الكاتب : باقر الصراف ..
إنَّ تناول مسألة فكرية معينة ، تتسم بالتحديد النظري والعملي ، ليست مهمة هينة ، لا سيما إذا اِستندت إلى اِفتراضات دينية ، ودُعِّمت بإستشهادات قرآنية ، وأحاديث نبوية ، ونصوص إمامية ، وكان مَـنْ أطلق دعواتها معمم إِنتظـى سيف الاِجتهاد إدعاءً ، دون التفكير باللحظة التاريخية عالمياً ، التي تسودُ فيها الإمبريالية الأمريكية ، وغيب العراقَ عمداً عن تحليله السياسي ، كساحة وطنية لمواجهة العدوان الصليبي ـ الصهيوني عليه . لأنَّ تغييب الزمان والمكان كمفاهيم علمية ، تتيح لمن يريد أنْ يغترف من أسانيد وشواهد لفكرته وممارسته ، أمراً سهلاً وإمكانية متوفرة على الدوام . فكم اِستند الخلفاء في إنزال عقوباتهم بخصومهم بالاِستناد إلى أحكام الفقهاء ، وليس بعيداً ذلك المثال ، عندما أقدم الخلفاء المسلمون على إعدام مَنْ لم يقلْ بخلق القرآن ، وفي مرحلة أخرى ، مضى خلفاء آخرون إلى إعدام بـمَـنْ يقول في خلق القرآن .
فنصوص القرآن الكريم ـ مثلاً ـ وهو حمَّال أوجه ، كما يذهب إلى ذلك الإمام علي كرم الله وجهه ، نزلت وفقاً للظروف والأحداث ، وسادها النسخ في بعض الأحيان . ولكن الموقف المبدئي تجاه التطورات التي شهدتها الجزيرة العربية ، اِتسـم بالمصداقية والممارسات العملية التي كانت تُحتسب عند الله والتاريخ ، فقول الحق وممارسة هذا الحق ، التي لا تخشـى في الصدع به لومـة لائم ، حتى لو كان أقرب المقربين للمنادي بالحق ، خاصةً عند مَـنْ يتصدى لمهمة النبوة والإمامة والاِجتهاد ، هي أولى الأولويات ، وفي مقدمة الضرورات . وهو المثال الدائم للمؤمنين بقضية وطنية وقومية وإنسانية بما فيها الدينية ، مهما كانت نوعية أفكارها ومفاهيمها ، وهـو ما ينبغي أنْ يتخذه المؤمنون على مختلف الصُعُد الفكرية : قدوة لهم في حياتهم اليومية .
وأصل المسألة التي حكَّمت ضرورات هذه المقدمة ، هو البحث في مواقف عملية يستند فيها ممارسوها إلى الرؤية الإسلامية : وفق مدرسة خاصة ضمن مدرسة عامة ، واِعتماداً على أقوال أأمتها وفقهائها ، ناهيك عن محكم آيات التنزيل والأقوال النبوية ، ـ وهو ما أَفاضت به الوثائق التي أوردناها في نهاية هذا الكتاب للتدليل على الموقف الديني الإسلامي الحق تجاه التطورات التي تشهدها القضية الوطنية العراقية ـ جرى متابعة أفكارها ورؤيتها ، وسيكتشف القاريء الحصيف والمؤمن الحقيقي مصداقية الطريق الذي آلينا على أنفسنا اِنتهاجه ، وذلك بعد قراءتها قراءة واعية ، أمينة في نظرتها وعملها ، ملتزمة في أحكام الدين الحنيف تجاه التطورات العالمية والإقليمية والعربية والعراقية .
إنَّ إجماع علماء الأمـة المسلمين على مساندة الموقف الوطني العراقي ، القومي العربي العراقي ، الحضاري الإسلامي العراقي في كل العالم الإسلامي والعربي ، يكشف كذب ودجل الذين يخاتلون باِسم الدين عند البعض العراقي ممن يتعيش بالخارج ؛ ويزَّورون الحقائق باِسم المذهب والدين والرسول الأمين والله الواحد القدير ، وكفى بالله رقيباً وشهيداً وحسيباً .
ولكن للمسـألة أبعادها الأخرى ، العملية والفكرية ، ينبغي التطرق إليها ، وهو ما صارت إليه التجربة الفكرية في هولندا ، وفي مدينة دنهاخ ـ لاهـاي ـ على وجه التحديد ، فقد وجـه مركز البيت العربي ، دعوة خاصة لمجموع المهتمين بالرؤية السياسية تجاه القضية الوطنية العراقية الراهنة مشكوراً ، [1] ، وهو مركز بعيد عن الرؤية الطائفية الدينية ، وينطلق من المعايير القومية العربية ، والعمق الحضاري الديني بما فيه الديانة المسيحية والإسلامية ، للاِستماع إلى محاضرة فكرية وسياسية يلقيها على الحاضرين السيد الدكتور محمد عبد الله عويضة ، عميد كلية الشريعة في جامعة الزرقاء ، نائب رئيس جبهة العمل الإسلامي ، العضو السابق في مجلس النواب الأردني ، كما جاء تعريف المركز بالمحاضر ، الذي اِحتوته ورقة الدعوة .
كان العنوان الفكري للمحاضرة يتشكل نصُّه على الوجه التالي : ((الحرب على العراق وتداعياتها على الأردن والمنطقة)) ، ويجري في أعقابها نقاش فكري ، يُفترض فيه تعميق رؤية الكاتب أو كشف تناقضات منطقه : على ضوء أحقية الاِختلاف في وجهات النظر السياسية ، وليس الخلاف حول وجهات النظر المطروقة ، وهو كما نرى : مبدأ إسلامي طالما مارسه النبي محمد {ص} مع أصحابه وأعدائه وزواره من وفود القبائل . [2] . وألقى محاضرته الغنية بالأفكار والجوهرية في الرصد ، والتاريخية في التقييم ، مما لا يتسع المجال في هذه المقدمة لاِستعراضها ، على أهميتها في اللحظة التاريخية الراهنة ، من اللحظات التي يحتدم فيها الصراع التاريخي بين : الحضارة العربية الإسلامية ، والعناوين المضادة لها التي يعُّدُ الموقف السياسي والحضاري الأميركي أبرزها وأهمها في الزمن المعاصر الذي نعيشه .
وجاء دور المناقشة بعد وقت الاِستراحة وتناولْ ما اِعتلته المائدة العامرة بكرم الضيافة العربية من مأكولات ، وما اِستقرت عليه من مياه عَذِبة قَراح ، ومن مشروبات هانئة متنوعة ، الساخن فيها والبارد الذي اِستقر فوق منضدتها . من تلك التي أحل الله تعاطيها . وليس للمنكر أي موقع أثير في هذا المركز ، الذي يجاهد بالكلمة الحسنة ، والمثال العملي الملموس الذي يُعطي لمن يريد أنْ يتفكر ويتدبر .
لقد اِنطوى تعقيبي على المحاضِر مناقشة فكرة ، مفهوم ، محتوى ما بات أثيراً على قلوب المفكرين المتدينين المتحزبين لرؤية أيديولوجية معينة ، تكراره على الجميع المتابع من المسلمين ، هو اِسـتبدال القوة الأمريكية الأعظـم ـ الشيطان الأكبر كما أطلق عليه المجتهد روح الله الموسوي الخميني ـ ، لنوعية الأعداء ، من الخطر الأحمر : الاِتحاد السوفييتي ، إلى الخطر الأخضر ، أي الإسلام . نعم التراث الإسـلامي المضيء ذلك القوة الروحية العظيمة ، هي النقيض للرؤية الأمريكية في مرحلة يسيطر عليها المحافظون الجدد ، لا شك في ذلك ، ولكن الإسلام ـ وتراثه المضيء والإيجابي كذلك ـ الحضارة الفكرية العالمية التاريخية ، والإسلام المجاهد للظلم الأمريكي المنتشر في كل بقاع العالم ، ولا أخالُ إنَّ أحداً من الحاضرين المسـتمعين ، يتفق على أنَّ كل المسلمين حضاريين في طرحهم ، مسـتوعبين لمقولات الدين الإسـلامي بروحية الإمام الشافعي : إنَّ رأيي صحيح يحتمِل على الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمِل الصحيح ، وليس كل المسلمين وفي بقاع الأرض مجاهدون مستعدون للتضحية بالنفس والنفيس : كما يحدده المفهوم الديني للجهاد وترسمه المعايير الإسلامية .
