آخر تحديث للموقع :

الجمعة 17 جمادى الأولى 1445هـ الموافق:1 ديسمبر 2023م 10:12:15 بتوقيت مكة

جديد الموقع

الانتفاضة الثانية ..

الشيخ مهدي الخالصي : الذي أعلن للجماهير عن خلعه بيعة الملك

بدأت الانتفاضة حين شرح تشرشل في مجلس العموم البريطاني اثر سؤال وجه إليه: (ان الملك فيصل وحكومته لم يخبرا بريطانيا عن رفض الشعب العراقي للانتداب). 
وبدأ الشك يتسرب إلى نفوس الزعماء الوطنيين في بغداد في حقيقة موقف (الملك) اذ ليس من المعقول ان تكون بريطانيا تجهل رأي الشعب العراقي بعد كل الذي جرى في ثورة العشرين.. فهل ان الملك وعد الانجليز بتمرير معاهدة (الانتداب)؟.. ام ماذا يكمن وراء ذلك التصريح؟ 

وبدأت الاجتماعات الجماهيرية الحاشدة في المساجد ثم انتدبت الماهير عددا من الزعماء للاجتماع بالملك والاطلاع على حقيقة موقفه، وبعد الاجتماع ظهر لهم ان (الملك لا يريد (الانتداب) غير انه في الوقت نفسه لا يريد الاصطدام بالانجليز وفقدان عرشه، وقرر الزعماء البدء بتحرك سياسي لاعلام البرلمان البريطاني والدول الأخرى وعصبة الأمم عن رأي الشعب الحقيقي ورغبته في استقلال وانه لم يقبل ابدا وفي أي وقت بمبدأ الانتداب بدليل نهضته المسلحة في ثورة العشرين.. 

وقبل ان تتطور الحركة ضغط (كوكس) على فيصل لايقاف البرقيات والحركة السلمية فورا.. وتراجع الملك كعادته ووافق ارسال البرقيات ولكن الحركة لم تتوقف.. ففي لواء (المنتفق) كانت القبائل المعارضة للانجليز قد بدأت بحركة سلمية مضادة بتحريك من علماء الدين، في بغداد والكاظمية بنية القوى الثورية كانت لا تزال قوية تنتظر الفرصة للعمل، الفرات الأوسط كان يتمخض عن (ثورة دفينة).. اما الحكم فقد كان ضعيف الارادة والتصميم.. النقيب مع من يرفع شعار (بريطانيا دائما على حق) ولكنه ضعيف الشخصية، الوزارة غير متجانسة لوجود (ابو التمن) المعارض الاتفاقية الانتداب فيها وبقية الوزراء سوى (عبد المحسن السعدون) والوزراء اليهود والنصارى كانوا مع رأي الملك الذي كان حتى ذلك الوقت ضد المعاهدة.. في مثل ذلك الجو قدمت الصيغة النهائية للمعاهدة إلى مجلس الوزراء للتصديق عليها وذلك في 22/ حزيران.. 

وقدم المعاهدة (عبد المحسن السعدون) مؤيدا لها، ولكن أهم الوزراء رفضوها وهم: 
وزير الداخلية والدفاع والسيد جعفر ابو التمن الذي أكد عن رفض علماء الدين لها، كما أكد ان التصديق أو رفض المعاهدة من حق (المجلس التأسيسي) وليس مجلس الوزراء.. وعارضه اليهودي (ساسون حزقيل) بحجة ان انتخاب ذلك المجلس سيحتاج إلى عدة أشهر.. واخيرا تقرر تأجيل الجلسة إلى 24/ حزيران.. 

وتحرك علماء الدين ومعهم الجماهير يحاولون منع التصديق على المعاهدة وسارت المظاهرات في شارع الرشيد واغلقت الأسواق، واتجهت الجماهير نحو دار النقيب، واجتمعت به لرفض المعاهدة ولكنه ردهم بجفاف، ثم اجتماع به عدد من علماء الدين من بينهم (الشيخ محمد الخالصي) فوعدهم خيرا.. ولكنه في اليوم التالي أي في 25 / من حزيران صادق مجلس الوزراء على المعاهدة دون ان يعمل النقيب خبرا ـ كما وعد ـ انما اضاف إلى المعاهدة نصا يقضي بوجوب تصديقها من قبل المجلس التأسيسي! 

واعتراضا على ما حصل استقال السيد جعفر ابو التمن في 26/ من حزيران.. وتوتر الوضع مجددا في المدن الشيعية، وكان الملك حينذاك يميل إلى الخط المعارض للمعاهدة.. وبعد اسبوع بدأت تتقاطر على مدينة (النجف الاشرف) عشائر الفرات الأوسط بمناسبة زيارة عيد الغدير.. وفي 11 / آب (ليلة العيد) اجتمع في دار الامام السيد ابو الحسن الاصفهاني عدد كبير من رؤساء العشائر الذين شاركوا في ثورة العشرين وطلبوا متصرف المدينة طالبين منه تنفيذ الوعد الذي اعطاه الانجليز لنا بسحب (الضباط السياسيين) من الاولوية، مهددين: بأن اذا لم يتحقق ذلك فإنهم في حل مما سيحدث بعد ذلك من اضطرابات. 

وعندما رفضت الحكومة طلب رؤساء العشائر رجعوا إلى مراكزهم في الشامية وابو صخير.. وبدأت الاضطرابات.. ولم يكن في استطاعة الحكومة ان تفعل شيئا، لقد كان الملك يؤيد الحركة. فاستقال (توفيق الخالدي) من وزارة الداخلية بعجزه عن ضبط الامن.. وعندما طلب مجلس الوزراء من الملك تأييد سياسة الحكومة رفض الملك ذلك، فاستقال الوزراء ثم تبعهم النقيب نفسه في 14 / آب، وشعر الخط الثوري باالنتصار وان عليه الاستمرار في الحركة حتى اسقاط المعاهدة.. وهكذا اجتماع الحزبان المعارضان للانجليز برئاسة (السيد محمد الصدر) ونضما مظاهرة جماهيرية بمناسبة ذكرى تتويج الملك 23 / آب، حيث سارت المظاهرة إلى مقر الملك وهتفوا بسقوط الاستعمار البريطاني في اللحظة التي جاء فيها كوكس لتهنئة الملك.. وكانت الامور تسير وفقا لما تشتهيه السفن الثورية حتى يوم سقوط الملك مريضا باصابته المفاجئة بالتهاب الزائدة الدودية مما اوجب اجراء العملية له، فادخل الملك إلى المستشفى لاجراء العملية الجراحية وهنا استغل كوكس الحادث وكان ينتظر الفرصة ليضرب ضربته فاصدر بيانا هدد فيه جميع المعراضين، ثم اغلق صحف الاحزاب المعارضة (المفيد) و(الرافدان) وحل حزبي: النهضة الوطني، والقي القبض على (جعفر ابو التمن) و(حمدي الباجه جي) و(البصير) و(أمين الجرجفجي) و(عباد الرسول كبة) وآخرين مبعدا اياهم إلى جزيةر هنجام. في الهند واختفى زعماء آخرون عن الانظار خوفا من الاعتقال.. كما اصدر امره إلى السيد محمد الخالصي والصدر بوجوب سفرهما إلى خارج العراق فورا قبل ان يسفرا بالاكراه.. وبهذه الطريقة اسكت كوكس افواه المعارضة، واسكت الشعب عندما ابعد زعماءه إلى خارج البلا.. وتصف المسز بل هذا العمل بقولها: (انه عمل جريء انقذ الموقف فالمتطرفين انهارت حركتهم، اما المعتدلون(!) فقد رفعوا رؤسهم عاليا، واخذ حزب السيد محمود الكيلاني يتضخم بشكل ملحوظ!

وبدأ المتزلفون يتراكعون امام المسؤولين البريطانيين. بل ان العبرة، وصلت إلى الملك نفسه ايضا، فعندما وجد الحديدة حامية قرر الخضوع التام، ووقع على المعاهدة بيده، كما انه نفذ كل ما طلبه (كوكس) من تعيني النقيب لرئاسة الوزراء للمرة الثانية مع معظم وزراءه السابقين وافهم بشكل جيد: انه لا يسمح له بعد الآن ان يتصل بالمعارضة والعشائر الثورية في الفرات الاوسط بأي شكل من الأشكال. 

وفي هذا الجو استعجلت الحكومة اجراء الانتخابات (للمجلس التأسيسي) ولكن علماء الدين حرموا الانتخاب بشكل صارم، وكان على رأسهم (الشيخ مهدي الخالصي) الذي أعلن للجماهير عن خلعه بيعة الملك، وبدأت الجماهي تسب الملك ورئيس وزراءه والانجليز جميعا، وانحطت سمعة النقيب إلى الحضيض، ووجد الانجليز ان المرحلة تتطلب رجلا حازما ووجها جديدا غير النقيب فاشارت اليه بالاستقالة، ومع انه كان شديد الحرص على البقاء في الحكم.. ولكن رأى الانجليز لم يكن قابلا للرد، تقول المسز بل: (ان النقيب لن يتخلى عن الوزارة الا اذا حمل حملا ورجلاه إلى الامام. 

