الكاتب : محمد العبيدي ..
لقد قلنا منذ أن كان الأمريكان يحضرون لغزو العراق بأن ما سيحدث لهذا البلد العزيز من تدمير لن يشمل فقط بنيته الثقافية والعسكرية والإقتصادية بل وبنيته الإجتماعية كذلك. وهنا لا بد من القول أن من يتوهم بأن الأمريكان لم تكن لهم خطة موضوعة لما بعد إحتلال العراق فهو أما أعمى أو متعامي. فلقد تبين بشكل واضح وجلي أن أول ما فعله المحتلين هو تدمير كل ما له صلة بتأريخ العراق الثقافي سواء بشكل مباشر من قبل جيوشهم الغازية أو بواسطة عناصر المخابرات الصهيونية والكويتية التي جلبوها معهم، ثم جاء دور حل الجيش العراقي وتبعه خصخصة الإقتصاد العراقي وبيعه بالكامل للمستثمرين الأجانب وبضمنهم المسثمرون الصهاينة. وبعد أن إنتهت المراحل التدميرية الأولى لبنيات العراق تلك بهذه السهولة بدأت المرحلة الأخرى من العملية التدميرية المرسومة مسبقاً ألا وهي الإنقضاض على البنية الإجتماعية للعراق من خلال سياسة "فرّق تسد" الإستعمارية القديمية، التي إبتدعها وطبقها البريطانيون في كل مكان إستعمروه.
وإضافة لأعمال إجرامية مشابهة أخرى حدثت منذ بدء الإحتلال الأنكلوأمريكي الصهيوني للعراق فإن ما حدث بالأمس من جريمة مروعة بحق الشيعة العراقيين في كربلاء والكاظمية المقدستين ما هو إلا حلقة رئيسية من حلقات تدمير البنية الإجتماعية العراقية المرسومة والمعدة مسبقاً للنيل من التآلف بين الطوائف الدينية العراقية المشهود برسوخها وأصالتها على مدى عقود عديدة من الزمن.
وللتحضير لهذه الجريمة والجرائم المشابهة التي ستلحقها بالتأكيد والتي كانت الغاية الرئيسية من وراءها هي إشعال فتنة طائفية تم التخطيط لها بتمعن من قبل الأمريكان والصهاينة بالتعاون مع عملاءهم من العراقيين دأبت أوساط أمريكية وعلى كل المستويات بالتحدث مؤخراً عن إمكانية وإحتمالية حدوث مثل تلك الجرائم في العراق. ولم تكن تصريحات وفد الجامعة العربية ووفد الأمم المتحدة برئاسة الأخضر الإبراهيمي الذي زار العراق مؤخراً عن إحتمالية حدوث مثل تلك الجرائم قد جاءت من دون معرفة مسبقة لما تم التخطيط له في العراق. فالمخابرات الأمريكية والصهونية قد درست وحللت بعناية مواقف تنظيم القاعدة من الطوائف الإسلامية الأخرى، ومن مواقف القاعدة هذه وضعت المخابرات الأمريكية والصهيونية خططها لإشعال الفتنة الطائفية في العراق. وحسب تحليل علمي ومنطقي نشر مؤخراً في أحد أجهزة الإعلام الغربية فقد إستندت أجهزة المخابرات الأمريكية والصهيونية وبشكل لا يدعو للشك على فتوى حديثة من قبل عبد الرحمن البراك الذي يعمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي تدرب رجال الدين الرسميين، عندما سُئِلَ إن كان مسموحاً للسنة بإعلان الجهاد ضد الشيعة، حيث أجاب، "إذا أصرّ الشيعة في بلد يسيطر فيه السنة على ممارسة ديانتهم علانية، فالجواب هو نعم، حيث لن يكون لدى هذا البلد أيّ خيار غير شن الحرب عليهم، إذ أن الشيعة ليسوا مسلمين على الإطلاق !!!". إضافة لتحليل تلك المخابرات لكتاب حديث كتبه الشيخ السعودي يوسف بن صالح العييري، الذي يعتبر من أكثر الداعين لفكر القاعدة، والذي عنوانه "مستقبل العراق والجزيرة العربية بعد سقوط بغداد" حيث إدعى فيه أن "للصليبين والصهاينة ثلاث حلفاء، هم العلمانيون والشيعة والسنة المتساهلون".