قلتُ في تعقيبي : إِنَّ الرؤية الأمريكية تستمدُ عناصرها الفكرية من الرؤية الحضارية التي أرست مداميكها الحروب الصليبية المعروفة تاريخياً ، والتطور الفكري والاِقتصادي في الغرب ، والقطبية الأمريكية الراهنة ، وإذا كان السيد المحاضر قد ذكر أمثلة البلقان وفلسطين والشيشان {رغم إنَّ جهادها الإسلامي والوطني هو ضد الروس وليس ضد الأمريكيين} والمقاومة الأفغانية ، للتدليل على مناهضة الموقف الإسلامي للرؤية الأمريكية ؛ فإني أستغرب ـ كما أعربت عن اِعتقادي ـ تغييبه لمثال العراق : البلد العربي المسلم ، في محاضرته تلك والذي يفرض على الجميع التسـاؤل : ، أليس العراق هو التجسـيد الأعلى والأمثل والأَســطع في هذه الفترةالزمنية ، على مدلولات الرؤية الحضـارية العربية الإسـلامية تجاه التطورات ، أليس العدوان الغربي : الصليبي ـ الصهيوني يستهدف الإرادة العربية الإسلامية ! ! ؟ . وإذا لم يكن الأمر كذلك ، فعلامَ كانت المحاضرة التي يتمحور موضوعها على القضية العراقية ، والعدوان الغربي عليه إذن ؟ ، ولماذا كانت كل هذه البيانات الدينية التي يصدرها العلماء المسلمون المتفقهون والمواقف الإسـلامية تجاه العدوان الأمريكي على العراق ! ؟ .
كان ذلك هو مضمون الاِعتراض الأول الذي لم يتطرق السيد الكاتب للإجابة الشافية بصدده ، لأسباب قد نجهلها ، أو التعقيب عليه ، وبالتالي توضيحه ، بما يؤدي إلى إشهار الموقف الإسلامي الحق القويم والمبدئي الصارم تجاه التطورات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية الإسلامية ، وبما يؤدي للرد الفكري والسياسي غير المباشر على الأصوات العديدة التي رددت الدعاية الأمريكية والصباحية/الكويتية في تلك الجلسة ، التي حضرها أحد مناصري السلطات الخليجية المكتنز اللحم والممتليء الجسـد ، رغم إنَّ عمره ما يزال في أواسط الثلاثينات ، الذي أقدمَ على توزيع الكارتات المذهَّبة التي تنـبيء عن عنوانه وأرقام هواتفه ، الزائغ النظرات على الفتيات الحاضرات للاِستماع للمحاضرة ، والاِستفادة من محتوياتها الفكرية والمعرفية بعد أنْ قطع بعضهنَّ مئات الأميال للحضور إلى مدينة دنهاخ . لقد كان همَّه منصرفاً للقضايا التي لا تمس أوضاع العربية السياسية ، وهم من تلك الطينة التي أساءت للمهمة الوطنية العربية ، التي تكتظ بها الصحافة الغربية ووسائل إعلامها . الأمر الذي يلقي ظلالاً من الشك على مهمة حضوره تلك الندوة السياسية .
أما الاِعتراض الثاني من التعقيب فقد تناول مقولته تلك : الخطر الأخضر ، اِنطلاقاً من مفهوم المكان وضرورات اِنسجامه في سياق التحليل الملموس للموقف الملموس ، ((فليس كل الأخضر)) ضد أمريكا ، فمنه مَـنْ وقف مسانداً في الكلمة والعمل لها ، موضوعياً على الأقل وفي حده الأدنى ، فمثال التجربة الأفغانية ، يدلل على تلك الرؤية السياسية وذلك الموقف السياسي والعملي ، فقد صبَّ الجهدُ الإيراني والباكستاني الرسميين ناهيك عن البعض الخليجي الحاكم ، في مسعى الخطة الأمريكية السياسية التي قضت على السلطة الأفغانية المسلمة ، وليس عسيراً تتبع تصريحات مسؤولي تلك الجهات الحاكمة باِسم الإسلام للبرهنة على صحة ذلك المسعى ، ناهيك عن قرينة التطورات التي رافقت الحملة العسكرية الأمريكية ضد إمارة أفغان الإسلامية ، وضد الشعب الأفغاني المسلم ، وضد الوطن الأفغاني ، والنتائج السياسية والعملية التي أعقبتها ! .
وتناولتُ في تعقيبي ذاك دور ((المعارضة الإسلامية العراقية)) في شـدِّ أزر الرؤية السياسية الأمريكية ، وذكرت إنَّ حضور السيد أياد السامرائي ، الممثل الرسمي لحزب الإخوان المسلمين في العراق : الحزب الإسلامي العراقي : وهو المقيم في لندن ، والعضو في هيئة العمل الوطني العراقية . [3] . التي سوقت نفسها على إنها المعَّبِـر عن القطب الوطني العراقي ، والذي يرتبط حزبه بالمملكة العربية السعودية منذ الستينات ، عندما حضر أَمينه العام السيد محمد محمود الصواف تجمع المؤتمر الإسلامي في 17/4/1965 . [4] . الذي اِلتأم شمله في المملكة العربية السعودية ، وتحت رعاية فهد الذي سـيدعـو الأمريكيين لشن عدوانهم المديد على العراق عندما يصبح ملكاً على السعودية في نطاق الجهد المناويء للرؤية العربية الإسلامية التي كانت تقودها مصـر الناصـرية آنذاك . وممثلي ما يُسـمى بالمجلس الإسـلامي بقيادة باقر الحكيم المقيم في إيران . . . حضورهما مؤتمر لندن لما يُسمى بالمعارضة العراقية الذي أشرفت عليه أمريكا وبريطانيا بشكل مباشر ، واليهودية الصهيونية بشكل غير مباشر . إذن المكان مهم في التحليل : والعراق هنا هو المعَبِّر الملموس عن المكان ، وكل ذلك يتناقض مع مقولة الخطر الأخضر المطلقة ، لذا ينبغي على السيد المحاضر ، تحديد الموقف الإسـلامي الحق تجاه هذه الظاهرة الملموسة .
ورغم إنَّ الحضور ((الإسلامي المعمم)) قد وثِّـقَ بالصور المرئية من خلال الشاشات التلفزيونية وما ذكرته صحيفة ((القدس العربي)) الغـرّاء ، الصادرة في أعقاب اِرفضاض المؤتمر وأثنائه ، من أسماء الهيئة التحضيرية القيادية للمؤتمر ، والتي اِسـتحضرتُ المعلومات التي ذُكرتْ في تلك الجريدة فوراً ، فإنَّ بعض الحاضرين من ((العراقيين)) أو ((الإيرانيين)) ممن حضروا تلك الندوة ، أنكروا حضور ((الحزبيين الإسلاميين)) في ذلك المؤتمر اللندني ، ولقد حاولت البرهنة بالمنطق والتوثيق الشفوي من خلال ذكر ((القدس العربي)) وبالتالي الرد على ذلك الحضور ((الإسلامي)) العتيد ، إلاّ أنَّ السيد المحاضر اِقتنص أقوال المعترضين ، ليؤكد الاِختلاف بالرواية ، ويجزم بانَّ العراقيين هُم أنفسهم يقولون : إنهم لم يحضروا ، لقد أكد ذلك الشخصان إنَّ حزب الدعوة لم يحضر ، في تدليل على قوليهما ، ولم يقلا شيئاً عن حضور ممثلي المجلس الأعلى والحزب ((الإسلامي)) العراقي ؛ في مخاتلة واضحة لتزوير الموقف السياسي الملموس عبر الصور الحية لذلك الحضور وتلك المواقف ؛ ناهيك عن رحلة ممثلي المجلس الأعلى إلى واشنطن ، وما ذكرته صحيفة ((الحياة اللندنية)) عن دور ممثلها في الجهد السياسي الأمريكي ، بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 2002 ، والذي تزامن مع إعلان وزير الدفاع الأمريكي عن إعداد ((خططاً عسكرية لتدريب المعارضة)) ، لقد أيدتُ موقفهما من حزب الدعوة الإسلامي العراقي وأردفت ذلك بالقول : نعم إنه لم يحضـر ، رغم حضور عز الدين عبد الرسول باسم ((دعوة العراق)) ، وحضور عبد الزهراء النجدي من اِتجاه حزب ((الدعوة)) المؤيد لرؤية أطروحـة ولاية الفقيه ، وتساءلت آنذاك : هل حزب الدعـوة الإسلامي في العراق يمثل كل الأحزاب الإسلامية ! ؟ . وهل يتحدث باِسم الطائفة الإمامية ، أم مَـنْ يدعِّـي الحديث باِسمها مجلس باقر الحكيم الذي سوق نفسه في ذلك المؤتمر إنه ممثلها ، أمام الذي يتحكم بصناعة الأحـداث في كل العالم ، وأمام بعض مسؤولي (!؟) الأمم المتحدة الإنسانيين (!؟) ! ! ؟ .
لقد حسم النقاش حول الموضوع السـيد الدكتور علي عباسي ، مسؤول البيت العربي عندما تدخل لفض النقاش والسـجال ، بكلمات جميلة وحاسمة ، أعرب فيه عن خشيته من تحول الاِختلاف إلى خلاف ، وربما إلى شجار بالكلمة والأيدي ، كما هي العادة عند العراقيين مع الأسف ، حفاظاً على جو الندوة التي اِستضافها مركز البيت العربي الفلسطيني ، وما كان له من موقف ، إلاّ أنْ يكون كذلك ، من حكمة التصرف في الوقت المناسب .
