لم تكد تمضي ساعات على صدور حكم المحكمة الجزائية الصغرى في المنامة بالسجن على الناشط الحقوقي عبد الهادي الخواجة، لاتهامه بالتحريض على كراهية النظام ، حتى سارع العاهل البحريني حمد بن عيسى آل خليفة إلى إصدار عفو ملكي قضى بإطلاق سراح فوري للخواجة.
بالعفو عن الخواجة اختار ملك البحرين أن يضع حداً لتطور مفاجئ لقضية تشهير تتعلق بحرية الرأي التي يضمنها الدستور ويشملها برنامج الإصلاحات الجرئ الذي أطلقه حمد بن عيسى منذ ثلاث سنوات، فسرعان ما تحولت محاكمة الخواجة إلى محاكمة للنظام وإلى مشروع فتنة مذهبية لا تهدد فقط برنامج الإصلاح والتطوير والتحديث، بل راحت تنذر جدياً بتفاعلاتها ودخول أطراف خارجية على الخط بزعزعة استقرار المملكة وتهديد وحدتها الوطنية بإثارة فتنة شيعية سنية.
عندما اعتقل عبد الهادي الخواجة في سبتمبر "أيلول" الماضي، كان ذلك إثر إلقائه لمحاضرة نظمها مركز البحرين لحقوق الإنسان وألقاها رئيسه "الخواجة" في مركز نادي العروبة الثقافي. واستغل الخواجة مشاركته في الندوة التي حملت عنوان "الفقر والحقوق الاقتصادية" ليوجه انتقادات مباشرة إلى رئيس وزراء البحرين، وعم الملك الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة محملاً إياه مسؤولية الفقر في المملكة وداعياً إلى استقالته. وفي اليوم التالي اعتقل الخواجة بتهمة التحريض على كراهية النظام والمساس برموزه ونشر دعايات مغرضة ضد السلطة. وفي الوقت نفسه، تم حل مركز البحرين لحقوق الإنسان وإغلاق نادي العروبة لأسابيع، أعيد فتحه بعدها.
أبعاد دولية
وفي معلومات "الوطن العربي"، أن السلطات البحرينية فوجئت بالأبعاد المحلية والإقليمية والدولية التي اتخذتها عملية اعتقال الخواجة، وسرعان ما أدت هذه الأبعاد والانعكاسات إلى إثارة اهتمام جهات دبلوماسية وأمنية دولية راحت تراقب عن كثب خلفيات وخفايا ما يدور على الساحة البحرينية وما تحمله من مخاطر على مستقبل الوضع في المملكة. ولم تتوقف هذه المصادر في البداية عند حملة التعبئة الدولية التي قامت بها جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان بحيث إن أكثر من 420 جمعية انضمت إلى حملة الدفاع عن الخواجة والضغط على الحكومة لإطلاق سراحه.
لكن المفاجآت بدأت تظهر مع دخول جهات أخرى على الخط مباشرة وفي شكل يتناقض كليا مع الشهادات الدولية التي تشهد بالتجربة الديمقراطية التي ينتهجها الملك البحرين بن عيسى والتي تجمع على اعتبار البحرين رائدة عملية الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي وأنها الدولة الأكثر جرأة في السير ببرنامج التطوير والإصلاح على الرغم من حساسية توازناتها الداخلية وهشاشة إمكاناتها الاقتصادية.
وكان لافتاً أن السفارتين الأميركية والبريطانية في المنامة أسهمتا في حملة الانتقادات بل إنهما لعبتا دوراً في استقطاب المعارضة، وخصوصاً الشيعية ودعوتها إلى اجتماعات أثارت حفيظة السلطة لاعتبارها تدخلاً مفضوحاً في قضايا داخلية، كما أثارت حفيظة أطراف أخرى في المعادلة السياسية والاجتماعية البحرينية لجهة إقدام تجمعات معارضة على فتح قنوات اتصال بدول خارجية.
وكشفت مصادر أميركية مطلعة ل "الوطن العربي" أن دخول كل من لندن وواشنطن على خط اللعبة السياسية الداخلية في البحرين لم يكن في الواقع من قبيل التدخل في الشؤون الداخلية أو حتى الاعتراض على سياسة المملكة.