وحيث أن تنظيم القاعدة لم يعلن مسبقاً وبأي شكل من الأشكال عداءه للشيعة بالشكل الذي ورد في المصدرين الحديثين أعلاه، وكما قال الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك أن "القاعدة لم يسبق لها أن تلفظت بكلمة تهديد ضد الشيعة من قبل بالرغم من أن القاعدة منظمة سنية بحتة، ولكن لأسابيعوسلطات الإحتلال الأمريكية تحذرنا من نشوب حرب أهلية، ورغم تحذيراتها تلك حدثت تلك المجزرة، فيا لها من صدفة !!!". ويضيف فيسك قائلاً، " أنا أسترجع ما فعله الفرنسيون في عام 1962، من تفجير لقنابل بين الجالية الإسلامية الجزائرية في فرنسا. وأسترجع الجهود اليائسة للسلطات الفرنسية لوضع المسلم الجزائري ضد المسلم الجزائري والذي أدى في النهاية لإزهاق أرواح نصف مليون إنسان". ويستطرد فيسك موضحاً، " الأمر ليس أنني لا أصدق بأن القاعدة عاجزة عن عمل مجزرة كتلك. لكني أسأل نفسي لماذا يكثر الأمريكان من إستخدام مسألة سني وشيعي قبل وبعد إحتلالهم للعراق ؟
من هذا نرى أن المخابرات الأمريكية والصهيونية وعملاءهم من العراقيين قد إستخدموا تلك الآراء لوضع خططهما موضع التنفيذ والتي إبتدأت قبل أسابيع قليلة عندما نشرت قوات الإحتلال وثيقة تدّعي أنها رسالة من أبي مصعب الزرقاوي يدعو فيها للفتنة الطائفية في العراق من خلال شن هجومات على مواطني الطائفة الشيعية. ورغم علامات الإستفهام المتعددة عن صحة هذه الوثيقة، رُبّ سائل يسأل: طالما أن تنظيم القاعدة يضمر مثل هذا العداء للشيعة فلماذا لا يكون هذا التنظيم فعلاً وراء الأعمال الإجرامية الأخيرة في كربلاء والكاظمية ؟ والجواب على ذلك بسيط جداً، وهو لو كان تنظيم القاعدة أو الحركات السنية الأخرى تسعى من خلال مقاومتها للإحتلال الأمريكي للعراق تأسيس حكم إسلامي في هذا البلد فكيف بهم يجعلون أكثرية مسلمي العراق الذين هم من الشيعة يقفون ضدهم ؟
فمنذ بدأ المقاومة المسلحة للإحتلال دأب الأمريكان على إتهام مواطنين عرب بكل ما يحدث في العراق، ولم ينجو من أصابع الإتهام تلك أؤلئك الذين قاموا بالجريمتين الأخيرتين في كربلاء والكاظمية، ولكن وكما في كل جريمة من هذا النوع يبقى الفاعلون مجهولون فلا أحد يعرف من قام بها فعلاً بالرغم من إدعاء الأمريكان في كل مرة بإلقاء القبض على مشتبه بهم فلا ظهرت أسماءهم أو صورهم أو جوازات سفرهم في أي منبر إعلامي يشرفون عليه سواء في العراق أو خارجه. وفي هذا الصدد يجب الإشارة هنا إلى ما صرح به الشيخ جواد الخالصي من أن قذائف قد أطلقت على ضريح الإمامين في الكاظمية من نقطة سيطرة أمريكية تقع عند جسر الأئمة الذي يربط منطقتي الكاظمية والأعظمية. فمن ذا الذي يسمح له الأمريكان أن يطلق مثل تلك القذائف من قاعدة عسكرية تابعة لهم ؟
وعند السؤال عن الأسباب الخفية وراء هذه الجرائم البشعة، يكون الجواب على ذلك ببساطة هو أن تلك الجرائم تصب أولاً وأخيراً في مصالح المحتلين والصهيونية العالمية، وكما قال روبرت فيسك "خوف شديد من الحرب الأهلية يدفع العراقيين لمسايرة أي خطة تقترحها أمريكا لبلاد الرافدين"، إضافة لإيجاد أرضية لإستمرار بقاء قواتهم في العراق، وما تصريح غرينستوك، ممثل بلير ومساعد بريمر في إدارة الإحتلال، بالأمس حول تصميم قوات الإحتلال على البقاء في العراق لسنوات عديدة قادمة نتيجة لجريمتي كربلاء والكاظمية إلا ترجمة لنواياهم تلك وهدف رئيسي آخر وراء تلك الجرائم.
