الكاتب : محمد الخطيب ..
فتنة شاه قولي
محمد الخطيب
منذ قيامها في أوائل القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، أخذت الدولة الصفوية الشيعية، التي قامت في إيران، على عاتقها نشر التشيع بكل السبل الممكنة، ومحاربة مذهب أهل السنة، وإضعاف دولة الخلافة العثمانية التي كانت منطلقة في فتوحاتها على الجبهة الأوربية.
وكان إسماعيل الصفوي أول حكام هذه الدولة([1]) قد بادر بتوجيه سهامه إلى الدولة العثمانية، فور تأسيس دولته، واصطدم معها عسكرياً، وتحالف مع الدول الأوربية ضدها، وكان من بين الأساليب التي استخدمها إسماعيل لمحاربة العثمانيين وزعزعتهم، نشر الخلايا السرطانية في أراضي الدولة العثمانية، والتبشير بمذهب الشيعة، والدعوة سّراً للشاه الصفوي، ومن هنا كانت فتنة شاه قولي أو شاه قولوا، التي دبرها الصفويون وكانت من كبريات الفتن في التاريخ العثماني.
تعود بداية هذه الفتنة إلى شخص شيعي اسمه حسن خليفة، تظاهر بالزهد هو وابنه نور، واعتكفا في أحد الكهوف بجبل قريب من أنطاليا([2])، ولما وصلت أنباء زهدهما إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني، أغدق عليهما العطايا، وصرف لهما راتباً سنوياً قدره ستة أو سبعة آلاف أقشة (العملة التركية آنذاك)، لكن هذا المدّعي للزهد لم يكن إلاّ أحد دعاة التشيع، وأحد خلفاء الشيخ حيدر، والد الشاه إسماعيل، وأحد دعاة الشاه إسماعيل، وقد أرسلا نواباً عنهما إلى سرز وفيليبا وصوفيا، وباقي مناطق غرب الأناضول (تركيا).
وقد برز من هؤلاء النواب: قذل أوغلو، محمد بك، دادا علي، وخضر إمام أوغلو، وتاج الدين، وبير أحمد، وقد كان كل منهم يعمل في منطقة معينة لتنظيم الناس بشكل سري لدعم الشاه إسماعيل، وكانوا يعقدون اجتماعات سرية للتشاور، وإعطاء تقارير لبعضهم عمّا تم إنجازه.
كان الصفويون والشاه إسماعيل يهدفون من وراء هذه الحركة إضافة إلى نشر المذهب الشيعي، والقضاء على الدولة العثمانية السنية إلى السيطرة على طرق التجارة والقوافل، والمنافذ البحرية والمناجم.
وفي سنة 914ه (1509م) توفي حسن خليفة، فواصل ابنه نور نشاط أبيه، وتولى أمور التنظيم والدعوة، وأطلق على نفسه اسم "شاه قولي" أي عبد الشاه، أو خادم الشاه، من درجة حبه وإخلاصه للشاه الصفوي إسماعيل، لكن بعد افتضاح أمره صار الناس يلقبونه ب "شيطان قولي" أي عبد الشيطان أو خادم الشيطان.
وصار أتباع شاه قولي من الكثرة بمكان، فبدأ يدعو بالبيعة للشاه إسماعيل([3]) ووصل بدعوته إلى البلقان، وزاد من نشاط هؤلاء كبر سن السلطان بايزيد، وتركه شؤون الحكم لأبنائه ووزرائه، حيث كان الأبناء في تنافس على السلطة مما أدّى لاختلال الأمن في البلاد.
وقد كان قاضي أنطاليا يراقبهم منذ البداية، وقام ذات مرة بمهاجمتهم أثناء إحدى اجتماعاتهم وعبادتهم، إلاّ أنه لم يستطع القبض على شاه قولي، مما رفع من شأنه عند أتباعه، واعتبروه مثل المهدي.
وبات خادم الشيطان هذا يترقب ساعة الصفر لتنفيذ ما كان يخطط له،هو والصفويون من ورائه، وكان تحت إمرته آنذاك عشرة آلاف شخص وقيل عشرين ألفاً، إضافة إلى عدد من النساء والأطفال.
فقد رأى أتباعه ذات يوم قافلة أمير أنطاليا الشيخ زاده ابن السلطان بايزيد، وهي تتجه نحو الشمال، فظنوا أن السلطان وافته المنيّة، وأن الأمير ذاهب لقتال إخوته، فانقض شاه قولي وأتباعه على تلك القافلة وسلبوها، كما هزموا قوة أخرى أرسلها قاضي أنطاليا لحماية الأمير من شاه قولي، وتم القضاء على معظم الجنود العثمانيين، كما قتلوا قاضي أنطاليا، وعددا من قضاة المناطق في جنوب غرب تركيا، ووصلت قواتهم إلى منطقة "كتاهية" في وسط الأناضول، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً، وصار شاه قولي يدعو لنفسه باعتباره خليفة الشاه الصفوي إسماعيل في الأناضول، وقد قرئت الخطبة باسم الشاه إسماعيل([4]).
وظنت الحكومة العثمانية في بادئ الأمر أن الأمر لا يعدو كونه جريمة فردية فأرسلت فرقة صغيرة لمقاومة هذه الحركة، فهزمت، فزادت جرأت شاه قولي وأتباعه، واستشرت الفتنة، وصاروا يهاجمون البلدة تلو الأخرى، وكلما دخل بلدة وجد له أتباعاً، ووصل إلى مشارف بورصة (شمال غرب تركيا)، وحاصرها حتى أرسل قاضيها إلى الحكومة مستغيثاً: "إذا لم تصل إلينا تعزيزات خلال يومين قضي الأمر".
ومن جملة ما أحدثه هؤلاء المتمردون من مفاسد بحسب بعض المصادر الشيعية والعلوية مثل كتاب "علويو الأناضول" أن "دمروا جميع المساجد والجوامع والمدارس في المناطق التي دخلوها، كما حرقوا جميع نسخ القرآن (الناقصة)([5]) والكتب الدينية (المزورة)"... وكان شاه قولي يعين أحد أتباعه على كل منطقة يستولي عليها، وبلغ تمرده سنة 915 ه / 1510م درجة كبيرة من النجاح، الأمر الذي جعل الحكومة العثمانية تجيش الجيوش للقضاء على هذه الفتنة.
وظلت الحرب سجالاً بين قوات الحكومة العثمانية، وقوات شاه قولي، التي حققت انتصارات كبيرة، إلى أن سيرت الحكومة سنة حملة كبيرة بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) علي باشا، ضمت أربعة آلاف من الجنود المشاة، ومثلهم من الخيّالة، وانضمت إليهم جميع القوات العثمانية الموجودة في المناطق المجاورة، وبدأوا بالهجوم على شاه قولي، الذي انسحب في بادئ الأمر إلى مدينة قونية، وتمكن من الفرار من الهجوم العثماني.
وظلت القوات العثمانية بقيادة علي باشا تلاحق قوات شاه قولي، وقامت المعركة بين الطرفين قرب مدينة صيواص، وقد استشهد فيها علي باشا، كما قتل فيها شاه قولي، وهرب من بقي على قيد الحياة من أتباعه باتجاه إيران، وهناك استقبلهم الشاه إسماعيل وأسكنهم في شتى المدن والقرى الإيرانية.
وبالرغم مما أحدثه الشاه إسماعيل من فساد من خلال تمرد شاه قولي، ألاّ أن السلطان العثماني بايزيد كان ميالاً للسلم، وكان يحب أن يرجع إسماعيل إلى صوابه، وأرسل له رسالة جاء فيها ".. أيها الشاب قليل التجربة، اسمع نصيحتي، فمن أجل قبول مذهبك صُن دماء المسلمين.. ولا تذهب بخيالك بعيداً، والتزم بطريقة أجدادك أنار الله برهانهم".
ولقد استنزفت هذه الفتنة دماء المسلمين وإمكانياتهم وطاقاتهم زهاء سنتين (915 917 ه)، مما حدا بالأمير سليم (السلطان فيما بعد) الذي كان والياً على طربزون في أقصى شرق الأناضول أن يطلب من والده بأن يتنازل عن العرش، ليتولى هو مواجهة الاعتداءات الشيعية الإيرانية التي كانت تهدد كيان الدولة، وربما كان ذلك هو السبب المباشر الذي جعل السلطان سليم (918926ه) يبدأ نشاطه العسكري شرقاً، فكانت معركة جالديران في رجب سنة 920ه (آب 1514م) مع الصفويين أولى الحروب التي خاضها،واضطرته لوقف الفتوحات على الجبهة الأوربية.
وأخذ السلطان سليم على عاتقه مع محاربة الصفويين القضاء على فلول قوات شاه قولي، وتلك الخلايا السرطانية، التي زرعها الصفويون، واستخدم الشدة في ذلك مستعيناً بالصدر الأعظم يونس باشا، ولم يكن من خيار أمام السلطان سوى استخدام القوة، خاصة أن التقارير التي كانت ترده تقول: "إن المبتدعين من الصوفية والشيعة قد استفحل خطرهم وزاد عددهم، وباتوا يمعنون في القرى سلباً ونهباً، ولم يتورعوا عن قتل الرجال، وسبي النساء، وأتوا على الأخضر واليابس".
للاستزادة:
1 الأصول العقائدية للإمامية د. صابر طعمية ص19.
2 علويو الأناضول د. بسيم صبحي الأنطاكي ص 125.
3 الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي جعفر المهاجر ص33.
4 الوجيز في تاريخ الإسلام والمسلمين د. أمير عبد العزيز ص 838.
5 العلويون في تركيا يوسف الجهماني ص 51.
[1] استمر حكمه خلال الفترة (907 930ه) ارتكب خلالها المذابح الكثيرة لفرض مذهبه على أهل السنة في إيران وما حولها، وقد كان السنة يشكلون الأغلبية في هذه الدول آنذاك.
[2] وتسمى أنطاكيا، وهي مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، جنوب تركيا.
[3] سبقت دعوة شاه قولي وأبيه تأسيس الشاه إسماعيل للدولة الصفوية، لكن تأسيس الدولة أعطتهم دافعاً قوياً، كما حدث للشيعة بعد تأسيس الخميني لجمهوريته سنة 1979م.
[4] قراءة الخطبة باسم شخص ما تعني انه هو الخليفة الشرعي.
[5] هذه إشارة واضحة من الشيعة بأن القرآن الموجود بأيدي المسلمين الآن ناقص ومحرف، ولذلك قاموا بإحراق المصاحف بزعم أنها (ناقصة).