وتشير هذه المصادر إلى أن الموقف الأميركي، خصوصاً واضح جداً تجاه البحرين وهو موقف يشيد بخطوات الملك والإنجازات التي حققها في السنوات الأخيرة وحكمته في تنفيذ عملية انتقال هادئ وسلمي نحو الديمقراطية والتعددية وتمرير الإصلاحات وسط الحفاظ على الانسجام الوطني والسلم الأهلي، وكشف هذا المصدر أن السفير الأميركي "ومعه واشنطن" كان يعرف أن العاهل البحريني هو الذي شجع الخواجة قبل ثلاث سنوات على إنشاء "مركز البحرين لحقوق الإنسان" وهو الذي يقف وراء دعم أجواء الحرية التي تتمتع بها تنظيمات المعارضة وعلى تشجيع استمرار الحوار معها وعلى الإصلاحات السياسية التي أفسحت أمام انطلاقتها وشرعنتها.
ويذكر المصدر أن خطوات ملك البحرين تحظى بدعم أميركي كامل وهو دعم تمت ترجمته بتوقيع اتفاق التجارة الحرة بين البلدين وبدعوة حمد بن عيسى إلى المشاركة في قمة رؤساء الدول الصناعية الكبرى وباعتبار البحرين نموذجاً للاقتداء به في مشروع الشرق الأوسط الكبير.
مخطط إيراني
أما سبب "التدخل" الأميركي والبريطاني في قضية الخواجة فهو حسب معلومات "الوطن العربي" مرده إلى تقارير سرية خطيرة تبادلتها كل من واشنطن ولندن في الأسابيع الأخيرة. وقادت هذه التقارير إلى قلق ومخاوف لدى هاتين الدولتين من عودة التوتر بين الحكم والمعارضة وتحديدا المعارضة الشيعية وذلك على خلفية مخطط يهدف إلى زعزعة استقرار البحرين التي تمثل محوراً مهما في الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأميركية في المنطقة وهو مخطط ينظر إليه الأميركيون بأنه يهدف إلى ضرب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة من خلال زعزعة الاستقرار في عدة دول خليجية أبرزها البحرين والكويت وذلك عبر إثارة فتن مذهبية واختراق تنظيمات المعارضة وتأليبها ضد السلطة.
وكشفت هذه المصادر ل "الوطن العربي" أن أخطر التقارير يتحدث عن مخطط إيراني يهدف إلى استقطاب وتحريك الشيعة في البحرين والكويت واستخدامهم في إفشال المشروع الأميركي. ويصل هذا التقرير إلى حد وصف أهداف المشروع الإيراني بأنه يهدف إلى استخدام "الشيعة العرب كرهائن إيرانية في الحرب السرية الدائرة بين طهران وواشنطن"، ويشير إلى أن ما يحصل في العراق من اختراق للأجهزة الأمنية الإيرانية للساحة الشيعية عبر عمليات تمويل وتجنيد وإرسال عملاء ورجال دين هو جزء من مخطط أعد على مستوى المنطقة في اجتماع سري عقد قبل أشهر في مكتب المرشد الإيراني على خامنئ. ويبدو أن طهران تعتبر هذا المخطط محوراً رئيسياً في الحرب الوقائية التي قررت خوضها ضد ما تعتبره مخططاً أميركياً بدأ في العراق يهدف إلى إطاحة نظام الملالي في طهران. وفي معلومات التقرير أن ما حصل في البحرين والكويت في الأشهر الأخيرة من تحركات شيعية مثيرة للشبهات أحيانا يتجاوز ما يقال عن عدوى ارتفاع معنويات الشيعة في العراق، وهو يعكس في العديد من المؤشرات والمظاهر مشروعا إيرانياً للتهديد بتصدير الثورة إلى دول المنطقة والتلويح بزعزعة استقرارها عبر تأليب بعض الفئات الشيعية فيها ذات الارتباطات الإيرانية. واللافت أن التقرير قارن في تحذيره بين ما تشهده البحرين منذ أشهر والتصعيد الملحوظ في الأسابيع الأخيرة على خط بعض الفئات الشيعية المتطرفة والمعروفة بارتباطاتها ب "قم" وببعض ملالي طهران منذ الثمانينيات والتسعينيات، وما شهدت مناطق الشمال اليمني في الصيف الماضي وكشف التقرير أن انتفاضة بدر الدين الحوثي كانت في الواقع عملية تحريك إيرانية للمذهبية الشيعية لدى زيديى اليمن ومحاولة لاستخدامهم لزعزعة النظام في رسالة غير مباشرة للأميركيين ولمشروعهم في المنطقة. ويعتبر التقرير أن المخاطر التي تهدد البحرين حالياً والكويت في وقت لاحق هي نوع من امتداد للمخطط الإيراني الهادف إلى استخدام كل أنواع الأسلحة في مواجهة ما يعتبره مؤامرة أميركية لإسقاط نظام الملالي.
