نرى في كافة الثورات البارزة في التاريخ الإنساني أن كل ثورة احتوت عل اتجاهين فيما يخص نشر أفكارها خارج الحدود، وهما:
1- اتجاه بناء الدولة النموذج Model – State من خلال محاولة الوصول ببناء الدولة إلى مرحلة الكمال من وجهة نظر أيديولوجية الثورة بما يجذب تأييد شعوب أو قوى محيطة تكون مشاركة في خصائص معينة مع شعب الدولة الذي قامت فيه الثورة.
2- اتجاه تصدير الثورة وهو يناصر فكرة دور خارجي فعال للنظام الثوري في مساندة قوى تتبنى نفس أفكاره. وإحدى حجج هذا الاتجاه هي أن أفضل وسائل الدفاع هي الهجوم، فعندئذ يعتبر الدور الخارجي الفعال والمتدخل في شئون دول أخرى إجراء وقائيا يخدم كمقدمة لاحتواء أي هجوم على الثورة من القوى الإقليمية والدولية التي تعتبرها هذه الثورة معادية لها. والحالة الإيرانية ليست استثناء من هذه القاعدة، بل إن كون الثورة الإيرانية رفعت شعارات إسلامية أعطت مبررا إضافي لأنصار الاتجاه الثاني.
وقد تميزت الثورة الإيرانية منذ انتصارها في فبراير عام 1979بإعطاء صورة داخلية وخارجية تعكس مساراً داخلياً ودورا خارجيا شبيها بما ميز الحركتين الوهابية في القرن الثامن عشر، والمهدية في القرن التاسع عشر. وقد اعتبرت إيران تصدير الثورة ومساندة حركات المعارضة الراديكالية – خاصة ذات التوجه الإسلامي وبالذات الشيعية منها – في الدول المجاورة أسلوبا لهذا الهجوم الوقائي مستغلة البريق الأيديولوجي للثورة في سنواتها الأولى، كما هدفت من وراء ذلك إلى استخدام العامل الإسلامي الثوري كعامل توحيدي إقليمي في مواجهة العامل القومي العربي. فالوضع الأمثل لريادة إيران – إن لم نقل زعامتها – على المستوى الإقليمي هو نظام إقليمي إسلامي وليس قوميا عربيا. وبالتالي، توظف إيران دعمها للحركات الإسلامية خارج حدودها – حتى ولو كان معنويا وإعلاميا فقط – في علاقاتها مع الأطراف الإقليمية والدولية بما يخدم أهداف ومصالح سياستها الخارجية، ويلهي الحكومات المعادية لها عن محاولة التدخل في شئون إيران الداخلية واكتفائها بالحد من دور الجماعات الإسلامية لديها،وبما يحفظ الزخم الثوري في الداخل الإيراني.
ومنذ بداية انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، طالب التيار الداعي لتصدير الثورة باعتبار تصدير الثورة إحدى سبل حمايتها في الداخل، وبعدم الاكتفاء بالدعاية الخارجية للنموذج الإيراني بل بتقديم مساعدات ودعم لقوى سياسية خارج إيران، وخاصة القوى الراديكالية المعادية للنظم القائمة في العالم الإسلامي لإنشاء حكومات على النمط الإيراني، كما أن اعتبار الخميني للولايات المتحدة بأنها العدو الأول لإيران دفع الجمهورية الإسلامية الوليدة هناك منذ البداية لدعم جماعات عنف سياسي بالشرق الأوسط وتوجيهها بشكل خاص ضد المصالح الأمريكية لكسب نقاط في المواجهة مع الولايات المتحدة، وتجد ذلك خاصة إبان أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران.
وقد طالب الخميني منذ البداية بتكرار ثورة إيران في البلدان الإسلامية الأخرى، كخطوة أولى نحو التوحد مع إيران في دولة واحدة يكون مركزها إيران في المواجهة مع من أسماهم بأعداء الإسلام في الشرق والغرب. والتزم بتدمير من أسماهم بالأنظمة الفاسدة التي تقمع المسلمين واستبدالها بما اعتبره حكومات إسلامية. كما ربط بين تصدير الثورة وبين مواجهة الإمبريالية وتحرير فلسطين. ورأى للثورة الإيرانية دورا عالميا لمساندة المحرومين عبر العالم. واعتبر صراحة أن الدولة الإسلامية في إيران ستمثل قائداً للمستضعفين في الأرض وأكد ضرورة تصدير الثورة لكل مكان، لأن الإسلام يدافع عن الشعوب المستضعفة ولا يعترف بالحدود بين البلدان الإسلامية. وتعهد الخميني بتصدير الثورة الإيرانية إلى كافة أرجاء الأرض، بل وعد ذلك ضمن واجبات الثورة الإيرانية. وأضفى الخميني على رؤيته قدرا من الواقعية عندما ذكر أن عدم تصدير إيران لثورتها سيضعفها أمام أعدائها. إلا أن الخميني تحدث أحيانا عن تصدير الثورة الإيرانية من خلال المثال، وتعهد بعدم مهاجمة الدول الأخرى، بل بالدعوة والدعاية للثورة في الخارج عبر استخدام وسائل الإعلام وغيرها، بينما في مواضع أخرى حرض الشعوب والتنظيمات السياسية الإسلامية على إسقاط حكوماتها التي اعتبرها ضالعة في تنفيذ ما أسماه بمؤامرات الاستكبار العالمي. وفي بيان لاحق وجهه للطلاب الإيرانيين بالخارج، أعرب الخميني عن الأمل في انتشار ثورة إيران الإسلامية للعالم أجمع حتى تتشكل حكومة عالمية تحت زعامة الإمام المهدي الثاني عشر.
ومنذ الأيام الأولى لنجاح ثورة إيران في فبراير عام 1979، اعتبر آية الله طلقاني – أحد قادة الثورة – أن الثورة الإيرانية قد أيقظت العالم الإسلامي في مواجهة الاستعمار والإذلال واعتبر كل ثورة تقوم في أي بقعة من العالم الإسلامي ضد الاستبداد والامبريالية هي ثورة للمقهورين، وبما أن الإسلام دعا إلى نصرة المستضعفين في الأرض فهذا واجب الثورة الإيرانية لأنها الثورة الأم للمستضعفين ليس فقط في العالم الإسلامي،وإنما في العالم أجمع.
وقد اتفقت معظم الأدبيات الثورية الإيرانية عام 1979 على تصنيف حكام معظم البلدان الإسلامية – مثلهم مثل دول الغرب – بأنهم يمارسون ((الاستكبار)) ضد شعوبهم، وحث هذه الشعوب على التخلص من حكوماتها التي تخدم – حسب الرؤية الإيرانية – مصالح أعداء الإسلام. وركزت هذه الأدبيات على إبراز النموذج الإيراني بوصفه النموذج الثوري الإسلامي الوحيد، وبالتالي فهو ملزم بمساندة الحركات الإسلامية الراديكالية في بقية أنحاء العالم الإسلامي، مما يجعل تصدير الثورة واجبا دينيا وليس مجرد هدف سياسي يتمثل في جعل علاقات إيران الخارجية مع الشعوب وليس مع الدول، ويتطلب من إيران تقديم مساعدات مالية وعسكرية بالإضافة إلى التدريب العسكري والتلقين العقائدي لهذه الحركات، وعدم الاكتفاء بالدعاية الخارجية للثورة.
ولم يتوان مجلس الدفاع الأعلى في إيران في الدعوة إلى ثورة إسلامية عالمية تشكل جبهة إسلامية متحدة ضد إسرائيل في الولايات المتحدة وحلفائهما في المنطقة، ويكون قوامها الحركات الإسلامية المعارضة خاصة في العراق والسعودية ودول الخليج الأخرى.
وقد انعكست هذه الآراء في الدستور الإيراني. فقد حددت ديباجة الدستور الإيراني – ضمن أهداف الجمهورية الإسلامية – السعي مع الحركات الإسلامية والجماهيرية الأخرى لبناء الأمة العالمية، وإنقاذ المحرومين في كل مكان على الأرض.
كما أن الدستور أعطى الحرس الثوري والجيش في الجمهورية الإسلامية مهمة النضال من أجل توسيع حاكمية قانون الله في كافة أرجاء العالم. كما أكدت المادة الثالثة من الدستور الدعم المطلق لمستضعفي العالم كهدف من أهداف الجمهورية الإسلامية. وأشارت المادة 154 إلى التزام إيران العمل على إقامة حكومة الحق والعدل في أرجاء الأرض، وحماية الكفاح الشرعي للمستضعفين ضد المستكبرين في أي مكان في العالم.
بل إن الدستور الإيراني حدد من مهام الحرس الثوري نشر حاكمية الله في الأرض، وبناء مجتمع عالمي موحد يقوم عل النضال لتحرير المستضعفين في الأرض، كما وضع ضمن أهداف السياسة الخارجية الإيرانية دعم المستضعفين في الأرض وجهادهم المشروع. ولكن – وليعكس تباين وجهات النظر وتفاوتها داخل القيادة الإيرانية – أشار الدستور في مواقع أخرى إلى عدم تدخل إيران الثورة في الشئون الداخلية للدول الأخرى.