بالرغم من أن الفترة التأريخية التي مر بها العراق منذ الإحتلال وحتى الآن هي فترة مظلمة وشرّيرة جداً نجد مع الأسف أن أكثر المرجعيات الدينية، شيعية منها أو سنية، لا زالت تحابي المحتلين وعملاءهم من خلال تصريحات أقل ما يقال عنها أنها ذر للرماد في عيون العراقيين. إن المرجعيات الدينية وبكلأطيافها ودرجاتها الفقهية مدعوة الآن أكثر من أي وقت مضى لقول رأيها الصريح بالإحتلال وأفعاله الإجرامية وعدم مهادنته بأي شكل من الأشكال، ولا نظن أن سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي، دام ظله، قد عزف عن الشريعة الإسلامية السمحاء حين وجه رسالته إلى العالم في 5 جمادي الثانية 1423هـ ، 14/8/2002م حين قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين، "....ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". فنظراً لمواقف الإدارة الأمريكية المصهينة، المتسمة بمنتهى العدوانية والغطرسة الآثمة من عموم قضايا العالم المعاصر، وإتباعها لسياسة الإستبداد المطلق على صعيد المجتمع الدولي، مع الفساد المستشري في دوائرها، وتبنيها الحرب الصليبية القذرة ضد الإسلام والمسلمين بالخصوص، لا سيما في فلسطين وأفغانستان، وإنحيازها الجائر للطغمة التلمودية الحاقدة، وإسنادها لأعتى الأنظمة الإستبدادية الفاسدة، رغم إدعاءات التحضر والعلمانية والديمقراطية، بجانب نياتها المبيتة ومشاريعها المعلنة للإحتلال العسكري بدءا بالعراق فسائر الأقطار بهدف السيطرة على مقدراتها وحذف حضارتها والإستحواذ على منابع الثروة فيها، تمهيداً لمزيد من التجزئة وإخضاعها للمطامع الصهيونية والمآرب الإستعمارية.
بناءً على هذه الحقائق المروعة التي يؤكدها واقع السلوك الأمريكي بإستمرار، فإن مقاومة عدوان هذه الإدارة الشريرة، في ظل أية راية، تعتبر واجباً شرعياً وجهاداً في سبيل الله مع القدرة وصدق النية، ويعتبر السكوت عنه إثماً، والتعاون معها ولو بأدنى كلمة، من أي نظام أو فرد أو جهة، كمجموعة الستة التي إختارتها إدارة شريرة بهذه الصفة وتحت أي ذريعة ضد أي قطر إسلامي، يعد تعاوناً مع العدو ومن أجلى مصاديق التعاون على الإثم والعدوان بل الإنحدار إلى المروق عن الدين والخيانة لله ولرسوله ولأمة الإسلام والوطن. فإن تجليات العدوان الأمريكي لم تترك عذراً لمعتذر. أما إصلاح أوضاع المسلمين والأوطان وتخليصها من الظلم والفساد فمهمة شرعية يقوم بها أبناء الأمة الصالحون وليس للدخيل الأجنبي وعملاءه دخل فيه، و ((من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم))، صدق الله العظيم.
محمد مهدي الخالصي