاجاً بين تلك الأقلية([6]) من أنصار الصدر يعتزمون الاستيلاء على الجوامع وغيرها من ممتلكاتهم. وتظاهر نحو 1500 سني ضد هذا التهديد. كذلك تورط أنصار الصدر في إثارة الاضطرابات المناهضة للتحالف في البصرة في 9 – 10 آب / أغسطس.
لقد دعا مقتدى الصدر في منتصف تموز / يوليو لإقامة حكومة وجيش عراقيين بديلين لمنافسة الحكومة التي عينتها الولايات المتحدة. ولكن كلاً من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدعوة –على الرغم من خلافاتهما العميقة- قبلا مناصب في مجلس الحكم الانتقالي الذي عينه الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر يوم 13 تموز / يوليو. والحقيقة أن أشخاصاً مرتبطين مع حزب الدعوة حصلوا على أربعة من المقاعد الخمسة والعشرين في هذا المجلس, وبالمثل منح المجلس الأعلى للثورة الإسلامية مقعداً. وحينما يذهب العراقيون إلى صناديق الانتخاب, وإذا ما كان أنصار الصدر مستعدين للنزول بمرشحين, فإنه من المرجح أن يبلوا بلاء حسناً, إذ يبدو أن المتحمسين لكل من المجلس الأعلى والدعوة أقل, وربما يواجهون تحدياً في ترجمة تحالفهم التكتيكي مع الولايات المتحدة إلى نفوذ برلماني.
مقتل الحكيم:
في يوم 29 آب / أغسطس أدى انفجار ضخم لسيارة مفخخة في النجف إلى قتل زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية محمد باقر الحكيم ونحو 100 شخص آخرين. وقد توجهت معظم الشكوك إلى بقايا حزب البعث وإلى المتطرفين السنة([7]) الذين ينتسبون بطريقة ما إلى القاعدة. وقد خرج رجال الميليشيا من فيلق بدر إلى شوارع النجف وبعض المدن الأخرى وأصروا على تسيير دوريات مسلحة. وبغضب دعا عبد العزيز الحكيم شقيق الإمام المغدور, والذي أصبح رئيساً للمجلس الأعلى, إلى انسحاب أمريكي فوري من العراق, لأن أمريكا فشلت فشلاً ذريعاً في استعادة الأمن. وعلى الفور علّق محمد بحر العلوم –وهو رجل دين معتدل([8]) على علاقة مع مؤسسة الخوئي وحزب البعث- عضويته في مجلس الحكم الانتقالي على سبيل الاحتجاج. أما زعيم المجلس رجل الدين السني, فقد اتهم أتباع مقتدى الصدر في أعقاب ذلك بأنهم يؤججون العنف ضد السنة, وبأنهم اغتصبوا الجوامع السنية في النجف وكربلاء. لهذا لا يمكن استبعاد وقوع صدامات خطيرة بين الشيعة والسنة في الفترة القادمة.
والأمر المؤكد أن للشيعة العراقيين "العلمانيين" وجودهم أيضاً, وبأعداد كبيرة. ولكن سنوات الرعب التي فرضها صدام ساعدت على توليد تيار خميني قوي بين الشيعة العراقيين. فالدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وأنصار الصدر جميعهم يريدون جمهورية إسلامية, واثنان من التنظيمات الثلاثة يتبنيان "ولاية الفقيه" الخمينية. ومن الأمور المثيرة للسخرية أن وولفويتز زار النجف وكربلاء في النصف الثاني من تموز / يوليو وأثار من غير قصد تظاهرة في النجف. وزاد مشاة البحرية (المارينز) الأمريكيون إجراءاتهم الأمنية بسبب هذه الزيارة, التي جاءت بعد يوم واحد من خطبة مقتدى الصدر الملتهبة التي دعا فيها إلى إقامة حكومة ظل وميليشيا شعبية شيعية. وقد زادت إجراءات الأمن الإضافية من المخاوف بين أنصار الصدر من أن الولايات المتحدة إنما تخطط للقبض عليه (وهو الأمر الذي كان صدام ليفعله بالنهاية). وقد أثارت الشائعة عن وقوع هذا بالفعل تظاهرات قام بها آلاف من أنصار الصدر لاحقاً في أحد أيام السبت. بعد أن كان وولفويتز قد غادر العراق. وتكررت هذه التظاهرات يوم الأحد إلى أن اقتنعت الجموع بأن مقتدى الصدر لم يتعرض لمضايقات.