وقد جسد الحزب الجمهوري الإسلامي – الذي سيطر على الحكم في إيران منذ إقصاء الدكتور أبو الحسن بني صدر عن رئاسة الجمهورية في يونيو 1981حتى حل الحزب عقب نهاية الحرب مع العراق – نظرية تصدير الثورة. بل إن البعض اعتبر الخلاف بين الحزب وبين الدكتور أبو الحسن بني صدر أول رئيس لجمهورية إيران هو – في أحد أبعاده – خلاف بين المفهوم الوطني للإسلام وحركة الإسلام العالمية. فاعتبر الحزب نفسه – في برنامجه الأساسي- حزب المسلمين في كافة أنحاء العالم وليس في إيران وحدها، وذكر برنامجه أن عالمية الثورة الإسلامية ومبدأ تصدير الثورة وجهان لعملة واحدة، وبالتالي حدد مهمة إيران الثورة في إنقاذ المسلمين والبشرية بأجمعها. وقد برر الدكتور حسن آيات – أحد منظري الحزب – تدخل الثورة الإيرانية في شئون الدول الإسلامية الأخرى بأن على إيران نصرة المستضعفين في كل مكان حتى يتم ضمان استمرارية الثورة واتساع دائرة إشعاعها. وخلال مرحلة سيطرة الحزب على الحكم في إيران تبلور الصراع بين المكتبيين (الملتزمين عقائديا) وبين جماعة الحجتية الأكثر براجماتية وقربا من الغرب، خاصة حول دعم المكتبيين لتصدير الثورة خارج إيران. كما اعتبر الحزب النظم الملكية مناقضة لمنطق الثورة الإسلامية، وبالتالي يجب إسقاطها كنظم غير عادلة.
وهناك بعض الآراء التي ترى أنه رغم أن إيران لم تخلق المد الإسلامي، فإنها تساعد هذه الموجة وتوظفها – في عدة دول – لخدمة مصالحها دوليا وإقليميا، وتدفع الحركات الإسلامية الراديكالية هناك للتضحية مستخدمة مفاهيم ((الشهادة)) و ((لقاء الله)) و ((نصرة الإسلام)) وغيرها من الرموز الدينية. وقد استخدمت إيران المؤتمرات العالمية لأئمة الجمعة وأسابيع الوحدة الإسلامية، والاحتفالات السنوية بيوم القدس ومؤسستي الشهيد والمستضعفين، ومنظمة العلماء المجاهدين، كآليات لتعبئة رجال دين وكتاب ومفكرين وقياديين إسلاميين من كافة أنحاء العالم الإسلامي، لتلقينهم عقائديا والتأثير عليهم فكريا، بما يتفق مع أفكار الثورة الإيرانية ومصالح الجمهورية الإسلامية. كما وظفت الثورة الإيرانية اللجنة الدائمة للحج، ومكتب الدعوة الإسلامية كمؤسستين حكوميتين لتصدير فكر الثورة الإيرانية وتوسيع تأثيرها الخارجي. وقد جاءت تصريحات لعدة مسئولين إيرانيين لتؤكد أن إيران لن تأمن من مؤامرات الدول الكبرى إلا إذا حدثت ثورات مماثلة في العالم الإسلامي ووعدت بمساعدة كل حركات التحرير والحركات الإسلامية الراديكالية في أي مكان في العالم.
ورغم أن إيران أعلنت في عدة مناسبات أنها لن تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وأن وزارة الخارجية الإيرانية هي الجهة المعنية بممارسة السياسة الخارجية مع الدول الأخرى، إلا أن هناك منظمات ثورية إسلامية رسمية أو شبه رسمية أو – حتى – غير رسمية في إيران تزاول اتصالات مع تنظيمات إسلامية معارضة في بلدان إسلامية أخرى مما سبب في مراحل عدة توترا في العلاقات مع هذه الدول.
وعلى مستوى القيادات الإيرانية الأخرى، فإن رئيس الوزراء الإيراني السابق مير حسين موسوي كان يعتبر هدف السياسة الخارجية الإيرانية تحرير الإنسانية، وليس فقط العالم الإسلامي، إلا أنه عاد ليعلن أن إيران لا تنوي التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. إلا أن قيادات أخرى مثل وزير الداخلية السابق علي أكبر محتشمي، ورئيس البرلمان السابق مهدي كروبي، ونائب رئيس البرلمان الإيراني السابق حجة الإسلام خوئنها، أشاروا إلى تصدير الثورة خاصة إلى ما أسموه بالدول العميلة للشرق والغرب، خاصة الولايات المتحدة.
ومنذ البداية، منذ أن كان رئيسا للبرلمان الإيراني عقب عام 1981، ركز رفسنجاني على اعتبار الثورة الإسلامية قدوة ومثالا دون الإشارة إلى التدخل الخارجي، وعبرت الصحافة الموالية له عن هذه المواقف. وقد ذكر رفسنجاني عام 1989 عندما كان رئيسا للبرلمان أنه يرفض التضحية بما تحقق على مستوى بناء المؤسسات داخل الجمهورية الإسلامية، أو إعاقة استكمال تنفيذ أهداف الثورة داخلياً مقابل تصدير الثورة خارجياً. وجاء التخلص من مير حسين موسوي بإلغاء منصب رئيس الوزراء عقب انتخاب رفسن جاني رئيسا للجمهورية وتعديل الدستور ليعكس إقصاء أحد دعاة تيار تصدير الثورة الإيرانية، وكان قد سبق هذه الخطوة إقصاء مهدي هاشمي – صهر آية الله منتظري المرشح السابق لخلافة الخميني وأحد دعاة تصدير الثورة – مسئول مكتب دعم حركات التحرير في العالم عام 1986، بعد أن قام بتسريب أنباء فضيحة إيران جيت وألمح إلى دور رفسنجاني فيها. وجاء إقصاؤه متزامنا مع وقف الدور الخارجي للمكتب ثم تم إعدام هاشمي في صيف 1987. كما كررت إيران بكثرة منذ عام 1985 إدانة عمليات تخريب وخطف طائرات، كما ساهمت في الإفراج عن ركاب طائرات مختطفة. وعقب تولي رفسنجاني رئاسة الجمهورية عام 1989 قام بإقصاء علي أكبر محتشمي – أحد دعاة تصدير الثورة – من وزارة الداخلية.
وعقب تولي رفسنجاني رئاسة الجمهورية أيضا عبر عن رفض فرض الثورة على المسلمين خارج إيران، بينما طالب الحركات الإسلامية خارج إيران باتخاذ الثورة الإيرانية قدوة ومثالا لها، وبالسعي لإيصال صوت الثورة إلى الناس. وأضاف أن إيران ستصدر أفكارها في إطار القوانين الدولية. كما تحدث المرشد الجديد للثورة سيد علي خامنئي عن الدعاية لفكر الثورة الإيرانية في الخارج بين صفوف المستضعفين وتزامن ذلك مع هزيمة الراديكاليين في انتخابات المجلس (البرلمان) في إبريل عام 1992 وفي طليعتهم الراحل أحمد الخميني، ومهدي كروبي، وأرملة الرئيس الإيراني الراحل محمد علي رجائي، وحجة الإسلام خوئنها، وعلي أكبر محتشمي وآية الله صادق خلخلي رئيس المحاكم الثورية الإسلامية سابقا، بالإضافة إلى قرار دمج وزارتي الدفاع والحرس الثوري في وزارة واحدة للقوات المسلحة في أغسطس عام 1989 مما عنى في الواقع إنهاء أي دور خارجي مستقل للحرس الثوري. وسبق ذلك قبول الخميني استقالة خليفته المعين آية الله المنتظري في 28 مارس 1989، وكان المنتظري يجسد دور راعي دعاة تصدير الثورة، وكان يميل إلى دور إيراني فعال ونشيط في تصدير الثورة، ودعم الحركات الإسلامية الراديكالية في البلدان الإسلامية الأخرى.
والواقع أن التحول نحو البراجماتية داخلياً وخارجياً قد ارتبط بانتهاء الحرب مع العراق والإحساس بالاختناق الاقتصادي وبالحاجة للانفتاح عى العالم، خاصة اجتذاب استثمارات الغرب وتكنولوجيته لإعادة تعمير إيران مما تطلب اعتدالا في السياسة الخارجية.
ورغم خسارة الراديكاليين في انتخاباب إبريل عام 1992 البرلمانية وحصول المعتدلين على غالبية المقاعد، والتنبؤ بأن ذلك سيؤدي إلى خفوت اتجاهات دعم المد الإسلامي المتطرف في المنطقة، واتهام مرشد الثورة خامئني للغرب بتهييج دول عربية ضد إيران، واتهامها بدعم الجماعات الراديكالية الإسلامية، فإن خامنئي ذكر في إحدى خطب الجمعة أن إيران هي محور الثورة والوحدة الإسلامية، وهي وحدها الدولة الإسلامية الحقيقية. ودعا عضو مجلس الأوصياء آية الله أممي كاشاني إلى الدعاية للإسلام لمواجهة أعدائه ونشر رسالته دون استخدام العنف. كما أن طهران تستضيف حتى نهاية عام 1992 مقار 25 تنظيما إسلاميا راديكاليا عبر العالم، وتدرب كوادر إسلامية متهمة بأنها كانت رديكالية في مراكز بإيران، وتقدم دعماً مادريا وتموينيا منظمات إسلامية راديكالية، وترسل معلمين ومدربين لهم، وتتبنى عمليات عنف ومخابرات تقوم بها هذه المنظمات، وبأنها ما زالت تدعو وتستقبل قادة وأعضاء جماعات إسلامية راديكالية، أو رجال دين متشددين عبر العالم الإسلامي خاصة للمشاركة في مؤتمرات مثل أئمة الجمعة والوحدة الإسلامية. وتمسكت القيادة الإيرانية الجديدة بفتوى الخميني التي أحلت دم الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، ورصدت مكافأة لمن يقتله، رغم محاولات التخفيف من حدتها أحياناً. وتتهم إيران بأنها تجري مشاورات مع ممثلي جماعات إسلامية راديكالية من العالم الإسلامي في عواصم غربية، وأنها تتبنى عدة جمعيات إسلامية في أوروبا والولايات المتحدة، كما تقوم بتوزيع مواد دعائية سياسية وعقائدية على تلك الجماعات، بالإضافة إلى مساعدات مالية وتدريب عسكري خاصة للجماعات الثورية في العراق ولبنان. وقد دعا آية الله أردبيلي الرئيس السابق للمحكمة العليا في إحدى خطب الجمعة إلى تبني حرب عصابات لمواجهة الولايات لمتحدة،وتسديد ضربات لها. واتهم الحكومات العربية بأنها إما تابعة أو محتكرة للسلطة، ويجب على الشعوب عدم الاعتماد عليها لمواجهة الولايات المتحدة. كما تواصل إيران تقديم منح لطلاب من دول إسلامية أخرى للدراسة في معاهد وحوزات علمية إيرانية، ويتلقون بجانب التعليم دورات تلقين عقائدية تتصل بمبادئ الثورة الإيرانية. إلا أن قدرتها على اجتذاب طلاب سنيين يواجه منافسة قوية من جامعات العالم السني، خاصة جامعة الأزهر. وفي ربيع عام 1992، عقد اجتماع لرجال الدين من 70 دولة عبر العالم في طهران وفي مخاطبته للمؤتمر، اعتبر رفسنجاني تصدير الثورة واجب إيران تجاه المستضعفين في العالم أجمع. والثابت أن إيران ما زالت تساند عدداً من الجماعات الراديكالية الإسلامية من خلال عدة وسائل، وتحافظ على اتصالات معهم، وتعمل على ممارسة التأثير عليهم. كما أشارت مصادر إلى أن إيران ساعدت عددا من النشطين الإسلاميين الفارين من دول عربية وإسلامية اللجوء إلى دول أوروبية، وتمويل إقامتهم هناك. وما زالت صحيفة سلام – لسان حال المتشددين – وغيرها تحض على دعم إيراني فعال لجماعات الإسلام السياسي الراديكالي في الدول الأخرى، وتشير نشرات الأخبار في وسائل الإعلام الإيرانية إلى أخبار ما تسميه بالثورات الإسلامية بالخارج.
وقد أفاد تأثير إيران على الجماعات الإسلامية الراديكالية مصالحها من حيث اضطرار دول أخرى للتعامل مع إيران والرهبة من تأثيرها مما جعل علاقاتها بهذه الجماعات عنصر ضغط على حكومات دولها. ولكن هذا لم يحدث في كل الحالات، بل أدى في بعض الحالات إلى توتر علاقاتها مع هذه الحكومات. كما أنه إذا كان تصدير الثورة الإسلامية أحد أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، فإن هناك أهدافاً أخرى مثل حماية أمن إيران ومصالحها الاقتصادية، وهذا ما يمنح سياسة إيران الخارجية أحياناً أشكالا متناقضة، أو غير متسقة فيما بينها. كما يبدو تصدير الثورة أحيانا كأداة – وليس هدفا – للسياسة الخارجية الإيرانية. كذلك فإن توفر الموارد المالية يعتبر هاما وأساسيا لممارسة إيران دورا تدخليا في شئون الدول الأخرى.
وعلى أرض الواقع، فإن إيران واجهت في السنوات الأخيرة صعوبة الموازنة بين الرسالة الأيديولوجية، وبين مصالحها واحتياجاتها الوطنية، كما أثبتت أن شعاراتها في السياسة الخارجية أكثر راديكالية من مواقفها العملية وسلوكها، وإن ارتفع شعار تبني نموذج النظام الإسلامي في بلد واحد قد يضعف الثورة الإيرانية وتأثيرها على القوى الإسلامية بالخارج. وتبقى المعادلة الصعبة التي يصعب التخلي عن أحد طرفيها: تحسين علاقات الحكم الإيراني بالدول الإسلامية الأخرى، واتصالاته بالتيارات الإسلامية الراديكالية المعادية للنظم القائمة بهذه الدول. ومن غير المستبعد في العلاقات الدولية أن نجد تناقضا يتولد بمرور الوقت بين التزامات عقائدية ثورية معلنة في السياسة الخارجية لدولة وبين سلوكها الفعلي، سواء جاء ذلك نتيجة صراع داخل صفوف السلطة الحاكمة، أو لتجنب مصاعب داخلية، أو اقتصادية، أو عزلة دولية وإقليمية. وبالتالي فإن التراجع عن دعم جماعات العنف السياسي في المنطقة يرتبط بتراجع النخبة الحاكمة في إيران عن هذه السياسة في حالة ما إذا تزايدت المعارضة بين صفوف القوى السياسية الفاعلة داخليا والرأي العام الإيراني ضد هذه السياسات، وبالصراع بين المعتدلين والراديكاليين، وبين الاعتبارات العقائدي واعتبارات الاستقرار السياسي. إلا أن وجود الثورة في إيران على رأس السلطة في حد ذاته يشكل قوة دفع وتشجيع للتنظيمات الراديكالية الإسلامية بما فيها تلك الداعية إلى العنف، وقلب أنظمة الحكم في البلدان الإسلامية الأخرى.
ورغم دعوة الرئيس الأمريكي السابق بوش في 10 مارس عام 1991 إيران لتلعب دوراً رئيسياً لضمان أمن الخليج، ودعوته دول الخليج بعدم اعتبار إيران عدوا لهم، فإن الخارجية الأمريكية عادت بعد عامين، وتحديدا في 6 مارس عام 1993، لتتهم إيران بأنها أكبر مؤيد للإرهاب في العالم، بينما نفت إيران ضلوعها في الإرهاب، واتهمت الولايات المتحدة بتأييد ((رأس الإرهاب في العالم: إسرائيل)). واستمرت الولايات الأمريكية – سواء الإدارة أو الكونجرس في توجيه نفس تلك الاتهامات لإيران حتى الآن، وبشكل متصاعد.
ويجدر بنا أن نتعرض هنا إلى قطاع معين له الأولوية في عقيدة السياسة الخارجية الإيرانية، وهو التنظيمات السياسية الشيعية في العراق ومنطقة الخليج. فمنذ بدايات الثورة، عمدت إيران إلى تحريك التنظيمات الشيعية في دول الخليج بما يدعم استقرار الحكم في طهران وممارسة الضغوط – من خلالها – على حكومات تلك البلدان. وتؤكد إيران قيادة الصيغة الفكرية للنموذج الإيراني والصلة التنظيمية بين المؤسسة الدينية الشيعية الإيرانية وبين رجال الدين والقادة الشيعة الذين يقودون هذه القوى، خاصة أن بعضهم كان من أصل إيراني. وأدى تبني الدستور الإيراني للمذهب الجعفري الاثنى عشري كمذهب رسمي لإيران إلى دعم هذه الصلات، وإن أدى إلى نفور الكثير من تنظيمات المسلمين السنة الراديكاليين من النموذج الثوري الإيراني. والواقع أن الطبيعة الشيعية للثورة الإيرانية حدت كثيرا من تأثيرها على جماعات سنية راديكالية عبر العالم الإسلامي. وتجسد ذلك في إلقاء أحزاب إسلامية سنية باكستانية تبعة المصادمات الدموية بين السنة والشيعة في باكستان عام 1987 على التحريض الإيراني للزعيم الباكستاني الشيعي عارف الحسيني وحزبه. كما انعكس أيضا في أنه خلال تظاهرات الحجاج الإيرانيين خلال بعض مواسم الحج، لم ينضم لهم شيعة باكستانيون وأفغان. يضاف إلى ذلك أن اختلاف اللغة وكون الفارسية هي لغة الكتابة لمعظم كتابات منظري الفكر الثوري الإيراني أعطيا إحساسا بالغربة لدى العديد من قواعد وكوادر التنظيمات الإسلامية الراديكالية في الدول العربية ودول أخرى، بالإضافة إلى تبني القيادات الإيرانية شعارات شيعية – أصلا بهدف تعبئة الداخل الإيراني لدعم الثورة، خاصة خلال سنوات الحرب مع العراق – مما ساهم في إبعادها عن الحركات السنية الراديكالية – خاصة في دول الخليج والعراق التي يوجد بها أعداد كبيرة من الشيعة.
والواقع أنه طبقا لأولويات السياسة الخارجية الإيرانية، فإن دور الشيعة في إطار عموم الحركات الإسلامية مماثل لدور الطليعة. وعندما تقدم إيران بالمقابل فكرها لحركات إسلامية سنة راديكالية فإنها تقدم مبادئ عامة تدعى الثورة الإيرانية أنها تمثلها، مثل عدم الانحياز الحقيقي، ودعم ((المستضعفين في الأرض)) حتى تستطيع كسب قوى اجتماعية ذات تنشئة دينية قد تجذبها هذه المبادئ في الدول الإسلامية ذات الأغلبية السنية. وتقدم الثورة الإيرانية نفسها لهذه القوى على أنها الثورة النموذج دون تأكيد الصلة التنظيمية بتلك القوى.
وسنتعرض فيما يلي إلى مواقف إيران وعلاقاتها مع التنظيمات الإسلامية الراديكالية في مختلف أقاليم ودول العالم:
أولاً: الخليج والعراق وشبه الجزيرة العربية:
منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، عمدت إيران للتعبئة الإعلامية لشيعة دول الخليج للتمرد على أوضاعهم، خاصة أن الشيعة شكلوا 75% من سكان البحرين، و 30-40% من سكان الكويت، و30% من سكان الإمارات وسكان المنطقة الشرقية بالسعودية. وقدمت إيران تأييداً معنوياً وإعلامياً لتظاهرات الشيعة بالسعودية في إقليم الأحساء عامي 1979 و 1980، واتهم الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي الإيرانيين بأنهم إرهابيوا الخليج. كما تفجر العنف بين الحجاج الإيرانيين والموالين للخميني من جهة، ورجال الدين السعودي وأنصارهم من جهة أخرى، مما أدى إلى مصرع عشرات الحجاج في موسم الحج عام 1987. وواصلت إيران دعم منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية المعارضة للحكم السعودي، التي تبنت عمليات تفجير في مكة في موسم الحج لعام 1989، وألقت السعودية تبعيتها بشكل ضمني على إيران عند وقوعها، ومارست هجوما إعلاميا على إيران. ورغم أن عملية اقتحام الحرم المكي عام 1400 هـ ينظر إليها كتجاوب مع الثورة من جانب الشيعة وقوى سنية ساخطة ضد الحكم السعودي، فإنه لم تثبت أي صلة تنظيمية لإيران بها، رغم تأييد الخميني لحادث اقتحام الكعبة.
وقد استضافت إيران حركات معارضة سعودية، وعراقية وبحرينية، ونظمت مؤتمرات سنوية لهم، ووزعت نشرات عليهم ووجهت أجهزة الإعلام إليهم، وحضت على التظاهرات لترويج العداء للملكية كمؤسسة، واستغلت دور رجال الدين الشيعة في المنطقة بما يمنحها أوراقاً إضافية في التعامل مع الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى.
وقد ابتعدت إيران في الأعوام الأخيرة عن العمل لاستغلال فرصة الحج لنشر الأفكار الثورية الإسلامية الإيرانية، والدعوة لها بين بقية المسلمين الحجاج، أو لإيجاد صلات مع قوى راديكالية داخل السعودية. وفي إطار محاولة تحسين علاقات إيران مع أنظمة الحكم في دول الخليج أبلغت إيران عام 1984 حركات التحرير لدول الخليج الأخرى الموجودة في إيران بعدم السماح بأنشطة موجهة ضد دول أخرى سوى على المستوى الإعلامي فقط. وعمدت عامي 1984 و 1985 إلى محاكمة متهمين باختطاف طائرة سعودية، ورفضت هبوط طائرة كويتية مختطفة بأراضيها، رغم طرد الكويت في مارس عام 1983 لرجل دين شيعي من أراضيها بتهمة تأييد الثورة الإسلامية، واتهام إيران بالمسؤلية عن تفجيرات عام 1983 ضد منشآت أمريكية وكويتية، واتهامها بتدبير محاولة اغتيال أمير الكويت في مايو 1985 واعتقال ابن ممثل الخميني في الكويت بتهمة دعم المعارضة الداخلية. ورغم نفي إيران اتهامات الكويت هذه إلا أن آية الله المنتظري اعتبر هذه الأعمال إسلامية. كما جاء موقف إيراني تجاه الغزو العراقي للكويت عام 1990 ثم فوز الإسلاميين بعدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الكويت ليقلل من لجوء الإسلاميين هناك للعمل السري أو العنف. كما أن نشاط الشيعة من أصل إيراني في البحرين والكويت استعدى الجماعات الإسلامية السنية هناك أحيانا على إيران.
وقد اتهم رئيس ورزاء البحرين إيران بتدريب مئات من شباب الخليج في معسكرات بإيران للقيام بأعمال تخريبية، وجاء ذلك عقب محاولة الانقلاب الفاشلة بالبحرين عام 1981 وتبني إيران لأنشطة الجبهة الإسلامية البحرينية. وقد أدان مجلس التعاون الخليجي محاولة الانقلاب هذه في إطار إدانة التدخل الإيراني في شئون دول المجلس. وقد قصرت إيران في مرحلة لاحقة نشاط الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين على المشاركة في المؤتمرات الإسلامية التي تنظمها إيران. كذلك تجددت الاتهامات البحرينية لإيران في يونيو 1996 بتدريب وتوجيه الجناح العسكري لتنظيم لم يعرف في البحرين من قبل باسم ((حزب الله))، وذلك في مدينة قم الإيرانية بهدف قلب نظام الحكم في البحرين وإقامة نظام موالي لإيران، وهو تطور أدى لسحب البحرين سفيرها من طهران وإعلانها اعتقال 13 بحرينيا ضالعين في التنظيم السري.
أما بشأن المعارضة الشيعية العراقية، فقد استضافت إيران المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بقيادة آية الله محمد باقر حكيم منذ عام 1984، ومنحتها تدريباً عسكرياً على يد الحرس الثوري الإيراني، ووفرت لها ممرات للتوجه للقيام بعمليات داخل العراق من الأراضي الإيرانية. وأشارت بعض التقارير إلى معسكر تدريب للمعارضة العراقية في منظرية بشمال طهران. وبعد فترة خفوت خلال فترة الانتصار العراقي في الحرب مع إيران عامي 1980 و 1981، فإن النشاط الإيراني الخارجي في العراق عاد بقوة منذ تحول الإيرانيين للهجوم ودخول الأراضي العراقية عام 1983، والتأكيد الإيراني على شعار إسقاط الحكم في العراق وإقامة حكم إسلامي هناك.
وقد ظل الخميني يردد فكرة إسقاط حكم الرئيس صدام حسين حتى نهاية الحرب العراقية / الإيرانية – بل ومن قبل اندلاع الحرب عام 1980 اعتبر صدام حسين كافرا يجب معاقبته دينيا. وتعاملت إيران في البداية مع حزب الدعوة ورجال الدين، وفي مقدمتهم آية الله باقر صدر حتى إعدامه هو وشقيقته في إبريل عام 1980 بواسطة الحكم العراقي، ثم في مرحلة لاحقة من خلال حزب العمل الإسلامي وتنظيم المجاهدين، حتى تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي مثل توحيداً لفئات العمل السياسي الإسلامي الشيعي الراديكالي. وقد اتهم الحكم العراقي المنظمات الموالية لإيران بالمسئولية عن عدة انفجارات منذ عام 1979، بدءاً بمحاولة اغتيال طارق عزيز ووزير الخارجية حينذاك وتفجير الجامعة المستنصرية، وانتهاء بحوادث اختراق الحدود بين البلدين منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، وحدوث انفجارات في الجنوب، وكذلك تعبئة المسلحين الشيعة في منطقة الأهوار للعمل ضد الأهداف الحكومية في المنطقة خاصة منذ انتفاضة الشيعة في الجنوب في مارس عام 1991.
