الرد على الكاتب في مقالته الآثار السلبية للانتظار وللقول بإمامة الثاني عشر
أ ـ
ادعى الكاتب ان معنى الانتظار للامام المستتر الغائب عند الامامية هو تحريم العمل السياسي وتحريم السعي لإقامة الدولة الاسلامية في عصر الغيبة، واعترض على النواب الاربعة بعدم العمل والنشاط السياسي، بل ادعى ان من لوازم الايمان بوجود الامام المعصوم حرمة اقامة الدولة الاسلامية في غيبته.
والذي تخيله ونسبه للامامية أراجيفاً وزوراً كعادته فيما ينسبه أو حاول فهمه من كلمات علماءهم مع عدم إلمامه بالمصطلحات والبحوث العلمية!!.
فإن الانتظار عند الامامية معناه هو الاعتقاد بان الامام الثاني الحي المستتر لابد من ظهوره ليملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، كما بشّر بذلك النبي (ص) في روايات الفريقين المتواترة، لا أن الانتظار عندهم بمعنى توقف حركة المؤمن عن اداء الوظائف الشرعية والمسؤوليات الدينية الملقاة على عاتقه وعلى عاتق عموم المؤمنين.
فليس الانتظار يساوي التوقف والجمود والتسيب بل الاعتقاد بالفرج الإلهي بظهور المصلح الاعظم لكل تاريخ البشرية كما وعد بذلك القرآن في الآيات التي أشرنا اليها سابقا واشار اليها الشيخ الاصفي في مقالته التي تقدم عرضها في ساحة الحوار.
فعقيدة الانتظار بمعنى الاعتقاد بظهور المهدي من ذرية الرسول عقيدة كل المسلمين لا الامامية خاصة وان انكر الكاتب هذه الضرورة الاسلامية.
واذا تبين معنى الانتظار لدى الامامية فاي تلازم بين الاعتقاد بامامة الثاني عشر الحي وبين الجمود وتعطيل القوى، بل العكس هو الصحيح فإن الاعتقاد بوجود الامام الثاني عشر المعصوم الحي المراقب للاوضاع عن كثب وقرب مع ما يقوم به (ع) من وظائف إلهية عبر المنظومة السرية من الاوتاد والابدال والنجباء والسياح، وانه سيظهر للاصلاح الشامل لعموم ارجاء الكرة الارضية، هذا الاعتقاد باعث للأمل ومزيل لليأس من الاصلاح في الوضع السياسي والاجتماعي، ومحفز وموجب للشعور بالمسؤولية أكثر للاعتقاد بإن الارادة الالهية لم تلق الحبل على غاربه ولم تجعل البشرية سائبة، بل ارادة الربّ نافذة فيهم حاكمة.
ب ـ
ونسب الكاتب زوراً الى متكلمي الامامية القول بحرمة اقامة الدولة الاسلامية في عصر الغيبة وأنهم اصرّوا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي (عج).
ولا أدري لم يتعامى عن ما نقلته في الرد السابق الذي اشار الكاتب نفسه اليه من اقوال وفتاوى المفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم من مشروعية إقامة الحكم الاسلامي للفقيه المأذون من قبل الامام المعصوم، في الحكم بين الناس والقضاء بينهم واقامة الحدود والتعزيرات ووجوب إعانة المؤمنين له على ذلك.
وسبب الخبط لدى الكاتب ـ كعادته في المباحث التخصصية ـ هو خلطه بين مسألة اقامة الحكم والدولة الاسلامية نيابية عن المعصوم في عصر الغيبة وبين مسألة إمامة غير المعصوم، كإمامة دينية بديلة عن المعصوم وفي رتبته ودرجته من ناحية الصلاحيات الشرعية والقانونية والاعتقادية، فنقل كلمات علماء الامامية التي هي المسألة الثانية ـ التي هي مسألة اعتقادية بالدرجة الاولى وفقهية في الفقه السياسي بالدرجة الثانية ـ نقلها في المسألة الأولى التي هي فقهية بحتة وان اعتمدت على جذر اعتقادي، وبعبارة أخرى.
أن المسالة الاولى طابعها فقهي في أقامة الحكم الاسلامي كوظيفة عامة شرعية في فروع الدين.
والمسألة الثانية طابعها كلامي اعتقادي كوظيفة اعتقادية من أصول الدين.