تصعيد يومي
ومن هذا المنطلق توقف المراقبون عند التصعيد شبه اليومي الذي تنفذه بعض أطراف المعارضة الشيعية في البحرين ويسير في خط إثارة انتفاضة شيعية ونزاع مذهبي على مطالب متكررة وشعارات تهديدية تتهم السلطة بالتفرقة والسرقة والفساد ومستعدة للتحول إلى انتفاضة شعبية وأعمال تكفير تذكر بالتسعينيات.
وكان لافتاً أن قضية المواجهة تزامنت مع مسلسل تصعيدي على الساحة البحرينية سرعان ما أثار الشبهات والمخاوف وإلى حد دفع بالملك حمد بن عيسى إلى فقء هذا الدمل ومنع تطور الاحتقان السياسي والمذهبي إلى الانفجار عبر العفو عن الخواجة.
والتقط المراقبون عدة مؤشرات خطيرة في مسلسل تصعيد الصراع المذهبي في المنامة، فقد كان لافتاً مثلا دخول أبرز علماء الشيعة على خط الاعتراض على دور المجلس الأعلى للمرأة الذي أنشأه الملك وعهد برئاسته إلى قرينته الشيخة سبيكة، وتمحورت الاعتراضات على دور المجلس في إعداد قانون الاعتراضات على دور المجلس في إعداد قانون تنظيم الأسرة، وبعدها أثير جدل آخر ومثير للانقسامات المذهبية حول شرعية المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية قررت بعض الجهات الشيعية تحدي الحكومة وتشكيل "المجلس الإسلامي العلمائي" الذي اعتبرته الحكومة مخالفاً للدستور. وكان لافتاً أن أصوات رجال الدين الشيعة الذين اعترضوا على المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وأبرزهم الشيخان عيسى قاسم وسيد عبد الله الغريفي بنت اعتراضها ومعارضتها دخول المجلس على فتاوى صادرة من "قم" تحرم التعامل مع المجلس. وفي الأسبوع الماضي بدا أن الخلاف على هذه المجلس سائر نحو التحول من خلاف سني شيعي إلى خلاف شيعي شيعي عندما صرح عضو المجلس الشيخ حمد المبارك رئيس محكمة الاستئناف الجعفرية أن فتاوى تحريم التعامل مع المجلس التي صدرت عن حوزتي قم والنجف، تحتاج إلى تأمل. وكان الشيخ مبارك أثار استياء في بعض الأوساط الشيعية عندما أكد أن الحكومة تعد لقانون "أحوال شخصية".