وبالإضافة إلى الشيعة، اتهمت العراق إيران بدعم المعارضة الكردية المسلحة خاصة خلال سنوات الحرب العراقية / الإيرانية، وتحديدا دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي للهجوم على شمال العراق الثري بالنفط، انطلاقا من مواقع إيرانية في منطقة حاج عمران. ثم في مرحلة لاحقة اتهمتها بدعم الحركة الإسلامية في كردستان العراق. وفي يناير عام 1983 مارست إيران ضغوطا على حليفتيها حينئذ سوريا وليبيا لإصدار إعلان ثلاثي يدعم المعارضة العراقية. إلا أن قطاعا من الشيعة العراقيين حاربوا ضد القوات الإيرانية عند دخولها الأراضي العراقية دفاعا عن فكرة الدولة ورغم تماثلهم العقائدي مع الإيرانيين. ورغم استئناف العلاقات الدبلوماسية بين العراق وإيران في 14 أكتوبر عام 1990 في أعقاب الغزو العراقي للكويت، استمر نشاط المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
أما عن اليمن فإنه رغم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في بداية الثورة الإيرانية، واتهام اليمن الشمالية لإيران بدعم عناصر انقلابية هناك، فإن العلاقات بين البلدين شهدت طفرة، وتشكلت لجنة وزارية مشتركة بينهما. خاصة عقب موقف إيران الداعم لقيادة الرئيس علي عبد الله صالح خلال الحرب الأهلية التي دارت ما بين مايو ويوليو 1994. كما تدعمت العلاقات الفنية والاقتصادية – بل والسياسية – مع دول الخليج بما فيها الإمارات المتحدة حتى عكرها استيلاء إيران الكامل على جزيرة أبو موسى أخيرا.
ثانيا: لبنان:
أكدت الحكومة الإيرانية خلال حياة الخميني استعدادها لمد شيعة لبنان بالسلاح والذخائر، وتبنت كلا من حزب الله وأمل الإسلامية التي شكلت انشقاقا عن أمل عام 1982 بزعامة موسوي الذي تلقى تدريباً عسكرياً في إيران، وقيل إن إيران دفعته لإنشاء منظمته الجديدة. وقد تلقت عناصر التنظيمين تدريباً عسكرياً على يد عناصر الحرس الثوري الإيراني، خاصة بعد إرسال 3000 عنصر منهم عام 1982 إلى لبنان،تمركزوا في بعلبك تحت شعار مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان، كما تلقت عناصرهما دورات عقائدية من الإيرانيين. وقد تميزت لبنان لفترة طويلة بخصوصيات عدة: غياب الدولة المركزية، العلاقات التاريخية بين إيران وشيعة لبنان، التهديد الإسرائيلي المستمر للشيعة، ثم الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي المتدنيين للشيعة.
وكان إرسال الحرس الثوري إلى لبنان قد جاء بدعوة من الراحل حجة الإسلام محمد المنتظري (ابن آية الله حسين المنتظري) أساسا بغرض دعم التنظيمات الموالية لإيران: أمل الإسلامية في البقاع، وحزب الله في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت، مما جسد مشاركة فعلية عسكرية إيرانية لدعم قوى موالية. وقد أضفى هذا الوجود نزعة راديكالية بشكل عام على شيعة لبنان وأضعف أمل المعتدلة نسبيا وهيمنتها على العملين السياسي والعسكري الشيعيين هناك.
وقد اتهمت أطراف غربية وإسرائيل إيران بكونها وراء تنظيمي الجهاد الإسلامي والعدالة الثورية التي بدأت عمليات اختطاف الرهائن الغربيين منذ عام 1982، ابتداء بالأمريكي دافيد دودج، وتدمير السفارة الأمريكية ببيروت في إبريل عام 1983 ومقار مشاة البحريتين الأمريكية والفرنسية في لبنان وهو ما نفت إيران مسئوليتها عنه رغم تأكيد إدانتها لوجود هذه القوات في لبنان. وقد اتهمت إسرائيل الحرس الثوري الإيراني الموجود بلبنان بمهاجمة قيادة قواتها في صور عام 1982 وردت بقصف مواقع الحرس في بعلبك في نوفمبر عام 1983.
كذلك فقد سعت إيران إلى إنشاء حركة إسلامية راديكالية موحدة في لبنان تضم بجانب حزب الله، وأمل الإسلامية حركة التوحيد السنية في طرابلس، وذلك في مواجهة أمل التي اعتبرتها القيادة الإيرانية في الثمانينات تنظيما معتدلا. وقد كثفت وسائل الإعلام الإيرانية هجومها على أمل في النصف الثاني من الثمانينات خلال مصادمات أمل وحزب الله. وساندت إيران حزب الله صراحة، وطالبت بدور سوري لوقف حرب أمل ضد حزب الله. وسبق ذلك دفع إيران لحزب الله للعب دور فصل قوات بين أمل ومنظمة التحرير الفلسطينية خلال عام 1983 م عقب اشتباكات بين الطرفين. وطبقا لتقديرات أمريكية، فقد قدمت إيران لحزب الله ما قيمته 100 مليون دولار سنويا كدعم.
وعلى الجانب الآخر، فإنه منذ كان رفسنجاني رئيسا للبرلمان فقد أدان اختطاف طائرة TWA في بيروت، ودعا للإفراج عن ركابها، وطالب حزب الله بالعمل بما يتسق مع هذا الموقف. وعقب اشتباكات أمل وحزب الله في ديسمبر عام 1988 ويناير عام 1989 بالضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان، ساهمت إيران – مع سوريا – في التوصل لاتفاق بين الطرفين في 30 يناير 1989 تضمن حق حزب الله في العودة للجنوب اللبناني، واستئناف نشاطيه الاجتماعي والسياسي في كافة مناطق الشيعة بلبنان. ودعت إيران حزب الله فيما بعد إلى عدم الرد على القصف السوري على بيروت الغربية حتى تحافظ على العلاقات السورية الإيرانية، وقد اضطرت إيران في مرحلة لاحقة – وبناء على ضغوط سورية إلى سحب معظم الحرس الثوري الإيراني من لبنان وبقي فقط حوالي 500 عنصر منهم. ثم ساندت لاحقا جهودا سورية للتنسيق بين التنظيمين خاصة عقب اتفاق المصالحة اللبنانية في الطائف في مطلع التسعينات.
كذلك ذكرت تقارير أن إيران مارست ضغوطاً على حزب الله لضبط النفس عقب اختطاف إسرائيل في 29 يوليو عام 1989 للشيخ عبد الكريم عبيد، أحد قيادي حزب الله في الجنوب اللبناني، وعدم الإصرار على استبداله برهائن غربيين خلال صفقات لاحقة بين إيران والدول الغربية، وكذلك نفس الشيء بعد اغتيال إسرائيل الشيخ عباس الموسوي زعيم حزب الله في هجوم بالهيلكوبتر في فبراير عام 1992 وإن اعتبر البعض تدمير السفارة الإسرائيلية في بوينس إيريس في 17 مارس عام 1992 ردا على هذا الاغتيال، رغم أن الجهاد الإسلامي هو الذي أعلن مسئوليته عن هذا التفجير. كما ساهمت إيران في إقناع حزب الله بالانضمام للهجوم الشامل – بالتعاون مع سوريا – ضد العماد ميشيل عون في بيروت الشرقية في 14 أغسطس عام 1989.
وعمدت القيادة الإيرانية الجديدة أيضا إلى السعي لاجتذاب قوى لبنانية شيعية وغير شيعية أخرى، كما تجسد في زيارة نبيه برى زعيم حركة أمل، ووليد جنبلاط زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي وزعيم الدروز عدة مرات إلى طهران منذ عام 1989.
إلا أن التنسيق استمر مع حزب الله الذي يزور قادته طهران في مناسبات كثيرة. وفي أكتوبر من عام 1989 زار وزير الداخلية الإيراني السابق علي أكبر محتشمي، المعروف بتشدده، لبنان والتقى مع قيادات حزب الله وأعلن في 4 نوفمبر عام 1989 – في الذكرى العاشرة لاحتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران – استعداد حزب الله ضرب المصالح الأمريكية في المنطقة، وتزامن ذلك مع انتقاد الرئيس رفسنجاني لاتفاق الطائف في 28 أكتوبر عام 1989. إلا أن الموقف الإيراني الرسمي تغير بعد زيارة وزير الخارجية ولاياتى لدمشق وتشاور مع المسئولين السوريين حول اتفاق الطائف، وكذلك لقاءاته مع زعماء أمل، وحزب الله،ونائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
ومنذ عام 1986 كانت إيران قد بدأت تمارس ضغوطا على التنظيمات المسلحة الموالية لها في لبنان، للإفراج عن الرهائن الغربيين مقابل تحقيق مصالح وأهداف ((للثورة الأم)) في إيران ؛ مثل الحصول على استثمارات فرنسية في قطاع البتروكيماويات الإيراني أو طرد فرنسا لقيادات منظمة مجاهدي خلق المعارضة من أراضيها منذ يونيو عام 1986، وتسوية ديون قديمة مع فرنسا، أو الحصول على أسلحة أمريكية، أو إفراج الرئيس الأمريكي عن 570 مليون دولار ودائع إيرانية مجمدة في 7 نوفمبر عام 1989.
