الكاتب : عثمان الخميس ..
حقبة من التاريخ - ما بين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقتل الحسين رضي الله عنه سنة 61 هجرية
عثمان بن محمد الخميس
طبعة جديدة منقحة ومزيدة
الطبعة الثالثة 1427 هـ
الإسماعيلية: مكتبة الإمام البخاري، 2006
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الْمُصَنِّفِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي كُنْتُ أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى عِنْدَمَا خَطَرَ فِي بَالِي أَنْ أَكْتُبَ فِي هَذَا الْمَوْضُوع؛ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِيهِ أَحْيَانًا بِحَقٍّ، وَغَالِبًا بِبَاطِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْمَوْضُوعَات الْحَيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ طَوِيلٌ، وَلَكِنَّهُ حَيٌّ فِي نُفُوسِنَا، إِكْبَارًا لِذَلِكَ الْجِيلِ النَّبَوِيِّ الْفَرِيدِ، وَتِلْكَ الْكَوْكَبَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَلَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ الْحَقِّ نُورًا يُهْتَدَى بِهِ، وَلِمَا لِذَلِكَ الْجِيلِ الْمُبَارَكِ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْنَا؛ كَانَ لِزَامًا أَنْ نُؤَدِّيَ بَعْضَ مَا لَهُمْ عَلَيْنَا مِنْ حُقُوقٍ. فَشَأْنُهُمْ لَيْسَ كَشَأْنِ غَيْرِهِمْ، وَعِلْمُهُمُ وَعَمَلُهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَنْ يُلْحَقُوا بِهِ؛ فَبِهَؤُلَاء أَعَزَّ اللهُ الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ.
وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَلْهَجُ بِفَضَائِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِلَّا أَنَّنَا لَا نَدَّعِي لَهُمُ الْعِصْمَةَ، فَمَا جَعَلُ الله عَزَّ وَجَلَّ الْعِصْمَةَ إِلَّا لِأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
نَعَمْ، لَقَدْ أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، لَكِنَّ مَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الْأَذَى وَالْقَهْرِ وَالتَّنْكِيلِ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنْ هِجْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ، وَجِهَادِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَذَبِّهِمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُونَ؛ يَجْعَلُ هَذِهِ الْأَخْطَاءَ فِي جَانِبِ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَحَبَّاتِ رَمْلِ فِي جِبَالٍ، وَقَطَرَاتِ مَاءٍ فِي عُبَابٍ(1).
ولَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ التَّارِيخِ مُهِمٌّ جِدًّا فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَهُوَ يُشَكِّلُ عِمَادِ وُجُودِهَا، وَيُحَدِّدُ لَهَا مَنْهَجَهَا وَحَاضِرَهَا وَمُسْتَقْبَلَهَا، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ تَسْعَى إِلَى الرِّيَادَةِ وَالسُّؤْدُدِ إِلَّا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا إِحْكَامُ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاضِيهَا، لِتَسْتَمِدَّ مِنْهُ الْقُوَّةَ وَمُقَوِّمَاتِ بِنَاءِ حَاضِرِهَا وَاسْتِشْرَافِ مُسْتَقْبَلِهَا.
وَأُمَّةٌ مِثْلُ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا بِذَلِكَ، لِمَا يَحْمِلُهُ تَارِيخُهَا
________________________________
(1) « الْمَاءُ الْعُبَابُ »: أَي الْكَثِيرُ أَوِ الْمُتَدَفِّقُ.
مِنْ أَمْجَادٍ وَبُطُولَاتٍ وَانْتِصَارَاتٍ يَصْغُرُ عِنْدَهُ تَارِيخُ أَيِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى. وَلَكِنْ فِي ظِلِّ ضَعْفِ أُمَّتِنَا فِي وَقْتِهَا الْحَاضِرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي أَبْنَائِهَا؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْنَا وَرَثَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ ...مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ(1)
أَقُولُ: فِي ظِلِّ هَذَا الضَّعْفِ لَابُدَّ مِنَ الْعَوْدَةِ لِتَارِيخِ أُمَّتِنَا الْمَجِيدِ الْمُشْرِقِ؛ كَيْ يَسْهُلَ عَلَيْنَا تَأَمُّلُ ذَاتِنَا، وَالإِبْصَارُ مِنْ حَوْلِنَا، وَتَلَمُّسُ الْخُطَى لِمُسْتَقْبَلِنَا، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِرُجُوعِنَا وَتَدَبُّرِنَا لِتَارِيخِنَا الصَّحِيحِ، وَلَا شَيْءَ غَيْرَ الصَّحِيحِ.
وَلَوْ أَمْعَنَّا النَّظَرَ فِي تَارِيخِنَا؛ لَوَجَدْنَا أَنَّ أَنْصَعَ الْحُقُبِ بَيَاضًا هِيَ ( الْحُقْبَةُ )(2) الَّتِي عَاشَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي حَمَلَ عَلَى عَاتِقِهِ نَشْرَ رِسَالَةِ الْإِسْلَامِ، فَهُمْ صَفْوَةُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ الْأنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَدِ اعْتَرَى تَارِيخَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَثِيرٌ مِنَ التَّشْوِيهِ وَالدَّسِّ
________________________________
(1) « ديوان أَبِي الطّيب الْمتنبي ».
(2) ( الْحُقُبُ أَوِ الْحُقْبُ ): الْمدة الطَّوِيلة مِنَ الدّهر. وَ ( الْحِقْبَةُ ): الْمدة لَا وَقت لَهَا، أَوِ السَّنَةُ. انْظُرْ « لِسَان الْعَرَبِ » لِابْنِ مَنْظُورٍ (3/253) مَادَّة ( حقب ).
وَالتَّحْرِيفِ، بِسَبَبِ الْفِرَقِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي حَاضِرَةِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ تُحَاوِلُ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنْ تَضَعَ مِنْ شَأْنِ الْأُخْرَى، وَتَرْفَعَ مِنْ شَأْنِ ذَاتِهَا، وَبِذَا حَدَثَتْ ثَغَرَاتٌ فِي تَارِيخِ الْعُظَمَاءِ مِنْ أُمَّتِنَا.
فَوَجَدْنَا فِي الْأُمَّةِ مَنْ تَعَدَّى الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ فِي مَحَبَّةِ الْأَشْخَاصِ، فَأَحَبَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حُبًّا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ كُلَّهُ، فَنَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يُقْبَلُ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأخْبَارِ، وَفِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ حَاوَلَ أَنْ يَضَعَ مِنْ شَأْنِ غَيْرِهِ، وَعَدَّ الْآخَرِينَ مُعْتَدِينَ عَلَى حَقِّهِ، ظَالِمِينَ لَهُ وَلِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ زَادَ بِهِ الْغُلُوُّ فِي مَحَبَّةِ عَلِيٍّ حَتَّى تَعَدَّاهُ إِلَى أَحْفَادِهِ، فَزَعَمْ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، مُشَبِّهًا لَهُمْ بِالْأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ(1).
* وَهَذَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: « لَيُحِبُّنِي أَقْوَامٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِيَّ، وَلَيُبْغِضُنِي قَوْمٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِي بُغْضِي »(2).
* وَقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ: مُفْرِطٌ فِي حُبِّي،
________________________________
(1) بَلْ وَجَدْنَا فِي « بِحَار الْأَنْوَارِ » للمَجْلِسي (ج23-27) - وَغَيْره - مِنْ صورِ الْغُلُوِّ مَا هُوَ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.
(2) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصم فِي « السُّنَّةِ » برقم (983)، وَقَالَ الْعَلَّامةُ ناصرُ الدّينِ الْألبانِيُّ: « إِسْنَادُه صَحِيح عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ». وَانْظُرْ: « نَهْج الْبَلَاغَةِ ». (469) 4/108، وَ « مَنَاقِب الْإِمَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ » (مُحَمَّد بْن سليمان الْكوفي) 2/283 وَ « الْأَمَالِي » لِلطُّوسِيِّ ص (256).
وَمُفْرِطٌ فِي بُغْضِي ».
وَهَذِهِ الْمَزَاعِمُ وَصُوَرُ الْغُلُوِّ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ مُنْتَصَفِ ( الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِيِّ ) عَلَى الصَّحِيحِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَة: أَنَّنَا لَا نَجِدُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَارِيخِ وَأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ الْمَزْعُومَةِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، بَلْ وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ مَحَبَّتِهِمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَصُوَرًا مُشْرِقَةً مِنَ الْإِيثَارِ وَالْإِخَاءِ وَالْمَوَدَّةِ وَالنُّصْحِ وَالْمُصَاهَرَةِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ، الَّذِي يَقْطَعُ مَعَهُ الْمُنْصِفُ الْبَاحِثُ عَنِ الْحَقِّ؛ بِكَذِبِ مَا يُرَوَّجُ مِنْ أَبَاطِيلِ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ وَالتَّبَاغُضِ..
وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الْمُشْرِقَةِ:
* الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الثَّلَاثَةُ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، يَحُثُّونَ عَلِيًّا عَلَى الزَّوَاجِ مِنْ فَاطِمَةَ وَيُسَاهِمُونَ فِي جِهَازِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ:
* قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « أَتَانِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَا: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ لَهُ فَاطِمَةَ »(2).
________________________________
(1) الْمَصْدَر السّابق: برقم (984)، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ: « إِسْنَادُه حَسَن ».
(2) « أَمَالِي الطُّوسِيِّ » (ص 39)، « بِحَار الْأَنْوَارِ » (43/93).
* وَقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « انْطَلِقِ الْآنَ فَبِعْ دِرْعَكَ وَائْتِنِي بِثَمَنِهِ حَتَّى أُهَيِّئَ ( لَكَ ) وَلِابْنَتِي ( فَاطِمَةَ ) مَا يُصْلِحُكُمَا » قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ وَبِعْتُهُ بِأَرْبَعِمِئَةِ دِرْهَمٍ سُودٍ هِجْرِيَّةٍ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.
فَلَمَّا قَبَضْتُ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ وَقَبَضَ الدِّرْعَ مِنِّي.
قَالَ: أَلَسْتُ أَوْلَى بِالدِّرْعِ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِالدَّرَاهِمِ مِنِّي؟
فَقُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّ الدِّرْعَ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ.
فَأَخَذْتُ الدِّرْعَ وَالدَّرَاهِمَ وَأَقْبَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَرَحْتُ الدِّرْعَ وَالدَّرَاهِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ، فَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَدَعَا بِأَبِي بَكْرٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: « يَا أَبَا بَكْرٍ، اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لِابْنَتِي مَا يَصْلُحُ لَهَا فِي بَيْتِهَا »(1).
* قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « انْطَلِقْ فَادْعُ لِي: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَبِعَدَدِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ ». قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، قَالَ: «.. إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُ ( فَاطِمَةَ ) مِنْ
________________________________
(1) « كَشْف الْغُمَّةِ » (1/369)، « بِحَار الْأَنْوَارِ » (43/130).
( عَلِيٍّ ) عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالٍ مِنْ فِضَّةٍ »(1).
* عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ ( أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ فَاطِمَةَ ) مِنْ عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا(2).
* عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُسَمِّي أَوْلَادَهُ بِأَسْمَاء إِخْوَانِهِ وَأَحِبَّتِهِ فِي اللهِ تَعَالَى: أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ(3)، وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا:
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى أَحَدًا مِنْكُمْ يُشْبِهُهُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثًا غُبْرًا وَقَدْ بَاتُوا سُجَّدًا وَقِيَامًا يُرَاوِحُونَ جِبَاهَهُمْ وَجُنُوبَهُمْ وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ، إِذَا ذَكَرُوا اللهَ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ »(4).
________________________________
(1) « كَشْف الْغُمَّةِ » (1/358)، « بِحَار الْأَنْوَارِ » (43/119).
(2) فُرُوع الْكَافِي- كِتَاب النِّكَاح- بَاب تزويج أُمّ كُلْثُومٍ 5/346، وَفُرُوع الْكَافِي -كِتَاب الطّلاق- بَاب الْمتوفى عَنْهَا زوجهَا 6/121، وَقبلها: الْبيهقي فِي « السُّنَن الْكُبْرَى » 7/63- « مصنف عبد الرّازق » 6/163.
(3) انْظُرْ كتب الْأنساب كـ « عمدة الطّالب » لِابْنِ عنبة، وَ « الْأنساب » للسمعاني.
(4) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » خُطْبَة رقم 97، وَكِتَاب « نَهْج الْبَلَاغَةِ » وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْتَقِد صِحَّة نسبه إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَّا أَن هَذَا مِنْ بَاب الْإِلزام للشيعة مِنْ كتبهم. أَمَّا كتب أَهْل السُّنَّة فهي مليئة مِنْ ذكر ثَنَاء عَلَى عَلِيّ أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ خَاصَّةً الشّيخين. وَانْظُرْ مثالا عَلَى ذَلِكَ مَا ذكره عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر فِي ترجمتهما.
وَلِعَلِيٍّ مِنَ الْوَلَدِ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ قُتِلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ فِي « الطَّفِّ »، وَعُمَرُ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ(1).
وَإِنِّي كَمَا ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ كُنْتُ أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَة أَنْ أَكْتُبَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِمَا يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى لِي، وَذَلِكَ بَعْدَ اسْتِشَارَةِ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَقٍّ فَمِنَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَمِنْ نَفْسِي وَالشَّيْطَانِ.
وَسَأَتَنَاوَلُ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَتْرَةً زَمَنِيَّةً مِنْ أَهَمِّ الْفَتَرَاتِ فِي تَارِيخِنَا الطَّوِيلِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّة الْمُبَارَكَةِ.
وَقَدْ قَسَّمْتُ الْكِتَابَ إِلَى مُقَدِّمَةٍ وَثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ:
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَذَكَرْتُ فِيهَا ثَلَاثَةَ مَقَاصِدَ مُهِمَّةٍ:
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ قِرَاءَةِ التَّارِيخِ.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي: لِمَنْ نَقْرَأُ فِي التَّارِيخِ؟
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ الْإِخْبَارِيِّيْنَ فِي تَشْوِيهِ التَّارِيخِ.
وَأَمَّا الْبَابُ الْأَوَّلُ: فَسَرَدْتُ فِيهِ الْأَحْدَاثَ التَّارِيخِيَّة مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
________________________________
(1) « بِحَار الْأَنْوَارِ » 42/74، « الشَّجَرَة الزّكية فِي الْأنساب » 413.
وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَحْدَاثَ الْمُهِمَّةَ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ الْمُهِمَّةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْقِصَصِ الْمُزَوَّرَةِ وَالْأَبَاطِيلِ.
أَمَّا الْبَابُ الثَّانِي: فَتَنَاوَلْتُ فِيهِ مَوْضُوعَ « عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ ».
مُسْتَدِلًّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ ذِكْرِ أَهَمِّ الشُّبُهَاتِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَهُمْ وَبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا.
وَأَمَّا الْبَابُ الثَّالِثُ: فَتَنَاوَلْتُ فِيهِ « قَضِيَّةَ الْخِلَافَةِ ».
فَذَكَرْتُ أَدِلَّةَ الشِّيعَةِ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْخِلَافَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَنَاقَشْتُهَا نِقَاشًا عِلْمِيًّا دَقِيقًا قَدْ لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ بابِ الْإِعْجَابِ بَلْ مِنْ بَابِ: « وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ».
هَذَا وَأَسْأَلُ اللهَ الْعَلِيَّ الْقَدِير أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَمِيس
غَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ
بِاللهِ يَا قَارِئًا كُتْبِي وَسَامِعَهَا ... أَسْبِلْ عَلَيْهَا رِدَاءَ الْحُكْمِ وَالْكَرَمِ
وَاسْتُرْ بِلُطْفِكَ مَا تَلْقَاهُ مِنْ خَطَإٍ ... أَوْ أَصْلِحَنْهُ تُثَبْ إِنْ كُنْتَ ذَا فَهَمِ
فَكَمْ جَوَادٍ كَبَا وَالسَّبْقُ عَادَتُهُ ... وَكَمْ حُسَامٍ نَبَا أَوْ عَادَ ذُو ثُلَمِ
وَكُلُّنَا يَا أَخِي خَطَّاءُ ذُو زَلَلٍ ... وَالْعُذْرُ يَقْبَلُهُ ذُو الْفَضْلِ وَالشِّيَمِ
مَقَاصِدُ مُهِمَّةٌ بَيْنَ يَدَيِ التَّارِيخِ
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ نَقْرَأُ التَّارِيخَ
الْمَقْصِدُ الثَّانِي: لِمَنْ نَقْرَأُ التَّارِيخَ؟
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ الْإِخْبَارِيِّيْنَ فِي تَشْوِيهِ التَّارِيخِ
تَمْهِيدٌ
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَكَاذِيبِ التَّارِيخِ؛ زَعْمَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُضْمِرُونَ الْعَدَاوَةَ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا!!
وَهَذَا بَاطِلٌ، وَبَعِيدٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَمَّا يُفْصِحُ بِهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ] { آل عِمْرَانَ: 110 }.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي »(1).
وإِنَّ مِنْ غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ؛ أَنْ ظَهَرَ كُتَّابٌ شَوَّهُوا التَّارِيخَ وَحَرَّفُوهُ، وَخَالَفُوا الْحَقَّ وَعَادَوْهُ، فَزَعَمُوا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا إِخْوَانًا فِي اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَكُونُوا رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَمْكُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيُنَافِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَآمَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ بَغْيًا وَعُدْوَانًا وَاتِّبَاعًا لِلدُّنْيَا وَالْهَوَى.
وَلَعَمْرُ اللهِ: كَذَبُوا وَجَاؤُوا بِإِفْكٍ عَظِيمٍ وَبُهْتَانٍ مُبِينٍ.
لَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ وَالصَّحَابَةِ الْمَيَامِينِ؛ أَنْبَلَ
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِي: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب فَضَائِل أَصْحَاب النَّبِيِّ ح 3651.
وَأَطْهَرَ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ أَوْفَى مِنْ ذَلِكَ لِإِسْلَامِهِمَا وَرَحِمِهِمَا وَقَرَابَتِهِمَا، وَأَوْثَقَ صِلَةً وَأَعْظَمَ تَعَاوُنًا عَلَى الْخَيْرِ، وَمَنْ فُتِحَتْ أَقْطَارُ الْأَرْضِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَدَخَلَتِ الْأُمَمُ بِسَعْيِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.
وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيَتَّصِلُ بِبَنِي هَاشِمٍ بِالْخُؤُولَةِ، أَوِ الرَّحِمِ، أَوِ الْمُصَاهَرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأخْبَارَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ؛ هِيَ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنْ خِيرَةِ مَنْ عَرَفَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ بَعْدَ الْأنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.
وَأَنَّ الْأخْبَارَ الَّتِي تُشَوِّهُ سِيرَةَ الصَّحَابَةِ، وَتُوهِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا صِغَارَ النُّفُوسِ؛ هِيَ الَّتِي رَوَاهَا الْكَذَبَةُ الْوَضَّاعُونَ.
إِنَّ تَارِيخَ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ جَدِيدَةِ، وَذَلِكَ بِأَخْذِهِ مِنْ يَنَابِيعِهِ الصَّافِيَةِ لَاسَيَّمَا فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي شَوَّهَهَا أَهْلُ الذِّمَمِ الْخَرِبَةِ مِنْ مُلَفِّقِي الْأخْبَارِ، عِلْمًا أَنَّ أُمَّتَنَا الْإِسْلَامِيَّةَ هِيَ أَغْنَى الْأُمَمِ بِمَادَّةِ تَارِيخِهَا الَّذِي حَفِظَتْهُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ.
وَلَقَدْ تَدَارَكَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الْأَخْيَارِ قَبْلَ ضَيَاعِهَا، فَجَمَعُوا كُلَّ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ أَيْدِيهِمْ مِنْ غَثٍّ وَسَمِينٍ، مُنَبِّهِينَ عَلَى مَصَادِر الْأخْبَارِ وَأَسْمَاءِ رُوَاتِهَا؛ لِيَكُونَ الْقَارِئُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا.
وَالْآنَ يَأْتِي دَوْرُنَا نَحْنُ الْخَلَفَ؛ كَيْ نَسِيرَ عَلَى خُطَى سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَنُصَفِّيَ هَذِهِ الْكُتُبَ وَنُمَيِّزَ السَّقِيمَ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالْغَثَّ مِنَ السَّمِينِ، فَنَكُونَ بِذَلِكَ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ، وَحَتَّى يَعْلَمَ الْجَمِيعُ أَنَّ صَحَائِفَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ كَقُلُوبِهِمْ نَقَاءً وَسَلَامَةً وَطُهْرًا.
لَقَدْ بَاتَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَحْرُومَةً مِنْ أَغْزَرِ يَنَابِيعِ قُوَّتِهَا، أَلَا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِعَظَمَةِ مَاضِيهَا، فِي حِينِ أَنَّهَا سَلِيلَةُ سَلَفٍ لَمْ يَرَ التَّارِيخُ سِيرَةً أَطْهَرَ وَلَا أَبْهَرَ وَلَا أَزْهَرَ مِنْ سِيرَتِهِ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فِي التَّارِيخِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الطَّوِيَّةِ لِأَهْلِ الْحَقّ وَالْخَيْرِ، عَارِفًا بِهِمْ، وَلِمَا لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْمَكَانَةِ، بَارِعًا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ حَمَلَةِ الْأخْبَارِ، وَتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ، أَمِينًا صَادِقًا مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ.
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ نَقْرَأُ التَّارِيخَ؟
لَابُدَّ أَنْ نَقْرَأَ التَّارِيخَ كَمَا نَقْرَأُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَحْنُ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَقْرَأَ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَابُدَّ لَنَا أَنْ نَتَثَبَّتَ مِنَ الْخَبَرِ أَثَابِتٌ هُوَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟
وَلَنْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نَعْرِفَ صِحَّةَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُطْلَانِهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْإِسْنَادِ مَعَ الْمَتْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اعْتَنَوْا بِالحَدِيثِ وَرِجَالِهِ، وَتَتَبَّعُوا أَحَادِيثَهُمْ وَمَحَّصُوهَا وَحَكَمُوا عَلَيْهَا وَبَيَّنُوا الصَّحِيح مِنَ الضَّعِيفِ، وَبِالتَّالِي نُقِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِمَّا فِيهَا، أَوْ مِمَّا أُدخِلَ عَلَيْهَا مِنْ كَذِبٍ أَوْ تَدْلِيسٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ التَّارِيخَ يَخْتَلِفُ، فَتَارَةً نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ رِوَايَاتِهِ لَيْسَ لَهَا إِسْنَادٌ، وَتَارَةً أُخْرَى نَجِدُ لَهَا إِسْنَادًا وَلَكِنْ قَدْ لَا نَجِدُ لِلرِّجَالِ الَّذِينَ فِي إِسْنَادِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَرْجَمَةً، وَلَا نَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَكَلَّمَ فِيهِمْ جَرْحًا أَوْ تَعْدِيلًا، مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، فَيَصْعُبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ أَنْ نَحْكُمَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَالَ بَعْضِ رِجَالِ السَّنَدِ.
فَالْأَمْرُ أَصْعَبُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لَا يَعْنِي هَذَا أَبَدًا أَنْ نَتَسَاهَلَ فِيهِ، بَلْ لَابُدَّ أَنْ نَتَثَبَّتَ وَأَنْ نَعْرِفَ كَيْفَ نَأْخُذُ تَارِيخَنَا.
وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: سَيَضِيعُ عَلَيْنَا كَثِيرٌ مِنَ التَّارِيخِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ!
فَنَرُدُّ قَائِلِينَ: لَنْ يَضِيعَ الْكَثِيرُ كَمَا تَتَصَوَّرُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ رِوَايَاتِ
التَّارِيخِ الَّتِي نَحْتَاجُهَا -خَاصَّةً فِي هَذَا الْبَحْثِ- مَذْكُورَةٌ بِالْأَسَانِيدِ سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ الْأَسَانِيدُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ نَفْسِهَا كـ « تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ » وَ « جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ » أَوِ الْمُصَنَّفَاتِ، كـ « مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ »، أَوْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي تَذْكُرُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ بِالْأَسَانِيدِ كـ « تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ » وَ » تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ »، وَأَحْيَانًا فِي كُتُبٍ خَاصَّةٍ تَكَلَّمَتْ عَنْ أَوْقَاتٍ خَاصَّةٍ كَكِتَابِ « حُرُوبِ الرِّدَّةِ » لِلْكَلَاعِيِّ مَثَلًا، أَوْ كِتَابِ « تَارِيخِ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ » الْمُخْتَصَرِ.
الْقَصْدُ: أَنَّنَا لَا نَعْجِزُ عَنْ أَن نَجِدَ سَنَدًا لِرِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ.
وَإِنْ عَجَزْنَا وَلَمْ نَجِدْ سَنَدًا؛ فَعِنْدَنَا أَصْلٌ عَامٌّ نَتَّبِعُهُ، خَاصَّةً لِمَا وَقَعَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ –وَهُوَ مَوْضُوعُ حَدِيثِنَا- أَلَا وَهُوَ ثَنَاءُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَثَنَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا سَيَأْتِي- عَلَى الصَّحَابَةِ، فَالْأَصْلُ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ.
وَكُلُّ رِوَايَةٍ جَاءَ فِيهَا مَطْعَنٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَنْظُرُ فِي إِسْنَادِهَا:
- فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَفِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ.
- وَإِن وُجِدَ أَنَّ السَّنَدَ ضَعِيفٌ أَوْ لَمْ نَجِدْ لَهَا سَنَدًا؛ فَعِنْدنَا الْأَصْلُ وَهُوَ عَدَالَةُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ.
إِذًا: عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّارِيخِ لَابُدَّ أَنْ نَقْرَأَ بِتَمْحِيصٍ كَمَا نَقْرَأُ الْحَدِيثَ وَأَخَصُّ التَّوَارِيخِ هُوَ تَارِيخُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: « لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إِلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتُ؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ، ثُمَّ يَعْرِفَ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فَسَادٌ عَظِيمٌ »(1).
لِلْأَسَفِ؛ شُغِفَ الْكَثِيرُونَ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْحَدِيثَةِ الَّتِي أُلِّفَتْ فِي التَّارِيخِ، وَالَّتِي تَهْتَمُّ بِجَمَالِ الْقِصَّةِ أَوْ تَشْوِيهِ الصُّورَةِ أَوْ هُمَا مَعًا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صِحَّتِهَا أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهَا:
كَكُتُبِ (عَبَّاس الْعَقَّادِ )(2).
أَوْ كُتُبِ (خَالِد مُحَمَّد خَالِد )(3).
أَوْ كُتُبِ ( طه حُسَيْن )(4).
أَوْ كُتُبِ ( جُورْجِي زَيْدَان النَّصْرَانِيّ )(5).
أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحْدَثِينَ.
________________________________
(1) « مَجْمُوع الْفَتَاوَى » (19/203).
(2) لَهُ سِلْسِلَةُ « الْعَبْقَرِيَّات ».
(3) لَهُ كِتَابُ « خُلَفَاء الرَّسُولِ »، وَ « رِجَالٌ حَوْلَ الرَّسُولِ ».
(4) لَهُ كِتَاب: « مَوْقِعَةُ الْجَمَل »، وَ « عَلِيٌّ وَبَنُوهُ »، وَ « الْفِتْنَة الْكُبْرَى ».
(5) لَهُ كِتَاب « تَارِيخ التَّمَدُّنِ الْإِسْلَامِيّ ».
فَهَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَتَكَلَّمُونَ عَنِ التَّارِيخِ يَهْتَمُّونَ بِالسِّيَاقِ وَجَمَالِ الْقِصَّةِ وَحُسْنِ السَّبْكِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةً أَمْ لَا، وَبَعْضُهُمْ يَقْصِدُ التَّشْوِيهَ لِحَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ، الْمُهِمُّ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْكَ قِصَّةً جَمِيلَةً.
وَمِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهَا:
1- « الْأَغَانِي لِأَبِي الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيِّ »: وَهُوَ كِتَابُ سَمَرٍ وَشِعْرٍ وَطَرَبٍ، وَلَكِنَّهُ شَابَهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأخْبَارِ الْبَاطِلَةِ.
2- « الْعِقْدُ الْفَرِيدُ » لِابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ:
وَهُوَ كِتَابُ أَدَبٍ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ طَعْنٍ.
3- « الْإِمَامَةُ وَالسِّيَاسَةُ » الْمَنْسُوبُ لِابْنِ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ.
4- « مُرُوجُ الذَّهَبِ » لِلْمَسْعُودِيِّ: وَهُوَ بِلَا أَسَانِيدَ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: « فِي تَارِيخِ الْمَسْعُودِيِّ مِنَ الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللهُ، فَكَيْفَ يُوثَقُ بِحِكَايَةٍ مُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ فِي كِتَابٍ قَدْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ الْكَذِبِ »(1).
وقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: « وَكُتُبُهُ طَافِحَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا مُعْتَزِلِيًّا »(2).
________________________________
(1) « مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ » (4/84).
(2) « لِسَانُ الْمِيزَانِ » 5/532 مكتب الْمطبوعات الْإِسْلَامِيَّة.
5- « شَرْحُ نَهْجِ الْبَلَاغَةِ » لِعَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، بَلِ النَّاظِرُ فِي سَبَبِ تَأْلِيفِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ لِكِتَابِهِ هَذَا يَجِدُ نَفْسَهُ مُلْزَمًا بِأَنْ يَشُكَّ فِي الْكِتَابِ وَصَاحِبِهِ؛ فَقَدْ ألَّفَهُ مِنْ أَجْلِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي مَقْتَلِ ( مَلْيُونِ ) مُسْلِمٍ فِي بَغْدَادَ عَلَى يَدِ التَّتَارِ.
قَالَ الْخوانساريُّ عَنْ كِتَابَ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ هَذَا: « صَنَّفَهُ لِخِزَانَةِ كُتُبِ الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلْقَمِيِّ »(1).
حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الشِّيعَةِ ذَمُّوا صَاحِبَ الْكِتَابِ وَكِتَابَهُ؛ فَقَالَ الْمِيرْزَا حَبِيبُ اللهِ الْخوئِيُّ يَصِفُ ابْنَ أَبِي الْحَدِيدِ: « لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ وَالْأَثَرِ.. وَأَنَّ رَأْيَهُ فَاسِدٌ وَنَظَرَهُ كَاسِدٌ.. وَأَنَّهُ أَكْثَرَ مِنَ اللِّجَاجِ.. وَأَنَّهُ أَضَلَّ كَثِيرًا وَضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ».
أَمَّا عَنْ كِتَابِهِ؛ فَوَصَفَهُ الْمِيرْزَا بِصِفَاتٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: « جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ.. يَدُورُ عَلَى الْقِشْرِ دُونَ اللُّبَابِ.. لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ فَائِدَةٍ.. فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ بَعِيدَةٌ تَشْمَئِزُّ عَنْهَا الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ عَنْهَا الْأَسْمَاعُ »(2).
6- « تَارِيخُ الْيَعْقُوبِيِّ »: وَهُوَ كِتَابٌ كُلُّهُ مَرَاسِيلُ لَا أَسَانِيدَ فِيهِ، وَصَاحِبُهُ مُتَّهَمٌ.
________________________________
(1) « روضات الْجنات » للخوانساري (3/20-21).
(2) انْظُرْ: « مِنْهَاج الْبراعة شرح نَهْج الْبَلَاغَةِ » للمِيرْزَا حَبِيب الله الْخوئي (1/14) طبعة دار إِحياء التّراث الْعَرَبِيّ- بيروت.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي: لِمَنْ نَقْرَأُ التَّارِيخَ؟
* إِذًا لِمَنْ نَقْرَأُ؟
الجَوَابُ هُوَ: إِذَا كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْحَثَ فِي الْأَسَانِيد ِوَتُمَحِّصَهَا؛ فَاقْرَأْ لِلْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ، فَهُوَ الْعُمْدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَكْتُبونَ فِي التَّارِيخِ.
وإِذَا كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَحِّصَ الْأَسَانِيدَ، فَاقْرَأْ:
لِلْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي كِتَابِهِ « الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ ».
ولِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ فِي كِتَابِهِ « تَارِيخُ الْإِسْلَامِ ».
وَلِلْعَلَّامَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ « الْعَوَاصِمُ مِنَ الْقَوَاصِمِ »، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْكُتُبِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ عَنْ هَذِهِ الْفَتْرَةِ.
وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ فِي التَّارِيخِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ مُخْتَصَرَةٌ وَلَكِنَّهَا نَافِعَةٌ، مِثْلُ:
1- « مَرْوِيَّاتُ أَبِي مِخْنَفٍ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ » لِلدُّكْتُورِ يَحْيَى بْن إِبْرَاهِيمَ الْيَحْيَى.
2- « الْخِلَافَةُ الرَّاشِدَةُ وَالْخِلَافَةُ الْأُمَوِيَّةُ » مِنْ فَتْحِ الْبَارِي لِلدُّكْتُورِ يَحْيَى بْن إِبْرَاهِيم الْيَحْيَى.
3- « تَحْقِيقُ مَوْقِفِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْفِتَنِ » لِلدُّكْتُورِ مُحَمَّد أمحزون.
4- « عَصْرُ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ » لِلدُّكْتُورِ أَكْرَم ضِيَاء الْعُمَرِيّ.
5- « مَرْوِيَّاتُ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ » لِخَالِد الْغَيْث.
6- « الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى » لِابْن سَعْدٍ، وَهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ جِدًّا حَيْثُ إِنَّ الْمُؤَلِّفَ يَنْقُلُ رِوَايَاتِهِ بِالْأَسَانِيدِ.
7- « تَارِيخُ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ » وَهُوَ كِتَابٌ مُخْتَصَرٌ لَكِنَّهُ مُهْتَمٌّ بِالْإِسْنَادِ.
8- « تَارِيخُ الْمَدِينَة » لِابْنِ شَبَّةَ، وَهُوَ أَيْضًا كِتَابٌ مُسْنَدٌ.
9- « أَحْدَاثُ وَأَحَادِيثُ فِتْنَة الْهَرْجِ » لِلدُّكْتُورِ عَبْدِ الْعَزِيزِ دخان.
10- « أَخْطَاءٌ يَجِبُ أَنْ تُصَحَّحَ مِنَ التَّارِيخِ » لِلدُّكْتُورِ جَمَال عَبْد الْهَادِي، وَالدُّكْتُورَةِ وَفاء جُمْعَة.
* مِمَّ نَحْذَرُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُتَبِ التَّارِيخِ؟
عِنْدَمَا نَقْرَأُ كُتُبَ التَّارِيخِ نَحْذَرُ مِنْ أَنْ نَمِيلَ مَعَ رَأْيِ الْمُؤَلِّفِ؛ إِذْ لَابُدَّ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لَا إِلَى رَأْيِهِ، وَأَنْ نَتَوَخَّى الْإِنْصَافَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، وَلَابُدَّ أَنْ نَعْتَقِدَ –وَنَحْنُ نَقْرَأُ تَارِيخَ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَينِ اثْنَيْنِ:
الْأَمْرَ الْأَوَّلَ:
أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ خَيْرُ الْبَشَرِ بَعْدَ أنْبِيَاءِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَدَحَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ مَدَحَهُمْ، وَبَيَّنَ فِي أَكْثَرَ مِنْ حَدِيثٍ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْبَشَرِ بَعْدَ أنْبِيَاءِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
الْأَمْرَ الثَّانِيَ:
أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ. نَعَمْ نَحْنُ نَعْتَقِدُ الْعِصْمَةَ فِي إِجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ(1) فَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ كَأَفْرَادٍ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، فَالْعِصْمَةُ لِأنْبِيَاءِ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ، أَمَّا غَيْرُ الْأنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ؛ فَلَا نَعْتَقِدُ عِصْمَةَ أَحَدٍ. وَنَحْنُ فِي كِتَابِنَا هَذَا نَسْعَى جَاهِدِينَ إِلَى التَّفْرِيق بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالرَّقَائِقِ، فَحُبُّنَا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ وَلَنْ يَكُونَ أَبَدًا سَبَبًا لِطَمْسِ الْحَقَائِقِ وَإِغْفَالِهَا وَلَا نَرَى عَيْبًا، بَعْد اسْتِشَارَتِنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَمَشَايِخِنَا.
أَقُولُ: لَا نَرَى عَيْبًا فِي الْخَوْضِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لِمُجَرَّدِ الْخَوْضِ، بَلِ الْعَيْب فِي أَنْ يَخُوضَ الْإِنْسَانُ بِجَهْلٍ أَوْ سُوءِ نِيَّة أَوْ هُمَا مَعًا. أَمَّا إِذَا كَانَ الْخَوْضُ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ وَإِنْصَافٍ وَتَقْوَى فَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ.
إِذًا: لَابُدَّ أَنْ نَعْتَقِدَ أَن الصَّحَابَةَ خَيْرُ الْبَشَرِ، وَأَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ خَطَأٌ لَا خَطِيئَةٌ، وَشَتَّانَ بَيْنَ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « مُسْنده » مِنْ طَرِيقِ أَبِي بصرةَ الْغفاريِّ (6/396 رقم 26682)، وَابْنُ مَاجَهْ: كِتَاب الْفِتَن، بَاب السّواد الْأَعْظَم (2/367 رقم 3998)، وَابْنُ أَبِي عَاصِم فِي « السّنة »، بَاب مَا ذكر مِنْ أَمر النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلزوم الْجَمَاعَة (ص 39 رقم 80) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مالكٍ.
الْأَمْرَيْنِ. فَإِذَا جَاءَتْكَ رِوَايَةٌ فِيهَا طَعْنٌ فِي صَحَابِيٍّ فَلَا تُقْدِمْ عَلَى رَدِّهَا وَلَا تَقْبَلْهَا حَتَّى تَنْظُرَ فِيهَا، فَإِنْ وَجَدْتَ السَّنَدَ صَحِيحًا؛ فهَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ فِيهَا، فَهُمْ يُخْطِئُونَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَإِنْ وَجَدْتَ السَّنَدَ ضَعِيفًا؛ فَابْقَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَشَرِ بَعْدَ أنْبِيَاءِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا مَدْحُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] {الْفَتْح: 29}.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدَحَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى جُمْلَةَ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذًا الْأَصْلُ فِيهِمُ الْمَدْحُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ »(1).
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا، حَدِيث (3673)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة بَاب تحَرِيمِ سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَدِيث (2541).
فَهَذَا مَدْحٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَنْ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَحْطَانِيُّ فِي « نُونِيَّتِهِ »:
لَا تَقْبَلَنْ مِنَ التَّوَارِخِ كُلَّ مَا... جَمَعَ الرُّوَاةُ وَخَطَّ كُلُّ بَنَانِ
ارْوِ الْحَدِيثَ الْمُنْتَقَى عَنْ أَهْلِهِ ... سِيَّمَا ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالْأَسْنَانِ
كَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْعَلَاءِ وَمَالِكٍ ... وَاللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ أَوْ سُفْيَانِ(1)
أي إِذَا أَرَدْتَ تَارِيخًا صَحِيحًا؛ فَهُوَ الَّذِي يَرْوِيهِ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الثِّقَاتِ لَا كَمَا يَقُولُ الْكَثِيرُونَ مِمَّنْ يَطْعَنُونَ فِي سِيرَةِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ: « إِنَّ تَارِيخَنَا أَسْوَدُ مُظْلِمٌ قَاتِمٌ »!!
لَا. بَلْ تَارِيخُنَا نَاصِعٌ، جَمِيلٌ، طَيِّبٌ، يَسْتَمْتِعُ الْإِنْسَانُ بِقِرَاءَتِهِ.
* وَمَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ؛ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتَبِ التَّارِيخِ:
كـ « تَارِيخ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ » الْمَشْهُورِ بِـ « تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ ».
أَوِ « الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ » لِابْنِ كَثِيرٍ.
________________________________
(1) « نونية الْقحطاني » (الْأبيات 179- 181).
أَوْ « تَارِيخِ الْإِسْلَامِ » لِلذَّهَبِيِّ.
أَوْ غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ الْمُعْتَمَدَةِ.
وَيُعْتَبَرُ « تَارِيخُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ »؛ أَهَمَّ كِتَابٍ فِي التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ النَّاسُ عَنْهُ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ يَنْقُلُونَ وَيَحْتَجُّونَ بِـ « تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ »، وَلِمَاذَا يَا تُرَى يُقَدِّمُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ التَّوَارِيخِ؟
يُقَدَّمُ « تَارِيخُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ؛ عَلَى غَيْرِهِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
1- قُرْبُ عَهْدِ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ.
2- أَنَّ الْإِمَامَ الطَّبَرِيَّ يَرْوِي بِالْأَسَانِيدِ.
3- جَلَالَةُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ(1)، وَمَنْزِلَتُهُ الْعِلْمِيَّةُ.
4- أَنَّ أَكْثَرَ كُتُبِ التَّارِيخِ إِنَّمَا تَنْقُلُ عَنْهُ.
وإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَنَحْنُ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَقْرَأَ فَلْنَذْهَبْ مُبَاشَرَةً إِلَى الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ، وَلَكِنْ كَمَا ذَكَرْتُ فأَهْلُ السُّنَّةِ يَأْخُذُونَ مِنْ « تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ »، وَأَهْلُ الْبِدَعِ كَذَلِكَ يَأْخُذُونَ مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ، فَكَيْفَ نُوَفِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟
________________________________
(1) الطَّبَرِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَريرِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو جَعفَرٍ الطَّبَرِيُّ، مُفَسِّرٌ وَمُحَدِّث وَمُؤرِّخ وَفَقِيه وَأُصولِي، إِمَام مُجتَهد. وُلِدَ بآمل طبرستانَ سَنَة (224 هـ) وَتُوُفِّيَ سَنَة (. 31 هـ)، مِن تصانيفه: « تَارِيخُ الْأُمَمِ وَالْمُلُوك » وَ « جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَأويلِ آي الْقُرآنِ ». قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيّ: « كَانَ ثقَةً حَافظًا، ر أسًا فِي التَّفْسِير، إِمَامًا فِي الْفقهِ وَالإِجْمَاعِ وَالاخْتِلَافِ، علَّامةً فِي التَّارِيخِِ وَأيّامِ النَّاسِ، عَارِفًا بالقراءاتِ وَغيرِ ذَلِكََ » اهـ « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (14/270).
« تَارِيخُ الطَّبَرِيِّ » كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ مِيزَاتِهِ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ إِلَّا بِالْأَسَانِيدِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَأْخُذُونَ الصَّحِيحَ مِنْ أَسَانِيدِ الطَّبَرِيّ، بَيْنَمَا أَهْلُ الْبِدَعِ يَأْخُذُونَ الصَّحِيحَ وَالْغَثَّ وَالسَّمِينَ، الْمُهِمُّ أَن يُوَافِقَ أَهْوَاءَهُمْ.
وإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى مَنْهَجِ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ فِي « تَارِيخِهِ ».
* مَنْهَجُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ فِي تَارِيخِهِ:
لَقَدْ أَرَاحَنَا الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمُقَدِّمَةٍ كَتَبَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَلَيْتَ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ هَذَا التَّارِيخَ يَقْرَؤُونَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ(1).
يَقُولُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ: « وَلْيَعْلَمِ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ اعْتِمَادِي فِي كُلِّ مَا أَحْضَرْتُ ذِكْرَهُ فِيهِ مِمَّا شَرَطْتُ أَنِّي رَاسِمُهُ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا رُوِّيتُ مِنَ الْأخْبَارِ الَّتِي أَنَا ذَاكِرُهَا فِيهِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَنَا مُسْنِدُهَا إِلَى رُوَاتِهَا، فَمَا يَكُنْ فِي كِتَابِي هَذَا مِنْ خَبَرٍ ذَكَرْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمَاضِينَ، مِمَّا يَسْتَنْكِرُهُ قَارِئُهُ، أَوْ يَسْتَشْنِعُهُ سَامِعُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ وَجْهًا فِي الصِّحَّةِ، وَلَا مَعْنًى فِي الْحَقِيقَةِ؛
________________________________
(1) بَلْ يَنبَغِي لكلّ إِنْسَانٍ إِذَا أرادَ أَن يقْرَأَ كِتَابًا مِنَ الْكُتُبِ أَن يقْرَأَ مُقَدِّمَةَ الْكِتَاب حَتَّى يعرفَ مَنْهَجَ الْمُؤَلِّفِ.
فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، وَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نَاقِلِيهِ إِلَيْنَا، إِنَّمَا أَدَّيْنَا ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا أُدِّيَ إِلَيْنَا ».
أَظُنُّ أَنَّ الْإِمَامَ الطَّبَرِيَّ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي قَدَّمَ لِكِتَابِهِ أَلْقَى الْعُهْدَة عَلَيْكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ!!
فَهُوَ يَقُولُ لَكَ: إِذَا وَجَدْتَ فِي كِتَابِي هَذَا خَبَرًا تَسْتَشْنِعُهُ، وَلَا تَقْبَلُهُ، فَانْظُرْ عَمَّنْ رَوَيْنَاهُ، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَعَلَيَّ أَنْ أَذْكُرَ مَنْ حَدَّثَنِي بِهَذَا، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَاقْبَلْ، وَإِن لَمْ يَكُنْ ثِقَةً فَلَا تَقْبَلْ.
وَهَذَا الْأَمْرُ قَامَ بِهِ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ، فَحِينَ تَرْجِعُ إِلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ غَيْرِ « الصَّحِيحَيْنِ » اللَّذَيْنِ تَعَهَّدَا بِإِخْرَاجِ الصَّحِيحِ فَقَطْ.
كَأَنْ تَرْجِعَ إِلَى « جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ »، أَوْ « سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ »، أَوِ « الدَّارَقُطْنِيِّ » أَوِ « الدَّارِمِيِّ » أَوْ « مُسْنَدِ أَحْمَدَ »، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ تَجِدُهُمْ يَذْكُرُونَ لَكَ الْإِسْنَادَ، وَلَمْ يَتَعَهَّدُوا بِذِكْرِ الصَّحِيحِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَكَ الْإِسْنَادَ، وَوَاجِبُكَ أَنْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْإِسْنَادِ؛ فَإِذَا كَانَ السَّنَدُ صَحِيحًا فَاقْبَلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَرُدَّهُ.
وَالطَّبَرِيُّ هُنَا لَمْ يَتَعَهَّدْ بِأَنْ يَنْقُلَ الصَّحِيحَ فَقَطْ، إِنَّمَا تَعَهَّدَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَنْهَجِ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ مُبَيِّنًا طَرِيقَةَ وَمَنْهَجَ أَكْثَرِ
________________________________
(1) مُقَدِّمَة « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (ص 5).
الْأَقْدَمِينَ حَيْثُ قَالَ: « أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ مِنْ سَنَةِ مِائَتَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا إِذَا سَاقُوا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ، اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ تَبَرَّؤُوا مِنْ عُهْدَتِهِ »(1).
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَدْ أَكْثَر الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ « التَّارِيخ » النَّقْلَ عَنْ رَجُلٍ اسْمُهُ ( لُوطُ بْنُ يَحْيَى ) وَيُكَنَّى بِأَبِي مِخْنَفٍ.
وَ ( لُوطُ بْنُ يَحْيَى ) هَذَا رَوَى عَنْهُ الطَّبَرِيُّ ( خَمْسَمِائَةٍ وَسَبْعًا وَثَمَانِينَ ) رِوَايَةً.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تَبْدَأُ مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْتَهِي إِلَى خِلَافَةِ يَزِيدَ، وَهِيِ الْفَتْرَةُ الَّتِي سَنَتَكَلَّمُ عَنْهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنْ أَهَمِّهَا:
1- سَقِيفَةُ بَنِي سَاعِدَةَ.
2- قِصَّةُ الشُّورَى.
3- الْأُمُورُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَامَ الْخَوَارِجُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
4- ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْتَلُهُ.
5- خِلَافَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
6- مَعْرَكَةُ الْجَمَلِ.
7- مَعْرَكَةُ صِفِّينَ.
________________________________
(1) « لِسَان الْمِيزَانِ » (4/128) تَرْجَمَة الطَّبَرَاني صَاحِب الْمعاجم الثَّلَاثَة.
8- التَّحْكِيمُ.
9- مَعْرَكَةُ النَّهْرَاوَان.
10- خِلَافَةُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
11- قَتْلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي كُلِّ هَذِهِ تَجِدُ لِأَبِي مِخْنَفٍ رِوَايَةً وَهِيَ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا أَهْلُ الْبِدَعِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهَا.
وَأَبُو مِخْنَفٍ هَذَا؛ قَالَ عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ: « لَيْسَ بِشَيْءٍ ».
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: « مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ».
وَسُئِلَ عَنْهُ مَرَّةً فَنَفَضَ يَدَهُ وَقَالَ: « أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ هَذَا ».
وقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: « ضَعِيفٌ ».
وقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: « يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ ».
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: « إِخْبَارِيٌّ تَالِفٌ لَا يُوثَقُ بِهِ »(1).
فَأَنْتَ إِذَا فَتَحْتَ « تَارِيخَ الطَّبَرِيِّ » وَوَجَدْتَ رِوَايَةً فِيهَا مَطْعَنٌ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتَ أَنَّ الطَّبَرِيَّ إِنَّمَا رَوَاهَا عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تُلْقِيَهَا جَانِبًا.
لِمَاذَا؟ لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَة أَبِي مِخْنَفٍ!
________________________________
(1) « الْجَرْح وَالتَّعْدِيل » (7/182)، « مِيزَان الاعتِدَال » (3/419)، « لِسَان ا لميز ان » (4/492).
وَأَبُو مِخْنَفٍ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ الْبِدْعَة وَالْكَذِبِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ.
مُبْتَدِعٌ كَذَّابٌ، مُكْثِرٌ مِنَ الرِّوَايَةِ!!
وَلَيْسَ أَبُو مِخْنَفٍ وَحْدَهُ، بَلْ أَبُو مِخْنَفٍ هُوَ أَشْهَرُهُمْ، وَإِلَّا فَهُنَاكَ غَيْرُهُ كَالْوَاقِدِيِّ(1) مَثَلًا وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ مُؤَرِّخٌ كَبِيرٌ حَافِظٌ عَالِمٌ بِالتَّارِيخِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ. وَالثَّالِثُ: سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ(2)، وَهُوَ أَيْضًا مُؤَرِّخٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ الْكَلْبِيُّ(3) وَهُوَ كَذَّابٌ مَشْهُورٌ، فإِذًا لَابُدَّ أَنْ يَتَثَبَّتَ الْمَرْءُ مِنْ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ..
________________________________
(1) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (9/172).
(2) انْظُرْ ترجمته في: « مِيزَان الاعتِدَال » (2/255)، وَ « تهذيب التّهذيب » (4/295).
(3) ترجمته « مُحَمَّد بْن السّائب الْكَلْبِيّ » فِي « مِيزَان الاعتِدَال » (3/556).
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ: وَسَائِل الْإِخْبَارِيِّيْنَ فِي تَشْوِيهِ التَّارِيخِ
1- الِاخْتِلَاقُ وَالْكَذِبُ:
يَخْتَلِقُونَ قِصَّةً مَا، كَمَا اخْتَلَقُوا مَثَلًا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمَّا جَاءَهَا خَبَرُ مَوْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَجَدَتْ لِلهِ شُكْرًا.
وَهَذِهِ قِصَّةٌ مَكْذُوبَةٌ(1).
2- الزِّيَادَة عَلَى الْحَادِثَةِ أَوِ النُّقْصَانُ مِنْهَا بِقَصْدِ التَّشْوِيهِ:
هُنَا يَكُونُ أَصْلُ الْحَادِثَةِ صَحِيحًا كَحَادِثَةِ (السَّقِيفَةِ)، فَقِصَّةُ السَّقِيفَةِ صَحِيحَةٌ، وَوَقَعَ هُنَاكَ اجْتِمَاعٌ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ جَانِبٍ، وَالْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَزَادُوا عَلَيْهَا أَشْيَاءَ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ مِمَّا أَرَادُوا بِهِ تَشْوِيهَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ.
3- التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ لِلْأَحْدَاثِ:
وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدَثِ تَأْوِيلًا بَاطِلًا يَتَمَاشَى مَعَ هَوَاهُ، وَيَتَمَاشَى مَعَ مُعْتَقَدِهِ وَبِدْعَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا.
4- إِبْرَازُ الْمَثَالِبِ وَالْأَخْطَاءِ:
هُنَا تَكُونُ الْقِصَّةُ صَحِيحَةً، وَلَكِنْ يُبْرِزُهَا إِبْرَازًا يُرَكِّزُ فِيهِ عَلَى
________________________________
(1) ذكرهَا أَبُو الْفرج الْأصبهاني فِي « الْأغاني » ص 55 وَأَبُو الْفرج شيعي مُتَّهم بِالْكَذِبِ كَمَا فِي ترجمته فِي « تَارِيخ بَغْدَاد » وَ « الْمِيزَان »، وَذكرهَا الْمتشيع التّيجانيّ فِي كِتَابه: « فَاسألوا أَهْل الذّكر » (ص 97) وَلَم يَعزهَا لأحدٍ.
الْأَخْطَاءِ، وَيُغَطِّي عَلَى أَيَّةِ مَحَاسِنَ.
5- صِنَاعَةُ الْأَشْعَارِ لِتَأْيِيدِ حَوَادِثَ تَارِيخِيَّةٍ:
يَصْنَعُونَ شِعْرًا يُؤَلِّفُهُ أَحَدُهُمْ ثُمَّ يَنْسِبُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَوْ يَنْسِبُهُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَوْ يَنْسِبُهُ إِلَى الزُّبَيْرِ أَوْ إِلَى طَلْحَةَ فِي الطَّعْنِ فِي أَحَدِ الصَّحَابَةِ، كَمَا نَسَبُوا شِعْرًا لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ:
تَبَغَّلْتِ تَجَمَّلْتِ... وَلَوْ شِئْتِ تَفَيَّلْتِ(1)
6- وَضْعُ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْمُزَيَّفَةِ:
كَمَا سَيَأْتِينَا –إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- فِي قِصَّةِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ زُيِّفَتْ كُتُبٌ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ، زُيِّفَتْ كُتُبٌ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ، زُيِّفَتْ كُتُبٌ عَلَى لِسَانِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ.
وَهَذَا غَيْرُ الْكُتُبِ الَّتِي تُؤَلَّفُ وَتُزَيَّفُ كَكِتَابِ «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ » وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكِتَابِ « الْإِمَامَة وَالسِّيَاسَة » الَّذِي نَسَبُوهُ لِابْنِ قُتَيْبَةَ(2).
7- اسْتِغْلَالُ تَشَابُهِ الْأَسْمَاءِ:
فَابْنُ جَرِيرٍ مَثَلًا اثْنَانِ:
________________________________
(1) أي: ركبت الْبغلَ ثُمَّ الْجملَ، وَإِن شِئْت ركبت الْفيلَ، أي: للقِتَالِ وَإِثارةِ الْفِتْنَةِ.
(2) انْظُرْ مُقَدِّمَة « تَأْوِيل مشكل الْقُرآن » لابْن قُتَيْبَةَ ص (32) تَحْقِيق السّيد أَحْمَد صقر. وَمُقَدِّمَة « الْميسر وَالقداح » لِابْنِ قُتَيْبَةَ تَحْقِيق محب الدّين الْخطيب.
الْأَوَّلُ: مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
الثَّانِي: مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ رُسْتُمْ، أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ(1).
فَينْسِبُونَ كُتَبَ ابْنِ جَرِيرٍ الشِّيعِيِّ لِابْنِ جَرِيرٍ السُّنِّيِّ مِثْلَ كِتَابِ « دَلَائِل الْإِمَامَةِ الْوَاضِحَةِ وَنُور الْمُعْجِزَات » وَتُوُفِّيَا فِي نَفْسِ السَّنَةِ 310 هـ.
وابْنُ حَجَرٍ اثْنَانِ:
الْأَوَّلُ: أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
الثَّانِي: أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ إِمَامٌ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ لَهُ بِضَاعَةٌ فِي الْحَدِيثِ.
فَيَأْخُذُونَ تَصْحِيحَ الْهَيْتَمِيِّ وَيَنْسِبُونَهُ لِلْعَسْقَلَانِيِّ.
* مَتَى بَدَأَ مَنْهَجُ التَّثَبُّتِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ؟
بَدَأَ لَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ كَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ- قَالَ: « لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ؛ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ »(2).
________________________________
(1) « لِسَان الْمِيزَانِ » فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بْن جَرِير بْن رُسْتُمْ (7/29).
(2) مُقَدِّمَة « صَحِيح مُسلِم » (1/15)، باب: بَيَانِ أَنَّ الْإِسنَادَ مِنَ الدِّينِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الثِّقَةُ؛ وَلِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَأَدْرَكَ حَيَاةَ الصَّحَابَةِ، وَعَاشَ مَعَ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَمَعَ صِغَارِهِمْ، وَالْفِتْنَةُ الْمَقْصُودَة هُنَا هِيَ خُرُوجُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
* ضَرُورَةُ التَّثَبُّتِ فِي نَقْلِ الْأخْبَارِ:
لَقَدْ وَضَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ قَاعِدَةً ذَهَبِيَّةً، قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ لَهَا الْكَثِيرُونَ، أَلَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات: 6 }.
فَوَجَبَ بِذَلِكَ التَّثَبُّتُ فِي نَقْلِ الْأخْبَارِ عَامَّةً.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: الْأَحْدَاثُ التَّارِيخِيَّةُ مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ 61 هـ
تَمْهِيدٌ: بِعْثَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ(1) امْتَنَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْبَشَرِيَّةِ أَجْمَعَ بِوِلَادَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِيَّةِ(2) وَهَادِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيِّ الْقُرَشِيِّ، وُلِدَ يَتِيمَ الْأَبِ، وَعَاشَ بَعْدَ السَّادِسَةِ يَتِيمَ الْأُمِّ وَالْأَبِ، إِذْ مَاتَ أَبُوهْ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ، فَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ.
وَلَمَّا بَلَغَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ بَعَثَهُ اللهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فَقَامَ بِرِسَالَتِهِ خَيْرَ قِيَامٍ، وَبَلَّغَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ أَن يُبَلِّغَهُ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَعَادَاهُ كُبَرَاءُ قَوْمِهِ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ تَبِعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَبِعَهُ أَقْوَامٌ بَاعُوا الدُّنْيَا وَاشْتَرَوُا الْآخِرَةَ، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَنَصَرُوا اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر: 8}.
________________________________
(1) هُنَاكَ اخْتِلَاف فِي تَحْدِيدِ يَوْمِ مَولِدِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَنا سيدُ وَلَدِ آدمَ يَوْمَ الْقيامةِ وَلَا فَخرَ » رَوَاه أَحْمَد (3/2) برقم (11000) وَالدارمي (52).
واسْتَمَرَّ فِي دَعْوَتِهِ –صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- زُهَاءَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، حَتَّى أَمَرَهُ اللهُ ِبالهِجْرَةِ إِلَى (الْمَدِينَةِ) الَّتِي نَوَّرَهَا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَاجَرَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالدُّورَ، وَذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى (الْمَدِينَةِ)، آوَاهُ أَهْلُهَا وَنَصَرُوهُ وَعَزَّرُوهُ، وَعَادَوُا النَّاسَ كُلَّهُمْ لِأَجْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاسَوُا الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَدُورِهِمْ، بَلْ وَأَزْوَاجِهِمْ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي لَهُ زَوْجَتَانِ يَقُولُ لِلْمُهَاجِرِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ أُطَلِّقْهَا فَتَتَزَوَّجَهَا(1)؛ [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {الحشر: 9}.
واسْتَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَتِهِ حَتَّى شَمِلَتِ الْجَزِيرَةَ كُلَّهَا، إِلَى أَنْ جَاءَ الْيَوْمَ الْعَظِيمُ الَّذِي فَتَحَ اللهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ)، وَدَخَلَ أَهْلُهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَدَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ (الْجَزِيرَة الْعَرَبِيَّة) كُلُّهَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنَ الدَّعْوَةِ وَالْجِهَادِ، جَاءَ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ الْمُصَدِّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
________________________________
(1) راجع: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ » (3781).
اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عِمْرَانَ: 144}.
وَكَأَنَّمَا أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا عِنْدَ هَذَا الْحَادِثِ الْجَلَلِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ »(1).
فَلَمْ يُصَبِ الْعَالَمُ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْخَلِيقَة بِمُصِيبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مُصِيبَةِ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَهَذِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: « يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهْ، يَا أَبَتَاهْ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ »(2).
وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: « لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِيَ -وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ- حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا »(3).
وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ لِعُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ
________________________________
(1) « الطَّبَقَات الْكُبْرَى » (2/275)، وَصحّحهُ الْعلَّامةُ الْأَلْبَانِيُّ فِي « سِلْسِلَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة » (رقم 1106).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْمغازي، بَاب مرض النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوفاتهِ، حَدِيث (4462).
(3) « سنن التّرمذي»، كِتَاب الْمَنَاقِب عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَاب فضل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيث (3618)، وَ «سنن ابْن ماجه»، كِتَاب الْجنائز، بَاب وَفَاة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيث (1631).
أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ! مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا »(1).
وَهَكَذَا انْتَقَلَتْ هَذِهِ النَّسْمَةُ الطَّيِّبَةُ إِلَى بِارِئِهَا، وَبَقِي دِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ.
________________________________
(1) صَحِيح مُسلِم: كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب مِن فَضَائِلِ أُمَ أيمن رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، حَدِيث (2454).
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: خِلَافَةُ الْخَلِيفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ سَنَةِ 11 إِلَى 13 هـ
تَمْهِيدٌ
لَمَّا أُعْلِنَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَ، جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ السُّنْحِ(1) ( أَي الْعَوَالِي )، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَغَطَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ فَصَعِدَ الْمِنْبَر، فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ».
قَالَ تَعَالَى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عِمْرَانَ: 144}.
فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ، وَخَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّوَارِعِ يُرَدِّدُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، يَقُولُ أَنَس: « وَكَأَنَّنَا لَمْ نَسْمَعْهَا إِلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ».
مَعَ أَنَّ الْقُرْآن قَدْ كَمَلَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْل وَفَاتِهِ، وَمَعَ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَدَتْ وَكَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُمْ لَمْ
________________________________
(1) مَكَان قَرِيب مِنَ الْمَدِينَة، فِيهِ زوجته حَبِيبة بِنْت خَارِجَة.
(2) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب لَوْ كُنْت مُتخِذًا خليلًا حَدِيث (3668).
يَسْمَعُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّة الصَّدْمَةِ، وَهِيَ خَبَرُ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَامَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ بِتَغْسِيلِ وَتَكْفِينِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنَ (بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيًّا ابْنُ عَمِّهِ، وَالْفَضْلُ ابْنُ عَمِّهِ، فَكَانُوا هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: سَقِيفَةُ(1) بَنِي سَاعِدَةَ
في هَذِهِ الْفَتْرَةِ الَّتِي انْشَغَلَ فِيهَا عَلِيٌّ وَالعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بِتَجْهِيزِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَسَأَذْكُرُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ «تَارِيخِ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ» أَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ الْكَذَّابِ، ثُمَّ أَذْكُرُهَا مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ نُقَارِنُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ حَتَّى نَعْرِفَ الزِّيَادَاتِ الَّتِي زَادَهَا أَبُو مِخْنَفٍ.
وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ الْآنَ أُمُورٌ مُسَلَّمَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا سَيَأْتِينَا أَيْضًا فِي حَادِثتَيِ الشُّورَى وَالتَّحْكِيمِ.
قَالَ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُبِضَ، اجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا: نُوَلِّي هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَامَ أَحَدُهْمْ فَقَالَ: قَدْ دَانَتْ لَكُمُ الْعَرَبُ بِأَسْيَافِكُمْ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، وَبِكُمْ قَرِيرُ عَيْنٍ، اسْتبِدُّوا بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ النَّاسِ. فَأَجَابَهُ الْجَمِيعُ: أَنْ قَدْ وُفِّقْتَ فِي الرَّأْيِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: فَإِنْ أَبَتْ مُهَاجِرَةُ قُرَيْشٍ؛
________________________________
(1) « السَّقِيفَة »: هِيَ مَكَان اجْتِمَاعهم بمثابة الْمَجَالِس الْآن.
نَقُولُ: مِنْكُمْ أَمِيرٌ وَمِنَّا أَمِيرٌ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: هَذَا أَوَّلُ الْوَهَنِ. ثُمَّ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ يَقُولُونَ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: إِنَّ إِخْوَانَنَا الْأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا وَيَقُولُونَ كَذَا، فَهَلُمَّ بِنَا إِلَيْهِمْ(1).
فَخَرَجَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ فَوَجَدَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَا: مَعَنَا. فَذَهَبَ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْأَنْصَارِ. يَقُولُ عُمَرُ: فَزَوَّرْتُ كَلَامًا فِي نَفْسِي(2)، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، أَشَارَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ: أَنِ اسْكُتْ.
فَبَدَأَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا... وَذَكَرَ خُطْبَةً طَوِيلَةً لِأَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ.
فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! امْلِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي فَيْئِكُمْ، وَفِي ظِلِّكُمْ، وَلَنْ يَجْتَرِئَ مُجْتَرِئٌ عَلَى خِلَافِكُمْ، وَلَنْ يَصْدُرَ النَّاسُ إِلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ، أَنْتُمْ أَهْلُ الْعِزِّ وَالثَّرْوَةِ، وَأُولُوا الْعَدَدِ وَالْمَنَعَةِ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا عَلَيْكُمْ مَا سَأَلْتُمُوهُ، فَأَجْلُوهُمْ عَنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَتَوَلَّوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَأَنْتُمْ وَاللهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ بِأَسْيَافِكُمْ دَانَ لِهَذَا الدِّينِ مَنْ دَانَ مِمَّنْ لَمْ
________________________________
(1) بلَّغَهُ أحدُ الْأنصَارِ.
(2) أَي جَهّزتُ كَلامًا فِي نَفْسِي.
يَكُنْ يَدِينُ، أَنا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ(1).
فَقَالَ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ لِأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ. فَلَمَّا ذَهَبَا لِيُبَايِعَاهُ، سَبَقَهُمَا إِلَيْهِ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فَبَايَعَهُ، قَالَ: فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ -وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاء- فَقَالَ: « وَاللهِ لَئِنْ وَلِيَتْهَا عَلَيْكُمُ الْخَزْرَجُ مَرَّةً لَا زَالَتْ لَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ؛(2). فَقَالَ سَعْدٌ: « أَمَا وَالله! لَوْ أَنَّ بِي قُوَّةً مَا أَقْوَى عَلَى النُّهُوضِ، لَسَمِعْتَ مِنِّي فِي أَقْطَارِهَا وَسِكَكِهَا زَئِيرًا يَجْرَحُكَ وَأَصْحَابَكَ، أَمَا وَالله! إِذَنْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِقَوْمٍ كُنْتَ فِيهِمْ تَابِعًا غَيْرَ مَتْبُوعٍ، احْمِلُونِي مِنْ هَذَا الْمَكَانِ » فَحَمَلُوهُ فَأَدْخَلُوهُ فِي دَارِهِ، فَتُرِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيَّامًا ثُمَّ قَالَ: « أَمَا وَالله! حَتَّى أَرْمِيَكُمْ بِمَا فِي كِنَانَتِي مِنْ نَبْلِي، وَأَخْضِبَ سِنَانَ رُمْحِي، وَأَضْرِبَكُمْ بِسَيْفِي مَا مَلَكَتْهُ يَدِي، وَأُقَاتِلَكُمْ بِأَهْلِ بَيْتِي وَمَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي ». فَكَانَ سَعْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِمْ وَلَا يُجَمِّعُ مَعَهُمْ، وَيَحُجُّ وَلَا يُفِيضُ مَعَهُمْ بِإِفَاضَتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ
________________________________
(1) هَذِهِ تعني: أَنا أولَى بِهَا مِنْ غَيْري، وَ (الجُذَيْل الْمُحَكَّك): هُوَ الْعمودُ الَّذِي كَانَ يوضعً للإِبلِ الَّتِي كَانَتْ يصيبُهَا الْجربُ فتتحككَ فِيهِ حَتَّى تشفَى مِنْ هَذَا الْجربِ، وَ (عُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ): هُوَ عذقُ النّخلةِ الَّذِي يرجى. انْظُرْ « النِّهَايَة فِي غريب الْحَدِيث » (2/197).
(2) يَعْنِي: أنّ أسيدَ بْنَ حضيرٍ حسدَ سعدَ بْنَ عُبادةَ مِنَ الْخزرجِ.
كَذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى(1).
هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي مِخْنَفٍ لِقِصَّةِ السَّقِيفَةِ، وَنُورِدُ الْآنَ رِوَايَةَ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا وَنُقَارِنُ.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ... وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ.
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ.
فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَا وَاللهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا، وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ؛ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ. فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (2/455) بتصرف لطولها.
عُبَادَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللهُ(1).
هَذِهِ رِوَايَةُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ كَمَا نَرَى مُخْتَصَرَةٌ وَقَصِيرَةٌ، وَهَذِهِ حَقِيقَةُ السَّقِيفَةِ. أَمَّا مَا زَادَهُ أَبُو مِخْنَفٍ مِنْ ( أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ أُقَاتِلُكُمْ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَلَا يُجَمِّعُ بِجُمُعَتِهِمْ، وَلَا يُفِيضُ بِإِفَاضَتِهِمْ، وَأَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَاتٍ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ أَبَاطِيلُ لَا تَثْبُتُ.
فَقِصَّةُ السَّقِيفَةِ لَمْ تَسْتَغْرِقْ نِصْفَ السَّاعَةِ فِي ظَاهِرِهَا، وَانْظُرْ كَيْفَ أَصْبَحَتِ الرِّوَايَةُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِسَعْدِ بْنِ عُبَادَة؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي « مُسْنَدِهِ؛ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «... فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أُنْزِلَ فِي الْأَنْصَارِ وَلَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَأْنِهِمْ إِلَّا وَذَكَرَهُ.
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب لَوْ كُنْت متخذًا خليلًا حَدِيث (3667-3668).
* قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: « قَوْلُهُ: ( فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ )» أَيْ كِدْتُمْ تَقْتُلُونَهُ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالْخِذْلَانِ، وَيَرُدُّهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ « فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَبْقُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَا تَطَئُوهُ.
فَقَالَ عُمَر: اقْتُلُوهُ قَتَلَهُ اللهُ ». نَعَمْ لَمْ يُرِدْ عُمَرُ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ « قَتَلَهُ اللهُ » فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: [قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ]. وَعَلَى الْأَوَّلِ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِهْمَالِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَفِي حَدِيث مَالِكٍ: « فَقُلْتُ وَأَنَا مُغْضَبٌ: قَتَلَ اللهُ سَعْدًا فَإِنَّهُ صَاحِبُ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ » اهـ « الْفَتْح » (7/384) دار الْفكر.
وَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا سَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ ». وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -وَأَنْتَ قَاعِدٌ-: « قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ ». فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْأُمَرَاءُ(1).
هَذِهِ الرِّوَايَة أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ فِي « مُسْنَدِهِ » بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُرْسَلٍ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ.
وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلَةً، إِلَّا أَنَّهَا أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ذَلِكَ الْكَذَّابِ أَبِي مِخْنَفٍ.
________________________________
(1) « مُسْنَد أَحْمَدَ » (1/18) تَحْقِيق الشّيخ أَحْمَد شاكر.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
* اسْمُهُ:
عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْن تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْن فِهْرٍ(1)، وَفِهْرٍ هُوَ قُرَيْشٌ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « إِنَّ الله أَنْزَلَ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ السَّمَاءِ: الصِّدِّيق »؛ وَكَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ(2).
* إِسْلَامُهُ:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ ». فَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ». ثَلَاثًا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا.
________________________________
(1) « معرفة الصَّحَابَة » لأبي نُعيمٍ (1/150).
(2) أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانيُّ فِي « الْمعجم الْكَبِير » (1/55)، وَذكره الْحَافِظُ ابْن حَجَرٍ فِي « الْفَتْح » (7/11) وَقَالََ: « رِجَالهُ ثِقَاتٌ ».
فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ». مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا (1).
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ »(2).
* هِجْرَتُهُ:
عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ! لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ؛ اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُهُمَا »(3).
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا »، حَدِيث (3661).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا »، حَدِيث (3660).
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب مَنَاقِب الْأَنْصَار، بَاب هِجْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة، حَدِيث (3922)، « صَحِيح مُسْلِم »، »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، حَدِيث (2381).
* أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ:
- قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَنْجَبَتْ عَبْدَ اللهِ وَأَسْمَاءَ.
- أُمُّ رُومَانَ الْكِنَانِيَّةُ، وَأَنْجَبَتْ عَائِشَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ.
- أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، وَأَنْجَبَتْ مُحَمَّدًا.
- حَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ، وَأَنْجَبَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ.
* مِنْ فَضَائِلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ –يَعْنِي الْجَنَّةَ-: (يَا عَبْدَ اللهِ! هَذَا خَيْرٌ). فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ وَبَابِ الرَّيَّانِ ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ: هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ »(1).
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا » حَدِيث (3666)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الزَّكَاة، بَاب مَن جَمَعَ الصّدَقَةَ وَأَعمَالَ الْبِر، حَدِيث (1027).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ »(1).
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ (ذَاتِ السَّلَاسِلِ)، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « عَائِشَةُ ». فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَبُوهَا ». قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ». فَعَدَّ رِجَالًا(2).
* عِلْمُهُ:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، وَقَالَ: « إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللهِ ».
قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ » كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا » حَدِيث (3675)، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ (2417).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة: بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا » حَدِيث (3662)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، حَدِيث (2384).
خُيِّرَ! فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ »(1).
* مُلَازَمَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءً فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهَا خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ [أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ](2).
* إِشَارَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اسْتِخْلَافِهِ:
1- عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ».
قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ؛ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « سدوا الْأَبْوَاب » حَدِيث (3654).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خليلا » حَدِيث (3678).
يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ». فَعَادَتْ؛ فَقَالَ: « مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ». فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1).
2- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ. قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ -كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ-. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ »(2).
3- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: « ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ: (أَنَا أَوْلَى). وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ »(3).
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب الْأَذَان، بَاب أَهْل الْعِلْمِ وَالْفَضْل أحق بالإِمَامَة، حَدِيث (678)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الصَّلَاةِ، بَاب استِخِلَافِ الْإِمَامِ إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْرٌ، حَدِيث (420).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا » حَدِيث (3659)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، حَدِيث (2386).
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْمرض، بَاب مَا رخص للمريض أَن يَقُول إِنِّي وَجع، حَدِيث (5666)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، حَدِيث (2387) وَاللفظ لمُسْلِم.
خُصُوصِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَقَدْ حظي الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخُصُوصِيَّاتٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهِيَ تَحْتَاجُ لِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّنَا طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ نُلَخِّصَهَا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ:
خُصُوصِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
[إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا]
1- فِي الْإِسْلَام. 2- الدَّعْوَة. 3- فِي سره.
4- رد عَلَى عُمَر فِي الْحُدَيْبِيَة. 5- أخلاقه. 6- أُحُد.
7- الْكَلَام بَيْن يَدَيْهِ فِي الْحُدَيْبِيَة. 8- الْخِلَافَة. 9- الصَّلَاة.
10- الْهِجْرَة. 11- الْعلم:
* الدّفن. موت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم . * الْمرتدون. * مانعوا الزَّكَاة.
* الْميراث.
12- الْمشورة. 13- مرافقة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. 14- الْإِيمَان.
15- دُخُول الْجَنَّة. 16- سَمَره. 17- الْفَتْوَى.
18- السِّنُّ. 19- الدّفن.
________________________________
(*)راجع فِي الْكَلَام عَلَى خصائص أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الرّوض الْأنيق فى إِثبات إِمَامَة أبي بكر الصِّدِّيق » لِابْنِ زنجويه. مخطوط. وَأيضا: « فَضَائِل الصَّحَابَة » لِلْإِمَامِ أَحْمَد، وَ« فَضَائِل أبي بكر الصِّدِّيق » للعشاري وَ « تحفة الصِّدِّيق فِي فَضَائِل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق » لأبي الْقاسم عَلِيّ بْن بلبان الْمقدسي.
* وَفَاةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
في جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَجَاءَتْهُ سَكَرَاتُهُ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ ابْنَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيْهَا وَقَالَ: هَلَّا قُلْتِ: [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] {ق: 19}.
فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نَحْضُرُ لَكَ الطَّبِيبَ؟
فَقَالَ: قَدْ رَآنِي الطَّبِيبُ، وَقَالَ لِي: إِنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ ( يُرِيدُ أَنَّ الطَّبِيبَ هُوَ اللهُ)(1).
وَأَسْلَمَ الرُّوحَ لِبَارِيهَا، وَغَادَرَ هَذِهِ الْحَيَاةَ إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، كَمَا بَشَّرَهُ بِذَلِكَ حَبِيبُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُفِنَ بِجَانِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
________________________________
(1) انْظُرْ: « الطَّبَقَات الْكُبْرَى » لابْن سَعْدٍ (3/198) ذكر وَصية أَبِي بكر.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: أَهَمُّ الْأَحْدَاثِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِغَزْوِ الرُّوم فِي الشَّامِ، فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْجَيْشُ، فَتَرَدَّدَ الصَّحَابَةُ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْجَيْشِ خَوْفًا عَلَى الْمَدِينَةِ خَاصَّةً بَعْد أَن جَاءَهُمُ الْخَبَرُ عَنْ رِدَّةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَصَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى إِرْسَالِهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَن الْكِلَابَ جَرَتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَأَمَرَ الْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ. فَكَانَ خُرُوجُ الْجَيْشِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَكْبَر الْمَصَالِحِ وَالحَالَةُ تِلْكَ، فَصَارُوا لَا يَمُرُّونَ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أُرْعِبُوا مِنْهُمْ.
وقَالُوا: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَّا وَبِهِمْ مَنَعَةٌ شَدِيدَةٌ. فَأَقَامُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَيُقَالُ سَبْعِينَ، ثُمَّ قَفَلُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: « لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَمَ النِّفَاقُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْرَأَبَّتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ! لِفَقْدِ نَبِيَّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَمَعَهُمُ اللهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَقَدْ نَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا! فَوَاللهِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ إِلَّا طَارَ أَبِي بِعَلَائِهِ وَغَنَائِهِ، وَكَانَ مَنْ رَأَى ابْن الْخَطَّابِ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ عَوْنًا لِلْإِسْلَامِ!
كَانَ وَاللهِ أَحْوَذِيًّا، نَسِيجًا وَحْدَهُ! قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا! »(1).
1- قِتَالُ الْمُرْتَدِّينَ وَمَانَعِي الزَّكَاةِ:
عَزَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَمَانَعِي الزَّكَاةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ مَعَ الصِّدِّيقِ فِي هَذَا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَن يَتْرُكَ قِتَالَ الْمُرْتَدِّينَ خَوْفًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا فَأَبَى، وَكَلَّمُوهُ أَنْ يَتْرُكَ مَانَعِي الزَّكَاةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَيَتَأَلَّفَهُمْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ هُمْ بَعْد ذَلِكَ يُزَكُّونَ، فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَاهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا؟ » فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا -وَفِي رِوَايَةٍ: عِقَالًا(2)- كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهَا؛ إِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ(3).
________________________________
(1) « فَضَائِل الصَّحَابَة » لِلْإِمَامِ أَحْمَد 1/118 برقم (68)، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَالطبراني فِي الصَّغِير 2/101.
(2) الْعَنَاق: هِيَ السّخلة الصَّغِيرَة، وَالْعِقَال: هُوَ الْحبل الَّذِي يجر بِهِ الْجمل.
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الاعتصام، بَاب الاقتداء بسنن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم (7284- 7285)، « صَحِيح مُسْلِم » كِتَاب الْإِيمَانِ، بَاب الْأَمرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يَقًولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ..، حَدِيث (20).
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التوبة: 5}.
* وَلَقَدِ ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ عِنْد وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
- فَارْتَدَّتْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَعَلَيْهِمْ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ.
- وَارْتَدَّتْ كِنْدَةُ وَمَنْ يَلِيهَا وَعَلَيْهِمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ.
- وَارْتَدَّتْ مَذْحِجٌ وَمَنْ يَلِيهَا وَعَلَيْهِمُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ.
- وَارْتَدَّتْ بَنُو حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ.
- وَارْتَدَّتْ سليم وَعَلَيْهِمُ الْفُجَاءَةُ.
- وَارْتَدَّتْ بَنُو تَمِيمٍ مَعَ سَجَاحِ التَّغْلِبِيَّةِ.
- وَهُنَاكَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَلَمْ يَرْتَدَّ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ وَسْطَنَا ... فَيَا لِعِبَادِ اللهِ مَا بَالُ أَبِي بَكْرِ
أَيُورِثُهَا بَكْرًا إِذَا مَاتَ بَعْدَهُ ... وَتِلْكَ لَعَمْرُ اللهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ
- وَعَقَدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الرَّايَةَ، وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْن نُوَيْرَةَ بِالْبِطَاحِ إِنْ أَقَامَ لَهُ.
- وَعَقَدَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ
بِشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ فِي أَثَرِهِ.
- وَعَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ إِلَى مَشَارِفِ الشَّامِ.
- وَعَقَدَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى قُضَاعَةَ وَوَدِيعَةَ وَالْحَارِثِ.
- وَعَقَدَ لِلْعَلَاءِ بْن الْحَضْرَمِيِّ وَأَمَرَهُ بِالْبَحْرَيْنِ(1).
- وَعَقَدَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَطَفَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ دَبَا وَبِعَرْفَجَةَ وَهَرْثَمَةَ.
- وَلِطَرَفَةَ بْنِ حَاجِبٍ وَأَمَرَهُ بِبَنِي سَلِيم وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ.
وَلِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بتِهَامَةِ الْيَمَنِ.
المرتدون:
أسد وَغَطَفَان: طُلَيْحَة الْأَسَدِيّ -- > خَالِد بْن الْوَلِيدِ -- > تاب طُلَيْحَة.
كِنْدَة: الْأَشْعَث بْن قَيْس -- > تاب.
الْبَحْرَيْنِ: الْمُنْذِر بْن النُّعْمَان -- > الْعَلَاء بْن الْحَضْرَمِيّ.
مَذْحِج: الْأَسْوَد الْعَنْسِيّ -- > سويد بْن مُقَرِّنٍ -- > قُتِلَ الْأَسْوَد عَلَى يد فَيْرُوز الدَّيْلَمِيّ.
بنو حَنِيفَة: مُسَيْلِمَة -- > عِكْرِمَة ثُمَّ خَالِد -- > مُسَيْلِمَة قُتِلَ عَلَى يد وَحْشِيّ بْن حَرْب.
سليم: الْفُجَاءة -- > طرفة بْن الْحَاجِب.
تميم: سَجَاحِ التَّغْلِبِيّة -- > خَالِد بْن الْوَلِيدِ -- > قِيلَ أسلمت.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/320-321).
وَرَجَعَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَتَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كِتَابًا، وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابي هَذَا مِنْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْد الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْهَوَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللهَ إِلَيْكُمُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَنُكَفِّرُ مَنْ أَبَى ذَلِكَ وَنُجَاهِدُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الله أَرْسَلَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَهَدَى اللهُ بِالْحَقِّ مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ، وَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، ثُمَّ تَوَفَّى اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نَفَذَ لِأَمْرِ اللهِ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَكَانَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ فِيهِ فَقَالَ: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزمر: 30}.
وَقَالَ: [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ] {الْأنْبِيَاء: 34}.
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ]{آل عِمْرَانَ: 144}.
فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، حَافِظٌ لِأَمْرِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ عَدُوِّهِ، وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ، وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَأَن تَهْتَدُوا بِهُدَاهُ، وَأَن تَعْتَصِمُوا بِدِينِ اللهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللهُ ضَالٌّ، وَكُلَّ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللهُ مَخْذُولٌ، وَمَنْ هَدَاهُ غَيْرُ اللهِ كَانَ ضَالًّا.
قَالَ الله تَعَالَى: [وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف: 17}، وَلَنْ يُقْبَلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلٌ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ وَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالإِسْلَامِ، وَعَمِلَ بِهِ، اغْتِرَارًا بِاللهِ وَجَهْلًا بِأَمْرِهِ، وَإِجَابَةً لِلشَّيْطَانِ.
قَالَ الله تَعَالَى: [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا]{الكهف: 50}.
وَقَالَ: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ] {فاطر: 5}.
وَإِنِّي بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَلَا يَقْتُلَهُ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ أَجَابَ وَأَقَرَّ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَ مِنْهُ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَى حَارَبَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، ثُمَّ لَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ وَأَنْ يَقْتُلَهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ، وَأَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَ، وَلَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَنْ يُعْجِزَ اللهَ، وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ لَكُمْ، وَالدَّاعِيَةُ الْأَذَانُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا فَسَلُوهُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ أَقَرُّوا حُمِلَ مِنْهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ »(1).
* الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ (عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ):
ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَخَرَجَ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ زَمَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَصَدَ صَنْعَاءَ وَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَاسْتَوْثَقَتِ الْيَمَنُ بِكَمَالِهَا لَهُ، وَجَعَلَ أَمْرُهُ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ الشَّرَارَةِ، وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ وَارْتَدَّ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ قَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ الْأسْوَدُ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/320).
نَائِمًا سَكْرَانَ، فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ سُمِعَ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ إِلَى الْمَقْصُورَةِ فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ (وكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً): النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ فَرَجَعُوا. فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ الَّذِينَ لَمْ يُتَابِعُوهُ حَوْلَ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، فَنَادَى مُنَادِي الْمُسْلِمينَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ عَبْهَلَةَ كَذَّابٌ. وَأَلْقَى إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْأَسْوَدِ وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ يَأْخُذُونَهم فِي كُلِّ طَرِيقٍ(1).
* طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ:
كان طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ قَدِ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَنِ الْإِسْلَامَ وَقَامَ بِمُؤَازَرَتِهِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: وَاللهِ لَنَبِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا طُلَيْحَةُ فَاتِّبِعُوهُ. فَوَافَقَ قَوْمُهُ بَنُو فَزَارَةَ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَسَرَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، هَرَبَ طُلَيْحَةُ بِامْرَأَتِهِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْد ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا زَمَنَ الصِّدِّيقِ، وَاسْتَحْيَى أَنْ يُوَاجِهَ الصِّدِّيقَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَرَجَعَ فَشَهِدَ الْقِتَالَ مَعَ خَالِدٍ فِي الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهَا. وَكَتَبَ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدٍ:
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/315).
اسْتَشِرْ طُلَيْحَةَ فِي الْحَرْبِ وَلَا تُؤَمِّرْهُ(1).
* أَسَدٌ وَغَطَفَانُ:
لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، خَيَّرَهُمْ بَيْن حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ حِطَّةٍ مُخْزِيَةٍ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أَمَّا الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ فَقَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْحِطَّةُ الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: تُؤْخَذُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةُ(1) وَالْكُرَاعُ(3)، وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبلِ حَتَّى يُرِيَ اللهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ، وَتُؤَدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا وَلَا نُؤَدِّي مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ(4). فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا قَوْلُكَ تَدُونَ قَتْلَانَا؛ فَإِنَّ قَتْلَانَا قُتِلُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا دِيَاتِ لَهُمْ.
* سَجَاحِ وَبَنُو تَمِيمٍ:
كَانَتْ بَنُو تَمِيمٍ قَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنِ ارْتَدَّ،
________________________________
(1) وَفِي هَذَا الرَّأْيِ مِنَ الْحكمةِ وَبعدِ النّظرِ مَا فِيهِ، فأبو بَكرٍ كَانَ يعلمُ مَا يملِكُ طُلَيْحَةُ مِن خبرةٍ وَدرايةٍ بشؤونِ الْحربِ وَالقِيَادَةِ، وَلَكِن بِسَبَب ارْتَدَّادهِ عَنْ دينِ الْإِسْلَام ثُمّ إِسْلَامهِ مرةً أُخرَى أَصْبَحَ مِنْ غَيْرِ الْممكنِ أَن يقودَ جَيْشًا للمُسلِمين، وَعليه: فيستفادُ مِنْهُ فِي الْمشورةِ فَقَطْ.
(2) (الحَلقة): السّلاحُ عَامَّة، وَقِيلَ: هِيَ الدّروعُ خَاصَّةً. « لِسَان الْعَرَب » (10/65).
(3) (الكراع): السّلاح، وَقِيلَ اسْم يجمعُ الْخيلَ وَالسّلاح. « لِسَان الْعَرَب »: (8/307).
(4) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/323).
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ. وَبَيْنَمَا كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَجَاحِ بِنْتُ الْحَارِثِ التَّغْلِبِيَّةُ(1)، وَهِيَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَادَّعَتِ النُّبُوَّةَ وَمَعَهَا جُنُودٌ مِنْ قَوْمِهَا وَمَنِ الْتَفَّ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى غَزْوِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا مَرَّتْ بِبِلَادِ بَنِي تَمِيمٍ دَعَتْهُمْ إِلَى أَمْرِهَا، فَاسْتَجَابَ لَهَا أَكْثَرُهُمْ، وَاصْطَلَحَتْ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ حَرْبٌ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ثَنَاهَا عَنْ غَزْوِ الْمَدِينَةِ، وَحَرَّضَهَا عَلَى قِتَالِ بَنِي الْيَرْبُوعِ وَبَقِيَّةِ النَّاسِ، وَأَنْ تُؤَخِّرَ غَزْوَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَصَدَتْ سَجَاحِ بِجُنُودِهَا الْيَمَامَةَ لِتَأْخُذَهَا مِنْ مُسَيْلِمَةِ الْكَذَّابِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُسَيْلِمَةُ بِمَسِيرِهَا إِلَيْهِ خَافَهَا؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِقِتَالِ الْمُسْلِمينَ، وَذَلِكَ أَثْنَاءَ مُنَاوَشَاتِهِ مَعَهُمْ قَبْلَ مَعْرَكَةِ الْيَمَامَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى سَجَاحِ يَطْلُبُ الصُّلْحَ مَعَهَا، فَتَصَالَحَتْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْأَرْضِ.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا يَطْلُبُ الزَّوَاجَ مِنْهَا قَائِلًا: هَلْ لَكِ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ وَآكُلَ بِقَوْمِي وَقَوْمِكِ الْعَرَبَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَلَمَّا سَمِعَتْ بِقُدُومِ خَالِدٍ رَجَعَتْ إِلَى بِلَادِهَا. وَأَقَامَتْ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَقِيلَ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ(2).
