آخر تحديث للموقع :

الأحد 4 رمضان 1444هـ الموافق:26 مارس 2023م 07:03:50 بتوقيت مكة

جديد الموقع

دعوة السيستاني الانتخابية مشروعة ولكنها ملتبسة ! ..
الكاتب : هارون محمد

فجأة.. صار المرجع الشيعي الكبير السيد علي السيستاني نجما سياسيا في العراق، يتردد اسمه في مقدمة نشرات الأخبار في الصحافة والفضائيات، وترفع صوره في المسيرات والتظاهرات، وصار له جمهور ومؤيدون بالآلاف، رغم انه كان الي شهور قليلة مضت يعتكف في منزله النجفي، لا يزوره غير عدد محدود من المريدين والاتباع، يقومون علي خدمته وحمل رسائله وفتاويه ونشرها بين الناس، وكانت محصورة في القضايا الدينية والفقهية، فقد عرف انه من مدرسة حوزوية، يستنكف علماؤها ومراجعها الاشتغال في أمور سياسية، تجنبا للمشاكل والحساسيات، التي تثير عادة تفسيرات تأخذ أبعادا طائفية وفئوية.

فقد لمع اسم السيد السيستاني، في أعقاب دعوته الي ضرورة اجراء انتخابات حرة في العراق، خلافا لرغبة الحاكم الامريكي السفير بول برايمر وبعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، في تنظيم انتخابات جزئية وانتقائية، علي أساس أن ظروف البلاد الراهنة لا تشجع علي انتخابات شعبية مباشرة يشارك فيها جميع العراقيين، لاضطراب الأمن وعدم استقرار الأوضاع، والافتقار الي إحصاء سكاني حديث، كما يقول المسؤول الامريكي ومناصروه، وهي ذرائع بعضها صحيح وأغلبها مفتعل، ولكن يبدو أن الامريكان يخشون من نتائجها التي قد تقلب مخططاتهم في العراق والمنطقة رأسا علي عقب، خاصة إذا أفرزت الانتخابات برلمانا تهيمن عليه الأحزاب والجماعات الشيعية في الجنوب ونظيرتها الكردية في الشمال، نظرا لما يتمتع به الجانبان الشيعي والكردي من نفوذ وانتشار، جاءا نتيجة تعاون قادة الطرفين مع سلطات الاحتلال التي غضت الطرف عن الكثير من تجاوزاتهما، وسكتت عن ممارسات وتصرفات تفريقية، طائفية وعرقية، أقدمت عليها أحزاب ومجموعات شيعية وكردية، مستغلة المباركة الامريكية لها، واحتلال زعمائها الحصة الأكبر في الهيئتين اللتين شكلهما المستر برايمر (مجلس الحكم الانتقالي والوزارة المؤقتة).
وقد أثارت دعوة السيد السيستاني في المسألة الانتخابية، ردود فعل وأصداء تراوحت بين مؤيد لها ومعترض عليها، وكل واحد منهما يسوق مبررات موقفه بالشكل الذي يراه من وجهة نظره، ومدي العلاقة مع الامريكان من عدمها، مع ملاحظة أن المؤيدين هم أكثر عددا وحجة، لانهم حشد واسع يضم رجال ومشايخ دين وطلاب مدارس دينية وأئمة وخطباء الحسينيات يقلدون مرجعية السيستاني، والبسطاء من عامة الشيعة الذين تحركهم مشاعر طائفية وعاطفية، إضافة الي أن اجراء انتخابات عامة ،شعار وطني في كل المقاييس، ليس بمقدور أحد أن يقلل من أهميته، كما أن ممارسة العملية الانتخابية بحرية، شكل بارز من أشكال الديمقراطية التي تدغدغ نفوس العراقيين الذين جلدتهم نتائج انتخابات الثلاث تسعات وتوابعها، في عهد الرئيس السابق، ولكن المثير في دعوة السيد السيستاني مع مشروعيتها، أنها اقتصرت علي موضوعة الانتخابات فقط، وركزت عليها أكثر من اللازم، مع إنها جزء من عملية سياسية كبيرة ومعقدة، تبدأ من الاحتلال