تلك هي وقائع نقلتها بأمانة مستمدة من ندوة فكرية حضرها الكثيرون ، بعد أنْ شذَّبتُ الأقوال الشفوية وعمَّقتها بالكتابة والرصد والتحليل ، اِقتضتها ضرورات تسـطير المقدمة لهذا الكتاب الذي بين يديك ، والأمر متروك للقرَّاء والمتابعين لتبيان وجهة نظرهم في التطورات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية الإسلامية ، ومن ثَمَ التبشير بإِستخلاصاتهم الفكرية والسياسية المستندة إلى الوقائع والتاريخ والمنطق الحضاري الإسلامي .
ومحتويات الكتاب تندرج في قسـمين : الأول كتابات فكرية حول رؤية لأحزاب وفقهاء ومجلات تتحدث ، عن حق أو باطل ، باسم الطائفة الإمامية . وهو اِجتهاد فكري ومعرفي ، رأيتُ من واجبي الوطني العراقي ، والقومي العربي ، والحضاري المسلم ، الإسهام الجاد به وفق قدراتي المتواضعة في المجال الديني .
والثاني عبارة عن وثائق فكرية وبحثية واِجتهادية قالها رجال علماء متبحـرون في الدين ، ومتفقهون في شؤونه ، تمسُّ القضية العراقية في الزمن الراهن ، رأيت عبرها توضيح موقفي ، من جهة ، ولإقناع مَـنْ يريد أنْ يتعلم ويفهم حقائق الأمور .
آمـل أنْ أكون قد أديتُ دوري بقول الحق تجاه ظاهرة تاريخية يشهدها الزمن الراهن ، ويشكل منعطفاً كبيراً قد تترتب عليه نتائج لا تقل سوءاً عن تلك النتائج التي خلفتها الاِتفاقيات البريطانية ـ الفرنسية حول تقاسم تركة الرجل المريض : الإمبراطورية العثمانية ، في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وما تمخض عنها من تجزئة للوطن العربي ورسم حدود مصطنعة بين الأقطار العربية ، على ضوء معاهدة سايكس ـ بيكو ، {وهي التي أي المنطقة العربية} تنتمي إلى فضاء حضاري واحد ، من جهة ، وما نتج عن وعد بلفور المجرم الذي أَدى إلى المأساة الفلسطينية التي نعيش مأساتها الفادحة في هذه الأيام ، بعض فصول فقدان الأرض المسلمة لصالح الصهاينة اليهود ، من جهة أُخـرى ، وربما الآتي أعظم على هذا الصـعيد ، في حال نجاح المسـعى الأمريكي ، من جهة ثالثة .
أوائل كانون الثاني عام 2003
الهوامش والملاحظات
[1] ـ شاهد نص الدعوة في نهاية هذه الهوامش .
[2] ـ راجع كتاب السيد خليل عبد الكريم المعنون : دولة يثرب : بصائر في عام الوفود ، إصدار سينما للنشر ، مؤسسة الاِنتشار العربي ، لندن ـ بيروت ـ القاهرة ، الطبعة الأولى في عام 1999 ، ويؤكد المؤلف في كتابه إنَّ ((الوفود كانت سياسية في المقام الأول ، وليسـت دينية ، كما درجت الكتابات السابقة ، وليست التفرقة هنا شكلية ، ولكنها كيانية وعضوية ، وقد تمثل ذلك في اِختيار أفراد الوفد وطريقة توليفه والمحاورات التي تبودلت مع محمد)) ، [ص] .
[3] ـ راجع مقالتنا التي نُشرت في جريدة نداء الوطن على ثلاث حلقات في الأعداد السابع والثامن والتاسع .
[4] ـ راجع كتاب فيصل ورابطة العالم الإسلامي ، من تاليف محمد السلاح : الصحفي الطيار ، إصدار دار الريحاني ـ بيروت ، دون تاريخ محدد لصدر الكتاب .
إعلان شيعة العراق
هل ينطلق من الفكر الأمامي ، أم صيغة سياسية لُفقتْ باِسم الإمامية ؟!
في الرؤية الإجتهادية الإمامـية
ترك الإعلان باِسـم ((شيعة العراق)) حول المستقبل العراقي ، وضرورة إنصاف ((الطائفة المُضطهَدة)) التي تعيش قمعاً تاريخياً أبدياً : ((على مدى قرون عديـدة)) ، و((إنه مُسـتَهدف نتيجة اِنتمائه للتشـيع ، وليس لسـبب آخر)) ،كما يزعم الإعلان ، ردود فعل واسـعة من أنصار ذلك الإعلان ، فسـودوا الدراسات والمقالات المؤيـدة لـه ، في إحلالٍ للأماني السياسية الذاتية محل الوقائع الموضوعية القاسية المُعاشـة في العراق ، ونشروها في العديد من الصحف والمجلات التي تصدر في غالبية الساحات العربية والأجنبية ، ومن دون التطرق للوضع العالمي في مرحلة العولمـة ، الذي يتحكم بالتطورات السياسية الجوهرية كلها ، في الزمان المعلوم ، ومن غير إمعَّان التفكير بالمكان العراقي الذي يتعرض فيه شعبه إلى حصار جائر ومتعدد الوجوه ، والذي تفرضه أمريكا أولاً وأخيراً ولمدة تنيف على العقد من السنين ، دفعت الفئات العُمرية المختلفة ، لاسيما الصغار منهم ، الأثمان الباهظة من حياتها وصحتها ، وعلى ضوء تنبؤ جيمس بيكر ، وزير الخارجية الأمريكية إبّان العـدوان ، الذي قال في 9/1/1991 مخاطباً العراقيين : ((سنعيدكم إلى العصر قبل الصناعي)) ، الأمر الذي دعا أحد الغربيين للقول : ـ عن كتاب ((التنكيل بالعراق / العقوبات والقانون الدولي)) ، للسيد جيف سيمونز ـ والذي يتحدث بشكلٍ منصف عن الوضع العراقي من الناحية السياسية ، وما عانته الدولة العراقية جـرَّاء السياسة الأمريكية ، وبعد تجسيده للرؤية الأمريكية القطبية وممارساتها بحق الشعب العراقي : (( ... كتاب مهم . . . ووصف مدمر ، لقد نجح المؤلف من خلال وثائقه الوفيرة وبسطها بأسـلوب سـاخط لاذع في تسـليط ضوء قوي على أكثر جرائم الإبادة الجماعية وحشـيةً . . . في القرن العشرين . . . )) وهو الأمـر الذي يفرض على جميع الوطنيين العراقيين إشـهار رأيهم في هذا الإعلان ، رغم مضي هذه المـدة .
من جهته ، أصدر السيد علي خامنئي والسيد باقر الحكيم باِعتبارهما ، كما يزعمان ، ((فقيهان مفكران)) وقياديان سياسيان لتلك الطائفة ، والأول ولي أمـر المسلمين خارج إيران ـ كما عدَّتـه إيران من دون مراعـاةٍ لمبدأ الأَعلمية في أمور الفقه الإسلامي ، وهو شـرط أسـاسـي في التقليد الأمامي ـ كما هو معروف ، والثاني يطيع الأول في كل المجالات الدينية والدنيوية ، تعليمات تسـوَّغ التعاون مع الأجنبي في سبيل الوصول إلى السلطة ، أو إسقاط الحاكم الظالم وليس الكافر فقط ، إذ تقول صحيفة ((الشرق الأوسط)) في 23/حزيران/2002 ، إنَّ {المرشد علي خامنئي أبدى تفهماً غير متوقع حيال تفسيرات الحكيم وزملائه ، لدوافع طلبهم السماح لهم بإقامة علاقات مع الأمريكيين ، وبعد دراسة جميع الجوانب وموافقة خامنئي ، قرر المجلس الأعلى أنْ يشارك ممثله في بريطانيا الدكتور حامد البياتي في المباحثات التي تمت أخيراً بين مسـؤولي ملف العراق في واشنطن وممثلي عدد من الفصائل والتنظيمات العراقية المعارضة} .
كما ذكرت الصحيفة في العدد ذاته ، {إنَّ مسـؤولاً إيرانياً قريباً من ملف العراق في المجلس الأعلى للأمن القومي ، أعلى مركز اِتخاذ القرارات الإستراتيجية في إيران ، قد كشف ((إنَّ المجلس قرر أخيراً إطلاق أيدي الفصائل العراقية الشيعية المعارضة لنظام الحكم في بغداد ، لإجراء الحوار مع الولايات المتحدة حتى لا تشكل القطيعة القائمة بين طهران وواشنطن عقبة حيال تعاون فصائل المعارضة العراقية المتعاونة مع إيران وفي مقدمتها ((المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق)) مع الولايات المتحدة} ، الأمر الذي يجعل المثال الأفغاني حاضراً في الأذهان في المرحلة الراهنة ، على ضوء التعاون الإيراني ـ الأمريكي المباشر في الحرب الصليبية التي شُنَّت على إمارة أفغانستان الإسلامية .
