من العبث بعد " الكربلاءات " محاولة إحصاء جثث الحالمين بدولة كريمة يعز بها الله الاسلام وأهله، ويذل بها النفاق وأهله، فتجريف أولئك المنسيين بأسمالهم البالية إلى أمهم " الأرض " أجدى. وعليه لم ترصد فصاحة الشاشات الفضائية شيئا من موت الفقراء البطيء، ولم تسجل لحظة تفسخ أبدانهم الهزيلة، لكنها أوهمت الكائنات المتلفزة بضرورة التحديق في الشاشات بانتظار حدث مملى من الإرادة الإلهية لم تخجل الانتلجنسيا العربية من التهليل له حتى وإن جاء متأخرا، فهذا هو حال الأشباح، فهي لا تأتي إلا بعد خراب البصرة، وتدمير جنين، وتجزير فقراء صبرا وشاتيلا، وبالطبع هلاك أهل النجف.
إذا، ثمة خبر مفرح في طور التشكل ويمكن التأريخ به، فقد استيقظ الولي من غيبوبته الصغرى وقرر " الخروج " ولكن ليس على طريقة أسلافه الكربلائيين، بل هو الاكسودس، ثاني أسفار العهد القديم، كما يحاوله الولي، ويتم تعليبه في خبر تلفزيوني أقرب إلى البشرى، لأن شبحين أو وليين من أوليائه الصالحين جدا سينقذان الضريح (المبنى) ولا يهم (المعنى) الذي فدّاه الحفاة بموتهم، فمعجزتهما تتوقف عند هذا الحد من التواطؤ على ما أريق من الدم، أي تسليم المفاتيح وتبادل التذكارات والحفاظ على النفائس وهدايا الملوك والأباطرة التي لم تكتحل بها أعين الفقراء قط.
إنه الاكسودس بمواصفات شيعية، فالشبح الإلهي يعبر بقومه إلى أرض المعاد، والجموع من الفقراء يصدّقون النبوءة التي تحدث من وراء وعيهم، ويركضون بوله وحماسة الموعود بالجنة وراء السراب، وكلما اقتربوا من الصحن الحيدري انغرز الرصاص الحي في صدورهم، وما بقي منهم يستمسك بالوعد، فما الذي يمتلكه المعدمون والحفاة غير السير وراء شبح يجيد المؤجّل والمستحيل من الوعود المنكوث بها حتى قبل ابرامها!؟ حتى الذين رافقوه من كل حدب وصوب لم يسمح لهم إلا بقبلات مختصرة ومستعجلة لبلاط الصحن المعبأ برائحة الدم والبارود. كم يشبهون في تيههم ووهنهم أولئك الذين حضروا أغنية بوب مارلي الشهيرة Exodus ولم يصلوا بطبيعة الحال حتى نهايتها.
لن تكون هنالك حاجة للأربعين عاما التي قضاها بني اسرائيل في التيه. هذا ما عاهدهم عليه وكلاء الشبح، وبشروهم بامكانية تحطيم الرقم القياسي الذي سجله موشي دايان عابرا سيناء في ستة أيام من شهر حزيران، فالأمر لا يحتاج إلا لزيادة سرعة السيارة الفارهة التي تتقدم موكب الشبح، وهكذا كان، فالعولمة تستلزم هذه السرعة، واكسبرس (الغرب - الشرق) كان بمقدوره أن يعافي شبحا متهالكا بمعجزة طبية، ويحمله بسرعة البرق إلى ساحة المعركة، ليوقف دوي المدافع بتلويحة من يده المباركة، ليبتلع صقور الحكومة المؤقتة ألسنتهم حتى حين، فيما يتحسس كل واحد منهم زناد مسدسه بسبابته تربصا بمن تسول له نفسه الفرار من قدر خطه رامسفيلد على جباههم كما القلادة على جيد الفتاة.
الآن يا مارشال ماكلوهان عرفنا أن الصحن الحيدري ليس معفيا من معنى " القرية الالكترونية " حين تحتاجه الامبراطوريات لإعادة رسم الخرائط الخغراسية، وأن صلاته بالبنك الدولي أوثق من علاقته بحزام الفقر في أزقة مدينة الشهيد الصدر. ولأن الفضائح تأتي على ايقاع تداعي حجر الدومينو، انكشفت عورة اليونسكو أيضا، فالصحن الحيدري ليس مدرجا، كما يبدو، على قائمة قيمها الثقافية والأثرية والفنية، ففي الوقت الذي ملأت الدنيا ضجيجا اثر تدمير تماثيل باميان البوذية في أفغانستان، لم تتقدم لتسلم مفاتيح المرقد بعد تمارض المرجعيات و تلكؤ أو عجز أغلبهم عن اثبات أماكن تواجدهم لحظة اشتداد القصف على الفقراء اللائذين به دون رحمة.
ليس في ذلك المشهد التوراتي ما هو بطولي أو شعري، بل تراجكوميديا مربكة، فهنالك من بمقدوره انتاج البطولات والظواهر الإعلامية، وفرضها على البشر المقهورين من البشر، خصوصا أولئك الذين صدقوا الكذبة الرومانسية إنكارا لوقائع أشد قسوة، وهكذا لم يبق لهم إلا اللواذ بمهدوية مزمنة في الوعي الشعبي يتقاسم وعودها شبحين، ثم التفتيش عن جثامين أبنائهم المتعفنة بين زواريب المحكمة الشرعية ومقبرة النجف والمدينة القديمة التي أعيد رسم معالمها بأحدث الأسلحة الأمريكية الذكية وبحكمة المرجعية، التي تعلمت بسرعة فائقة " ثقافة المارينز " فقررت انشاء لجنة إعمار، في بلد لم ينتبه بعد من كابوس المقابر الجماعية.
يا لغباء العدسات التي احتشدت لتلتقط صورة نادرة للشبح القادم من اللا مكان. ألا يعلم أولئك بأن اللا شئ يستحيل تصويره أو حتى تصوّره، وأن الأولياء الذين لا ظل لهم لا تجوز رؤيتهم إلا عبر مرآة عاكسة في أحسن الأحوال. يا لعماء تلك العدسات التي لم تلتفت لدم طازج ينكتب به التاريخ، وظلت تحلم بالتقاط صورة للوليين الصالحين وهما يتصافحان أو يتفاوضان على تقليل منسوب الدم أو إمحائه إن أمكن من ذاكرة المقهورين.
أحدث شيء من هذا!؟ لا أظن، يا مظّفر، وإلا كيف يحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه!؟
________________________________________
e-mail:[email protected]
شبكة البصرة
الجمعة 3 شعبان 1425 / 17 أيلول 2004