________________________________
(1) وَقِيلَ إِنَّهَا مِنْ بَنِي تَمِيم.
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/324).
* بَنُو حَنِيفَةَ وَمَعْرَكَةُ الْيَمَامَةِ:
أَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَامَةِ لِقِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَ قَبْل ذَلِكَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ بَنِي حَنِيفَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا وَصَلَ خَالِدٌ جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ زَيْدَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ أَبَا حُذَيْفَةَ.
وَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ خَالِدٌ عَلَى كَثِيبٍ يُشْرِفُ عَلَى الْيَمَامَةِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، وَرَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ حَتَّى حَفَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِقَدَمَيْهِ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ بَعْدَمَا تَحَنَّطَ وَتَكَفَّنَ، فَلَمْ يَزَلْ ثَابِتًا حَتَّى قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: أَتَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ؟
فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا.
وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى جَاوَزَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، وَجَعَلَ لَا يَبْرُزُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، وَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ مَيَّزَ خَالِدٌ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ كُلَّ قَبِيلَةٍ تَحْتَ رَايَةٍ حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَوْنَ، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ.
وَلَمْ يَزَالُوا يَتَقَدَّمُونَ إِلَى نُحُورِ عَدُوِّهِمْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَلَّى
الْكُفَّارُ الْأَدْبَارَ، حَتَّى دَخَلُوا إِلَى مَكَانٍ يُسَمَّى حَدِيقَةَ الْمَوْتِ، وَأَغْلَقَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الْحَدِيقَةَ عَلَيْهِمْ وَأَحَاطَ بِهِمُ الصَّحَابَةُ.
وقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ: يَا مَعْشَر الْمُسْلِمينَ! أَلْقُونِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيقَةِ، فَاحْتَمَلُوهُ فَوْقَ الْحَجَفِ (وَهِيَ التُّرُوسُ)، ثُمَّ رَفَعُوا التُّرُوسَ بِالرِّمَاحِ حَتَّى أَلْقَوْهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ سُورِهَا، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُمْ دُونَ بَابِهَا حَتَّى فَتَحَهُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْحَدِيقَةَ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا، يَقْتُلُونَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ حَتَّى خَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ فَرَمَاهُ بِحَرْبَتِهِ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ(1).
وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ قَرِيبًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتُّمِائَةٍ. وَلَجَأَ الْبَاقُونَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَكَانَ قَدْ سُبِيَ مِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَى الْحِصْنِ، وَمِنْهُمُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَنْجَبَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ(2).
* رِدَّةُ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ:
ارْتَدَّ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى
________________________________
(1) وَكَانَ وَحْشِيّ يَقُول: « قتلت خَيْر النَّاس فِي الْجاهلية وَشر النَّاس فِي الْإِسْلَام » انْظُرْ: « أسد الْغابة » لِابْنِ الْأَثِير 5/386 وَ « تَارِيخ الْإِسْلَامِ » لِلذَّهَبِيِّ 3/39.
(2) « الطَّبَقَات الْكُبْرَى » (3/12)، وَهِيَ خولة بِنْت جَعْفَر بْن قَيْس.
الإِسْلَامِ سِوَى قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا جُوَاثَاءُ(1)، وَكَانَتْ أَوَّلَ قَرْيَةٍ أَقَامَتِ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ.
وَقَدْ حَاصَرَ الْمُرْتَدُّونَ أَهْلَ جُوَاثَاءَ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى جَاعُوا جُوعًا شَدِيدًا، فَقَالَ قَائِلُهُمْ –هُوَ عَبْد اللهِ بْنُ حَذَف-:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ رَسُولًا ... وَفِتْيَانَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعِينَا
فَهَلْ لَكُمْ إِلَى قَوْمٍ كِرَامٍ ... قُعُودٍ فِي جُوَاثَا مُحْصَرِينَا
كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ فِي كُلِّ فَجٍّ ... شُعَاعُ الشَّمْسِ يَغْشَى النَّاظِرينَا
تَوَكَّلْنَا عَلَى الرَّحْمَنَ إِنَّا ... وَجَدْنَا النَّصْرَ لِلْمُتَوَكِّلِينَا
وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَخْبِرُونِي إِنْ عَلِمْتُمُوهُ، وَلَا تُجِيبُونِي إِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ. فَقَالُوا: سَلْ.
قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِلهِ أَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ؟ قَالُو: نَعَمْ.
قَالَ: تَعْلَمُونَهُ أَوْ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: نَعْلَمُهُ.
________________________________
(1) جواثاء: حصن لعبد الْقَيْس بالْبَحْرَيْنِ معجم الْبلدان 2/174 وَيُقَال جواثا وَجؤاثا.
قَالَ: فَمَا فَعَلُوا؟ قَالُوا: مَاتُوا.
قَالَ: فَإِنَّ مُحَمَّدًا مَاتَ كَمَا مَاتُوا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالُوا: وَنَحْنُ أَيْضًا نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ أَفْضَلُنَا وَسَيِّدُنَا، وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ.
وأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ جُيُوشِ الْمُرْتَدِّينَ نَزَلَ وَنَزَلُوا، فَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي اللَّيْلِ إِذْ سَمِعَ الْعَلَاءُ أَصْوَاتًا عَالِيَةً فِي جَيْشِ الْمُرْتَدِّينَ، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْشِفُ لَنَا خَبَرَهَؤُلَاءِ؟
فَقَامَ رَجُلٌ فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَوَجَدَهُمْ سُكَارَى لَا يَعْقِلُونَ مِنَ الشَّرَابِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَرَكِبَ الْعَلَاءُ مِنْ فَوْرِهِ وَالْجَيْشُ مَعَهُ، فَقَتَلُوهُمْ، وَقَلَّ مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ(1).
2- بَعْثُ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ (غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ)(2):
كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَمَضَى خَالِدٌ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ هُرْمُزْ قَدْ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةُ لقِتَالِ
________________________________
(1) انْظُرْ: « تَارِيخ الطَّبَرِيّ- ذكر خبر أَهْل الْبَحْرَيْنِ ». وَ « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث 11 هـ، ذكر رِدَّة أَهْل الْبَحْرَيْنِ.
(2) سُمّيت (ذَاتُ السَّلاسِلِ) لكَثْرَة مَن سُلسِلَ بِهَا مِنْ فُرْسَانِ فَارس. « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (6/349). وَهِيَ غَيْر (ذات السَّلَاسِل) الَّتِي كَانَتْ زمنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِمَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ وَنَزَلُوا تِجَاهَ الْفُرْسِ فِي كَاظِمَةَ(1)، فَتَرَجَّلَ خَالِدٌ وَتَقَدَّمَ إِلَى هُرْمُزْ فَاخْتَلَفُوا ضَرْبَتَيْنِ وَاحْتَضَنَهُ خَالِدٌ، وَجَاءَتْ حَامِيَةُ هُرْمُزْ حَتَّى لَا يَقْتُلَهُ خَالِدٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَأَنَامَهُمْ. وَانْهَزَمَ أَهْلُ فَارِسَ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْتِعَتِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ(2).
3- غَزْوُ الشَّامِ:
لَمَّا فَرَغَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَمْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَسَطَ يَمِينَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَدْ أَحْبَبْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَن أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ وَأَنْتَ عَبْدُ اللهِ الرَّامِي بِهَا وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا فَارْمِ بِي فِيهَا.
عِنْدَ ذَلِكَ بَدَأَ أَبُو بَكْرٍ بِعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ وَتَوْلِيَةِ الْأُمَرَاءِ وَهُمْ كَمَا يَأْتِي:
1- يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَجَعَلَ لَهُ دِمَشْقَ.
2- أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَجَعَلَ لَهُ حِمْصَ.
3- عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَجَعَلَ لَهُ فِلَسْطِينَ.
________________________________
(1) موقع فِي دولة الْكويت حاليًا.
(2) تَارِيخ الطَّبَرِيِّ أَحْدَاث 12 هـ، وَالبِدَايَة وَالنِّهَايَة أَحْدَاث سَنَة 12 هـ.
ثُمَّ أَرْسَلَ مَدَدًا لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَأَرْسَلَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ.
* مِمَّنْ شَارَكَ فِي مَعْرَكَةِ الْيَرْمُوكِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ:
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، أَبُو الدَّرْدَاءِ، أَبُو هُرَيْرَةَ، شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
* وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ:
كَانَ عَدَدُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَعَدَدُ جَيْشِ النَّصَارَى عِشْرِينَ وَمِئَةَ أَلْفٍ. وَأَرْسَلَ الْأُمَرَاءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ مَدَدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْتَمِعُوا وَكُونُوا جُنْدًا وَاحِدًا، فَأَنْتُمْ أَنْصَارُ اللهِ، وَاللهُ يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَيَخْذُلُ مَنْ يَكْفُرُهُ، وَلَنْ يُؤْتَى مِثْلُكُمْ عَنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنْ مِنْ تِلْقَاءِ الذُّنُوبِ فَاحْتَرِسُوا مِنْهَا.
ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُشْغِلَنَّ النَّصَارَى عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْعِرَاقِ لِيَقْدُمَ إِلَى الشَّامَ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَى الشَّامِ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَاسْتَنَابَ خَالِدٌ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ مُسْرِعًا فِي تِسْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةِ، وَسَلَكَ طُرُقًا لَمْ يَسْلُكْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ اخْتِصَارًا لِلطَّرِيقِ، فَاجْتَابَ الْبَرَارِيَ وَالْقِفَارَ، وَقَطَعَ الْأَوْدِيَةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ دَلِيلًا وَهُوَ نَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ الطَّائِيُّ.
وكَانَتْ أَرْضًا مَعْطَشَةً(1)، فَلَمَّا فَقَدُوا الْمَاء نَحَرُوا الْإِبلَ وَسَقَوْا مَا فِي أَجْوَافِهَا لِلْخَيْلِ وَوَصَلَ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُ أَحَدُ الْأَعْرَابِ قَبْل مَسِيرِهِ: إِنْ أَنْتَ أَصْبَحْتَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي يَوْمِ كَذَا، نَجَوْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا هَلَكْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ. فَأَصْبَحُوا عِنْدَهَا فَقَالَ: عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى(2). فَصَارَتْ مَثَلًا. وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ يَجُسُّ أَمْرَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: وَجَدْتُ رُهْبَانًا باللَّيْل، فُرْسَانًا بِالنَّهَارِ، وَاللهِ لَوْ سَرَقَ فِيهِمُ ابْنُ مَلِكٍ قَطَعُوهُ، أَوْ زَنَى لَرَجَمُوهُ. فَقَالَ لَهُ قَائِدُ الرُّومِ: وَاللهِ لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا، لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا.
وَلَمَّا أَقْبَلَ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ لَهُ: مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمينَ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَيْلَكَ أَتُخَوِّفُنِي بِالرُّومِ؟ إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ، وَتَقِلُّ بِالْخِذْلَانِ لَا بِعَدَدِ الرِّجَالِ، وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الْأَشْقَرَ بَرَأَ مِنْ وَجَعِهِ وَأَنَّهُمْ أَضْعَفُوا الْعَدَدَ(3).
وَطَلَبَ مَاهَان قَائِدُ الرُّومِ أَنْ يُقَابِلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ فَقَالَ مَاهَان: إِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمُ الْجَهْدُ وَالْجُوعُ، فَهَلُمُّوا إِلَيَّ أُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَكُسْوَةً
________________________________
(1) قَلِيلة الْماء.
(2) السُّرى: هُوَ الْمشي ليلا.
(3) وَكانَ اسمُ فرسهِ (الْأشقرَ) وَقَدْ اشتكى فِي مجيئهِ مِنَ الْعِرَاقِ.
وَطَعَامًا وَتَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعَثْنَا لَكُمْ بِمِثْلِهَا.
فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْنَا مِنْ بِلَادِنَا مَا ذَكَرْتَ، غَيْرَ أَنَّا قَوْمٌ نَشْرَبُ الدِّمَاءَ، وَأَنَّهُ بَلَغَنَا أَن لَا دَمَ أَطْيَبُ مِنْ دَمِ الرُّومِ فَجِئْنَا لِذَلِكَ.
ثُمَّ تَفَارَقَا، وَتَنَازَلَ الْأَبْطَالُ، وَتَجَاوَلُوا فِي الْحَرْبِ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. وَأَقْبَلَتِ الرُّومُ رَافِعَةً صُلْبَانَهَا وَلَهُمْ أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ كَالرَّعْدِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالْبَطَارِقَةُ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَهُمْ فِي عَدَدٍ وَعُدَّةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الرُّومِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْكَشَفَ الرُّومُ وَفَرُّوا، وَانْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ بِنَصْرٍ سَاحِقٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
* مَوَاقِفُ بُطُولِيَّةٌ:
قَامَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: قَاتَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ وَأَفِرُّ مِنْكُمُ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ عَمُّهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَمَعَهُمَا أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمينَ، وَقَاتَلُوا قِتَالًا مَرِيرًا حَتَّى قُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُمْ لَمَّا صُرِعُوا اسْتَسْقَوُا الْماءَ، فَجِيءَ إِلَيْهِمْ بِشَرْبَةٍ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَخَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ(1). وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ (كَنِيسَةَ يُوحَنَّا) فَقَسَمُوهَا نِصْفَيْنِ، وَجَعَلُوا نِصْفَهَا (مَسْجِداً) وَنِصْفَهَا الْآخَرَ (كَنِيسَةً)، وَالْمَسْجِدُ يُسَمَّى الْيَوْمَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
________________________________
(1) تَارِيخ الطَّبَرِيِّ أَحْدَاث 13 هـ، وَالبِدَايَة وَالنِّهَايَة أَحْدَاث 13 هـ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مِنْ سَنَةِ 13 إِلَى 23 هـ
تَمْهِيدٌ
اسْتَمرَّتْ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ تَرَكَ الْخِلَافَة بَعْدَ ذَلِكَ لِعُمَرَ وَبَايَعَهُ النَّاسُ.
وَقَدْ رَأَى أَبُو بَكْرٍ أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ أَصْلَحُ النَّاسِ لِتَوَلِّي هَذَا الْأَمْرِ، فَاخْتَارَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْد ذَلِكَ، فَصَارَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ عَشْرَ سِنِينَ.
* وَتُعَدُّ خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَجْمَلِ السَّنَوَاتِ فِي عُمْرِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْدَ حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
* تَوَلَّى عُمَرُ الْخِلَافَةَ فِي بِدَايَةِ الْقِتَالِ الْعَنِيفِ فِي الشَّامِ، حَيْثُ تَجَمَّعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْيَرْمُوكِ أَمَامَ جُمُوعِ الرُّومِ الْهَائِلَةِ، وَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ انْتِصَارًا مُؤَزَّرًا، وَفُتِحَتْ دِمَشْقُ وَحِمْصُ وَقِنَّسْرِينُ وَأَجْنَادَِيْنُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ الْعَظِيمُ وَهُوَ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
* وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ فِي أَرْضِ الرُّومِ كَمَا يَحْلُو لَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّجَهَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى مِصْرَ وَفَتَحَهَا، وَاتَّجَهَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الشَّرْقِ حَيْثُ بِلَادُ فَارِسَ، فَأَوْطَأَ الْخَيْلَ دِيَارَهُمْ وَكَبَّدَهُمْ خَسَائِرَ عَظِيمَةً.
* ثُمَّ كَانَتْ مَعْرَكَةُ الْقَادِسِيَّةِ الْعَظِيمَةِ بِقِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَتْ مِنَ الْمَعَارِكِ الْفَاصِلَة، ثُمَّ فُتِحَتْ خُرَاسَانُ، وَكَانَتِ الْفُتُوحَاتُ كَثِيرَةً جِدًّا فِي عَهْدِ عُمَرَ.
وَكَانَ عُمَرُ يُرَاقِبُ الْوُلَاةَ مُرَاقَبَةً شَدِيدَةً، وَكَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهُمْ وَيَسْتَطْلِعُ أخْبَارَهُمْ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رَسُولَ عُمَرَ يَسْتَطْلِعُ أَحْوَالَ الْوُلَاةِ.
* وَمِنْ سِيَاسَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَعُسُّ(1) بِاللَّيْلِ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَمْنِ الْمَدِينَةِ حِرْصًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَكُنْ يَسْمَحُ لِكِبَارِ الصَّحَابَةِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَسْتَشِيرَهُمْ فِي أُمُورِهِ(2).
* وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ حَتَّى قَالَ فِيهِ رَسُول كِسْرَى -لَمَّا رَآهُ نَائِمًا تَحْتَ شَجَرَةٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-: حَكَمْتَ فَعَدَلْتَ فَأَمِنْتَ فَنِمْتَ.
* عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ؛
- قَالَ {عُمَرُ}:أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ؟
- قَالَ {حُذَيْفَةُ}: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
قَالَ {عُمَرُ}: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ
________________________________
(1) أَي يطوف بِهَا يحرس النَّاس وَيكشف أَهْل الرِّيبة. اللسان (ع. س. س).
(2) « التَّارِيخ الْإِسْلَامِيّ » (3/21) وَمَا بعدها.
الْبَحْرِ؟
- قَالَ {حُذَيْفَةُ}: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا.
- قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟
- قَالَ {حُذَيْفَةُ}: بَلْ يُكْسَرُ.
- قَالَ عُمَرُ: إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا.
- قُلْتُ {أَيْ حُذَيْفَةُ}: أَجَلْ.
قَالُوا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ عُمَرُ(1).
فهَذَا الْبَابُ هُوَ عُمَرُ نَفْسُهُ، وَكَسْرُ الْبَابِ هُوَ قَتْلُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا قَتَلَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيُّ قَبَّحَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب الْفِتَن، بَاب الْفِتْنَة الَّتِي تموج كموج الْبحر، ح (7096)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الْإِيمَانِ، بَاب رَفعِ الْأَمَانَةِ وَالإِيمَانِ مِن بَعْضِ الْقُلُوبِ..، ح (144/231).
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
* نَسَبُهُ:
هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنُ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْن قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ(1)، وَفِهْرٌ هُوَ قُرَيْشٌ.