الأجنبي للعراق أصلا، والموقف الوطني والشرعي منه، وتنتهي في كيفية التعامل معه، وأي الطرق والوسائل المطلوبة للتخلص منه، فلم نسمع رأيا للسيد السيستاني يندد بالانتهاكات الامريكية المستمرة للمواطنين العراقيين، ومداهمات قواتها لبيوتهم وترويع أطفالهم ونسائهم وشيوخهم، في أكثر من مدينة ومنطقة عراقية، ولم نقرأ له فتوي تشجب رمي أكثر من مليون عراقي في الشارع بجرة قلم من المستر برايمر، ولم نطالع تصريحا لسماحته يحتج علي اعتقال آلاف العراقيين علي الشبهة، ولم يحرم علي أبناء طائفته التعاون مع المحتل الأجنبي وخدمته وقبض الرواتب منه، رغم ان التراث الشيعي يقوم تاريخيا ودينيا علي مناهضة الاحتلال والهيمنة والتدخلات الاجنبية بكل صورها وأشكالها، بل ان سماحته حفظه الله ورعاه، يستقبل ويجتمع مع أعضاء في مجلس الحكم والوزراء ويتباحث معهم، وهو يدرك مسبقا، انهم مستخدمون لدي سلطة الاحتلال التي عينتهم في مناصبهم وحددت وظائفهم ومهامهم، وتبلغ المفارقة ذروتها، عندما يرد علي السفير برايمر الذي رغب في زيارته والتعرف عليه أنت أمريكي.. وأنا إيراني فلماذا لا نترك أهل العراق يدبرون شؤونهم ؟ فمثل هذا القول ـ إذا صح ـ ويبدو انه صحيح، بدليل عدم صدور نفي له من مكتبه، فانه يحمل دلالات عدة، في المقدمة منها، أن السيد السيستاني يجب ان ينأي بشخصه الكريم ومركزه الموقر، عن أي عمل سياسي سواء كان انتخابات أو غيرها، وينصرف الي خدمة مقلديه، لأن الإصرار علي هذه القضية وحدها، يعطي انطباعا بان المرجع الكبير راض بالإجراءات الامريكية التي اتخذت طيلة الأشهر التسعة الماضية باستثناء العملية الانتخابية، كما ان تشبثه وحصر اهتمامه في هذه الجزئية، يعطيان انطباعات تتداخل فيها التكهنات والأقاويل التي تدور في إطار طائفي بحت، حرصت مرجعيات النجف علي الدوام، الابتعاد عنه تماما، لآثاره وتداعياته الخطيرة، خصوصا وان ثمة أحاديث تتردد في الشارع العراقي وتناولتها وسائل الإعلام مؤخرا، تشير الي تدخلات ايرانية مكشوفة في الشؤون العراقية، وتوجيهات واملاءات تصدر من طهران الي حلفائها ومحاسيبها وأنصارها وحملة جنسيتها، من أحزاب وجماعات وهيئات تدعوها الي استغلال الفرصة المواتية الان، لفرض واقع جديد يعزز دور ومكانة الشيعة المرتبطين بإيران، علي حساب النخب والأوساط السياسية والفكرية والاجتماعية المنحدرة من أصول ومناطق شيعية، وخصوصا تلك المتمسكة بثوابتها الوطنية والقومية والرافضة الانسياق نحو النزعات المذهبية، وهذه النخب بما تضمه من شخصيات مرموقة وحضور فاعل ومنزلة محترمة، تشكل تحديا للجماعات الشيعية الطائفية المحسوبة علي ايران، التي لجأت الي عمليات ترهيب ومطاردة واغتيال ضد المثقفين والأكاديميين والوجوه الاجتماعية والضباط السابقين وشيوخ القبائل ، في بغداد والبصرة والنجف والحلة، كما نشطت تلك الجماعات في التحريض علي تيار الصدر الذي يقوده السيد مقتدي الصدر، لانه طرح شعارات ومفاهيم وطنية بعيدة عن المحاصصات الطائفية، معيدة الي الأذهان الحرب الشعواء التي شنتها علي والده الراحل آية الله محمد صادق الصدر عندما تقلد المرجعية في منتصف التسعينات قبل اغتياله في نهايتها.