ومعلوم أنَّ قسماً سياسيا هاماً وأجهزةً اِستخباريةً إيرانيةً ، تلعبُ دوراً مُحرضاً على تأزيم العلاقات بين العراق وإيران ، وترفدها بمزيد من أعمال التدخل العسكري المنافي لروحية علاقة الجوار بين البلدين ، ومخالفة لشروط وقف إطلاق النار الموقعة في 8/8/1988 ، وبالاِعتماد على الضباط : اللواء علي بلالك ، واللواء أحمد فرزوندي ، والعميد قُرباني . .
فهل كان رأي الفقيهين والقائدين السياسيين ، ومَـنْ يؤيدهما في ذلك المنحى ، ومضمون الإعلان ، ينطلق من الفكر الإمامـي الأثني عشري ، أم اِسـتجابة لرغبات البعض السياسي المعاصر ، ممن يمارس دوراً سـياسياً ملموساً في إيران ، وفي إطار الخط السـياسي العالمي المتفرد للولايات المتحدة في مرحلة : العولمـة ، ومضمونها الفكري والعملي ، على الصُعُد كافة ؟ ! .
إذن المسألة كلها تتعلق بالفكر البشري كمفهوم ، والعقل الإنساني باِعتباره أداة هذا الفكر ، كما يقول بعض المفكرين ، الذي يُفسِّـر الظاهرة التي تكمن في رسم معالم الحرب الأمريكية : ((سنعمل مع الآخرين على نحو مشترك عندما نستطيع ، وعلى نحو فردي عندما ينبغي)) وفق قول لمادلين أولبرايت {عن كتاب التنكيل بالعراق ، ص 19} ومن ورائها أغلبية الأنظمة السياسية الغربية ، على الدولة العراقية وفق المفهوم الحديث للدولة ، الذي حددته الكتابات الفقهية القانونية الغربية ذاتها ، لذا ينبغي ((البحث في سبب ظاهرة من الظواهر ونقف على عللها ، علينا أنْ نأخذ بنظر الاِعتبار الطرف المسـتفيد منها ، ومَـنْ تعود عوائدها بالنفع عليه)) ، كما يقول الفقيه والمجتهد الإمامي السيد محمد حسين الطباطبائي ، [1] . والفكر له سمات ملموسـة محدَّدة ، مثلما له بدايات تأَسيسية وسمت صيرورته مدرسـة إمامية خاصة ضمن مدرسة عامـة : هي المدرسة الإسلامية ، التي ألزمت مفكريها : ((مجتهديها)) بضرورة اِلتزام الجانب الموضوعـي للحكم على أي حدث تاريخي ، بمعنى ضرورة التحليل الملموس للموقف الملموس ، بغض النظر عن الموقف الشخصي والعواطف الذاتية ، وحسب السيد محمد تقي الحكيم ، فإنَّ القصد منها أنْ يكون المجتهدُ ((مهيأً من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه ، والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة ، سـواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها)) . [2] .
والمفكر أي المجتهد الإمامي هنا على وجه التحديد ، ينبغي عليه التسامي على الذات بما يستطيع ، ((وذلك بتعريض بعض مسـبقاته لنتائج تجربته ، كأن ينظر مدى اِستطاعته وقدرته على الإيمان بحقيقة كان يؤمن بخلافها لمجرد طبيعة البحث العلمي ساقته إلى نتائجها ، وبخاصـة إذا كانت تمُسُّ بعض الجوانب العقيدية أو العاطفية من نفسه ، ثم ينظر مدى قوته على مواجهة الرأي العام المؤمن بخلافها بإعلان هذه الحقيقة أمامه ، فإذا كان بهذا المستوى من القُدرة على التحكم بعواطفه وتغليب جانب العقل عليها كان أهلاً لأن يخوض الحديث في أمثال هذه الميادين)) . [3] .
ويعَّد ذلك المعيار الموضوعي إذا ما تتبعنا الوقائع التاريخية التي جرت بالفعل ، صدىً عملياً لموقف الإمام الأول ، عندما سُئَل في حمأة الحرب الصفينية ، عما كان موقف فريقه قائم على العدل والصواب والموقف الديني الصحيح ، {بين فريقين مسلمين ، وليس كما هي الحرب الآن بين طرف غربي صليبي/صـهيوني ، وبين طرف مسلم} لكون فريقه يقف إلى جانب الحق ، لأَنَّ الإمام علي ، والخليفة الراشدي الرابع الذي بايعه المسـلمون يقوده ، فأجاب وهو في أمس الحاجة لكل نصير : الحق لا يُعرف بالرجـال ، إعرف الحق ، تعرف أهله ، أي اِستشفاف الموقف الملموس والصـحيح من العناصر الكلية المكونة للظرف ، باللغة السياسية المتداولة في هذا العصر .
وإذا أخذنا الراهن الزمني في الاِعتبار ، فينبغي عندها التفكير : عالمياً وإقليمياً وعربياً وعراقياً ، أي على ضوء المكان ، وفي الزمان الوحيد الاِتجاه والمعلوم ، فعندها تتضح القاعدة الموضوعية لإصدار الحُكم الأمامي على أي حدث أساسي أو رئيسي ، كما إنَّ إقراره بحقيقة تفضيله بين السـيء والأسوأ هي من الأمور البديهـية المعروفة ، إذ قال الإمام علي قولته الشهيرة حول ضرورة وجود الأمير ـ أي السـلطة في المفهوم المعاصر ـ : بِرٌ كان أو فاجر ، أي مال عن البِـر ، وعدَل عن مقاييسه ، واِبتعد عن معاييره ، وذلك عندما رفع الخوارج شـعار العودة إلى القول الإلـهـي في صياغة الأحكام ، الخوارج المتمردون على خليفة المسلمين الراشدي الرابع ، وبعد رفع عمرو بن العاص المصاحف على رؤوس الرماح ، باِعتبار إنَّ آيات/أحكامـه سـتحسـم هذا الصراع على السلطة ، وقبول الخليفة الحاصل على الشرعية الإسلامية من المسلمين من خلال القبول الطوعي بخلافته الراشدية . . . قبوله بمبدأ التحكيم . . . رفعوا شـعار : لا حكم إلاّ الله ، فعلَّق على ذلك : بكلمته/ موقفه عن ذلك الهتاف/الشعار ، إنه كلمة حق يراد بها باطل ، وأردف تلك الحكمة بقولٍ إمامي اِعتماداً على واقع تجريبي محض : والٍ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم ، أي أَنَّ ذلك ضرورة موضوعية لازمـة في إدارة كل سلطة ، لكل المجتمع والأرض التي تقع تحت اُمـرة قائد تلك السلطة مسـؤوليتها ، ومـن دون ذلك سيكون زمام الأمور بيد الفوضويين ، الذين لا يعرفون أحكام الإسـلام ، وبالتالـي تضيـيع معايير المحاسـبة . .
ولكن ما يضفي على معالم هذه المدرسة ، هو مرجعية الرؤية الإمامية ، كما يحدد مضمونها الأئمـة المعصـومون ، اِبتداءً بالإمام علي كرم الله وجهه ، واِنتهاءً بالإمام الغائب المهدي صاحب الزمان ، الذي سيملأ الأرضَ عدلاً بعد أَنْ مُلأَت جوراً ، مع ما يتضمنه ذلك من ضرورة وجود الإمام المعصوم ، أو نائبه المعروف بالتقوى والعدل ، على رأس تنفيذ هذه المهمة ، وفق المفهوم الإمامي ، الذي يعتقد أتباعها بأنَّ ((الإمامة أيضاً منصب إلهي ، وإنَّ شـؤون النبوة ـ باِستثناء النبوة نفسها ـ تنصرف إلى الإمام ، وعليه يعتقد الشيعة لا مجال لنفوذ الخطأ والاِشتباه والنسيان والجهل إلى العلوم الإلهية التي تختَّص بمنصب الإمامة ، كما لا طريق لنفوذ الذنب إلى الإمام ، ولذا فإنَّ أئمة أهل البيت معصومون)) . [4] .