* أَزْوَاجُهُ:
1- زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ.
2- مُلَيْكَةُ بِنْتُ جَرْوَلٍ.
3- أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ.
4- عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدٍ.
5- أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
6- جَمِيلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ.
7- قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ.
* أَوْلَادُهُ:
الذُّكُورُ: زَيْدٌ الْأَكْبَرُ - زَيْدٌ الْأَصْغَرُ - عَاصِمٌ - عَبْدُ اللهِ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَكْبَرُ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَوْسَطُ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَصْغَرُ
________________________________
(1) « معرفة الصَّحَابَة » لأبي نُعيمٍ (1/190).
- عُبَيْدُ اللهِ – عِيَاضٌ.
الْإِنَاثُ: حَفْصَةُ – رُقَيَّةُ – زَيْنَبُ – فَاطِمَةُ.
* إِسْلَامُهُ:
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ «(1)، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ أَرْيَعِينَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبِعْثَةِ.
* مُلَازَمَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ(2)، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيٌّ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ! إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»(3).
________________________________
(1) رَوَاه الْبُخَارِيّ كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مَنَاقِب عُمَر حَدِيث (3684) كِتَاب مَنَاقِب الْأَنْصَار بَاب إِسْلَام عُمَر (3863).
(2) أَي بَعْدَ أَن طَعنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمجُوسِيُّ.
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُمَر، حَدِيث ( 3685). « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِن فَضائلِ عُمَرَ، حَدِيث (2389).
* فَضَائِلُهُ:
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ»(1).
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ. فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا». فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ؟!(2).
3- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ(3).
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُمَر حَدِيث (3689)، وَلمُسْلِم نحوه مِنْ حَدِيث عَائِشَة (2398).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فضائل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُمَر حَدِيث (3680)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِن فَضائِلِ عُمَرَ، حَدِيث (2394، 2395).
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُمَر حَدِيث (3697)، « صَحِيح مُسْلِم »، فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِن فَضَائِلِ عُمَرَ حَدِيث (2394).
4- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيهًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ؛ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»(2).
* عُمَرُ الْمُلْهَمُ:
قَالَ عُمَرُ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ:
1- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. فَنَزَلَتْ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] {البقرة: 125}.
2- وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ؛ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
3- وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ]. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ(3) [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ] {التحريم: 5} الْآيَة.
________________________________
(1) « الْفَجُّ »: هُوَ الطَّرِيقُ الْواسعُ بَيْن جَبَلينِ « لِسَان الْعَرَب » (2/338).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُمَرَ، حد يث (3683)، « صَحِيح مُسْلِم » كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِن فَضائِلِ عُمَر، حَدِيث (2396).
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الصَّلَاة، بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبلة حَدِيث (402)، « صَحِيح مُسْلِم » مُخْتَصَرًا، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل عُمَرَ، حَدِيث (2399).
* اسْتِشْهَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قُتِلَ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى يَدِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيَّ حَيْثُ طَعَنَهُ وَهُوَ يُصَلِّي الْفَجْرِ فِي النَّاسِ طَعْنَتَيْنِ بِخَنْجَرٍ مَسْمُومٍ.
وقَالَ عُمَرُ –لَمَّا عَرَفَ قَاتِلَهُ-: « الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ قَاتِلِي مُسْلِمًا، يُحَاجُّنِي عِنْدَ اللهِ بِسَجْدَةٍ سَجَدَهَا»(1).
________________________________
(1) « مُصَنَّف ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ " (37074) كِتَاب الْمغازي، بَاب ماجاء فِي خِلَافَة عُمَر بْن الْخَطَّابِ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: أَهَمُّ الْأَحْدَاثِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
* مَوْقِعَةُ الْقَادِسِيَّةِ فِي مُحَرَّمِ 14 هـ:
عَزَمَ عُمَرُ عَلَى غَزْو الْعِرَاقِ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنِّي أَخْشَى إِنْ كُسِرْتَ أَن يَضْعُفَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي أَرَى أَن تَبْعَثَ رَجُلًا وَتَرْجِعَ أَنْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَاسْتَصْوَبَ عُمَرُ وَبَاقِي الصَّحَابَةِ رَأْيَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقَالَ عُمَرُ: فَمَنْ تَرَى أَنْ نَبْعَثَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: الْأَسَدُ فِي بَرَاثِنِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَرَضِيَ عُمَرُ، وَخَرَجَ سَعْدٌ إِلَى الْعِرَاقِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ سِتَّةِ آلَافٍ.
وقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لَأَرْمِيَنَّ مُلُوكَ الْعَجَمِ بِمُلُوكِ الْعَرَبِ. وَأَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَجْعَلَ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَأَن يُوَاعِدَهُمُ الْقَادِسِيَّةَ.
وَكَانَ فِي هَذَا الْجَيْشِ مِنَ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، مِنْهُمْ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَمَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُ الْفُرْسِ عَلَى رُسْتُمْ. فَخَرَجَ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَمَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيلًا، وَبَعَثَ سَعْدٌ رِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ إِلَى رُسْتُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ
الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرُوا الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ، وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا طَرَفَ الْبِسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ، وَبَيْضَتُهُ عَلَى رَأْسِهِ.
فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ.
فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ.
فَقَالَ رُسْتُمْ: ائْذَنُوا لَهُ. فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَقَ عَامَّتَهَا. فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟
فَقَالَ: اللهُ ابْتَعَثَنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللهِ.
قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللهِ؟
قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ.
فَقَالَ رُسْتُمْ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُروا؟
قَالَ: نَعَمْ! كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ: يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟
قَالَ: لا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا.
فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ.
فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمْ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ.
فاجْتَمَع رُسْتُمْ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَام هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللهِ أَنْ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ إِلَى هَذَا الْكَلْبِ، أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! لَا تَنْظُروا إِلَى الثِّيَابِ، وَانْظُرْوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: « كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّة وَقْعَةً عَظِيمَةً لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ أَعْجَبُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَوَاجَهَ الصَّفَّانِ كَانَ سَعْدٌ قَدْ أَصَابَهُ عِرْقُ النَّسَا وَخَرَجَتْ دَمَامِلُ فِي جَسَدِهَ، فَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَصْرٍ مُتَّكِئٌ عَلَى صَدْرِهِ فَوْق وِسَادَةٍ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْجَيْشِ وَيُدَبِّرُ أَمْرَهُ، وَقَدْ جَعَلَ أَمْرَ الْحَرْبِ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 14 هـ.
إِلى خَالِدِ بْن عُرْفُطَةَ »(1).
وبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ وَصَارَ الْقُوَّادُ يَحُثُّونَ الْجُنُودَ عَلَى الْقِتَالِ، وَاقْتَتَلَ الْفَرِيقَانِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَبْلَى جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ بَلَاء حَسَنًا مِثْلُ: عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، جَرِيرِ بْن عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ، خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ، طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، وَاسْتَمرَّ الْقِتَالُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا. وَأَبَادَ الْمُسْلِمُونَ الْفِيَلَةَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهَبَّتْ رِيَاحٌ شَدِيدَةٌ فَرَفَعَتْ خِيَامَ الْفُرْسِ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَبَادَرَ رُسْتُمْ، فَرَكِبَ بَغْلَتَهُ يُرِيد الْهَرَبَ، فَأَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوهُ(2).
* مَوْقِعَةُ أَجْنَادِينَ(15 هـ):
مِنَ الْمَعَارِكِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سَارَ بِجَيْشِهِ إِلَى أَجْنَادِينَ، وَخَرَجَتِ الرُّومُ وَقَائِدُهَا الْأَرْطَبُونُ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْتَظِرُوا عَمَّا تَنْفَرِجُ.
وَأَقَامَ عَمْرٌو عَلَى أَجْنَادِينَ لَا يَقْدِرُ مِنَ الْأَرْطَبُونِ عَلَى سَقْطَةٍ، وَلَا تَشْفِيهِ الرُّسُلُ، فَقَرَّرَ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ قِبَلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَتَّى يَنَظُرَ إِلَى حَالِ الْأَرْطَبُونِ، فَسَمِعَ مِنْهُ
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » أَحْدَاث سَنَة 14 هـ، وَ « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 14 هـ.
وَأَسْمَعَهُ، وَخَرَجَ بِمَا يُرِيدُ، فَشَكَّ فِيهِ الْأَرْطَبُونُ فَدَعَا حَارِسًا عِنْده فَأَسَرَّ إِلَيْهِ، وَظَنَّ عَمْرُو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ كَشَفَ أَمْرَهُ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ لِلْأَرْطَبُونِ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكَ وَسَمِعْتَ كَلَامِي، وَإِنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِنَكُونَ مَعَ عَمْرِو بْن الْعَاصِ لِنَشْهَدَ أُمُورَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ لِتَسْمَعَ مِنْهُمْ وَيَسْمَعُوا مِنْكَ. قَالَ الْأَرْطَبُونُ: نَعَمْ، فَاذْهَبْ فَأْتِنِي بِهِمْ. ثُمَّ دَعَا حَارِسًا آخَرَ وَسَارَّهُ كَمَا سَارَّ الْأَوَّلَ، وَخَرَجَ عَمْرٌو، وَبعْدَهَا تَحَقَّقَ الْأَرْطَبُونُ أَنَّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَقَالَ: خَدَعَنِي الرَّجُلُ، هَذَا وَاللهِ أَدْهَى الْعَرَبِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْقِتَالُ بأَجْنَادِينَ، وَكَتَبَ اللهُ النَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. فَخَرَجَ الْأَرْطَبُونُ إِلَى إِِيلِيَاءَ وَتَحَصَّنَ بِهَا (وهي بَيْتُ الْمَقْدِسِ)(1).
* فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ:
خَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِجَيْشِ الْإِسْلَامِ، فَحَاصَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَجَابُوا إِلَى الصُّلْحِ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدَمَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (2).
وَلَمَّا وَصَلَ عُمَرُ الشَّامَ تَلَقَّاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرُؤُوسُ الْأُمَرَاءِ، كَخَالِدِ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 15 هـ وَقْعَة أَجْنَادِينَ.
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/44).
ابْنِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَتَرَجَّلَ عُمَرُ، فَأَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِيُقَبِّلَ يَدَ عُمَرَ، فَهَمَّ عُمَرُ بِتَقْبِيلِ رِجْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَكَفَّ أَبُو عُبَيْدَةَ فَكَفَّ عُمَرُ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى صَالَحَ نَصَارَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ إِجْلَاءَ الرُّومِ إِلَى ثَلَاثٍ، ثُمَّ دَخَلَهَا، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَيُقَالُ إِنَّهُ لَبَّى حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِيهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِمِحْرَابِ دَاوُدَ، وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِيهِ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مِنَ الْغَدِ، فَقَرَأَ فِي الْأُولَى بِسُورَةِ (ص) وَسَجَدَ فِيهَا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ)، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَكَانِهَا مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ كَعْبٌ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَالَ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ. ثُمَّ جَعَلَ الْمَسْجِدَ فِي قِبْلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ -وَهُوَ الْعُمَرِيُّ الْيَوْم- ثُمَّ نَقَلَ التُّرَابَ عَنِ الصَّخْرَةِ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَقَبَائِهِ، وَنَقَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَسَخَّرَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ فِي نَقْلِ بَقِيَّتِهَا، وَالرُّومُ جَعَلُوا الصَّخْرَةَ مَزْبَلَةً لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْيَهُودِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تُرْسِلُ خِرْقَةَ حَيْضِهَا مِنْ دَاخِلِ الْحَوْزِ(1) لِتُلْقَى فِي الصَّخْرَةِ، وَذَلِكَ مُكَافَأَةً لِمَا كَانَتِ الْيَهُودُ عَامَلَتْ بِهِ الْقُمَامَةَ، وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَتِ الْيَهُودُ صَلَبُوا فِيهِ
________________________________
(1) مَرافِقُ الدَّار وَمنَافِعُها. « لِسَان الْعَرَب » (5/342).
الْمَصْلُوبَ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى قَبْرِهِ الْقُمَامَةَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ: الْقُمَامَةَ، وَانْسَحَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي بَنَاهَا النَّصَارَى هُنَالِكَ(1).
* فَتْحُ تُسْتَرَ وَالسُّوس، وَأَسْرُ الْهُرْمُزَانِ سَنَةَ (17 هـ):
سَبَبُهَا أَن (يَزْدَجِرْدَ) مَلِكَ الْفُرْسِ كَانَ يُحَرِّضُ أَهْلَ فَارِسٍ عَلَى الْعَرَبِ، حَتَّى نَقَضُوا الْعُهُودَ الَّتِي بَيْنَهُمْ بَعْدَ (الْقَادِسِيَّةِ) وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِكِ الصَّغِيرَةِ، وَتَعَاقَدُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمينَ، وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَبْعَثَ جَيْشًا إِلَى (الْأَحْوَازِ) بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ، فَبَعَثَ سَعْدٌ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، فَلَمَّا وَصَلَ النُّعْمَانُ إِلَى (رَامَهُرْمُزَ) خَرَجَ إِلَيْهِ الْهُرْمُزَانُ، وَتَقَاتَلَ مَعَهُ فهُزِمَ الْهُرْمُزَانُ وَفَرَّ إِلَى (تُسْتَرَ) وَلَحِقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى حَاصَرُوهُ هُنَاكَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلْبَرَاءِ -(وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ)(2)-: يَا بَرَاءُ! أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ليَهْزِمَنَّهُمْ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ لَنَا وَاسْتَشْهِدْنِي. وَكَانَ الْبَرَاءُ يَوْمَئِذٍ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ رَجُلٍ مُبَارَزَةً. فَهَزَمَ اللهُ الْهُرْمُزَانَ وَقَوْمَهُ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادُهُمْ،
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 16 ص فتح بيت الْمقدس.
(2) عُرِفَ أَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ مِن حَدِيثِ أنسِ بْنِ مالكٍ « أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ». أَخْرَجَهُ التِّرمذِيّ (3854) وَقَالََ: « حَسَن ».
وَطَلَبَ رَجُلٌ مِنَ الْفُرْسِ الْأَمَانَ مِنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ، فَصَارَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَكَانٍ يَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى الْبَلْدَةِ وَهُوَ مَدْخَلُ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَنَدَبَ الْأُمَرَاءُ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ فَدَخَلُوا مَعَ الْمَاءِ وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، وَجَاؤُوا إِلَى الْبَوَّابِينَ فَقَتَلُوهُمْ وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فدَخَلُوا الْبِلَادَ وَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ، وَانْشَغَلُوا بِالقِتَالِ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ وَلَمْ يُصَلُّوا الْفَجْرَ.
وَقَالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ (تُسْتَرَ) عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا. وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا(1).
وَفَرَّ الْهُرْمُزَانُ إِلَى (القَلْعَةِ) فَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ، فَصَارَ يَرْمِي بِالسِّهَامِ، فأَصَابَ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ وَمَجْزَأَةَ بْنَ ثَوْرٍ فَقَتَلَهُمَا. وَقَالَ لَهُمُ الْهُرْمُزَانُ: إِنَّ مَعِي مِائَةَ سَهْمٍ، وَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَمَيْتُهُ، فَمَا يَنْفَعُكُمْ أَسْرِي إِذَا قَتَلْتُ مِنْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ؟ قَالُوا: فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي حَتَّى أُسَلِّمَكُمْ يَدِي، فَتَذْهَبُوا بِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيْحَكُمَ فِيَّ بِمَا شَاءَ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. وَلَمَّا وَصَلُوا
________________________________
(1) رَوَاه الْبُخَارِيُّ مُعَلقًا، كِتَاب الْخوف، بَاب الصَّلَاة عِنْد مناهضة الْحُصُون قبيل الْحَدِيث (945).
الْمَدِينَةَ، قَصَدُوا مَنْزِلَ عُمَرَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا قَصَدُوا الْمَسْجِدَ وَجَدُوهُ نَائِمًا فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ.
فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: أَيْنَ عُمَرُ؟ فَأَشَارُوا إِلَيْهِ وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ حَتَّى لَا يُوقِظُوهُ.
فَقَالَ: أَيْنَ حُجَّابُهُ وَحَرَسُهُ؟
قَالُو: لَيْسَ لَهُ حَاجِبٌ وَلَا حَارِسٌ. فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ وَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْهُرْمُزَانُ.
فَقَالَ عُمَرُ: مَا حُجَّتُكَ وَمَا عُذْرُكَ فِي نَقْضِكَ الْعَهْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؟
فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ.
قَالَ: لَا تَخَفْ ذَلِكَ.
فَطَلَبَ الْهُرْمُزَانُ الْمَاءَ لِيَشْرَبَ، فَأُتِيَ بِالْمَاءِ فَأَخَذَهُ وَجَعَلَتْ يَدُهُ تَرْعَدُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَ. فَأَلْقَى الْقَدَحَ وَالْمَاءُ فِيهِ وَلَمْ يَشْرَبْ. فَقَالَ عُمَرُ: أَحْضِرُوا لَهُ مَاءً وَلَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَالْعَطَشَ. فَرَفَضَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: إِنَّكَ أَمَّنْتَنِي حَتَّى أَشْرَبَ وَلَمْ أَشْرَبْ بَعْدُ. فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا أَنَسُ، أَنَا أُؤَمِّنُ مَنْ قَتَلَ مَجْزَأَةَ وَالْبَرَاءَ؟! ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْهُرْمُزَانِ وَقَالَ لَهُ: خَدَعْتَنِي؛ وَاللهِ لَا أَنْخَدِعُ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ. فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ.
وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تُسْلِمْ مِنْ قَبْلُ. قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يُقَالَ أَسْلَمَ خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ(1).
* عَامُ الرَّمَادَةِ سَنَة (18 هـ):
سُمِّيَ بِعَامِ الرَّمَادَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَطَرِ حَتَّى عَادَ لَوْنُهَا شَبِيهًا بِالرَّمَادِ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى بِالْبَصْرَةِ، وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُول: «وَاغَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ».