بل إن إيران أدانت في نوفمبر عام 1991 احتجاز الرهائن، باعتباره عملا غير إنساني، وذكرت بمطالبتها الإفراج عن 4 إيرانيين اختطفوا عام 1982. كما حرصت منذ ذلك الوقت على تكرار أدانتها للإرهاب واعتبار نفسها ضحية لعمليات إرهابية.
ورغم أن فترة رئاسة رفسنجاني لإيران شهدت تقليص المساعدات العسكرية والمالية لحزب الله، والتنظيمات الأخرى الموالية لإيران في لبنان، وممارسة مزيد من الضغوط على تلك القوى للبعد عن العمليات ذات الطابع الإرهابي، والانصياع العام لأهداف الاستراتيجية الإيرانية ومصالحها، وموافقة وزير خارجية إيران – خلال زيارته لبيروت عام 1991- على بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها. وتأكيد ذلك عقب زيارته لسوريا ولبنان في يونيو عام 1992، فإن عديدا من الانتقادات وجهت إلى القيادة الإيرانية من قوى داخلية معارضة لممارستها ضغوطا على التنظيمات الموالية لها بلبنان، خدمة لمصالح غربية مثل إطلاق سراح الرهائن.
وقد كرست انتخابات لبنان البرلمانية في أغسطس، وسبتمبر عام 1992 تقدّما ملحوظا لتنظيمات راديكالية مثل حزب الله، والجماعة الإسلامية، مما قد يغريها بالابتعاد عن ممارسة أعمال العنف.
ثالثا: فلسطين:
ركزت إيران منذ انتصار الثورة على اعتبارها قضية فلسطين –خاصة القدس – قضية إسلامية ذات أولوية للسياسة الخارجية الإيرانية. وعقب فترة قصيرة بعد انتصار الثورة من العلاقات الحميمة بين إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية ساد الفتور العلاقات بين لطرفين لعدة أسباب منها، ما ذكر عن تدريب منظمات فلسطينية لعناصر منظمتي مجاهدي خلق، وفدائي خلق المعارضتين، وموقف المنظمة المساندة للعراق في حربه مع إيران، بالإضافة لإصرار بعض القيادات الإيرانية على مطالبة القيادة الفلسطينية بإعلان إسلامية الثورة الفلسطينية. وعمدت إيران في الوقت نفسه إلى العمل على نشر مفاهيمها عن الثورة الإسلامية بين صفوف التنظيمات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية (حماس – الجهاد الإسلامي) وتبلور ذلك خاصة عند اعتقال السلطات الإسرائيلية أفراد تنظيم يسمى الجهاد عام 1981، ثم اعتقال 30 فردا من أعضاء الجهاد الإسلامية في الضفة الغربية لاحقا. كما سعت إيران لفتح اتصالات مع قيادات طلابية في غزة وعناصر سابقة من حركة فتح. وقد ارتبطت هجمات على دور سينما ومحلات ببيع خمور في الأراضي المحتلة بشعارات الخميني وصوره. وقد اتهمت إسرائيل إيران بالعمل لبناء روابط بين التنظيمات المواليه لها في لبنان، والأراضي الفلسطينية المحتلة، بخاصة حزب الله والجهاد الإسلامي وأحيانا حماس. واستخدمت إيران الاحتفال بيوم القدس ومطالبتها بالجهاد الديني من أجل فلسطين، ودعم الكفاح المسلح بهدف إزالة إسرائيل من الوجود لدعم مصداقيتها الراديكالية بين الشعب الفلسطيني في الداخل. كما استقبلت في عدة مناسبات أحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – و ((أبو موسى)) زعيم المنشقين على فتح، رغم كونهما يمثلان تنظيمين يساريين غير إسلاميين. ويفسر ذلك استضافة إيران في أكتوبر عام 1991 لمؤتمر نصرة الثورة الإسلامية في فلسطين والانتفاضة الشعبية هناك، وهو ما عمل على تجميع منظمات راديكالية – إسلامية أو غيرها – في المنطقة معادية لعملية السلام، التي بدأت بمؤتمر مدريد وانتقاد المؤتمر صراحة. وقد عاد آية الله خامنئي أخيرا ليدين مفاوضات السلام، ويعتبرها ((معيبة)) وينكر حق أي طرف في التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني. إلا أن إيران عادت لإبقاء خيط مع منظمة التحرير، والتقى وزير خارجيتها بسفير فلسطين في طهران مؤكدا دعم إيران للإنتفاضة في الأراضي المحتلة.
وقد تصاعدت الإدانات الغربية – خاصة الأمريكية – والإسرائيلية لإيران واتهامها بدعم الإرهاب بعد العمليات الانتحارية المكثفة التي قامت بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في داخل إسرائيل في فبراير ومارس 1996 وهو ما نفته إيران وإن رحبت بهذه العمليات باعتبارها مقاومة للاحتلال.
رابعا: الأردن وسوريا:
عقب توتر العلاقات بين الأردن وإيران إبان دعم الأردن للعراق في حربه مع إيران، أعلنت الأردن في نوفمبر عام 1991 عن ضبط تنظيم إسلامي سري مسلح باسم جيش محمد، وأشارت إلى أصابع إيرانية وراءه، إلا أن نائب الرئيس الإيراني سرعان ما قدم بزيارة لعمان مسلما رسالة للملك حسين من الرئيس رفسنجاني، مؤكدا رغبة إيران في تعزيز العلاقات بين البلدين، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للأردن.. إلا أن عام 1992 جاء بإعلان الأردن اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم ضلع فيها نائبان بالبرلمان وتنظيم إسلامي مسلح. وأشارت السلطات الأردنية من جديد إلى أدلة عن تمويل وتسليح إيرانيين لهذا التنظيم. كما اتهمت تنظيمات إسلامية فلسطينية بالضلوع في هذا المخطط.
أما بشأن سوريا، فإنه بالموازنة مع التحالف مع سوريا – خاصة بعد اندلاع الحرب مع العراق في سبتمبر عام 1980 – وبين دعم التنظيمات الإسلامية الراديكالية المناهضة للحكم السوري، تغلبت اعتبارات المصلحة السياسية، والحسابات الواقعية، واختارت إيران سوريا الدولة مما أساء – بالطبع – لصورتها لدى معظم هذه التنظيمات ولم تتوان إيران عن اتهام الإخوان المسلمين في سوريا، بأنهم عملاء للعراق وللصهيونية. وإن كانت عناصر من الحرس الثوري الإيراني قد اعتبرت مسئولة عن اختطاف السفير السوري في طهران لعدة ساعات عام 1986 قبل الإفراج عنه، فإن التنسيق الإيراني السوري حول الكثير من القضايا مثل لبنان والعراق وغيرهما، أثبت متانته رغم مروره بعدة هزات، بما فيها مشاركة سوريا في عملية التسوية للصراع مع إسرائيل الجارية منذ عام 1991.
خامسا: مصر:
منذ انتصار الثورة في إيران، اعتبر قادة إيرانيون الحركة الإسلامية في مصر – وخاصة جناحها الراديكالي – ابنا شرعيا للثورة الإسلامية في إيران، وأدانت إيران في الثمانينات – وفي عدة مناسبات – ما أسمته تعقب الحكومة المصرية لعناصر الجماعات الإسلامية في مصر، وما ذكرته من اضطهادها لهم. وتحدث رفسنجاني نفسه – عندما كان رئيساً للبرلمان عام 1985 – عن أوجه الشبه بين الحركات الإسلامية بمصر وبدايات الثورة في إيران. كما انتقد آخرون منع مسيرات الإسلاميين، وحرضوا علماء الدين والشباب ضد الحكومة في مصر. كما فتحت إيران صحافتها في عدة مناسبات أمام كتاب من المعارضة الإسلامية – بمن في ذلك بعض من يدعون إلى استخدام العنف – في مصر. كما عمدت إيران إلى نفي اتهام البعض للجماعة الإسلامية في مصر بالارتباط بالولايات المتحدة، بينما هاجمت وسائل إعلام إيرانية – في بعض الحالات – الإخوان المسلمين في مصر بصفتهم تابعين للسعودية ومخالفين لفكر حسن البنا. رغم سبق قيام الإخوان بمحاولة وساطة بين إيران والولايات المتحدة إبان أزمة الرهائن الأمريكيين فيطهران.
ودعت بعض هذه الوسائل الإعلامية في بعض المناسبات إلى استخدام العنف ضد الحكومة في مصر.
وبالإضافة إلى إعلان الخميني ابتهاجه عقب اغتيال الرئيس السادات عام 1981، فقد اشارت سلطات الأمن المصرية إلى وجود كتب للخميني بين ما وجد مع من قاموا باغتيال الرئيس الراحل. كما أشارت تقارير إلى اتصالات بين تنظيم الجهاد الذي تبنى عملية الاغتيال وبين إيران – من خلال عناصر فلسطينية إسلامية من قطاع غزة.
وقد أطلقت السلطات الإيرانية أسماء سيد قطب وخالد الإسلامبولي والشيخ كشك على شوارع بطهران، كما قامت بترجمة وتوزيع كتب حسن البنا وسيد قطب.
ولا شك أن الثورة الإيرانية أثرت على الأفكار والتكتيك السياسي لعدد من الحركات الإسلامية السرية التي تبنت أعمال عنف في مصر. ويأتي في هذا السياق ما أعلن في أغسطس عام 1983 عن اكتشاف مؤامرة دبرها حزب التحرير الإسلامي، والذي أجرى اتصالات مع إيران. كما أعلن مرتين منذ أغسطس عام 1989 عن اكتشاف وضبط تنظيم شيعي يعمل لصالح إيران وعلى اتصال بعناصر أخرى في الهند وقبرص والعراق وسوريا.
وقد عمدت إيران إلى محاولة إعطاء ثقل لقيادات سياسية إسلامية في مصر عقب نهاية حربها مع العراق عندما اشترطت وساطة هذه القيادات قبل الإفراج عن الأسرى المصريين الموجودين لديها.
ورغم تقديم مصر مساعدات ومواد غذائية لإيران في يونيو عام 1990 عقب حدوث زلزال في إيران، وتأييد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الإيراني سعيد رجائي خراساني في نوفمبر عام 1991 لعودة العلاقات مع مصر، خاصة أنه ذكر أن لإيران علاقات مع بقية الأطراف العربية التي حضرت مؤتمر السلام في مدريد، فإن آية الله صادق خلخلي وصحفا إيرانية هاجما هذا التوجه، وساءت العلاقات عام 1992 عندما وصفت صحيفة الجمهورية الإسلامية الإيرانية مصر بأنها ((شيطان صغير)) واتهام مصر لإيران في أغسطس عام 1992 بالاشتراك في تدريب عناصر تنظيم الجهاد في معسكرات تابعة للجبهة الإسلامية القومية بالسودان. وقامت مصر بسحب رئيس قسم رعاية المصالح المصرية في طهران في 30 نوفمبر عام 1992 عقب اتهام وزير الداخلية المصري السابق لإيران بتمويل وتدريب عناصر إسلامية متطرفة. وأعقب ذلك مطالبة وزير الخارجية المصري لإيران بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. وفي 18 مارس عام 1993 اتهمت مصر سودانيين حاولوا التسلل عبر منفذ السلوم بتلقي تدريب عسكري في إيران للمشاركة في تنفيذ عمليات إرهابية داخل مصر. كما جاءت زيارة الرئيس مبارك للولايات المتحدة ودول أوروبة في مارس / إبريل 1993 لتعكس اتهاما متزايدا لإيران بدعم الإرهاب في مصر والمنطقة والتدخل في شئون الدول الأخرى مع الإشارة إلى أن مصر تستطيع الرد على هذا الدور الإيراني، ويمكنها اللعب في الشئون الداخلية الإيرانية.
إلا أنه عقب محاولة الاعتداء الفاشلة على الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا في يونيو 1995، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك اسحق رابين لاتهام جماعات متصلة بإيران بالمسئولية عن المحاولة، ودعمت أجهزة سياسية ووسائل إعلام غربية أقوال رابين. ولكن الثابت أن أيًّا من المسئولين المصريين لم يوجه اتهاما مباشرا لإيران في هذا الشأن رغم انتقاد مسئولين مصريين لإعلان بعض الصحف الأيرانية عن دعمها لتلك المحاولة. وقد حرص الموقف الرسمي المصري على عدم السماح باستدراجه من قبل أطراف ثالثة لاستعداء مصر من إيران خاصة في ظل غياب دليل قاطع على تورط إيران في محاولة الاعتداء. وعلى الجانب الإيراني، كان هناك حرص على نفي اتهامات رابين أو أي علاقة لإيران بالمحاولة وامتنعت مصادر رسمية إيرانية عن أي اشادة بالمحاولة أو نقد لها، في إطار مسعى إيراني لتطبيع العلاقات مع مصر. وجاء دعم بعض الصحف الإيرانية لمحاولة الاعتدال في إطار توازن القوى والخلافات السياسية داخل النخبة الحاكمة في إيران.
سادساً: السودان:
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من اتصالات وتعاون وثيق بين الثورة الإيرانية والجبهة الإسلامية القومية في السودان، وتقارير أشارت إلى تعاونهما في تدريب وتلقين عناصر تابعة لتنظيمات إسلامية راديكالية في بلدان إسلامية أخرى، فمن المؤكد أن الوجود الإيراني في السودان قد تزايد منذ تولي الرئيس البشير مقاليد السلطة هناك، وقد شهدت زيارة الرئيس رفسنجاني للخرطوم عام 1991 توسيعا لهذا التعاون الذي شمل مجالات دفاعية وأمنية، وإنشاء مكتب لوزارة جهاد البناء الإيراني في الخرطوم، بالإضافة إلى فتح قنصلية إيرانية في بور سودان على البحر الأحمر. وقد أشار مراقبون إلى أن تزايد الوجود الإيراني في السودان كان له تأثير مباشر على دعم الحركات الإسلامية المسلحة في الصومال، خاصة حركة الجهاد الإسلامي هناك، وفي بلدان أفريقية أخرى بها جاليات مسلمة كبيرة الحجم باعتبار السودان نافذة إيران على أفريقيا المسلمة.
سابعا: المغرب العربي:
فيما يتعلق بتونس، اتهمت الحكومة هناك إيران عدة مرات في النصف الأول من الثمانينات بدعم منظمات ((خمينية)) في تونس. وفي مرحلة لاحقة أشارت السلطات التونسية إلى أدلة تشير إلى تعاون واتصالات بين حركة الاتجاه الإسلامي – النهضة فيما بعد – بزعامة الأستاذ راشد الغنوشي وبين إيران مما شكل أحد دوافع حظر نشاط الحركة عام 1987 ومنع السماح بإعطاء رخصة رسمية لعودة النهضة بعد حركة السابع من نوفمبر عام 1987. ولا شك أن النموذج الإيراني أثبت لجماعات إسلامية عديدة في تونس أنها يمكن أن تستخدم العنف في مواجهة الحكومة وتنجح في إسقاطها. إلا أن العلاقات الدبلوماسية عادت بين إيران وتونس في سبتمبر عام 1990 بعد قبول الحكومة التونسية وساطات لتحسين هذه العلاقات. كما شهدت المرحلة الأخيرة تبادل زيارات لكبار مسئولي وزارتي الخارجية في الدولتين، إلا أن بعض المصادر أشارت إلى اتصالات تجريها إيران مع رجال أعمال الشيعة في الخليج لإجراء استثمارات في تونس والمغرب بهدف دعم الحركات الإسلامية الراديكالية في المغرب العربي ودول أفريقيا الإسلامية.
وقد تدهورت العلاقات الإيرانية الجزائرية نتيجة اتهام الجزائر لإيران بدعم الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد فشلت محاولات تطبيع العلاقات بين البلدين عام 1991 وانتهى الأمر بقطع الجزائر علاقاتها مع إيران عام 1993 بناء على أدلة أشارت إلى تدخل إيران في شئون الجزائر الداخلية ودعمها لجماعات إسلامية تمارس العنف السياسي عقب فرض حالة الطوارئ وإدانة الصحافة الإيرانية لما أسمته إجهاض انتصار الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية بالجزائر. وكان قد سبق ذلك إعلان وزير خارجية الجزائر في يناير عام 1992 أن بيانات وتوجيهات إيران تعتبر غير مقبولة بشأن الموقف في الجزائر وسحبت سفيرها من طهران في نوفمبر عام 1992 وطالبت سفير إيران في الجزائر بالعودة إلى بلاده ردا على مهاجمة إيران للحكم في الجزائر ومؤسساته الرسمية وقد واصلت الجزائر اتهام إيران بتدوير مساعدات مالية ضخمة للحركات الإسلامية الراديكالية في الجزائر وتونس والسودان – خاصة عقب استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد. كما شنت الصحافة الجزائرية منذ عام 1992 حملة مكثفة ضد ما أسمته بمؤامرة النخبة الثيوقراطية في طهران، واتهمتها بالعمل لزعزعة الاستقرار والاستيلاء – بواسطة عناصر موالية لطهران – على السلطة في الجزائر ثم تكرار نفس الأسلوب في بقية دول المغرب العربي بل في مجمل الوطنين العربي والإسلامي. كما اتهمت الصحافة الجزائرية قيادات شيعية إيرانية دينية بتدبير اجتماعات في بعض مساجد المشرق العربي تجمع عناصر إسلامية متطرفة في لبنان والسعودية والبحرين والسودان والعراق وسوريا.
ورغم اتهام إيران للجبهة الإسلامية للإنقاذ في مرحلة سابقة بتأييد الأفكار الوهابية، إلا أنها ليست بعيدة عن الحركة الإسلامية بالجزائر وتقديم الدعم والنصيحة إلى بعض فصائلها. كما اعتبرت إيران نجاح إقامة جمهورية إسلامية في الجزائر نموذجا سيتبع بواسطة بقية دول المغرب العربي، بل ودول جنوب الصحراء مثل مالي والسنغال والنيجر. كما اعتبرت بعض المراجع الدينية الإيرانية هزيمة الحركة الإسلامية في الجزائر هزيمة لإيران وقد أدنت إيران الانتخابات الرئاسية في الجزائر عام 1995 وما تمخضت عنه من انتخاب الرئيس الأمين زروال بحجة أنها استبعدت الحركة الإسلامية من المشاركة فيها. وبالمقابل، دعت إيران التنظيمات الإسلامية في البلدان العربية للتركيز على كون المشروع الإسلامي وحده هو القادر على حل مشكلات المجتمع.ورغم قطع العلاقات بين موريتانيا وإيران بناء على اتهام إيران بالتدخل في الشئون الداخلية لموريتانيا، فإن العلاقات عادت في 29 سبتمبر 1990 بناء على وساطات عدة.
ثامنا: الدول الإسلامية غير العربية:
بالإضافة إلى ما ذكر في الجزء الأول من هذه الدراسة، ثم الجزء الخاص بالاتصالات مع الحركات الشيعية، فإننا نشير هنا إلى تقديم إيران مساعدات مادية ومعنوية ودعما عسكريا وتدريبا لبعض جماعات المجاهدين الأفغان ضد الوجود السوفياتي هناك، كما قدمت الدعم الإعلامي والدعائي لهذه الجماعات، خاصة حزب الوحدة الإسلامية الشيعي، والميليشيات الأوزبكية والإسماعيلية في بعض الأحيان، وحكومة الجمعية الإسلامية بزعامة برهان الدين رباني في أحيان أخرى. كما أن إيران تقاربت في مرحلة مع قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي، ورحبت بإعلان حكمتيار في فبراير عام 1988 بالانتقال للعمل من إيران. ودعمت إيران التنظيمات الشيعية في أفغانستان خلال القتال مع تنظيمات أخرى في عدة مناسبات منذ 1992. ثم ساهمت مع باكستان والسعودية في الإشراف على توقيع اتفاق لاقتسام السلطة في أفغانستان والذي وقع عام 1992 في إسلام أباد، وإن لم يخرج حيز التنفيذ أبدا. كما حاولت إيران منذ نهاية عام 1994 فتح قناة اتصال مع حركة طالبان رغم مسئولية الأخيرة عن مصرع زعيم حزب الوحدة الشيعي.
وفي تركيا، اتهمت الحكومة هناك إيران عدة مرات بتمويل تنظيمات سرية تعمل على الإطاحة بالحكم هناك، وإنشاء دولة إسلامية مثلما حدث في مارس 1983.
كما اتهمت تركيا إيران بدعم أعمال المقاومة هناك ضد قرار حظر الحجاب في الجامعات وأماكن العمل. ورغم إحياء منظمة التعاون الاقتصادي بين باكستان وتركيا وإيران والتقارب الإيراني / التركي، فإن السلطات التركية اتهمت إيران بكونها تقف خلف عمليات الاغتيال التي طالت خلال الشهور الأخيرة عدداً من الكتاب والصحفيين العلمانيين واليساريين الأتراك، بالإضافة إلى شكوك تركية بشان دعم إيران لحزب العمال الكردستاني اليساري والانفصالي والذي يقوم بعمليات مسلحة داخل تركيا، خاصة في جنوبها الشرقي.
ومنذ وجود الاتحاد السوفياتي، حرصت إيران على توجيه إرسال إذاعي لمسلمي الاتحاد السوفياتي، ثم تبع ذلك عقب سقوط وتفكيك الاتحاد السوفياتي – إقامة معسكرات للاجئين الطاجيكيين، ونظمت تياراً موالياً لها دعمته في مواجهة سلطة الرئيس إسلام كريموف الذي اتهمته بمواصلة الخط الشيوعي. وقد اتهمت حكومة طاجكستان إيران بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الإسلاميون هناك. إلا أن إيران شاركت بعد ذلك في جهود الأمم المتحدة للوساطة بين الحكومة والمعارضة هناك. وفي أذربيجان، حرصت إيران على حشد المعارضة ضد الجبهة الشعبية الحاكمة هناك- والمدعومة من تركيا – منذ عام 1992 مع إحساس إيران بضعف مركزها هناك نتيجة عدم تعاطف رجال الدين التقليديين مع النموذج الثوري الإيراني. وإن أكدت في مرحلة لاحقة معارضتها للاعتداء الأرميني على سلامة أراضي أذربيجان.
وبينما شهدت الثمانينات اتهام السنغال، وكوت ديفوار، وكينيا، لإيران بالتدخل في الشئون الداخلية لهذه الدول، وقطع علاقاتها مع إيران، فإن بعض التحسن طرأ على هذه العلاقات، وأعيدت العلاقات بين إيران والسنغال في فبراير عام 1989.
ورغم اتهام بعض الدول الإسلامية لإيران بتقديم النفط سرا إلى الصرب، فإن توقيف طائرة إيرانية في 11 سبتمبر عام 1992 في مطار زغرب، واكتشاف أسلحة بها مهربة إلى مسلمي البوسنة والهرسك أثار علامات استفهام حول دعم إيران لقوى أو فصائل ما في معادلة الصراع المسلح في البوسنة والهرسك. ثم جاءت الاتهامات الأمريكية خلال عام 1996 بوجود خبراء عسكريين وأسلحة إيرانية في البوسنة وحث حكومة سراييفو على إجلائهم في وقت نفت فيه طهران وسراييفو هذه الاتهامات. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى دعوة إيران لتظاهرات شعبية عبر العالم الإسلامي ضد هدم الهندوس مسجد بابرى بالهند، وكان ذلك تكرارا لدعوة الخميني لتظاهرات إسلامية عام 1979 عقب اتهامه الولايات المتحدة بأنها وراء اقتحام الحرم المكي، مما أدى إلى الهجوم على سفارات وقنصليات أمريكية في ستة بلدان إسلامية.
خاتمـــة:
نشير هنا إلى اتهام إيران بممارسة ودعم العنف السياسي لا يقتصر على لعب أدوار في دول أخرى، وبواسطة تنظيمات إسلامية راديكالية أخرى، أو ضد أنظمة حكم هذه الدول، وإنما امتدت أصابع الاتهام إلى الحكم الإيراني في شأن اغتيل عدد من المعارضين السياسيين واللاجئين الإيرانيين في دول أوروبية وأمريكية، خاصة اغتيال شهبور بختيار رئيس الوزراء السابق في أغسطس عام 1991، والدكتور كاظم رجوي في كوبيه بسويسرا، بالإضافة إلى اختيار عدة قياديين للمجلس الوطني للمقاومة الذي تقوده منظمة مجاهدي خلق فيروما واسطنبول ومدن أخرى. وقد اتهم مجاهدو خلق إيران بالمسئولية عن هذه العمليات، بينما نفت ذلك الحكومة الإيرانية واعتبرتها تصفية حسابات فيما بين فصائل المعارضة الإيرانية.
وختاماً، فإنه رغم أن الدلائل تشير إلى اتجاه عام للبراجماتية، وتغليب المصالح الوطنية على الاعتبارات العقائدية في عملية صنع السياسة الخارجية الإيرانية منذ رئاسة رفسنجاني للجمهورية الإسلامية، فإن استمرار الصراع بين المتشددين والمعتدلين في إيران، ومواصلة المتشددين ممارسة ضغوطهم على الحكم الإيراني،ووجود من يعتبر دعم الحركات الإسلامية الراديكالية عبر العالم – بين صفوف القيادة الإيرانية – ورقة ضغط مفيدة في يد السياسة الخارجية الإيرانية خاصة في ظل استمرار العزلة النسبية لإيران تجاه الغرب في ضوء استمرار سريان فتوى إباحة دم سليمان رشدي والتخوف الأمريكي مما تعتبره الإدارة الأمريكية الجديدة جهود التسلح غير التقليدي الإيرانية ومساندتها الإرهاب عبر العالم ومعارضتها لعملية التسوية في الشرق الأوسط، كل هذه عوام تدفع باتجاه عدم القدرة على التنبؤ بقدر من التيقن حول مدى استمرارية ارتباط إيران بجماعات العنف السياسي داخل المنطقة وخارجها مستقبلا من عدمه ومدى هذا الارتباط وطبيعته ودرجته.
وحتى إذا ما امتنعت إيران عن تقديم أي دعم من أي نوع – حتى ولو كان معنويا فقط – للحركات الإسلامية الراديكالية –وهو أمر مستبعد إلى حد ما – فإن بقاء الثورة الإسلامية في الحكم في إيران في حد ذاته يمثل مصدر إلهام للعديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة، خاصة تلك الجماعات ذات الطابع العنيف، كما أن العديد من هذه الحركات عبر العالم الإسلامي تعتبر إيران الملاذ والملجأ الأخير لها، بعد أن استعارت هذه الحركات اللغة والشعارات السياسية للثورة الإيرانية.