ومادام الأمر على هذه الشـاكلة ، فإننـا سنلجأ إلى رحاب التاريخ ، ووقائعه ، بغية التفتيش بين تراث الأئمة ، عن الأقوال المؤصلة للرؤية الإمامية بصدد الأوضاع السياسية الراهنة ، في إطار دلالة الغائب على الحاضر ، وبالتالي الكشف عن إدعاء منشئي الإعلان ((الشيعي)) الفكري ، وصلاحية فتاوى الفقهاء حول الاِسـتعانة بالأجنبي لتغيير الحاكم الظالم ، من جهـة ، وموقع ((السلطة الطائفية)) في إطار الرؤية الغربية حول صراع الحضارات الذي تروج له الرؤية الفلسفية الحضارية الغربية ((المسيحية)) كما يحددها صاموئيل هانغتون ، في رؤية صدام الحضارات ، الذي ينبغي له أنْ يكون البديل عن الحرب الباردة ، التي كانت مشتعلة الأوار بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي على الصُعد كافة ، كونها تشكل الخط الفكري والدعائي {الإعلامي إذا شاء البعض} والمركزي للسياسة الأمريكية العالمية ، والنظرة السياسية الإستراتيجية الأمريكية ، والتي يعدُّ السيد وجيه كوثراني هذا الخط نمط سياسي لـ((إدارة الأزمـة)) من باب الفكر والثقافة ، من جهة ، والتي تستهدف جوهرياً ربط دول المنطقة كلها بكيان الاِغتصاب الصهيوني بالدرجة الأسـاس ، وبتركيا ذات القواعد العسكرية الأمريكية في الدرجة الثانية ، من جهة أخرى ، والاِستيلاء على الثروات النفطية العربية بهدف ضمان تحكمها بالسوق النفطية مع الدول الصناعية الأخرى ، من جهة ثالثة ، وذلك في إطار تأبـيـدها السيطرة الشاملة ، والمُحكمة ، على ((النظام)) العالمي ((الجديد)) .
تقول الروايات التاريخية إن الإمام الثالث ، الحسين الشهيد ، قد جاهد (قاتل) في شمال أفريقيا ، في زمن خلافة عثمان بن عفان ، الذي قُتل على يد أنصار الإمامية ، كما قيل ، في سبيل المباديء الإسـلامية والإيمان بالمُثل الدينية ، ((فمضى ملبياً نداء الحكومة غير متوانِ عن عمل الواجب ، وإنْ كان يكبر خصومته ، فهو أكثر إكباراً للمباديء العامة)) وموقفه الحق ذاك كان في صُلْب ((الاِستعداد النفسي لتناسـي الحفائظ في سـبيل الخدمة العامة التي هي فوق سـائر الاِعتبارات)) ، كما يقول المرحوم عبد الله العلايلي . [5] .
كما جاهد (قاتل) في طبرستان بمعية ((ناس من أَصحاب رسول الله منهم الحسن والحسين وعبد الله بن العباس وحذيفة بن اليمان)) فسأل أهلُها القائدَ سعيد بن العاص الأمانَ ((فأعطاهم على أنْ لا يقتل منهم رجلاً واحداً ، ففتحوا الحِصن ، فقتلهم جميعاً إلاّ رجلاً واحداً وحوى ما كان في الحصن)) وذلك سنة ثلاثين، ولكن الحسين اِستحضر على الفور ضميره الديني ، وإيمانه الإسلامي ، وأطلق ((اِسـتنكاراً صارخاً ، اِستنكاراً ديموقراطياً نبيلاً على أمير الجُند ، وهو بينهم جـندي ، حين أعطى عهداً ونكثَ به ، وغدر بمستأمنين ، والمسـلمون ، كما جاء في الحديث ، عند شروطهم)) ، وفق ما جاء في المصدر السابق . [6] . فيما يذكر أبن عساكر ، والذي يستحضره العلايلي ، أَنَّ الحسين وفد على معاوية ، وتوجه غازياً إلى القسطنطينة {العاصمة الرومية} في الجيش الذي كان أميره يزيد بن معاوية)) وذلك مثال مضيء مُضاف ((ضربها في إنكار الذات وتناسي الحفيظة بسبيل الخدمة العامة ، وبسبيل إيجاد آفاق جديدة للمباديء ، فالحسين يُدعى للجهاد ضد عاصمة الدولة الرومانية الشرقية ، وهي مغامرة جريئة وخطوة لها خطرٌ فيجيب ، لكن تحت قيادة مَـنْ ؟! ، تحت قيادة يزيد)) . [7] . إنه يطيع أمر أبن خليفة لا يعتقد بأحقية توليه مركز الخلافة ، ولكنه مع ذلك يضع مصلحة الدين والخلافة الإسلامية ، والسلطة الإسلامية ، في صلب اِهتماماته ، بلـهَ فـي مقدمة أولوياته .
وعندما ثارَ الإمام الحسين (ع) ضد الخلافة اليزيدية المغتصِبة ، ناشـدَ محاصريه من قيادة الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لمقاتلته ، وأخـذ البيعة منه عنوة ، أنْ يذهب إلى الثغور لمقاتلة الروم الذين كانوا يستبيحون الدولة العربية الإسلامية ، وما ينطوي عليه ذلك بأسـبقية دفع الضرر على جلب المنفعة ، وأولوية الجهاد ضد الكافر الأجنبي ، وتفضيله على مواجهة العدو الداخلي الذي يجمعه معه ظلال الراية الإسلامية الواحدة .
أما الإمام الرابع علي بن الحسين ، الذي كان بمعية الشهيد الحسين في طف كربلاء ، و رأى المأسـاة ذاتها بالعين المجرَدة ، وتلمس أحداثها المأساوية الفظيعة ، وجُرجَر بمعية النسـوة الهاشميات ، من المدينة التي قُتلَ فيها الحسين وأصحابه : كربلاء ، إلى دمشق : عاصمة الأمويين التي يقطن فيها الخليفة المغتصِب : يزيد بن معاوية ، التي تحولت معها السلطة من أسلوب الخلافة المنتخبة من قبل أهل الحل والعقد ، إلى المُلك الوراثي العضوض ، تحت ظلال التهديد بالسيف ، عندما قام يزيد بن المقفع خطيباً بالجمع ، في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، وقال : هذا أمير المؤمنين ـ مُشيراً إلى معاوية ـ ثم قال : وإذا هلك ، فهذا أمير المؤمنين ـ مشيراً إلى يزيد ـ ثم قال : مَـنْ يتخلف عن البيعة فهذا ـ مشيراً إلى السيف ـ ، أي إلى القوة الغاشمة .
أما الإمام الرابع فكان المثال الأَسـطـع على مفهوم التعالي على الذات ، واِتخاذ الموقف الموضوعي ، والقدوة الحسنة لكل المسلمين ، والمعتقدين بمعصوميته في المقدمة منهم ، عندما جسد يقينية العربي المسلم المؤمن ، بدعاء الثغور في مواجهة الروم [أي الأجنبي غير المسلم] المعروف تاريخياً ، عندما اِعتدوا على الدولة العربية الإسـلامية بقيادة أحد الخلفاء الأمويين ، اللهم ((حصنْ ثغور المسلمين بعزتك ، وأيد حُماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جِدتك (. . .) كثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، واِمنع حـومتهم ، وألِّف جمعهم . . . إلخ )) ، كما أصلى الأعداء بكلامه البليغ بالقول الذي طالما ردده أتباع الإمامية كل ما حان ظرفٌ مشابه : ((اللهم وأعمم بذلك أعداءَك في أقطار البلاد من الهند ، والروم ، والترك ، والخـزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديـالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفي أسماؤهم وصفاتهم ، (. . .) واِشـغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين . . . إلخ)) .
ولم يكتفِ الإمام علي بن الحسين بنصرة الإمارة الإسلامية الوليدة تحت القيادة الأموية بالدعاء ، وإنما ناصرها بالموقف العملي ، عندما ردَّ عنها عملياً ، التهديدَ الاِقتصادي الذي أطلقه مللك الروم ، تقول الرواية التاريخية التي يوردها السيد محمد باقر الصدر ، في المقدمـة التي كتبها للصحيفة السجادية ، ((. . . ومن أجل ذلك نجد أنَّ عبد الملك ، حينما اِصطدم بملك الروم وهدده الملك الروماني باِستغلال حاجة المسلمين إلى اِستيراد نقودهم من بلاد الرومان لإذلال المسلمين وفرض الشروط عليهم ، وقف عبد الملك متحيراً وقد ضاقت به الأرض ، كما جاءَ في الرواية ، وقال : أحسـبـنـي أشأم مولود ولد في الإسلام ، فجمع أهل الإسلام واِستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأيـاً يعمل به ، فقال له القوم : إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمـر ، فقال : ويحكم مَـنْ ؟ قالوا الباقي من أهل بيت النبي (ص) ، قال : صدقتم ، وهكذا كان . فقد فزع إلى الإمام زين العابدين فأرسل عليه السلام ولده محمد بن على الباقر إلى الشام وزوده بتعليماته الخاصة ، فوضع خطة جديدة للنقد الإسلامي وأنقذ الموقف)) ، [8] ، لم يكتف بالموقف المجرد ، بل أسهم بالموقف العملي نصرةً للإسلام ، الذي يقوده الأمويـون ، وفوق ذلك شارك الإمام الخامس بتلك النصرة العملية ، كما يقول السيد الصدر ، والإمام الخامس عند الشيعة ، كما يتحدث أَبن حجر في صواعقه ، ((هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسـد الطوية والسريرة ، ومن ثم قيل فيه : هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه)) ، [9] ، كان موقفه من التهديد الرومي باِحتمال فرض الشروط عليهم وإذلالهم مبدئياً واضحاً ، فهلا كان القدوة في رسـم الموقف العملي عند محبي نهج الإمامية الصادقين و((المزعومين)) ، من الحصار المفروض أمريكياً ، تحت يافطـة ما يُسمى بالشرعية الدولية : الرفض المُعلَن والمقاومة الصريحة ؟! .
