ثم أصبَحَ الشيعةُ يعتمِدون على ما وضَعوهُ واختلَقوهُ، مع المبالَغةِ والتهويلِ، يشنِّعون بذلك على مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه فاصِلينَ بين الأسبابِ والنتائج.
2- خروجُ حُجْرِ بنِ عَدِيٍّ الذي تَحتَجُّ به الشِّيعةُ على الطعنِ في مُعاوِيةَ، إنما كان بتأليبٍ مِن الشِّيعة:
فقد كان حُجْرُ بنُ عَدِيٍّ الكِنْديُّ مِن كبارِ التابِعينَ على الصحيح، وقيل: إنه صحابيٌّ، وكان مِن السادةِ العُبَّادِ الصالِحين، وهو أحدُ أمراءِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه يومَ صِفِّينَ، ثم بايَعَ للحسَنِ، وكان مِن المعارِضينَ لصُلحِهِ مع مُعاوِيةَ، ثم بايَعَ لمُعاوِيةَ، وبَقِيَ في طاعتِهِ عَشْرَ سنواتٍ، وكان شديدًا في الإنكارِ على الوُلاةِ عَلانِيةً؛ قولًا وفعلًا، ورُوِيَ عنه: أنه كان يَفعَلُ ذلك مع المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ، الذي كان يحلُمُ ويسكُتُ عنه، ثم تُوُفِّيَ المُغيرةُ، وتولَّى الكوفةَ بعده زيادٌ - وقد كان مِثلَ حُجْرٍ مِن أمراءِ عليٍّ - وبَقِيَ حُجْرٌ على طريقتِه، فحذَّره زيادٌ، فلم يتغيَّرِ الوضعُ، واجتمَعَ بعضُ الشِّيعةِ على حُجْرٍ، فتكلَّم زيادٌ يومًا على المِنبَرِ، فقال: إن مِن حقِّ أميرِ المؤمِنينَ كذا، مِرارًا، فأخَذَ حُجْرٌ كفًّا مِن حَصًا، فحصَبَهُ، وقال: كذَبْتَ، كذَبْتَ، عليكَ لَعْنةُ الله، فانحدَرَ زيادٌ مِن المِنبَرِ وصلَّى، ثم دخَلَ دارَهُ، واستَدْعَى حُجْرًا فأبى، فلم يَزَلْ به حتى قَدِمَ، وأرسَلهُ مقيَّدًا مع جماعةٍ مِن أصحابِهِ إلى مُعاوِيةَ، وأتبَعَهُ زيادٌ برسائلَ سبَقَتْهُ إلى مُعاوِيةَ: «إنْ كان لك في الكوفةِ حاجةٌ، فاكْفِني حُجْرًا»، وجعَلَ يَرفَعُ الكُتُبَ إلى مُعاوِيةَ حتى ألْهَفَهُ عليه، فلما وصَلَ حُجْرٌ، قال: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمِنين، قال مُعاوِيةُ مغضَبًا: أَوَأَمِيرُ المؤمِنينَ أنا؟! قال: نَعَمْ، ثلاثًا، وكان مُعاوِيةُ قد استشار وجوهَ أصحابِهِ في القادِمين، فأشار بعضُهم بالقتلِ، وسكَت بعضُهم مصرِّحًا بطاعتِهِ لِمَا سيحكُمُ به مُعاوِيةُ، ثم كان حُكمُهُ فيهم أنْ قتَلَ بعضَهم؛ وفيهم حُجْرٌ، واستبقى بعضَهم، ولم يخالِفْهُ مَن حوله، وقال حُجْرٌ قبل أن تُضرَبَ عُنُقُهُ: «دَعُوني أُصَلِّي رَكْعَتَيْن»، ثم قال: «لا تَحُلُّوا قيودي، ولا تَغسِلوا عنِّي الدمَ؛ فإني أجتمِعُ أنا ومُعاوِيةُ إذَنْ على المَحَجَّة»، وكان مَقتَلُهُ بمَرْجِ عَذْراءَ (واسمُها اليومَ: عَدْرا)، قُربَ دِمَشقَ سنةَ إحدى وخمسين. ينظر: «بغيةُ الطلَب» لابن العَدِيم (5/ 2119)، و«مختصَرُ تاريخ دِمَشقَ» لابن منظور (6/ 238).
وروَى الطبَرانيُّ في «المعجَمِ الكبير» (3/70 رقم 2691)، عن ابنِ عُيَينةَ، عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأصمِّ، عن عمِّه يَزيدَ بنِ الأصمِّ، قال: خرَجْتُ مع الحَسَنِ (يعني: ابنَ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهما)، وجاريةٌ تَحُتُّ شيئًا مِن الحِنَّاءِ عن أظفارِه، فجاءَتْهُ إِضْبارةٌ مِن كُتُبٍ، فقال: يا جارِيةُ، هاتي المِخْضَبَ، فصَبَّ عليه ماءً، وأَلْقى الكُتُبَ في الماء، فلم يَفتَحْ منها شيئًا، ولم ينظُرْ إليه، فقلتُ: يا أبا محمَّدٍ، ممَّن هذه الكتُبُ؟ قال: مِن أهلِ العِراقِ، مِن قومٍ لا يَرجِعون إلى حقٍّ، ولا يقصُرون عن باطلٍ، أَمَا إنِّي لستُ أَخْشاهم على نَفْسي، ولكنِّي أَخْشاهم على ذلك، وأشار إلى الحُسَين»، قال الهَيثَميُّ في «المَجمَع» (6/243): «ورجالُهُ رجالُ الصحيح، غيرَ عبدِ اللهِ بنِ الحَكَمِ بنِ أبي زيادٍ؛ وهو ثِقةٌ».
