ما زال المعقبون في الشأن العراقي مترددين في تفسير وتحليل الخطوة التي أقدم عليها أنصار مقتدى الصدر في إحدى ضواحي بغداد (مدينة الثورة أو الصدر)، والمتمثلة في تسليم أسلحتهم مقابل مبالغ مالية، على الرغم من أن مدينة الثورة أساساً تعد من أكبر الأسواق في بغداد والعراق التي يباع فيها السلاح قبل أن تقوم قوات الاحتلال الأمريكية بمداهمة هذه الأسواق ومصادرة موجوداتها من السلاح والأعتدة، خصوصاً أن تيار الصدر لم يعلن بشكل واضح وحاسم إلقاء سلاح ميليشياته (جيش المهدي) أو حتى انخراطه في العملية السياسية (المشاركة في الانتخابات) هذا أولاً، وثانياً وقف المعقبون أمام لغز اقتصار عملية تسليم السلاح على مدينة الثورة وحسب، وعدم شمول هذه العملية مدن الجنوب والفرات والأوسط، وإذا كانت هنالك صفقة محددة في هذا الإطار قد تمت بين الحكومة والتيار الصدري، فلماذا اقتصرت على جانب جزئي ولم تتناول عموم الجوانب، أي أن يتم تسليم سلاح التيار المذكور في المدن العراقية الأخرى وعلى افتراض أن الطرفين يسلمان بمبدأ الاتفاق، وثالثاً هل طرأ موقف مرحلي لدى تيار الصدر بشأن مقاومة الاحتلال وإذا كان الأمر كذلك، ما هو هذا الموقف وما هي جوانبه وصفحاته، وقبل ذلك لم نسمع من السيد مقتدى الصدر تصريحاً يكشف به جانباً من الموقف الجديد لتياره على افتراض أن هناك مستجداً في موقفه المعروف؟
وبعيداً عن تردد المعقبين يبدو من الواضح أن هنالك التباساً قد حصل في تبيان موقف تيار الصدر المعروف من الاحتلال ومن الحكومة المعّينة من قبله، وهذا الالتباس قد يكون في حقيقته خروجا من أحد أجنحة التيار المذكور على الموقف المعروف للتيار الصدري أو انه موقف مرحلي وظرفي وجزئي من جراء الضغوط التي تعرض ويتعرض لها الصدر من بعض المراجع الاجتماعية التي تميل إلى إجراء الانتخابات والمشاركة فيها، على الرغم من أن الصدر وتياره حتى هذا الوقت لم يعلنا المشاركة في الانتخابات، وقد كان الموقف منها وفق ما هو معلن رسمياً هو عدم المشاركة، لكن انعطافاً على عملية تسليم التيار لسلاحه في أكبر معقل ديموغرافي له (إذا سلمنا جدلاً بذلك)، قد لا نستغرب إذا ما حدث تغيير جزئي أو ما بين وبين أو حتى كلي، وهو أمر سوف تكشفه الأيام اعتماداً على ما تسفر عنه المواقف في منطقة غربي العراق وخاصة في الفلوجة التي اتسمت مفاوضاتها مع الحكومة بالتعثر خصوصاً مع استمرار القصف الجوي الأمريكي شبه اليومي للمدينة المذكورة وكذلك التحذيرات ولا نقول التهديدات الحكومية باجتياحها في حال عدم قبول الفلوجيين لشروطها ومطالبها، وقد أشارت مصادر الاحتلال الأمريكي أخيراً إلى أن قوات الاحتلال الأمريكي قد باشرت في عملية عسكرية برية وجوية ضد مدينة الفلوجة.
لذلك، أصبح من الواضح أن عملية تسليم السلاح في مدينة الثورة ببغداد هي ضمن نطاق المناورات التي بات التيار الصدري يجيدها ومنذ معركة النجف الأخيرة، لا سيما وأن الاتفاق بشأن تسليم السلاح في مدينة الثورة وحسبما ذكرته الأوساط القريبة من التيار الصدري، يتضمن تخصيص أموال لاعمار المدينة وتعويضاً مالياً لمن يقوم بتسليم سلاحه وكذلك إطلاق سراح أنصار الصدر من الذين جرى اعتقالهم في السجون والمعتقلات التي يديرها الاحتلال الأمريكي.
يمكننا استشراف دوافع وأغراض عملية تسليم السلاح في المدينة المذكورة ووفق التالي:
أولا: أن العملية تتم ليس بين (جيش المهدي) أو بين مسؤولين من التيار الصدري والحكومة، وإنما الأمر يتعلق بأفراد يمتلكون سلاحاً ويودون بيعه حيث وجدوا المشتري الذي يدفع لهم مقابل هذا السلاح، وهي عملية تتم في إطار العمل الفردي والتجاري ليكون بالتالي فتح أسواق لبيع السلاح وبتشجيع وغطاء رسمي من لدن الحكومة التي هي أساساً الطرف المشتري في تلك الأسواق.
ثانياً: أن تيار الصدر له وجود كثيف في مناطق أخرى من بغداد لا سيما في مدينة الشعلة ومناطق بغداد الجديدة، وهذه المناطق لم تشملها عملية تسليم السلاح بالإضافة طبعاً إلى مدن العراق الأخرى، وهذا الأمر يعطي أكثر من دلالة على أن التيار الصدري لم يقرر عملياً ورسمياً تسليم سلاحه، وأن ما يجري في مدينة الثورة يظل محصوراً في الإطار الفردي والشخصي والتجاري، على اعتبار أن أسواق السلاح في العراق ديناميكية المصادر وباستطاعة العراقي في هذا الوقت شراء قطع السلاح بدءاً من المسدس إلى المدفع.
ثالثاً: بات من الواضح أن كلا الطرفين (تيار الصدر والحكومة) يدركان هذا المناورة لا سيما وأن كليهما لا يثق بالآخر، وهما بهذا (الإدراك) يحاولان كسب الوقت وهو عامل سنتطرق إلى نقاطه فيما بعد، على واقع أن كل طرف منهما يحاول كسبه وتجييره لصالحه وفق حساباته وتصوراته التي استشرفها للفترة التي تسبق موعد الانتخابات والتي ستحدد موقفهما الحاسم إزاء بعضهما البعض مثلما تحدد في الوقت نفسه عوامل الكسب والخسارة، مع الإشارة إلى أن موقف التيار الصدري سوف يتأثر بلا شك بمواقف المناطق المقاومة للاحتلال في غربي العراق والشمال الغربي وشمال بغداد والتي رفضت المشاركة في الانتخابات من ناحية المبدأ.
إن عامل كسب الوقت تتم المراهنة عليه من قبل الحكومة وأطراف المعارضة والمقاومة للاحتلال، على اعتبار أن استمرار الوضع الحالي والسائد لا يخدم الاحتلال ولا الحكومة، وكلما استمر هذا الإيقاع تضاعفت مصاعب وخسائر جيش الاحتلال الأمريكي، وهو أمر يعقّد من مهمة الاحتلال ويؤدي إلى اضطراب عمليته السياسية التي يريد من ورائها تكريس وجوده العسكري بغطاء عراقي مهما كانت آلية هذا الغطاء، وكسب الوقت بالنسبة للاحتلال يعني حسم الموقف سياسياً أو عسكرياً وذلك بتسريع وقت الحسم كي يتسنى له إجراء الانتخابات في موعدها المحدد وبغض النظر عن شكلها وحجمها ونتائجها التي لن تكون بعيدة عن مخططاته المسبقة، في حين أن المقاومة والمعارضة يميلان إلى إطالة الوقت وفق ما هو عليه الوضع الآن حتى تؤدي مثل هذه الإطالة إلى تفاقم موقف الاحتلال وانهيار آليته المحلية بما يعجل برحيله عن العراق.
من هنا فإن قيام المواطنين العراقيين في مدينة الصدر ببيع أسلحتهم إلى الحكومة لا يشكل في هذا الوقت تغييراً بقدر ما هو أمر يتعلق بأحد جوانب اللعبة السياسية التي يمارسها التيار المذكور إزاء الحليف المحلي للاحتلال والذي يدرك أبعاد وحدود هذه اللعبة التي لا تتعدى حدود التجارة، والتجارة شطارة كما يقول المثل.
______________________________
الرأي 18/10/2004