لقد واصل العلماء الإماميون سيرة مَـنْ سبقهم بالحق ، فنصروا الإمبراطورية العثمانية على البريطانيين الذين دنسوا تربة العراق ، مثلما يدنس اليوم الطيارون البريطانيون والأمريكيون أجواءَ العراق ، ويوعـدون الدولة العراقية بوابل العدوان الجوي الهمجي ، وعظائم الاِجتياح العسكري الآثم ، ودعوا للجهاد ضد الغُزاة المستعمرين البريطانيين الذين تحكموا بالتطورات السياسية العالمية في النصف الأول من القرن العشرين ، مثلما يتحكم الأمريكان بالنصف الثاني بتلك التطورات ، والتي ما تزال ، رغم التمييز العثماني ضد أنصار المدرسة الأثني عشرية ، ورغم اِرتكاب المجازر ضدهم (مقتل أكثر من مائة ألف منهم على يد العثمانيين ، كما تذكر المصادر التابعة للروايات الإمامية) . [10] . ورغم سيطرة الاِتحـاديين على السلطة ، وهم العلمانيون القوميون ، لكن العلماء الإماميين كانوا ((سباقين إلى الفعل السياسي المؤثر الذي يدعم الدولة ضد التحديات الاِستعمارية ، إنهم يتناسون مآسـي الأمس ، لأنهم يجدون في تحديات اليوم خطراً يسـتهدف الإسـلام والمسـلمين)) . [11] . ويكشف ذلك عن روح مبدئية تنتظم الرؤية الإمامية من العدوان الصليبي الأجنبي ، إذ أَنَّ موقف بعض علماء الشيعة ممن حافظوا على الطابع التاريخي للرؤية الأثنـا عشرية ، كما تجسَّـدت في أقوال وأعمال الأئمة ، بعد الحرب العالمية الأولى : ((يمثل تجربة غنية في التاريخ الإسلامي المعاصر ، ويكشف عن دور العامل العقائدي في تحديد موقفهم العام الثابت إزاء الأحداث السياسية ، وهذه صفة اِتسم بها التاريخ الشيعي على اِمتداد مراحله التاريخية المختلفة)) . [12] . قبل يلوثه حاملو الفكر الإمامي المستقيم باِسـم الشيعة وهم السياسيون المرتبطون برؤية مصلحية مع نظام مجاور معين ، وإعلانهم الموسوم بإعلان الشيعة والذي يسعى لصب الماء في طاحونة العدوان الأمريكي الصهيوني المرتقب على العراق ، وعوا ذلك أم لم يعوا ، وإلاّ ماذا يحتوي التغيير بموقفهم السياسي ذلك إبان مرحلتي اِبتداء الحرب العراقية ـ الإيرانية ، وخلالها ، من جهة ، والحرب الغربية على الدولة العراقية ، بقيادة الشيطان الأكبر : الولايات المتحدة الأمريكية وفق التوصيف الذي أطلقه المرحوم آية روح الله الموسوي الخميني ، من جهة ثانية . ما هو التغيير الفكري والسياسي ، وما هي عناوينه ومضامينه ، ألا توجد أية اِختلافات عقائدية بين الحربين ؟! . ألا توجـد فـروقـات فكرية ودينية بين الحدثين التاريخيين : الحربين ؟ ! . .
وموقف الإعلان من الرؤية الأمريكية وعدوانها المستمر :
عندما نقرأ الإعلان بصورة دقيقة ، ونستخلص فرضياته الأساسـية ونقرنه بالتاريخ الفعلي المُعاش ، في اللحظة التاريخية الراهنة ، حيث تتبوأ القطبية الجديدة موقع الرأس النافذ على مقعد الجميع العالمي ، وتتفرد في طغيانها على جميع الشعوب المعترضة ، ونأخذ في الاِعتبار إننا عراقيون وعرب ومسلمون ومسيحيون شـرقيون ،لا نلحظ بتاتاً أي ذكر لكلمة واحدة ، لا بالسـلب ولا بالإيجاب ، عن الولايات المتحدة وسياستها ، لا على العراقيين بشكلٍ خاص ، ولا على العرب بصورةٍ عامة ، والفلسطينيين وأبناء الجنوب اللبناني بضمنهم ، ولا على المسلمين كلهم ، ولا على غيرهم من الذين يناوءون الرؤية الأمريكية ، والموقف الأمريكي إطلاقاً ، وكانَ الأمـرُ مفهوماً تماماً لو لم يتطرق الإعلان ، إلى التعريف المحدد لـ((مفهوم الشيعي)) ، والذي تبين معه : ((اِصطلاحاً يمكن إنْ يُعرف الشـيعي : (على كل فرد له ولاء و اِنتماء إلى مذهب أهل البيت) ، فالشيعي هو كل مَـن ينتمي إلى المذهب الجعفري وبالولادة أو بالاِختيار ، والشيعة ليسوا عرقاً أو جنساً أو قومية ، إنما الكيان الشـيعي يتشكل من شرائح اِجتماعية ، متنوعة عانت من الاِضطهاد الطائفي على مدى قرون طويلة ، إنَّ سياسـة الاِضطهاد التي مورست بحق الشيعة ، جعلت كل شيعي يشعر بأنه مُستهدف نتيجة اِنتمائه للتشيع ، وليس لسبب آخر ، فهو يُعامَل كمواطن من الدرجة الثانية ، ويبعد عن المواقع المهمة والمسؤوليات الكبيرة عن قصد وعمد ، ويُقَدَم عليه غيره حتى وإنْ كان أقل منه كفاءة للموقع والمسـؤولية)) ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنَّ هذا التعريف يعني ، فيما يعنيه ، إنَّ ((الطائفة الشـيعية)) بما فيه وضع أفرادها ، عالمية التكوين والصيرورة ، يتكاثرون حيثما وُجدوا ، والاِعتداء عليها في منطقة ما ، يقتضي من باقي أعضاء جسدها العناية بهذا التكوين عبر السـهر والحُمى عليه ، ومشـاركته أوضاعه معنوياً ومادياً ، أينما كان ومتى حدث ، وبالتالي فإنَّ هذا المفهوم يتطلب اِتخـاذ الموقف السـياسي ، من كل الجهات العالمية ، التي تناويء هذا التكوين ، بالممارسة القمعية المفروضة .
وهنا يثور سؤال جوهري يتعلق بتجاهل ((كل الشـيعة في العالم الإسلامي)) سـواء في مشرق الأرض أو مغربها ، لا سيما تجاهل سكان الجنوب اللبناني ، الذين ينتمي غالبتهم إلى ذات المذهب ، وفي الزمان الملموس ، إذ يتعرضون ، كما هو معروف إلى اِحتلال يهودي صهيوني في العديد من المواقع ، بعد تحرير الجنوب ، وتُشَـن الغارات الجوية الوحشية عليهم غالباً ، مثلما تعرضوا سابقاً إلى قصفٍ همجي دائم ، وليس مجزرة ((قانا)) الشهيرة أبرزها فقط ، ومعلوم إنَّ ربع آيات القرآن الكريم مخصصة لمناقشة اليهود ، كما يقول الدكتور مصطفى محمود في مقابلة صحفية مع جريدة : ((الأسبوع)) المصرية ، وإنَّ الدعم الأمريكي لكيانهم السياسي والاِقتصادي والعسكري أمر معروف للقاصـي والداني ، بلـهَ لولا الموقف السياسي الأمريكي ، لما أخذ العدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين كل هذه الأبعاد ، التي يتلمسها الجميع العربي الديني ، لاسيما المسلمون منهم .
ولم يتناساه سوى منشئي الإعلان في وثيقتهم التاريخية ، لأسباب مفهومة تماماً ، تتعلق بمراهنة منشئي الإعلان على الدور السياسي الأمريكي القادم ، الذي سيكون عن طريق العدوان على الدولة العراقية ، وزرع الخراب بين أبنائه ، ونشر الدمار في عمرانـه بعد إصلاح ما دمره الغرب العسكري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عدوان عام 1991 ، وصولاً لتبوء سـدة السلطة ، أو اِقتسام كعكتها المجزية ، حسب الوعود المعطاة على سبيل الدعاية أو المخاتلة أو وفق الأماني الذاتية ، على شاكلة ما حدث في أفغانستان ، والغريب أَنَّ دُعاة الإعلان يقعون بتناقض حاد في منطقهم الفكري والسـياسـي ، عندما يدعون إنَّ عدوهم : السلطة العراقية جاءت محمولة على كف العفريت الأمريكي سابقاً {إذا ما كان اِدعاؤهم صحيحاً} ، وهم يسعون في الآن نفسه للوصول إلى سدة السلطة بذات الوسيلة ، على طائرات العدوان القاصفة ، وحاملات الطائرات العائمة ، والتهديد بالسلاح التقليدي وغير التقليدي بالاِجتياح العسكري ، وقد سبق للإمام على أن أخذ على هذا الأسلوب بقوله : ((قدر الرجل على قدر همته ، وصدقه على قدر مروءته ، وشجاعته على قدر أنفته ، وعِفَته على قدر غيرته)) ، لذلك : ((أكبر العيب أنْ تعيب ما فيك مثله)) .
إنَّ الرؤية الأمريكية بصدد المنطقة العربية الإسلامية لهو أمر معروف ، وتطرق لها العديد من الكتاب السياسيين والمؤرخين الرصينين المتابعين ، فضلاً عن العلماء المسـلمين المخلصين ، {ويمكن مراجعة ملاحق الكتاب لتبين ذلك تماماً}، ودرجة التحالف الأمريكي ـ الصهيوني الإستراتيجي حتى على صعيد القرارات السياسية التكتيكية ، هو أمرٌ معروف أيضاً ، ومقترن على الدوام بمنع مجلس الأمن من اِتخاذ قرارات تدين أشد الإجرام الصهيوني ، وما تعطيل البعثة الدولية الخاصة بمخيم جنين {الذي نستمده من وقائع الوقت الحالي} سوى مجرد مثال ملموس ومعبِـر ، ناهيك عن ((أنَّ حضـارة عالمية شاملة لا يمكن أن تكون إلاّ نتاجـاً لسـلطة عالمية شـاملة (. . .) وإنَّ صدام الحضارات يحل محل الحرب الباردة باِعتباره الظاهرة المركزية للسياسـات العالمية)) . [13] . كما يؤكد مجترح فرضية صراع الحضارات ، صاموئيل هانتغتون ، الأمر الذي دفع المخلصين للتأشير على الدور الأمريكي ومركزيته الراهنة في صنع مجمل التطورات العربية والإسلامية .
وهذا التشخيص السياسي ، ورسم التكتيكات على ضوئها ، فضلاً عن إقران الممارسة العملية الصائبة ، بالرؤية النظرية الصادقة ، هو الذي عزز النفوذ المعنوي لطليعة الشعب اللبناني المقاومة بقيادة حزب الله بقيادة المجاهد حسن نصر الله ، وإنَّ إعلام محطة ((المنار)) الراهن ، باِتجاه تعميق التلاحم الكفاحي بين الرؤية الدينية الإسـلامية والرؤية القومية العربية المتحررة ، فضلاً عن ممارسة المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني ، وعملائه في ظل وجود دولة ((ليسـت حتى دولة مسلمين العلمانية ، بل يتقاسم حكمها ، والقيام على شؤون إدارتها ، المسلمون والمسيحيون معاً)) . [ 14] . هو الذي يعمِّـق هذا النفوذ وليس أي شيء آخر ، فتحديد المهام ، والتفكير بالقضايا الكبيرة ، بدلاً من التقوقع على القضايا الصغيرة ، الجزئية حتى لو كانت تمسُّ حياة الملايين العديدة ، والتمسك بالمعازل الطائفية ، هو الذي يعطي دفعاً معنوياً كبيراً للقوي السياسية ، مهما اِختلفت أيديولوجياتها ، وإنَّ البحث عن السلطة والإنصاف والعدالة عند الرؤية الأمريكية وقواتها المدمرة ، التي تتشابك في الجوهر وحتى بالتفاصيل مع الرؤية الصهيونية ، سـيثير علائِم الاِرتياب عند كل المتابعين الذين يلتزمون بمنطق الحق ، ومعيار العمل الصالح : والأَداء هو العمل الصالح ، كما يقول الإمام علي كرم الله وجهه ، فالحكمة تؤخذ حتى من أهل النفاق .
وفي ختام هذه الرؤية أود توجيه سؤال محدد للأمين العام لحزب الله في لبنان ، حول رأيه الشرعي والسياسي ، فيما يمارسه متفقهو المنظمات ((الإسلامية)) العراقية ـ والمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة السيد باقر الحكيم بضمنهم ـ على ضوء توحد الأعداء الأمريكيون والصهاينة تجاه الرؤية الحضارية الإسلامية ، وممارساتهما في لبنان وفلسطين : هل يوافقهم على ممارسـاتهم المُرَّسَـمة إسلامياً ، أم لا ؟! .
كما أود توجيه سؤال محدد للسيد محمد حسين فضل الله ، كونه يتمتع بدرجة الاَعلمية في لبنان ، حول محتوى ممارسات القيادات التي تدعـي ((الشيعية)) ، وهل لها علاقة بالمفهوم الذي طرحه حول ((المذهبية الطائفية حالة عشائرية)) ، وعدم موافقته على ((تقسيم الإسلام حسب المواقع الجغرافية)) . [15] ؟! . من ناحية ، وما هو حكم الأمامية على مَـنْ يساند الأجنبي موضوعياً ، أو ذاتياً واعياً ، لا سيما وإن لـه فتوى بعدم جواز حضور مؤتمرات المغتربين في العراق ، كونها تشكل ((دعماً للنظام وتحسيناً لصورته وخداعاً للشعب)) . [16] . من ناحية ثانية ، خاصة وإنَّ ((إسلام أوين لاين)) التي يبثُـهُ {الأنترنيت} تحت إشراف السيد الدكتور يوسف القرضاوي ، قد نشرت نص الفتوى التالية : ((بسم الله والحمد لله والسلام على رسول الله وبعد : إنَّ ما تفعله المعارضة العراقية من التوسـل بأمريكا تارة ، والاِرتماء في أَحضان بريطانيا وغيرها تارة أخرى ، أمرٌ لا يليق بالمسـلم أو حتى الوطني الذي يخاف على مصلحة بلاده (. . .ولا يجوز) أن نسـتبدل بالنظام العراقينظاماً أمريكياً أو بريطانياً ، يحتل البلاد ويستعبد العباد ويسطر على ثروات المنطقة لحماية المصالح الأمريكية الصهيونية ، (. . . وإنَّ الإسلام لم ) يجـز الاِستعانة بالكافر الذي يأتي ليحل محل الحاكم ويسيطر على أرض المسلمين ، ويترتب على ذلك من الضرر أكبر من بقاء الحاكم الظالم)) . [ 17] . وبها الصدد يقول فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي ، يقول الله تعالى في كتابه الكريم : ((يا أيها الذين آمنوا إنْ تطـيعوا الـذين كفروا يردونكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسـرين)) ، ســورة آل عمران (149) ، من ناحية ثالثة وأخيرة .
كما إِنَّ علينا ترديد ما ذكره السيد منير شفيق : ((الذي يحمل المشروع النهضوي الكبير للأمـة ، لا يستطيع أنْ يحافظ على هذه الأمانة الكبرى ، ما لم يكن قادراً على اِختيار الاِضطهاد أو العُزلة أو السجن أو الاِستشهاد أو الاِنسحاب من العمل السياسي على الاِنخـراط في شبكة سياسات الأعداء ، والدخول في منهجية ((الغاية تسوغ الوسيلة)) . ولهذا قال الكبار من حملة مشروع نهضة الأمـة ((نصر أو اِستشهاد)) . ومن هما ، نحن أحوج ما نكون اليوم باِستقاء العِبَر من قصص الأنبياء في القرآن ، والتأسـي بسيرة رسول الله (ص) وبالإقتداء بالصحابة والأئمة والعلماء الإسلاميين الأعلام ، وبالمناسبة ، أفلا يشـكل طريق الحسين رضي الله عنه إلى كربلاء ، لا إلى بيزنطة ، جوابـاً شافياً عن جوهر هذه النقطة)) . [18] .