ومِن هذا الخبَرِ يتبيَّنُ: أن الشِّيعةَ كانوا يَسعَوْنَ للفتنةِ، ويزيِّنون الخروجَ للحسَنِ رضيَ اللهُ عنه، وأنه كان يَعلَمُ منهم ذلك، ويَحذَرُهم، ويَخافُ منهم على أخيهِ الحُسَين، وقد حصَلَ ما كان يَخْشاهُ؛ فأخرَجوا الحُسَينَ، ثم خَذَلوهُ وأَسْلَموه، فكانوا السبَبَ المباشِرَ لاستشهادِهِ رضيَ اللهُ عنه.
كذلك: كان الأمرُ مع حُجْرٍ رحمه الله؛ فقد كانت الشِّيعةُ قد يَئِسَتْ مِن إخراجِ الحسَنِ رضيَ اللهُ عنه، وكان وجودُهُ كفيلًا برَدْعِ هؤلاءِ المتربِّصينَ للخروج، فلما مات، اجتمَعوا على حُجْرٍ، وصاروا يحرِّضونه، وقالوا له: «أنتَ شيخُنا، وأحقُّ الناسِ بإنكارِ هذا الأمر». ينظر: «أنسابُ الأشراف» للبلاذُريّ (5/ 247).
ومما يؤكِّدُ دَوْرَ أولئك الشِّيعةِ في التحريض، وأنهم ما أرادوا بذلك إلا الخروجَ على الجماعةِ وقتالَهم: ما رواهُ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ - ومِن طريقِهِ ابنُ عساكِرَ (12/220)، وابنُ العَدِيمِ في «بغيةِ الطلَب» (5/2124) - عن إسماعيلَ بنِ عيَّاشٍ: «أنه سأل شُرَحْبِيلَ بنَ مسلِمٍ، عن أصحابِ حُجْرٍ: ما كان شأنُهم؟ قال: وجَدُوا كتابًا لهم إلى أبي بِلالٍ: إن محمَّدًا وأصحابَهُ قاتَلوا على التنزيل، فقاتِلوهم أنتم على التأويل».
3- بيَّن مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه عُذرَهُ في قتلِ حُجْرٍ:
حيثُ أخرَجَ ابنُ عساكِرَ في «تاريخِهِ» (12/230)، بسندِهِ إلى ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: «عن مُعاوِيةَ: جاء يستأذِنُ على عائشةَ، فأبَتْ أن تأذَنَ له، فخرَجَ غُلامٌ لها يقالُ له: ذَكْوانُ، قال: وَيْحَكَ! أَدخِلْني على عائشةَ؛ فإنها قد غَضِبَتْ عليَّ، فلم يَزَلْ بها غُلامُها حتى أَذِنَتْ له، وكان أطوَعَ منِّي عندها، فلما دخَلَ عليها، قال: أُمَّتَاهْ! فيما وجَدتِّ عَلَيَّ يَرحَمُكِ الله؟ قالت: وجَدتُّ عليكَ في شأنِ حُجْرٍ وأصحابِهِ: أنك قتَلْتَهم، فقال لها: وأما حُجْرٌ وأصحابُهُ، فإنني تَخَوَّفتُ أمرًا، وخَشِيتُ فِتْنةً تكونُ، تُهَراقُ فيها الدماءُ، وتُستحَلُّ فيها المَحارِمُ، وأنتِ تخافيني، دَعِيني، واللهُ يَفعَلُ بي ما يشاءُ، قالت: ترَكْتُكَ واللهِ، ترَكْتُكَ واللهِ، ترَكْتُكَ واللهِ».
وأخرَجَ ابنُ عساكِرَ في «تاريخِهِ» (12/229): «لما قَدِمَ مُعاوِيةُ، دخَلَ على عائشةَ، فقالت: أقتَلْتَ حُجْرًا؟! قال: يا أمَّ المؤمِنينَ، إنِّي وجَدتُّ قَتْلَ رجُلٍ في صلاحِ الناسِ خيرًا مِنِ استحيائِهِ في فسادِهم». وأخرَجَ الحاكمُ (3/ 469 رقم 5980)، عن أبي زُرْعةَ بنِ عَمْرِو بنِ جَريرٍ، قال: «مَا وَفَدَ جَرِيرٌ قَطُّ إِلَّا وَفَدتُّ مَعَهُ، وَمَا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ إِلَّا دَخَلْتُ مَعَهُ، وَمَا دَخَلْنَا مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَّا ذَكَرَ قَتْلَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ».