إحصاءات رسمية
مع بدء الاحتلال الأميركي للعراق في إبريل "نيسان" 2003 أثيرت قضية التركيبة السكانية للعراق على خلفية الحديث عن مستقبل العراق السياسي، وتواترت منذ ذلك الحين التصريحات والإحصاءات التي باتت من الأمور المسلم بها في تقارير وسائل الإعلام والتي تؤكد أن الشيعة يشكلون الأغلبية في العراق، وركزت أغلب هذه التصريحات على أن الشيعة يمثلون على الأقل ما بين 60 إلى 65 بالمائة من سكان العراق.
وقد شكك أكاديميون عراقيون، من بينهم شيعة، في صحة هذه الإحصاءات، والأهم من ذلك أن تظهر 3 إحصاءات تفوقا متفاوتا لعدد السنة في العراق، ويقول الأكاديمي "الشيعي" محمد جواد على، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بغداد، إن نسبة الشيعة في العراق تتراوح فعليا بين 40%و 45%، في حين يمثل السنة نحو 53، أما العراقيون من غير المسلمين فيشكلون 2% من إجمالي عدد السكان. وذكر أنه مما ساعد في رواج هذه الإحصاءات المغلوطة قدرة التعبئة الهائلة لدى الشيعة، وكثرة عدد المحافظات الشيعية، بالقياس لعدد المحافظات السنية، وهو ما جعل البعض يجنح به الظن الخاطئ إلى كون الشيعة يمثلون أغلبية ساحقة، بالنظر لكثرة عدد محافظاتهم، متناسيا الانتباه للكثافة السكانية لكل محافظة.
ومن الإحصاءات التي تظهر تفوقا ملحوظا لتيار السنة إحصائية المنظمة الإنسانية الدولية "هيو مانيتارين كوردينيوتور فور إيراك HUMANITARIAN ORDINATOR for iraq، التي وضعت أصلا في العام 1997 لتوجيه العمل الإنساني في العراق في ظل الحصار الدولي الذي كان مفروضا عليه من 1990 حتى 2003 وتظهر الإحصائية أن عدد أبناء السنة يزيد بـ 819 ألف نسمة.
وإذا كانت الإحصائية السابقة تعطي نتيجة تقريبية فقط، يمكن اعتماد إحصائية أخرى مجمعة صدرت في 2003، وتستند إلى البطاقة التموينية، وإحصاءات وزارتي التجارة والتخطيط في عهد النظام البعثي السابق وإلى إحصاء سلطة الحكم الذاتي الكردية في الشمال، وتخلص هذه الإحصائية إلى أن عدد سنة العراق 15922337 "نسمة 15.9 مليون نسمة"، وذلك بنسبة 58% من إجمالي السكان، في حين يقدر عدد الشيعة بنحو 10946347 نسمة "10.9 مليون نسمة"، وذلك بنسبة 40%، و2% من غير المسلمين.
في السياق نفسه، تذهب إحصائية أعدت بالاستناد إلى معطيات التقرير السنوي للجهاز المركزي للإحصاء العراقي "نسخة دائرة الرقابة الصحية" التابعة لوزارة الصحة العراقية، وإلى دراسة الأكاديمي العراقي الدكتور سليمان الظفري، إلى أن نسبة السنة من مجموع أبناء العراق المسلمين تبلغ 53%، في حين تبلغ نسبة الشيعة 47%.
ومما يزيد من تأكيد مصداقية الإحصاءات الخاصة بكون السنة يمثلون أغلبية الشعب العراقي، ما حصل بالنسبة لقوائم توزيع أعداد الحجاج على المحافظات للعام 2004، بحسب تعداد النفوس، إذ فاق عدد الحجاج من السنة عدد الحجاج من الشيعة، بناء على إحصاء نفوس المحافظات بحسب مصادر وزارة الأوقاف العراقية.
وخلافاً للاعتقاد السائد خارج العراق بأن محافظات الجنوب شيعية خالصة، فإن الإحصائيات كشفت عن وجود مهم للسنة في بعض محافظات ومدن الجنوب، ففي البصرة لا تقل نسبة السنة عن 35% وفي الزبير 45% وفي الفاو 40% وفي الناصرية نحو 17% وحتى في النجف وكربلاء، المدينتين الأكثر قدسية عند الشيعة، تتراوح نسبة السنة بين5 و 10%.
والتركيبة السكانية العراقية من أعقد التركيبات السكانية والطبقية في المنطقة إذ تتشابك فيها الأصول والمنابت وتفترق، وتتداخل فيها الأعراق العربية والفارسية والشريفية والآشورية والكردية والتركمانية، وتتنوع تركيبتها القومية والدينية والقبلية، إلى الدرجة التي يصعب فيها الوقوف على بنية اجتماعية مستقرة دقيقة لطبيعة تكوين وتركيب المجتمع العراقي.
أحوال السُنة
وفي الوقت نفسه تتباين الدراسات والتحليلات الخاصة بدراسة بنية المجتمع السني في العراق والعوامل المؤثرة عليها والتوزيع الطبقي داخله، وذلك نظرا لعملية التداخل القسرية التي تمت بينهم وبين النظام العراقي السابق، إلا أنه من الناحية الاجتماعية يتحدث عدد من الباحثين عن وجود طبقة وسطى داخل المجتمع السني كان قوامها الأرستقراطيون وأفراد الجيش العراقي والموظفون الإداريون وأعضاء حزب البعث، وكما يقول علماء الاجتماع عندما تغيب التنظيمات المدنية الحديثة تظهر التنظيمات الأولية بشكل فاعل.