صب الزيت على النار
وفيما كانت أوساط شيعية بحرينية تضيف مؤشرات أخرى على تدهور الروابط المذهبية عبر اتهام السلطة بإسقاط الحسينيات والحوزات العلمية من أوجه الصرف في موضوع تمليك الأوقاف السنية والجعفرية جاءت معركة الفلوجة لتصب الزيت على النار الصدام المذهبي الذي ارتفعت وتيرة المخاوف منه. وبالفعل شهد البرلمان البحريني معركة حقيقة وملاسنات ومشادات حامية حول مسألة إصدار بيان يدين اقتحام الفلوجة. ففيما اعتبر تيار الإخوان المسلمين المقاومة في الفلوجة مشروعة ذهب بعض نواب الكتلة الإسلامية الشيعية إلى حد وصف مقاتلي الفلوجة بالإرهابيين. وقادت معركة النواب إلى انسحابات بالجملة لم يسبق أن شهد المجلس مثلها منذ تأسيسه العام 2002، وبعد أيام شهد المجلس مؤشراً آخر على احتقان الوضع المذهبي عندما اندلعت أزمة سنية شيعية على خلفية الدعوة لمنع صحافية من جريدة "الوسط" (شيعية) من تغطية جلسة البرلمان وذلك لاتهام بعض "الإخوان" لها بالنقل غير الدقيق لتصريحاتهم، ورفض شيعة المجلس طرد الصحافية فطارت الجلسة.
ويعتر بعض المراقبين أن هذه الخلافات التي تتخذ بسرعة بعداً مذهبياً تؤكد في النهاية الأجواء الديمقراطية الجديدة في البحرين وتعكس عدم تمرس البعض بها وسوء استخدام أجواء الحرية والحوار في ديمقراطية ناشئة. لكن بعض التقارير تجد في الممارسات الأخيرة وتوقيتها وظروفها أكثر من عدم إحساس بالمسؤولية أو مراهقة في الديمقراطية. وتخوف هؤلاء من أن تكون بعض أطراف المعارضة تنفذ عن سابق تصور وتصميم خطة إثارة وتصعيد واستفزاز لا تهدد فقط الديمقراطية والمكتسبات الحضارية في البلد، بل تهدف إلى خلق حالة احتقان وتوتر يقودها تيار متطرف ضالع في مخطط إيراني أوسع، يهدف إلى التهديد بصدام مذهبي خطير جداً بالنسبة لمستقبل الوضع في البحرين خاصة والخليج عامة.
وعلى الرغم من إشادة آخر التقارير بمبادرة العاهل البحريني إلى تفادي الاحتقان وشرخ الوحدة الوطنية، إلا أن المصادر المطلعة مازالت تراقب الوضع عن كثب وتتخوف من استمرار المخطط لزعزعة استقرار البحرين. وتلفت هذه المصادر إلى أن التدخلات الخارجية في قضايا البحرين الداخلية لم تأت فقط من السفارتين الأميركية والبريطانية بل توجه أصابع الاتهام إلى ما يجري داخل السفارة الإيرانية في المنامة وعلى خط اتصالات بعض أطرف المعارضة الشيعية مع جهات دينية أمنية في "قم" وطهران.
وتشير هذه المصادر إلى أن ما يزيد الوضع خطورة هو أن التصعيد الاجتماعي والسياسي يتزامن مع عودة بعض التقارير إلى الحديث عن تحركات جماعات إسلامية متطرفة داخل البحرين وبروز تهديدات أكثر جدية من سابقاتها عن عمليات تفجير إرهابية يجري الإعداد لنقلها إلى البحرين بحجة استهداف مقرات الأسطول الخامس والمصالح الأميركية.وثمة معلومات أن مناشير وزعت مؤخراً على الإنترنت تدعو البحرينيين إلى تفادي الاقتراب من المؤسسات الأميركية والغربية. والجدير بالذكر أن هذا التهديد الإرهابي للبحرين ليس الأول من نوعه، وقد سبقته تهديدات وتحذيرات قادت إلى إعلان حالة الطوارئ في صفوف القوات الأميركية ولم يحصل أية عمليات. ولكن لوحظ أن عدة جهات أمنية غربية تتعامل مع التهديد الأخير والتهديدات المماثلة التي تشمل عدة دول خليجية في هذه الفترة بالذات، باعتبارها مرتبطة أكثر بالتجديد لجورج بوش وبتجدد المخاوف الإيرانية من ضربه عسكرية أميركية قررت طهران مواجهتها بكل الوسائل بما فيها زعزعة استقرار كل دول الخليج.
____________________________
المصدر: "الوطن العربي" العدد 1448
3/12/2004