واخيرا حمل النقيب على الاستقالة فخلف (عبد المحسن السعدون) الرجل البدوي الفظ الذي جيء به إلى الحكم كي يقوم بدور كان قد اعدله سلفا، وهو اكمال ما بدأه سيده: كوكس بتصفية الحركة الثورية، واجراء الانتخابات بالقوة! وتولى السعدون وزارة الداخلية ليشرف على الانتخابات بنفسه وبدأت الانتخابات تجري في انحاء البلاد ولكن بفتور بالغ فقد امتنع معظم الناس من المشاركة في الانتخابات.. غير ان بروز التهديد التركي من جهة، واستقالة وزارة لويد جورج، وامتناع الوزارة البريطانية الجديدة عن توقيع المعاهدة، ومطالبة بعض النواب الانجليز الانسحاب من العراق واستدعاء كوكس إلى لندن كل هذه الاحداث المتعاقبة جمدت قضية الانتخابات من اجل مواجهة الموقف الجديد.. كما اطلقت سراح المعتقلين في هنجام في 19/ شباط. وبعد ان زال التهديد التركي عاد كوكس إلى بغداد ي 31/ آذار/ 1923 وهو يحمل ملحقا للمعاهدة يتضمن تخفيض مدة المعاهدة من عشرين سنة إلى أربع سنوات، وبدأت حركة جديدة لاقناع زعماء الثورة بضرورة التعاون مع الحكومة كما اتصل الملك بعلماء الدين وخاصة (الشيخ مهدي الخالصي) بان يسحب فتواه بتحريم الانتخابات.. ولكن علماء الدين اصدروا فتوى جديدة أكدوا فيه بقاء حكمهم السابق بالتحريم، غير ان زعماء العشائر في الفرات الأوسط انقسموا على انفسهم.. فالشيخ (محسن ابو طبيخ) الذي رفض منذ البداية مرافقة الملك فيصل من مكة إلى العراق التزم بفتوى (علماء الدين) فقرر الملك نفيه من البالد، فخرج في شكل تظاهرة جماهيرية عظيمة.. 

ثم قررت حكومة السعدون: اخراج علماء الدين من العراق وابعادهم إلى خارج البلاد، وعلى رأسهم الشيخ مهدي الخالصي، ومع ان القاء القبض على الشيخ كان يحمل معه مخاطر الهياج الجماهيري الا ان الحكومة دبرت خطة تتحاشى بها الخطر المحتمل.. فسافر الملك إلى البصرة كي يبرئ نفسه من الجريمة وفي ساعة متأخرة من مساء 26/ حزيران جرى القاء القبض على الشيخ الخالصي، ونفي بسرعة إلى البصرة ثم إلى الحجاز حيث ادى فريضة الحج واجر إلى ايران. 

وعندما انتشر الخبر في اليوم الثاني تعطلت الاسواق.. وخاصة في النجف الاشرف، وقرر كبار علماء الدين مغادرة البلاد احتجاجا على نفي الخالصي، وتضامنا معه، وقد غادر العلماء النجف عن طريق كربلاء غير ان الحكومة خوفا ن (اجتماع الجماهير) حجزتهم في خيمة خاصة ثم ارسلتهم إلى ايران بطريقة لا يمكنهم الاتصال بأحد من الناس! ولدى وصولهم إلى ايران استقبلتهم الجماهير بحفاوة منقطعة النظير.. 

واما الانتخابات فإنها لم تنجح بالطبع.. وعندما انتهت مهمة (السعدون) في ضرب علماء الدين وزعماء الثورة استقال ليخلفه (العسكري) الذي استمر في انهاء الانتخابات وهكذا طالت فترة الانتخابات حوالي ثمانية اشهر.. بدأت، 12/ تموز / 1923.. وكان اول اجتماع للمجلس التأسيسي بتاريخ 27/ آذار/ 1924..

وبعد اجتماعات مطولة، واخذ ورد طويل وافق المجلس على المعاهدة في ليلة العاشر من حزيران بعد ان انذر المندوب السامي البريطاني الملك فيصل بوجوب حل المجلس بسبب امتناعه عن التصديق على المعاهدة.. 

وهكذا اقرت المعاهدة المرفوضة.. بالحبر والاكراه وتحت حراب الانجليز وفي منتصف ليلة مشؤومة.. بعد سنتين من البحث والمناقشة والانتفاضة والقصف بالطائرات. وكل وسائل الضغط الأخرى

العمل الاسلامي

__________________________

المصدر: شبكة البصرة

عدد مرات القراءة:
2157
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :