اغتيال القاضي أحمد كسروي كان أحد مظاهر الإيذاء الذي تعرض ويتعرض له أهل السنة في إيران، خاصة وأن الشيخ كان شيعياً وهداه الله إلى مذهب أهل السنة، وألفّ كتاباً في نقد عقيدة الرافضة، فكانت النتيجة أن توجهت إليه رصاصات الغدر سنة 1946م.
ولد الشيخ أحمد مير قاسم الكسروي في تبريز، عاصمة اذربيجان، أحد أقاليم إيران، وتلقى تعليمه في إيران، وعمل أستاذاً في جامعة طهران، وتولى مناصب قضائية عديدة، منها منصب المدعي العام في طهران.
وكان يعمل محرراً لصحيفة "برجم" الإيرانية، وكان يجيد عدة لغات منها العربية، وله مؤلفات كثيرة، ومقالات منتشرة في الصحف الإيرانية. وكانت مقالاته القوية التي يهاجم بها أصول المذهب الشيعي قد جذبت نظر بعض المثقفين والجمعيات العاملة في البلاد إليه، وأقبل عليه الناس، لاسيما الشباب، وقام الآلاف بنصرته، وبث آرائه ونشر كتبه.
ووصلت آراؤه بعض الأقطار العربية، ومنها الكويت، حيث طلب بعض المواطنين هناك من الشيخ كسروي تأليف كتب بالعربية ليستفيدوا منها، فكتب كتاب (الشيعة والتشيع)([1]) وأوضح فيه بطلان المذهب الشيعي، وأن خلاف الشيعة مع المسلمين إنما سببه التعصب، وما إن أتم كتابه هذا حتى ضرب بالرصاص من قبل مجموعة من الشيعة الروافض من جماعة "فدائيان إسلام" أي فدائيو الإسلام ([2]).
فدخل المستشفى، وأجريت له عملية جراحية، وتم شفاؤه. وعن هذه المحاولة الفاشلة لاغتيال كسروي، يقول نواب صفوي في مقابلة كان قد أجراها معه الصحفي المصري موسى صبري، ونشرتها صحيفة الأنباء الكويتية بتاريخ 16/6/1990: "إن الكسروي كان هتّاكاً للإسلام والمسلمين فيما يكتب (أي انتقاده للشيعة)، ولذلك أردت أن أقتله بيدي شرعاً وديناً وغيرة وحمية، فواجهته يوماً في الطريق العام، وكان معي أخ لي وكان معه أربعة عشر عوناً له يسمون الجماعة الحربية، وكان معي مسدس صغير، فضربته بمسدس، ولكن المسدس لم يؤثر أثراً تاماً".
ويضيف المجرم صفوي مؤكداً إصراره على قتل الشيخ كسروي: "واستمرت الحرب بيننا في الشارع ثلاث ساعات ولكنه لم يمت، وأردت أنا أن أنتهي من قتله حتى أقتل بيد الحكومة في سبيل الله، فضربته بعد المسدس بما أتى في يدي، وفرت جماعته وهربوا، وبقي الكسروي بيننا والناس مجتمعون. وبعد أن ظننت أنه مات أو سيموت عاجلاً وقفت إلى جوار جثمانه وألقيت الكلمة في الناس، فحبسنا في السجن بطهران ونشرت القضية في الجرائد، وكنت أدعو الله في السجن أن يميته بما ضربته ويرزقنا الشهادة في سبيله أجراً، وكان الكسروي مريضاً محتضراً في بعض أوقاته في المستشفى ولم يمت وما عرفت تدبير الله في هذا".
لم يكن فشل هذه المحاولة ليردع نواب صفوي وأتباعه عن غيّهم، إذ أنهم أخذوا يهاجمون الكسروي، ويتهمونه بمخالفة الإسلام، ورفعوا ضده شكوى إلى وزارة العدل، ودعي الشيخ كسروي للتحقيق، وبهذا الصدد يقول المجرم نواب صفوي: "ثم أخرجت من السجن، وشكلت جماعة متهيئين لإراقة دمائهم في سبيل الإسلام، وأعلنت هذا، فانكشفت الجرائد التي كانت تحمي دعايات كسروي المضللة، وخافوا منّا ولم يكتبوا بعد شيئاً من سوء سريرتهم.. وبعد ثلاثة أشهر خرج الكسروي من المستشفى وواجهته يوماً في دائرة المحكمة العسكرية التي دعتنا للمحاكمة فرأيت أن ليس بيدي سلاح حتى أقتله وكان هناك جندي بيده بندقية... فأخذتها ولكنني لم أجد أمامي أحدا. لقد خاف الجند وخاف القضاة.. وشرد جميع من في المحكمة، وتعطلت جلسة محكمتنا، وخرجت من المحكمة، ولم أجب دعوة القضاء بعد ذلك..!".
ورغم أن هذه المحاولة فشلت أيضا، ألاّ أن صفوي ظل حريصاً على قتل الشيخ كسروي، وعلى التحريض عليه، إذ أنه يقول: "... فقد جمعت توقيعات الآلاف بأنه يجب على الحكومة أن تأتي بالكسروي إلى إدارة العدل في المحكمة الشرعية فيحاكم هناك لكفره بدين الله! وقد أجابتني الحكومة على ما طلبت، وتحدد موعد المحاكمة: وكنت قد عقدت العزم في ذلك اليوم على قتله، لأن هذا هو جزاؤه الوحيد، فذهب تسعة من إخواني المندوبين لقتله في المحكمة، وقتلوه، وقتلوا تابعه وحارسه، وشرد الجنود وشرد القضاة، وشرد الناس وقد كانوا ثلاثة آلاف لشهود محاكمته وعاد مندوبونا من غير مزاحم"!
إن عملية الاغتيال هذه يجب أن يوضع حولها العديد من التساؤلات، فكيف استطاع تسعة أشخاص تنفيذ هذه الجريمة بحضور ثلاثة آلاف شخص، خاصة وأن نواب صفوي حاول قبل ذلك قتل الشيخ كسروي في المحكمة كما اعترف هو بذلك.
كان للشيعة من أنصار "فدائيان إسلام" ما أرادوا، فلقد قتلوا الشيخ أحمد الكسروي في 11 آذار/ مارس 1946، بسبب كشفه ما في مذهب الشيعة الروافض من أباطيل، حيث كان رحمه الله أحد معتنقي التشيع إلى أن هداه الله إلى مذهب أهل السنة والجماعة، لكن معركة هؤلاء القوم، وإن كانت انتهت مع الكسروي، إلاّ أنها لم تنته مع كتاباته وأفكاره وأتباعه، فها هو المرجع الشيعي الكبير ميرزا حسن الإحقاقي يدعو في كتابه "نامه شيعيان" والمترجم إلى العربية بعنوان "الإيمان" إلى عدم الاكتفاء بقتل كسروي، وضرورة الرد على ما كتبه، حيث يقول الإحقاقي:
"إن كسروياً وبعد أن واجه الحكم والنتيجة المتأتيين من أقواله وأفعاله الشائنة، خال البعض أن هدفه المخزي صار إلى التلاشي والزوال حيث ظنوا أن ظهور اسمه وكتاباته مرة أخرى لا تثمران عن شيء، ولكن على العكس من ذلك، فإن الرد على أقواله وتسليط الضوء على مَكرِه وخداعه واجب على كل واحد في جميع الظروف..".
إن الشيعة قد هالهم أن يكون أتباع الكسروي من المثقفين وطلبة العلم، فالإحقاقي يقول لابنه ـ كما جاء في كتاب الإيمان ـ : "لايتملكنك العجب وتتوقع من أتباعه أكثر من هذا، إذ أن أكثر الشبان الذين يسيرون وراء كسروي رغم كونهم في عداد طلاب العلم في المملكة لكنهم وفي نفس الوقت لم يلموا بشيء".
وغير بعيد عن كلام الإحقاقي ورأيه في كسروي، كان الخميني بعد عودته من فرنسا سنة 1979 يلعن كسروي في أول محاضرة له في مقبرة طهران، فحقده وتعصبه هو الآخر لمذهبه الشيعي، لم يجعله ينسى رجلاً مظلوماً قتل قبل عشرات السنين.
وإذا كان إعدام نواب صفوي وعدد من زملائه سنة 1956، بعد عشر سنوات من ارتكابهم لجريمة اغتيال كسروي قد ساهم في إنهاء هذه الجماعة الإرهابية، إلاّ أن نجاح الثورة الإيرانية في فبراير/ شباط 1979، أعاد الأمل إلى هذه الأفكار المتطرفة، فسرعان ما عاودت الجماعة ظهورها، وتحديداً في أيار/ مايو من نفس العام، باسم "حراس الثورة" الذين ارتكبوا من الجرائم ما يندى له الجبين، ووضع الحراس أنفسهم تحت تصرف الخميني ، واختاروا صادق خلخالي رئيس المحاكم الثورية الإيرانية سيئة السمعة رئيساً لهم.
وعلى الرغم من أن جريمة الاغتيال هذه مرّ عليها خمسة عقود، إلاّ أن جرائم كثيرة ارتكبها أتباع صفوي الشيعة المؤمنين بأفكاره بحق أهل السنة في إيران، فقد قتل وسجن وشرد الكثير من علماء السنة وشبابهم وعلى رأسهم الشيخ أحمد مفتي زاده والشيخ محمد علي ضيائي.
وثمة أمر لابد من التوقف عنده، وهو العلاقة الوطيدة التي كانت تربط نواب صفوي، بقيادات جماعة الإخوان المسلمين، إذ أن صفوي كان يرى ضرورة التنسيق مع الإخوان، والاستفادة من إمكانياتهم للقيام بحركة ضد نظام الشاه، وبالمقابل كان الإخوان ينظرون إلى صفوي من زاوية مقاومته لنظام الشاه، دون النظر إلى تزمته وتشدده في مذهبه، وقتله للشيخ كسروي وغيره من السنة.
وقد زار صفوي القاهرة في يناير/ كانون الثاني سنة 1954، والتقى قيادة الجماعة التي استقبلته بحرارة بالغة، وكان المتحدث الرئيسي في لقاء جماهيري نظمته الجماعة في بجامعة القاهرة.
وزار صفوي سوريا كذلك، والتقى المراقب العام للإخوان المسلمين هناك الدكتور مصطفى السباعي، الذي اشتكى له من انضمام شباب الشيعة إلى الحركات العلمانية والقومية، فصعد نواب صفوي إلى أحد المنابر وقال أمام حشد من الشيعة والسنة: "من أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينظم إلى صفوف الإخوان المسلمين !".
وبلغ من تقدير جماعة الإخوان لصفوي أن يعتبر أحد قياداتهم السابقة، وهو التونسي راشد الغنوشي أن حركة نواب صفوي "الفدائية" في إيران كانت امتداداً لتفكير الإخوان.
وقد عبر الإخوان عن حزنهم لإعدام صفوي، وأرسلوا آلاف البرقيات التي تستنكر حكم الإعدام، وقد رثت مجلتهم الرسمية آنذاك (المسلمون) صفوي، ونقلت بعضاً من أقواله، وزيارته للقاهرة قبل إعدامه بعامين.
---------------------------------------
للاستزادة:
1ـ حتى لا ننخدع ـ عبدالله الموصلي ص169
2ـ التاريخ الإسلامي (المعاصر) إيران وأفغانستان ـ محمود شاكر ص179
3ـ التشيع والشيعة ـ الشيخ أحمد الكسروي
4ـ موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي وإيران وتركيا ـ د. أحمد الموصللي ص 330ـ 357
5ـ إيران والإخوان المسلمون ـ عباس خاميار ص 220
6ـ ويل للعرب:مغزى التقارب الإيراني مع الغرب والعرب-عبد المنعم شفيق ص24.
الراصد
[1] ـ صدرت في عام 1988م طبعة من الكتاب بتحقيق الشيخين ناصر القفاري وسلمان العودة.
[2] ـ فدائيان إسلام: حركة شيعية سرية ظهرت في منتصف الأربعينات من القرن الماضي في السياسة الإيرانية، على يد طالب مدرسة صغير هو نواب صفوي (1924ـ 1956). اتخذت هذه الجماعة الاغتيالات منهجاً لها، وأول مهمة نفذتها هي اغتيال الشيخ أحمد كسروي، ثم قتل وزير البلاط عبد الحسين هزير سنة 1949، وعدد آخر من رؤساء الحكومات والوزراء في عهد الشاه محمد رضا بهلوي. وإضافة إلى اغتيالها للمسؤولين، فقد جندت أنصارها لقتل المخالفين للمذهب الشيعي، ولمن ينشر أفكارهم ومقالاتهم. وبعد أن ضاقت الحكومة ذرعاً بهذه الجماعة، اعتقل نواب صفوي وسبعة من أعضائها، وصدر قرار بإعدام أربعة منهم (نواب صفوي، خليل طهماسبي، محمد واحدي، مظفر ذو القدر) ونفذ الحكم سنة 1956.
وبالرغم من أن أنصار هذه الجماعة، لم يشكلوا حزباً منظماً إلاّ أنهم مارسوا تأثيراً مهماً في الشارع، خاصة مع أتباعهم أسلوب الاغتيالات والتهديد. ورغم أن إعدام قادتها شكل نهاية لها، إلاّ أنها عاودت الظهور بعد نجاح ثورة الخميني سنة 1979،وسموا أنفسهم "حراس الثورة" وصار صادق خلخالي المعروف بجلاد الثورة أو قاضي المشانق زعيمهم.