وبعبارة ثالثة أذكرها كي لا يلتبس الحال على الكاتب في مثل هذه المباحث التخصصية التي تحتاج الى مؤونة عمق علمي إذ هي من أمّ المباحث الاعتقادية وأمّ المباحث الفقهية في باب الفقه السياسي.
إن المسألة الاولى هي بناء النظام السياسي كفعل جارحي تدبيري.
والمسألة الثانية هي في كون الامامة سفارة إلهية ووساطة بين الله وخلقه ليست من نمط النبوة بل تابعة لها ووصاية إلهية وخلافة عهدية من الله تعالى. أحد شؤونها وشعبها إدارة الحكم في النظام السياسي الاجتماعي، فارجو أن قد اتضح الفرق لدى الكاتب بين المسألتين فلا يعاود الخلط بينهما، ويحصل اجترار للكلام والحوار حول هذه النقطة،
انبه الكاتب إلى مسائل أخرى من ذيول المسألة الاولى ذكرها علماء الامامية كمسألة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الاجتماعي والسياسي من اقامة الحدود والقضاء والتعزيرات والامور الحسبية العامة ذكروها في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكروا ان إقامتها في عصر الغيبة موكول للفقيه الجامع للشرائط المأذون من المعصوم الغائب المستتر نيابة عنه كما دلت على الاذن الروايات المعتبرة، ومن الواضح أن القضاء أحد الاجنحة الثلاثة لجسم الدولة والنظام السياسي او اقامة الحدود والتعزيرات يمثل وزراة الداخلية والامن العام في الدولة، مضافا الى تبعية وزارة أخرى للقضاء في اصطلاح الفقهاء كوزارة الاحوال الشخصية والاوقاف ونحوها وكمسألة أن الجهاد الدفاعي تحت رعاية وصلاحية الفقيه المأذون عن المعصوم، هذه المسألة بمثابة وزارة الدفاع فما الذي بقي من أجهزة الحكم والنظام السياسي غير سائغ عند علماء الامامية في عصر الغيبة نيابة عن المعصوم، وكمسألة تولي ولاية عن السلطان الجائر كوزير أوقاضي أو والي في منطقة ونحو ذلك وقد سوّغه علماء الإمامية، تحت مجوّز قانوني وهو إذن المعصوم (ع) الذي دلّت عليه روايات معتبرة، شريطة مطابقة العمل الذي يقوم به للموازين الشرعية، وهذه المسألة نحو من المشاركة السياسية للفقيه في الحكم والنظام السياسي وقد ذكرها كافة علماء الشيعة من المتقدمين الى عصرنا الحاضر، كما هو الحال في المسائل السابقة أيضاً الا قليل او نادر.
وإليك قائمة بكلمات المتكلمين وفقهاء الامامية في المسألة الاولى وذيولها من المسائل الاخرى التي اشرنا اليها:
1 ـ قال الصدوق في كتاب المقنع ((باب الدخول في أعمال السلطان)) ثم روى روايات عديدة عن الائمة المعصومين (ع) متضمنة لإذنهم في المشاركة في الحكم والنظام السياسي مع القوى الاخرى الحاكمة غير الشرعية، شريطة اتباع الموازين الشرعية في القيام بمهام الحكم.
2 ـ قال المفيد في كتابه اوائل المقالات فصل: القول في معاونة الظالمين والأعمال من قبلهم…، وإن معاونة الظالمين على الحق وتناول الواجب لهم جائز وأحوال واجب وأما معونتهم على الظلم والعدوان فمحظور لا يجوز مع الاختيار. وأما التصرف في الاعمال: فإنه لا يجوز الا لمن اذن له امام الزمان، وعلى ما يشترط عليه في الفعال، وذلك خاص لأهل الامامة دون من سواهم…
وقال المفيد في كتاب المقنعة باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر… فاما اقامة الحدود فهو الى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم ائمة الهدى من آل محمد (ع) أو من نصبوه لذلك من الامراء والحكام. وقد فوضوا النظر فيه الى فقهاء شيعتهم مع الامكان. فمن تمكن من اقامتها… وكذلك ان استطاع اقامة الحدود على من يليه من قومه فقد لزمه اقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم وليجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم. وهذا فرض متعين على من نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له أو الامارة من قبله على قوم من رعيته، فيلزمه اقامة الحدود وتنفيذ الاحكام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار، ويجب على اخوانه المؤمنين معاونته على ذلك اذا استعان بهم، فلاحظ بقية عبارته في كتاب المقنعة ـ حيث فصل فيها مبسوطاً كيفية مشاركة الفقيه القوى الاخرى غير الشرعية في الحكم في الصور والفروض المختلفة.
3 ـ قال الشريف المرتضى في كتاب رسائل الشريف المرتضى مسألة في الولاية من قبل السلطان الجائر… الكلام في الولاية من قبل المتغلب وهي على ضروب واجب ـ وربما تجاوز الواجب الى الالجاء ـ ومباح وقبيح ومحظور، فاما الواجب: فهو ان يعلم المتولى أو يغلب على ظنه بامارات لائحة انه يتمكن بالولاية من اقامته الحق ودفع باطل وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولولا هذه الولاية لم يتم شيء من ذلك فيجب عليه الولاية لوجوب ما هي سبب اليه وذريعة الى الظفر به… فلاحظ تمام كلامه.. فترى انه يفتى بوجوب اقامة الحكم الاسلامي مع القدرة على اتباع الموازين الشرعية.
4 ـ قال الشيخ الطوسي في كتاب النهاية فأمّا اقامة الحدود فليس يجوز لأحد اقامتها الا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى أو من نصبه الامام لاقامتها… وقد رخص في حال قصور أيدي ائمة الحق وتغلب الظالمين.. ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه اقامة الحدود جاز له ان يقيمها عليهم على الكمال ويعتقد انه انما يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك…
ثم بسط الكلام في ذلك في الفروض والصور المختلفة فتراه يوجب اقامة الحكم الاسلامي نيابة عن المعصوم في عصر الغيبة مع التمكن.
5ـ قال ابن براج في كتاب المهذب باب خدمة السلطان… وأما السلطان الجائر فلا يجوز لأحد أن يتولى شيئا من الامور من قبله لا أن يعلم أو يغلب على ظنه انه اذا تولى ولاية من جهته تمكن من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر… ثم بسط الكلام في ذلك.
6 ـ قال ابو حمزة الديلمي في كتاب المراسم (المتوفى 448) في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (اقامة الحدود… فأما القتل والجراح في الانكار فإلى السلطان أو من يأمره السلطان فان تعذر الامر لمانع، فقد فوّضوا عليهم السلام الى الفقهاء اقامة الحدود والاحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا ولا يتجاوزوا حدا، وامروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك).
قال ابن ادريس الحلي في كتاب السرائر في باب الامر بالمروف والنهي عن المنكر وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضا الا لمن أذن له سلطان الحق في ذلك، وقد فوضوا ذلك الى فقهاء شيعتهم المأمونين المحصلين الباحثين عن مآخذ الشريعة الديانين القيمين بذلك.
7ـ قال المحقق الحلي في الشرائع: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الامام كما لهم الحكم بين الناس مع الامن من ضرر سلطان الوقت ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك. ولا يجوز ان يتعرض لاقامة الحدود ولا للحكم بين الناس الا عارف بالاحكام مطلع على مآخذها عارف بكيفية ايقاعها على الوجوه الشرعية.
8 ـ قال العلامة الحلي في كتابه ارشاد الاذهان: كتاب الامر بالعروف والنهي عن المنكر والفقيه الجامع لشرائط الافتاء وهي العدالة والمعرفة بالاحكام الشرعية ادلتها التفصيلية . اقامتها، والحكم بين الناس بمذهب اهل الحق ويجب على الناس مساعدته على ذلك.
9ـ قال الشهيد في الدروس في كتاب الحسبة: والحدود والتعزيرات الى الامام ونائبه ولو عموما فيجوز حال الغيبة للفقيه الموصوف بما يأتى في القضاء إقامتها مع المكنة، ويجب على العامة تقويته ومنع المتغلب عليه مع الامكان ويجب عليه الافتاء مع الأمن، وعلى العامة المصير إليه والترافع في الاحكام.
10ـ ونظيره قال الشهيد الثاني في المسائل في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
11ـ ونظيره قال المحقق الركي في جامع المقاصد في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
12ـ وغيرهم من فقهاء الشيعة في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وغيرهم من علماء الامامية فكل هذه التصريحات ارجو أن تصكّ أذن الكاتب كي لا يفتري على طائفة اسلامية كبيرة بالزور، فهم يرون وجوب الحكم الاسلامي في عصر الغيبة نيابة عن المعصوم سواء بالمشاركة مع القوى الاخرى أو بنحو الانفراد والاستقلال مع التمكن من ذلك. وأما مع عدم القدرة من ذلك فاللازم التقية وهي بمعنى العمل التكتيكي المرحلي في جو الإرهاب السلطوي كي لا تمكنّ السلطة الظالمة من استئصال المؤمنين.
فالتقية عند الامامية خطة عمل تحت الستار والخفاء عن السطح كي لا تبيدهم سلطات الجور، لا بالمعنى السلبي الجمودي التعطيلي للقوى والمسؤوليات الاجتماعية السياسية.
ج ـ
اتضح مما تقدم ان ما نقله الكاتب من كلمات علماء الامامية انما هي في المسألة الثانية الاعتقادية في الامامة كسفارة إلهية أحد شؤونها الحكم السياسي، وأن الكاتب اشتبه عليه مصطلح الامامة الذي هو في المسألة الثانية مع مصطلح القيادة في تدبير الحكم السياسي ولو نيابة عن المعصوم في المسألة الاولى وحيث أن أهل السنة يعبرون في المسألة الاولى بالامامة، وقع الخلط بسبب ذلك ولا يؤاخذ الجاهل بالاصلاح لكن يؤاخذ بتقحمه ما لا خبرة له فيه.
كما أن ما ذكره من روايات وعبائر للشيخ النعماني والصدوق وغيرهم من علماء الامامية من لزوم التقية حتى خروج المهدي (عج) بعضها في مورد المسائل الثانية التي عرفت انها اعتقادية يترتب عليها مسألة فقهية في الحكم السياسي وبعضها في صدد بيان للتقية كتكتيك مرحلي في اسلوب العمل السياسي والفردي، وبعضها في ثواب الصبر والاستقامة على العقيدة في ظروف الظلم والقهر، لا بمعنى الجمود والتوقف عن حركة النشاط، وبعضها في صدد تحذير الشيعة عن الحركات الثورية الفاشلة تخطيطا في عصر الائمة (ع) وبعضها في النهي عن البيعة لغير المعصوم، بمنطق إيجاد البيعة لشرعية حكم الذي بويع من دون إذن المعصوم (ع).
د ـ
إن مرجعية فقهاء الشيعة لم تنقطع منذ عهد الباقر والصادق (ع) واستمرت الى الغيبة الصغرى والكبرى الى عصرنا الحاضر كما اشرنا إلى ما في رجال الكشي والنجاشي وكتاب القضاء من كتاب الوسائل المتضمن للشواهد التاريخية على ذلك، والمرجعية الشيعية حسب أدبيات السياسة الاكاديمية في العصر الحديث التي أجرت البحوث التعليلية حول المرجعية الشيعية أنها حكومة بما للحكومة من معنى واجزاء وفقرات غاية الأمر ليست هي حكومة علنية رسمية، لكنها حكومة في المنفى أو حكومة تحت الستار البارد، فهي تمارس القضاء (القوى القضائية في الدولة) والأمن والجهاد (وزارة الدفاع) والتبليغ والدعوى الدينية (وزارة الثقافة) وتوزيع الحقوق الشرعية في المصارف المقررة لها (وزارة المالية) والتدريس الديني لطلاب العلوم الدينية ولعامة الناس (وزارة التعليم) وغير ذلك من انشطة الدولة، كما ان المرجعية الشيعية لا تعرف الحدود الجغرافية بل تتسع رقعتها بحسب التواجد الشيعي في أقطار العالم.
والاقتصار في تصوير الحكومة في النظام السياسي في المجتمع على الحكومة الرسمية جهل بألف باء على السياسية وبالأدبيات السياسية العلمية فانه من المقرر في الادبيات السياسية في هذا العصر أن كل قوة ذات نفوذ اجتماعي تمارس نفوذها على التيار التابع لها من الناس هي شكل من اشكال الحكومة في النظام السياسي الاجتماعي، ومن ثمّ لا تحكم الدول والبلدان في شتى اقطار العالم حكومة واحدة التي هي الرسمية في القطر الواحد، وانما هناك توازن قوى بين حكومات متعددة على القطر الارضي الواحد، ولا أرى هذه المرة إلا وقد غفل وجهل مثل هذه البحوث التعليلية التخصصية.
------------------
البحراني
|