إن اقتصار طروحات آية الله السيستاني علي المسألة الانتخابية بمعزل عن المشكلات الحادة الأخري التي خلقها الاحتلال وهي كثيرة ومتعددة، تمس حياة الناس في الصميم، يثير مخاوف في أوساط عراقية واسعة من أجندة خفية تسعي أطراف شيعية، محلية وإقليمية لتنفيذها، موظفة موقف المرجع من الموضوع الانتخابي ومحاولة استثماره علي نطاق طائفي أوسع، خاصة وأن بعض الكتاب والمنظرين الشيعة من ذوي النزعات الطائفية، بدأوا حملة مريبة تطعن في ثورة العشرين من القرن الماضي، وتتجني علي المراجع والعلماء الذين تبنوها ووجهوها وقتئذ، وتشكك في فتاواهم التي حرمت علي أبناء طائفتهم، التعاون مع سلطات الاحتلال البريطاني أو الخدمة في الوظائف العامة في العشرينات، علي اعتبار أن مواقفهم تلك كانت السبب في إقصاء الشيعة من تسلم السلطة وتصدر الحكم يومذاك، ويرون ان ذلك أتاح المجال واسعا أمام السنة العرب، ليتقدموا الصفوف وينالوا شرف بناء الدولة العراقية الحديثة علي عواتقهم، ويسهموا وحدهم في إرساء دعائمها وحمايتها والحفاظ علي كيانها، ويتعاقبوا علي حكمها علي امتداد أكثر من ثمانين سنة، وهذه الآراء تجد لها آذانا صاغية واستجابات من أحزاب ومنظمات وشخصيات شيعية تنادي اليوم بشعار طائفي متخلف يقول: اتركوا الوطنية للسنة العرب يتمسكون ويتلوعون بها، ودعوا الشيعة يتعاونون مع الامريكان ويتسلموا الحكم لذلك لم يعد مستغربا، أن يقف رجل دين بعمامته السوداء ولحيته البيضاء وهو في الثمانين من عمره، ليعلن علي الملأ بوقاحة لا نظير لها، اعتبار التاسع من نيسان (إبريل) وهو اليوم الذي أرخ لسقوط بغداد علي أيدي الامريكان، عيدا وطنيا وعطلة رسمية في العراق، ولم يعد غريبا أيضا ان ينخرط قادة أحزاب وجماعات شيعية في التشكيلات والهيئات التي أشرفت سلطات الاحتلال علي تأليفها، فيما تنطلق أصوات شيعية، تؤيد بحرارة قرار برايمر حل الجيش العراقي وإلغاء وزارات الدفاع والإعلام والأوقاف وتسريح منتسبيها وهم بحدود مليون إنسان، ويطلع عراب (اعلان شيعة العراق) بوجهه الثعلبي ليعلن بلا حياء ان الجيش العراقي يستحق الحل، لأنه في رأيه (فاشي)، ويذهب زعيم شيعي آخر الي التأكيد بان علي العراق أن يدفع الي ايران مائة مليون دولار مستحقة لها جراء حرب الأعوام الثمانية، وكأن ايران كانت خلالها حملا وديعا، لم تقتل آلاف العراقيين ولم تدمر مدنهم ومرافقهم، ويخرج علينا زعيم شيعي آخر يتستر بالليبرالية كذبا وادعاء، ويخترع بدعة جديدة أسماها (الاجتثاث) تهدف الي استئصال أكثر من مليون انسان، أجبرهم النظام السابق علي الانتماء لحزب البعث، لم يقترفوا ذنبا ولم يرتكبوا إثما أو جريمة. 
وعلي هذا الأساس فان الدعوة السيستانية (الانتخابية) والمبالغة بها وحدها، قد يقصد بها أشياء آخر غير السياقات التي تدور بها، في الوقت الذي يتم إهمال أو التغاضي عن معالجة قضايا عراقية ملحة أخري، أفرزها الاحتلال البغيض، تتقدم في أهميتها وأولياتها علي موضوعة الانتخابات، وتستدعي من المرجعية أن تتصدي لها، أو تقول رأيا فيها علي الأقل وهو أضعف الإيمان.

عدد مرات القراءة:
2639
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :