الكاتب : إبراهيم غرايبة ..
يبدو أن المركزية الإيرانية في توجيه الشيعة وقيادتهم ستؤدي على الأغلب إلى حرب أهلية وصراع داخلي سيكون الشيعة من ضحاياه, وإن كان يبدو التفوق الإيراني والتنسيق مع الولايات المتحدة يعطيهم فرصة كبرى للانتقام والهيمنة لأنهم سيتخلون عن عراقيتهم ويتحولون إلى جماعات وظيفية تعتمد في قوتها واستمرارها على إيران والولايات المتحدة ومصالحهما وأوضاعهما المتغيرة والمتقلبة.
وتبدو الحركات الشيعية أنها تواجه أزمة انتقال كبرى, فهي خضعت لمرجعية سياسية وتنظيمية إيرانية طوال الثمانينات والتسعينات, وتبدو كما لو أنها تنفذ أجندة إيرانية في العراق قائمة على الحوار والتهدئة مع أميركا وربما التعاون السري, وهو ما أشار إليه تقرير لمعهد جيمس بيكر للسياسات العامة, وهي اليوم بعد الاحتلال العراقي للكويت تخوض تحدياً مستقلاً عن إيران في المساهمة في صياغة مستقبل العراق باعتبارها حركة سياسية واجتماعية عراقية وجزءاً من نسيج المجتمع والدولة في العراق, وليس حزباً تابعاً لإيران.
لقد تعرضت الحركات الشيعية لأزمة داخلية كبرى بعد سقوط النظام السياسي البعثي, وقتل فيما يعتقد أنه نزاع شيعي – شيعي عبد المجيد الخوئي ابن العلامة الخوئي, وقتل أيضاً محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق, وأحد أهم قادة الشيعة ولعله أكثرهم قوة, ورجل إيران بين الشيعة والمرحلة السابقة لسقوط نظام البعث, وظهر مقتدى الصدر ابن القائد والمرجع الشيعي الكبير محمد صادق الصدر الذي قتل عام 1999, ويبدو أن مقتدى الصدر يصعد سريعاً متحدياً على نحو أساسي قيادة الحكيم للشيعة, وهيمنة المجلس الشيعي الأعلى, ومنافساً أيضاً لحزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري.
وكان سقوط نظام البعث والاحتلال الأميركي للعراق تحديين كبيرين للشيعة لا يقلان عن مرحلة المواجهة والاضطهاد والعمل السري والعمل العسكري والثوري من الخارج, ومن إيران أساساً, فقد كشفت نهاية الأحداث بالنسبة للشيعة عن فراغ كبير واختلافات اجتماعية وسياسية ومرجعية في القيادات والنخب الشيعية, وربما يكون الاتفاق الوحيد بينها هو التعاون مع الولايات المتحدة والرّهان عليها لتأجيل تسوية الخلافات أو الحصول على فرصة وتراتيب في الكعكة العراقية, أو الهروب إلى الأمام من الاستحقاقات التاريخية والسياسية القاسية التي تقتضيها مهمة بناء عراق متوازن قائم على فكرة جامعة لدولة كبيرة وغنية وعريقة تستوعب المذاهب والأعراق إن لم تتجاوزها.
وبخلاف السنة الذين اتبعوا اتجاههم التاريخي في العمل على إقامة دولة للعراقيين جميعاً, ومقاومة الاحتلال استجابة لانتماء ينتفي معه اصطياد الفرص والمكافآت, ولهاجس محكوم بحتميات مسار عام للتاريخ يصنع المستقبل على نحو متناقض مع المخططات الراهنة التي تناطح التاريخ والجغرافيا, فقد أدار الشيعة ظهرهم للتاريخ والمستقبل مستجيبين لغرائز أولية من الانتقام, وفرص تقدمها اللحظة التاريخية للمغانم, دون اعتبار للتحول الذي يحكم به قادة الشيعة على أنفسهم ومجتمعاتهم من عراقيين يحكمهم الانتماء والمشاركة دون اعتبار آخر إلى جماعات وظيفية تغويها اللحظة القائمة, وتغريها قوى دولية وإقليمية تبدو مهيمنة, وتغرق بسياساتها وأعلامها وسلوكها المجال أمام كل محاولة لاسترجاع مبادىء بناء الدول وعلاقاتها الخارجية الإقليمية والدولية.
وتبدو الشيعة إسلامياً تتوزعها الحوزة العلمية والأحزاب والحركات القائمة عليها, أو التي تستمد قوتها وتأثيرها من مرجعيتها وتأييدها, لكنها تسمح لنفسها بالاجتهاد السياسي والعمل القائم على تفكير في جوهره علماني وبراغماتي تغطيه قشرة من المرجعية الإسلامية أو هيبة التاريخ والزعامة لقادته. وكان هذا الخلط بين الديني والسياسي والدعوي والتنظيمي مصدراً للحيرة والغموض والارتباك حتى تحول الغموض نفسه إلى سياسة عامة تتوصل بالتقية وتحمي من الحقيقة وتداري التناقض والازدواجية والأعمال والمخططات غير المعلنة والتعاون مع القوى والدول السياسية, وفي الوقت نفسه تقدم خطاباً ثورياً رومانسياً, ولعله أيضاً مأساوي.
وربما يكون حزب الدعوة هو أول تجمع تنظيمي للإسلاميين الشيعة في العراق, ويعتبر محمد باقر الصدر المؤسس الفكري والتنظيمي لهذا الحزب عام 1957, ويتبنى الفكر التغييري ويرفض الفهم الإصلاحي. واليوم يوجد بالإضافة إلى حزب الدعوة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة الحكيم, ومنظمة العمل الإسلامي, وحركة الكوادر الإسلامية, وحركة الوفاق الإسلامية, وأخيراً ظهر بقوة جيش المهدي بقيادة الشاب الصاعد مقتدى الصدر.
ويغلب على أتباع الصدر الانتماء إلى الفئات الشابة والفقيرة بخلاف المجلس الذي يجتذب النخب الاقتصادية والاجتماعية للشيعة, وحزب الدعوة الذي يعتمد أساساً على النخبة العلمية, ويكشف هذا التنوع عن انقسام اجتماعي إضافة إلى النزاع السياسي والنخبوي والقيادي والمرجعي.
ويحقق الصدر بجماعته وخطابه توازناً عاطفياً وسياسياً يبدو ضرورياً لمجتمعات الشيعة, المصدومة بالتحولات الكبرى من المعارضة والاضطهاد إلى الحكم والتعاون مع الاحتلال الأميركي, الذي كان ينظر إليه على مدى ربع قرن بأنه العدو الأول والشيطان الأكبر.
وربما يكون هذا التوازن ضرورة للولايات المتحدة أيضاً, التي تحتاج إلى استقرار نسبي في الشيعة يستوعب المد الثوري المعارض وأوعية تستعرض هذا الاتجاه, على نحو يجهض احتمالات مشاركته في المقاومة الفعلية أو بتعبير أدق المقاومة المسلحة.
___________________
الرأي 2/11/2003.