والخلاصة التاريخية التي تقرر موقعنا في خـارطـة الأحداث التاريخية ، هي أنَّ العالم الإسلامي يتعرض منذ الصعود الأوروبي ، وبداياته الحروب الصليبية على الشرق العربي ـ الإسلامي ، لذا فهذا العالم ، رغم كل حواجز التجزئة والاِختلافات ، فإنَّ الذي ينتظمه على مستوى المجموع المسلم ، هو قاسم مشترك واحد ، يتمثل بالوحدة ((الثقافية حضارية ذات)) معالم مشتركة ، وتستجيب بالتحدي لمؤثرات غربية موحدة ، يتخذ نظام العولمـة على ضوئها مواقف سياسية مشتركة ، وفي هذا البُعد يكمن الموقف المشترك للموقف الجهادي ، أو الإعتراضـي ، الإسـلامـي في العالم . [19] . وإنَّ بوش الأب ، الرمز الكريه لهذا النظام العالمي الجديد ـ مثلاً ـ ، قد ((وقَّـع قراراً مكتوباً يخول وكالة المخابرات المركزية الأمريكية صلاحية القيام بأي نشاط تراه مناسباً لإسقاط النظام في بغداد ، والتخلص من ((صدام حسين)) ، وكان الشـرط الوحيد الذي وضعه هو إنه ((إذا كان محتماً اِغتيال الرئيس العراقي ، فلا بـد أنْ يتم هذا بيد عراقيـة)) ، كما يذكر محمد حسنين هيكل ، في كتابه حول حرب الخليج . [20] .
ونأمـل أنْ لا يكون البعض العراقي المعارض مشتركاً في مثل هذا العمل الرهيب الذي سعت إليه الإدارة ((البوشية)) الأولى سابقاً ، والتي نعتقد أنَّ الـ((سي . آي . أي)) ، ستتكفل به لتنفيذه ، و بالتالي نعيد أمثولة أبن العلقمي ، الوزير المعروف ، وتواطؤه مع التتار الكافرين ، ضد العباسيين المسلمين . . . ذلك التواطؤ الذي عُـدَّ أحد أسباب سقوط الخلافة العباسية المسلمة ونهايتها ، التي يحاول البعض ((الإمامي العراقي)) العمل به في ضوئها من غير يوافقه النجاح العملي الملموس ، رغم إعلانه المتكرر عن ذلك ، أو دون أنْ ينفيها ببذل مختلف الجهود البحثية وأصواته الإعلامية والدعائية الكثيرة .
---------------------------
7/8/ 2002
الهوامش والملاحظات
[1] ـ راجع كتاب السـيد محمد حسين الطباطبائي المعنون : الشيعة ، نص الحوار مع المستشرق كوربان ، ترجمة جواد علي كسّار ، إصدار مؤسسـة أم القُرى للتحقيق والنشر ، الطبعة الثانية (ذي الحجة 1418 هـ) ، بيروت /لبنان/ ، ص 322 .
[2] ، و[3] ـ راجع العلاّمة السيد محمد تقي الحكيم المعنون : الأصول العامـة للفقه المُقارَن ، مدخل إلى دراسة الفقه المقارَن ، تحقيق المجمع العالمي لأهـل البيت ، مدينة قُـم الإيرانية ، إصـدار مطبعة أمير ، الطبعة الثانية ، 1418 هـ ـ 1997 م ، ص 12 .
[4] ـ راجع كتاب السيد محمد حسين الطباطبائي ، مصدر سبق ذكره ، ص 464 .
[5] ـ راجع كتابه المعنون : تاريخ الحسين ، نقد وتحليل ، إصدار دار الجديد 1994 ، الطبعة الثانية ، بيروت ـ لبنان ، ص 201 .
[6] ـ المصدر السابق ، ص 203 .
[7] ـ المصدر السابق ، ص 234 .ويعلق العلايلي على هذا السلوك الحسيني بالقول : تكبر النفس بالعقيدة حتى لا ترى إلاّ إياها ، وتحولُ أحلام النفس وشهوات الغرائز في مذهب سمو العقيدة ، فالحسين (ع) أحالَ غرائزه إلى ما يساعدُ عمل العقيدة ، فأنكر الذات ومضى إلى الجهاد . وكفى بهذا المثال الحسيني ، وقراءة العلايلي المخلصة للنهج القويم بذلك ، في تقديرنا ، مثالاً عملياً ونظرياً لمن يتطلعون في سرهم أو علانيتهم إلى الاِستعانة بالشيطان الأكبر طريقاً للوصول إلى مركز السلطة .
[8] ـ راجع : الصحيفة السجادية الكاملة ، أدعية الإمام زين العابدين ، إصدار دار المرتضى ، بيروت / لبنان ، ط أولى ، 1419 هـ ـ 1999 م ، ص 8 والمقدمة المكتوبة من قبل محمد باقر الصدر المقيم في النجف الأشـرف آنذاك .
[9] ـ محمد حسين الطباطبائي ، مصدر سبق ذكره ، ص 468 .
[10] ـ راجع كتاب السيد سليم الحسـني المعنون : دور علماء الشيعة في مواجهة الاِستعمار 1900 ـ 1920 ، إصدار دار الغدير للدراسات والنشر ، بيروت ـ لبنان ، 1415 هـ ـ 1995 م ، ص75 ـ 78 .
[11] ـ راجع المصدر السابق ، ص 79 .
[12] ـ راجع المصدر السابق ، ص 109 . ومما يجدر ذكره ، أن المؤلف اِنساق لأسباب طائفية للتوقيع على الإعلان الصادر باِسـم شـيعة العراق ، في مخالفة صريحة وواضحة لما ورد في مضمون كتابه ، إذا ما أخذنا معايير محاكمته للظواهر السياسية التي مرَّ فيها العراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، الأمر الذي يوضح إنَّ الإعداد للكتاب فرضته المهمات السياسية ، وليس القناعات الدينية الإسلامية .
[13] ـ راجع كتاب ((صدام الحضارات)) ، لعدة مؤلفين ، إصدار مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق ، بيروت/لبنان ، الطبعة الأولى ـ 1995 ، والاِسـتشـهاد مقتطع من دراسـة صاموئيل هانتغتون ، ص 85 ـ 88 .
[14] ـ راجع كتيب عبد الإله بلقزيز {كتاب الجيب} المعنون : حزب الله اللبناني من الحوزة العلمية إلى الجبهة ، إصدار منشـورات الزمن ، الرباط/المملكة المغربية ، أغسطس/آب 2000 ، ص 83 .
[15] ـ راجع مطبوعة ((بيِّنات)) ، النشرة الأسبوعية التي تصدر عن مكتب الثقافة والإعلام التابع للمرجع الإمامـي ، العـددان : 207/ 10 ، 207/11 الصادران في 9 و16 شباط 2001 ، إذ وردت توصيفات وأحكام السـيد محمد حسين فضل الله فيهما .
[16] ـ راجع نص فتواه في مجلة الدسـتورية الناطقة باِسـم جماعـة الملكية ((العراقية)) ، في عددها 47 ، المؤرخ في حزيران 2000 ، في صفحة الغلاف الأخيرة .
[17] ـ راجع صفحة ((إسلام أوين لاين)) الموجودة في الكومبيوتر ، تاريخ 22/7/2002 ، وفي الصفحة الرئيسية : إسـأَلـوا أهل الذكـر ، تصفح الفتاوى .
[18] ـ راجع دراسته في مجلة : قراءات إسلامية ، السنة الثالثة ، العدد الأول ، شتاء 1993 ، إصدار مركز دراسات الإسلام والعالم ، الولايات المتحدة الأمريكية ، ص 161 ـ 169 ، والتي وردت تحت عنوان : العراق بين الوحدة والتجزئة ، والاِستشهاد مُقتطَع من الصفحة 169 .
[19] ـ راجع البحث الممتاز للسيد محمد على آذر شب المعنون : موقع العلاقات العربية ـ الإيرانية في إطار العالم الإسلامي ، في الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية المعنون : العلاقات العربية ـ الإيرانية ، الاِتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل ، بيروت / لبنان ، الطبعة الأولى تموز ـ يوليو ، 1996 ، ص 869 ـ 886 .
[20] ـ راجع كتابه المعنون حرب الخليج : أوهام القوة والنصر ، القاهرة / مصـر ، الطبعة الأولى ، 1412 هـ ـ 1992 م ، ص 453 .
ملاحظة : نشُرَت أجزاء من هذه الدراسة في صحيفة ((السفير)) بتاريخ 23 / 8 / 2002 ، وقد نوهت في ذيل النص المنشور بالتالي : ((مُقتطف من نص طويل)) .
ملاحظة ثانية وراهنة : هذه المقدمة والنص المرفق الذي أحاول نشره على موقع البصرة المحترم ، هو مساهمة طوعية حرة في المناقشة الدائرة حول موفق الربيعي عضو قيادة المجلس الحاكم المحكوم في العراق بهدف تحديد معايير موضوعية للنظر في دور الفرد في تكوين الظاهرة الموضوعية ، ومن المعلوم إنَّ إعلان الشيعة المشار إليه في النقاش ، كان مدخل د . موفق لجسد المعارضة الإسلامية القيادي ، والذي يبدو اليوم هو المدخل الفكري الأمريكي لإعطاء البعض وزناً في السياسة العراقية الراهنة التي تأتي مرسومة في دوائر السي آي أي والموساد الصهيوني ، والله بالسر عليم .
______________________________
المصدر: شبكة البصرة