أما من الناحية الاقتصادية فيتوزع مصدر الاقتصاد السني في المرحلة السابقة بين الدخل القادم من الدولة وحزب البعث وبين التجارة المدنية أو الأراضي الزراعية التي تتحكم فيها عشائر عراقية سنية عريقة، ولذلك فإن عددا كبيرا من السنة قد فقدوا مواردهم الاقتصادية مع زوال نظام الحكم، في حين أن الشيعة الذين كانوا يعانون من التهميش الاقتصادي والسياسي في الفترة السابقة لجأوا إلى الأعمال التجارية الحرة ومصادر دخل مستقلة عن الدولة.
ولكن هناك تحليلات اقتصادية تتحدث عن طبقة اقتصادية يغلب عليها الطابع السني، كانت متحالفة مع حزب البعث العراقي مازالت فاعلة ومستفيدة من الظروف الاقتصادية الحالية في حين يعتمد أغلب السنة الأكراد على الزراعة والرعي والصناعات الأولية في مواردهم الاقتصادية.
أما بالنسبة للتكوين الثقافي لأهل السنة في العراق، فهناك اختلاف كبير بين العادات والأعراف العربية والكردية وفي تحديد الهوية وتقدير المصالح السياسية، إلى درجة تكاد تختفي فيها مساحات التواصل والتوافق بني الطرفين في حين ينشط الوجود الإسلامي لدى الفئتين العربية والكردية، غير أن دوره في الجانب العربي أكبر وانتماءه الحضاري واضح، أما على الطرف الكردي فتشكل الأحزاب الإسلامية طرفا ثالثا في المعادلة السياسية الداخلية.
دور الدين
ولا توجد دراسات دقيقة تحدد لنا درجة التدين أو حجم التيار الإسلامي داخل المجتمع العراقي، لكن هناك مؤشرات متعددة وقوية تشير إلى ارتفاع نسبة التدين وقوة التيار الإسلامي ورسوخه في البنية الاجتماعية السنية، على الرغم من سنوات الحكم الحديدي لحزب البعث العراقي العلماني ومنعه من قيام جماعات الإسلامية طوال العقود السابقة، إلا أن الاحتلال الأميركي وسياساته المتصلبة ضد السنة كان محفزا جديدا لزيادة الشعور بالانتماء الديني والإسلامي داخل أوساط السنة، ويبدو واضحا من نفوذ القوى السياسية السنية الحالية ودرها وتأثيرها أن التيار الإسلامي هو الغالب والنافذ إلى عمق البنية الاجتماعية السنية.
وقد تميز المشهد السياسي العراقي منذ الاحتلال بظهور دور الدين والتنظيمات الاجتماعية الدينية بشكل مؤثر وكبير في المدن، سواء عند السنة العرب أو عند الشيعة، وظهرت العديد من القوى والأحزاب السياسية التي تمثل النسق الاجتماعي والثقافي والسياسي للفئات المختلفة، إلا أن أبرز المعالم في المشهد العراقي هو ظهور المقاومة المسلحة القوية، والتي لم تكن أبدا في حسابات الإدارة الأميركية للحرب، وأثرت كثيرا على قواعد الصراع ودفعت بالقادة الأميركيين إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم وتعديلها عدة مرات، وأوصلت الأمور إلى حد المأزق الحقيقي لقوات الاحتلال.
وقد نشطت المقاومة المسلحة في المدن السنية وخاصة في بغداد والرمادي والفلوجة منذ بداية الاحتلال، وتعددت وتنوعت الفئات المكونة للمقاومة المسلحة من الفئات والعناصر الإسلامية العراقية، إلى أفراد الجيش العراقي المنحل، والاستخبارات العراقية السابقة، وأبناء العشائر، والمتطوعين والمجاهدين العرب القادمين من الخارج، وتنظيمات حزب البعث العراقي.
في الوقت نفسه ظهرت عدة اتجاهات فكرية وسياسية سنية عربية في التعامل مع الاحتلال، من بينها:
· اتجاه الحزب الإسلامي "جماعة الإخوان المسلمين" وتمثل موقفه برفض الاحتلال، لكن مع عدم مواجهته والمشاركة منذ البداية في مجلس الحكم الانتقالي من "باب الضرورات" بحجة الحفاظ على الحقوق السياسية لأهل السنة في العراق، منعا من استفراد الطوائف الأخرى بالتحالف مع الاحتلال في صوغ المجال السياسي العراقي القادم، وشارك الحزب من خلال أمينه العام محسن عبد الحميد في المجلس الانتقالي، إلا أنه تعرض لضغوط عديدة للانسحاب، وخاصة مع أحداث الفلوجة الأولى.
· هيئة علماء المسلمين التي تشكلت بعد مرور وقت قليل على سقوط بغداد وهي الأقرب للتوجهات السائدة في المثلث، وكذلك الأقرب إلى توجّهات رجل الشارع، والأوسع تأثيراً لاعتمادها على شبكة ضخمة من أئمة المساجد والشخصيات الدينية. وقد نجحت الهيئة في تشكيل هيئة مكتب يترأسها الشيخ الدكتور حارث الضاري، وبدأت في التعبير سياسيا عن التوجهات السنية، التي لم تتجاوز كثيرا خروج الاحتلال، وتبعا للشيخ الضاري فإن "المشكلة ليست في مشاركة السنة أو عدم مشاركتهم في الحكم، بل المشكلة في الاحتلال. فالاحتلال، إذا بقي موجودا، فإنه قد يقصي أهل السنة اليوم، وغدا يقصى غيرهم"، وبدا الأمر وكأنه قتال حتى الموت.
__________________________________
المصدر: الوطن العربي ـ العدد 1451 -24/ 12/ 2004