ختاماً
لقد أطلقت الولايات المتحدة –بإزاحتها حكم البعث وإزالة القيود عن النزعة الإسلامية العراقية- قوة سياسية جديدة في الخليج, لا صعود تنظيم مدني وعواطف ديمقراطية تخيلها المحافظون الجدد الأمريكيون, إنما مطامح للشيعة العراقيين ببناء جمهورية إسلامية([9]). وكانت نتيجة ذلك عاقبة كان من الممكن التنبؤ بها للسنوات الثلاثين الماضية من الصراع السياسي بين الشيعة وحكم البعث, ولقد توقع محللو السياسة الأمريكيين نتيجة مختلفة فقط حينما كانوا يتجاهلون التاريخ.
والأمر المؤكد أن أحلام الشيعة بجمهورية إسلامية في بغداد قد تكون غير واقعية: فالعدد الأكبر من سكان البلد من السنة([10]), وقسم ما من الشيعة الذين يبلغ تعدادهم 14 مليوناً هم علمانيون. مع ذلك فإنه في الشهور التي أعقبت الغزو الأمريكي – البريطاني أظهرت الأحزاب الدينية الشيعية أوضح المهارات التنظيمية وخلقت قوة دفع سياسية. ومن المرجح أن يشكل الإسلاميون مجموعة على درجة من القوة في البرلمان قد تكفي لمنع هذا النوع من التعاون الوثيق بين الأمريكيين والعراقيين الذي كان يأمله المحافظون الجدد. إن مشهد فريق وولفويتز وهو يغادر النجف قبيل اندلاع تظاهرة كبرى من 10 آلاف من أنصار الصدر الغاضبين –وهي تظاهرة أثارها الأمريكيون عن غير قصد- قد يثبت أنه رمز دال على المغامرة الأمريكية في العراق. إن التفجير الذي وقع يوم 29 آب / أغسطس في النجف قد هز للأعماق ثقة الشيعة في القدرة الأمريكية على توفير الأمن لهم, وأثار غضباً ضد الولايات المتحدة سيستغرق بعض الوقت حتى يهدأ.
([1] ) هذا الاضطهاد كان من النظام البعثي للسنة والشيعة..... الراصد.
([2] ) يعزز هذا الرأي القائل بوجود جذور ماركسية للخميني.
([3] ) Rendon Group شركة للاستشارات بشأن الاتصالات الاستراتيجية العالمية, توفر سلعاً وخدمات لكل من القطاعين العام والخاص. وتشمل عملياتها التخطيط والتقويم واستراتيجية المعلومات والعمليات. ويبلغ عدد الدول التي تمارس فيها مجموعة ريندون عملياتها 80 دولة, وتقدم خبراتها للحكومات والمنظمات والمؤسسات بشأن تطوير الاتصالات والعلاقات العامة (المحرر).
([4] ) هذا الرقم محل خلاف, حيث دأب الشيعة على المبالغة في ذكر أعدادهم في العراق وغيره, وقد أشار الكاتب فهمي هويدي في مقال "العراك في العراق". إلى أن سكان مدينة الثورة بحدود 900 ألف فقط..... (الراصد).
([5] ) كان واضحاً أن هذه الحشود للاستعراض, فمقتدى وعلماء الشيعة الآخرون يرفضون مقاومة الأمريكان ويعتبرونها إرهاباً, ويقول مقتدى أن الشر كله هو من صدام (الراصد).
([6] ) الكاتب هنا يردد ما دأب الشيعة من إثارته من أن السنة أقلية في العراق, وقد نشرنا في الراصد دراسات ومقالات عديدة بينت كذب هذا الادعاء الذي صار كالحقيقة المسلّم بها في وسائل الإعلام للأسف الشديد (الراصد).
([7] ) كثيراً ما يقوم هؤلاء بتحميل السنة مسؤولية أحداث من هذا القبيل دون تثبت (الراصد).
([8] ) وصف بحر العلوم بأنه معتدل ينافي الواقع, فهو متعصب لمذهبه ويكره أهل السنة (الراصد).
([9] ) الجمهورية التي يطمح الشيعة إلى تأسيسها شيعية على المنوال الإيراني, وليست إسلامية بمعناها العام, وتكون لجميع المسلمين (الراصد).
([10] ) هذه حقيقة تتجاهلها كثير من وسائل الإعلام (الراصد).