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَأَخْرَجَ عُمَرُ مَعَهُ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَسْقِيَ لِلنَّاسِ، فَقَامَ الْعَبَّاسُ فَخَطَبَ وَأَوْجَزَ وَصَلَّى، ثُمَّ جَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْضَ عَنَّا. ثُمَّ انْصَرفَ، فَمَا بَلَغُوا الْمَنَازِلَ رَاجِعِينَ حَتَّى خَاضُوا بِالْغُدْرَانِ(2).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » أَحْدَاث سَنَة 17 هـ، وَانْظُرْ: « تَارِيخ الْإِسْلَامِ " لِلذَّهَبِيِّ أَحْدَاث سَنَة 20 هـ، غَزْوَة تُسْتَر.
(2) « الْبدايه وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 18 هـ.
(3) رَوَاه الْبُخَارِيّ كِتَاب الاسْتِسْقَاء، بَاب سؤال الْإِمَام الاسْتِسْقَاء، حَدِيث (1010).
فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ(1).
* مَعْرَكَةُ نَهَاوَنْدَ (21 هـ):
الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا بِقِيَادَةِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ. وَكَانَ الْفُرْسُ قَدْ تَحَصَّنُوا وَلَمْ يَخْرُجُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمينَ.
وَتَكَلَّمَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى أَنْ تَبْعَثَ سَرِيَّةً فَتُحَدِّقَ بِهِمْ، وَيُنَاوِشُوهُمْ بِالقِتَالِ وَيُحْمِشُوهُمْ(2)، فَإِذَا بَرَزُوا فَلْيَفِرُّوا إِلَيْنَا هُرَّابًا، فَإِذَا اسْتَطْرَدُوا وَرَاءَهُمْ وَانْتَهَوْا إِلَيْنَا عَزَمْنَا أَيْضًا عَلَى الْفِرَارِ كُلُّنَا، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَشُكُّونَ فِي الْهَزِيمَةِ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَإِذَا تَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ فَجَالَدْنَاهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَنَا.
فَاسْتَجَادَ النَّاسُ هَذَا الرَّأْيَ، وَأَمَّرَ النُّعْمَانُ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْبَلَدِ فَيُحَاصِرُوهُمْ وَحْدَهُمْ وَيَهْرُبُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ. فَفَعَلَ الْقَعْقَاعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَرَزُوا مِنْ حُصُونِهِمْ نَكَصَ الْقَعْقَاعُ بِمَنْ مَعَهُ فَاغْتَنَمَهَا الْأَعَاجِمُ، فَفَعَلُوا مَا ظَنَّ طُلَيْحَةُ، وَقَالَوا: هِي هِي، فَخَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ بِالْبَلَدِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَّا مَنْ يَحْفَظُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْجَيْشِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى تَعْبِئَتِهِ. وَذَلِكَ فِي صَدْرِ نَهَارِ
________________________________
(1) أي: يغضبوهم.
جُمُعَةٍ، فَعَزَمَ النَّاس عَلَى مُصَادَمَتِهِمِ، فَنَهَاهُمُ النُّعْمَانُ وَأَمَرَهُمْ أَن لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ. وَأَلَحَّ النَّاسُ عَلَى النُّعْمَانِ فِي الْحَمْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ -وَكَانَ رَجُلًا ثَابِتًا-، فَلَمَّا حَانَ الزَّوَالُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ رَكِبَ بِرْذَوْنًا لَهُ أَحْوَى(1) قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَيَأَمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ، وَيُقَدِّمُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْأُولَى فَيَتَأَهَّبُ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ أُهْبَةٌ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَمَعَهَا الْحَمْلَةُ الصَّادِقَةُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ.
وَتَعَبَّأَتِ الْفُرْسُ تَعْبِأَةً عَظِيمَةً وَاصْطَفُّوا صُفُوفًا هَائِلَةً فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَقَدْ تَغَلْغَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُمُ الْهَرَبُ وَلَا الْفِرَارُ، وَلَا التَّحَيُّزُ. ثُمَّ إِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَبَّرَ الْأُولَى وَهَزَّ الرَّايَةََ فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ وَهَزَّ الرَّايَةََ فَتَأَهَّبُوا أَيْضًا، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّالِثَة وَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَتْ رَايَةُ النُّعْمَانِ تَنْقَضُّ عَلَى الْفُرْسِ كَانْقِضَاضِ الْعُقَابِ(2) عَلَى الْفَرِيسَةِ، حَتَّى تَصَافَحُوا بالسُّيُوفِ فَاقْتَتَلُوا اقْتِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي مَوْقِفٍ مِن
________________________________
(1) « الْأحوى »: الَّذِي اشتدّ احمرارُه حَتَّى قربَ مِنَ السّوادِ. « لِسَان الْعَرَبِ » (14/206).
(2) الْعُقَاب: طير مَشْهُور مِنَ الْجوارح.
الْمَوَاقِفِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا سَمِعَ السَّامِعُونَ بِوَقْعَةٍ مِثْلِهَا. وَكَتَبَ الله النَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ.
* وَفَاةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (21 هـ):
قَالَ خَالِدٌ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْتِ: « لَقَدْ حَضَرْتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ ».
وقَالَ أَيْضًا: « مَا لَيْلَةٌ يُهْدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيْدَةِ الْجَلِيدِ، فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُهَاحِرِينَ أُصَبِّحُ بِهِمُ الْعَدُوَّ »(1).
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » ذكر مَنْ مَاتَ سَنَة 21 هـ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مِنْ سَنَةِ 23 إِلَى 35 هـ
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ تَوَلِّي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ
* قِصَّةُ الشُّورَى:
لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، جَعَلَ الْخِلَافَةَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِصَّةُ الشُّورَى رَوَاهَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ التَّارِيخَ لَا يَضِيعُ) فهَذَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَوَى لَنَا أَعْظَمَ قِصَّتَيْنِ كَثُرَ حَوْلَهُمَا الْجَدَلُ.
وَلَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ قِصَّةً طَوِيلَةً فِي مَقْتَلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ.
قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ.
وَقَالَ: «يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ »(1).
فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
________________________________
(1) وَكَانَ عُمَر قَدْ عزل سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْكُوفَة.
« اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ ».
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ(1).
وَقَالَ طَلْحَةُ:جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ.
وَقَالَ سَعْدٌ: جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ».
وَهَكَذَا تَنَازَلَ ثَلَاثَة: تَنَازَلَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
الْمُرَشَّحُونَ إِذًا ثَلَاثَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
« فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنَ الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ ». فَأَسْكَتَ الشَّيْخَانِ.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللهُ عَلَيَّ أَنْ لَا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمَا.
قَالَا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ.
________________________________
(1) هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبينُ لَنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ بصورةٍ دَامغةٍ، وَهِيَ أنّ الزُّبَيرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَم يَكُنْ مِنْ مُبغضي عَلِيٍّ، كَيْفَ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ، وَقَدْ رشَّحَهُ لِلخِلافَةِ كَمَا هُوَ ظاهر مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ –وَهُوَ عُثْمَانُ- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ »(1).
هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَيْعَةِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَلَسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَسْأَلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ حَتَّى قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
« وَاللهِ مَا تَرَكْتُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا وَسَأَلْتُهُمْ فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا »(2).
أَيْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً فِي الْبَيْعَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَارَ عُثْمَانَ.
وَمِنَ الْمُحْزِنِ أَنَّنَا نَرَى كُتُبَ التَّارِيخِ الْحَدِيثَةِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ عَنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ تُعْرِضُ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَتَأْخُذُ برِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ الْمَكْذُوبَةِ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ، وَهَذَا نَصُّهَا:
« لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اسْتَخْلَفْتَ، قَالَ: مَنْ أَسْتَخْلِفُ؟ لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ،
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قِصّة الْبَيْعَة، حَدِيث (3700).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْأحكام، بَاب كَيْفَ يُبَايع الْإِمَام النَّاس، حَدِيث (7207).
فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَلَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّ سَالِمًا شَدِيدُ الْحُبِّ لِلهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدُلُّكَ عَلَيْهِ؟ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللهُ، وَاللهِ مَا أَرَدْتَ اللهَ بِهَذَا، وَيْحَكَ كَيْفَ أَسْتَخْلِفُ رَجُلًا عَجَزَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهَ، لَا أَرَبَ لَنَا فِي أُمُورِكُمْ، مَا حَمِدْتُهَا فَأَرْغَبُ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ عَنَّا(1) آلَ عُمَرَ، بِحَسْبِ آلِ عُمَرَ أَنْ يُحَاسَبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَيُسْأَلَ عَنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، أَمَا لَقَدْ جَهَدْتُ نَفْسِي وَحَرَمْتُ أَهْلِي، وَإِنْ نَجَوْتُ كَفَافًا لَا وِزْرَ وَلَا أَجْرَ إِنِّي لَسَعِيدٌ، وَانْظُرْ فَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ فَقَدِ اسْتَخْلفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ)،وإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (يَعْنِي: رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللهُ دِينَهُ.
فَخَرَجُوا ثُمَّ رَاحُوا فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ عَهِدْتَ عَهْدًا؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ بَعْدَ مَقَالَتِي لَكُمْ أَنْ أَنْظُرَ فَأُوَلِّي رَجُلًا أَمْرَكُمْ هُوَ أَحْرَاكُمْ أَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ، وَرَهَقَتْنِي غَشْيَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا دَخَلَ جَنَّةً قَدْ غَرَسَهَا فَجَعَلَ يَقْطِفُ كُلَّ غَضَّةٍ
________________________________
(1) هَكَذَا فِي الْأَصْل، وَلعلَّ معناهُ: فشَر يبعدُ عنا.
وَيَانِعَةٍ فَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُصَيِّرُهُ تَحْتَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ غَالِبُ أَمْرِهِ وَمُتَوَفٍّ عُمَرَ، فَمَا أُرِيدُ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»: سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنْ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْهُمْ وَلَسْتُ مُدْخِلَهُ، وَلَكِنِ السِّتَّةُ: عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ ابْنَا عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ خَالَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَوَارِيُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ عَمَّتِهِ، وَطَلْحَةُ الْخَيْرِ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا فَإِذَا وَلَّوْا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُؤَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ، وَإِنِ ائْتَمَنَ أَحَدًا مِنْكُمْ فَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ.
فَخَرَجُوا فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لَا تَدْخُلْ مَعَهُمْ.
قَالَ: أَكْرَهُ الْخِلَافَ. قَالَ: إِذًا تَرَى مَا تَكْرَهُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ دَعَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُكُمْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَقَادَتَهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا فِيكُمْ، وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، إِنِّي لَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْكُمْ إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ اخْتِلَافَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَيَخْتَلِفُ النَّاسُ، فَانْهَضُوا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنٍ مِنْهَا فَتَشَاوَرُوا وَاخْتَارَوا رَجُلًا مِنْكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا حُجْرَةَ عَائِشَةَ وَلَكِنْ كُونُوا قَرِيبًا، وَوَضَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ.
فَدَخَلُوا فَتَنَاجَوْا ثُمَّ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر:
سُبْحَانَ اللهِ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، فَأَسْمَعَهُ فَانْتَبَهَ، فَقَالَ: أَلا أَعْرِضُوا عَنْ هَذَا أَجْمَعُونَ، فَإِذَا مِتُّ فَتَشَاوَرُوا ثَلَاثَة أَيَّامٍ وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، وَلَا يَأْتِيَنَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ إِلَّا وَعَلَيْكُمْ أَمِيرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْضُرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مُشِيرًا وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَطَلْحَةُ شَرِيكُكُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَأَحْضِرُوهُ أَمْرَكُمْ، وَإِنْ مَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ قُدُومِهِ فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ. مَنْ لِي بِطَلْحَةَ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنا لَكَ بِهِ وَلَا يُخَالِفُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْجُو أَنْ لَا يُخَالِفَ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، عَلِيٌّ، أَوْ عُثْمَانُ.
فَإِنْ وَلِي عُثْمَانُ فَرَجُلٌ فِيهِ لِينٌ، وَإِنْ وَلِي عَلِيٌّ فَفِيهِ دُعَابَةٌ، وَأَحْرَى بِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ.
وَإِنْ تُوَلُّوا سَعْدًا فَأَهْلُهَا هُوَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ الْوَالِي فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ خِيَانَةٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، مُسَدَّدٌ رَشِيدٌ لَهُ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ.
وَقَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ: يَا أَبَا طَلْحَة إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ طَالَمَا أَعَزَّ الْإِسْلَامَ بِكُمْ، فَاخْتَرْ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَاسْتَحِثَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ.
وقَالَ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأسْوَدِ: إِذَا وَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَاجْمَعْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ.
وَقَالَ لِصُهَيْبٍ: صَلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَدْخِلْ عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ إِنْ قَدِمَ، وَأَحْضِرْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَر وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَقُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَإِنِ اجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وَرَضُوا رَجُلًا وَأَبَى وَاحِدٌ، فَاشْدَخْ رَأْسَهُ، أَوِ اضْرِبْ رَأْسَهُ بالسَّيْفِ.
وإِنِ اتَّفَقَ أَرْبَعَةٌ فَرَضُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، وَأَبَى اثْنَانِ فَاضْرِبْ رُؤُوسَهُمَا.
فَإِنْ رَضِيَ ثَلَاثَةٌ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَثَلَاثَةٌ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَحَكِّمُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَر، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ حُكِمَ لَهُ فَلْيَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَاقْتُلُوا الْبَاقِينَ إِنْ رَغِبُوا عَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ(1).
قُلْتُ: هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي مِخْنَفٍ وَفِيهَا مُخَالَفَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ، ثُمَّ فِيهَا زِيَادَاتٌ مُنْكَرَةٌ، مِنْهَا:
اسْتِبَاحَةُ عُمَرَ دِمَاءَ مَنْ قَالَ هُوَ عَنْهُمْ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ»!!
سُبْحَانَ اللهِ! كَيْفَ يَسْتَحِلُّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِقَابَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّةِ: عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فهَذَا يُظْهِرُ لَكَ كَذِبَ
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (3/292).
هَذِهِ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ مَنْ سَيَجْرُؤُ عَلَى التَّنْفِيذِ؟ وَهَلْ سَيُتْرَكُ؟
إِنَّهُ التَّلْفِيقُ، وَلَا شَيْءَ غَيْرُ التَّلْفِيقِ ثُمَّ التَّلْمِيحُ بَلِ التَّصْرِيحُ بِأَن عَلِيًّا هُوَ الْأَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ.
* عُثْمَانُ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ:
فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ وَبَايَعُوهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمُرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْركُ بَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ(1).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُنَا وَلَا يُنْكِرُهُ(2).
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ بَيْعَةِ عُثْمَانَ: وَلينا أَعْلَاهَا ذَا فَوق(3).
وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْإِمَامُ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُثْمَان، حَدِيث (3697).
(2) « الْمعحم الْكَبِير » للطّبَرانيّ (12/13132)، وَ « السُّنَّة » للخلّالِ (ص 398) وَ « السّنة » لابْنِ أَبِي عَاصمٍ (553) وَقَالََ مُحقّقُهُ الْعلّامةُ الْأَلْبَانِيّ « إِسْنَادُه صَحِيح».
(3) « السُّنَّة » للخلالِ (ص 320).
والْأَنْصَار. وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنْ عَوْفٍٍ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَيْتًا إِلَّا طَرَقْتُهُ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَعْدِلُ بِعُثْمَانَ أَحَدًا. كُلُّهُمْ يُفَضِّلُون عُثْمَانَ.
وَبُوْيعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِالْخِلَافَةِ بَيْعَةً عَامَّةً.
قالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ: « مَا كَانَ فِي الْقَوْمِ أَوْكَدَ بَيْعَةٍ مِنْ عُثْمَانَ كَانَتْ بِإِجْمَاعِهِمِ »(1).
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَنَّ مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فإِنَّه ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلَا يُضَلِّلُونَهُ وَلَا يُبَدِّعُونَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ تَكَلَّمَ بِشِدَّةٍ عَلَى مَنْ قَدَّم عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ قَالَ: « مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ قَدْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانُوا الْأَمَانَةَ حَيْثُ اخْتَارَُوا عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمَا ».
________________________________
(1) « السُّنَّة » للخلالِ (ص 320).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: عُثْمَانُ بْنُ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
* اسْمُهُ وَنَسَبُهُ:
هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنْ أُميَّة بْن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَهُوَ يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ.
أُمُّه: أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَجَدَّتُهُ: أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1).
* لَقَبَهُ وَكُنْيَتُهُ:
لُقِّبَ بِذِي النُّورَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُقَيَّةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ(2).
وكُنْيَتُه: أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو عَمْروٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ(3)، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ.
* أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ:
أَمَّا أَزْوَاجُ عُثْمَانَ: 1- رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ 2- أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ 3- فَاخِتَةُ بِنْتُ غَزْوَانَ 4- أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ جُنْدُب
________________________________
(1) « مَعرفة الصّحَابَة » (1/235).
(2) « مَعرفة الصّحَابَة » (2/245).
(3) « الْإِصابة » (2/455).
فَاطِمَةُ بِنْت الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ 6- أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ عُيَيْنَةَ 7- رَمْلَةُ بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ 8- نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَة.
* أَوْلَادُهُ:
الذُّكُور: عَبْدُ اللهِ- عَبْدُ اللهِ الْأَصْغَرُ- خَالِدٌ- أَبَانُ- عُمَرُ- سَعِيدٌ- عَبْدُ الْمَلِكِ- عَمْرٌو- عَنْبَسَةُ.
الْإِنَاثُ: مَرْيَمُ- أُمُّ سَعِيدٍ- عَائِشَةُ- مَرْيَمُ (أُخْرَى)- أُمُّ الْبَنِينَ.
* فَضْلُهُ:
1- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا وَهُوَ يَقُولُ: « مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ » يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا(1).
2- عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: اسْتَفْتَحَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « افْتحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تَكُونُ »(2).
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي « الْمُسْند » (5/63)، وَفيه كَثِيرُ بْنُ أَبِي كتيرٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سمُرةَ » وَهُوَ مجهولٌ. وَقَدْ حسنهُ الْعلامةُ الْأَلْبَانِيّ فِي « مشكاة الْمصابيح) (6064).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب عُثْمَان، حَدِيث (3695)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فصائل الصّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِلِ عُثْمَان بْن عَفَّانَ، حَدِيث (2403).
3- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ، فَقَالَ: « أُسْكُنْ أُحُدُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ »(1).
4- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: « رَأَيْتُ آنِفًا كَأَنِّي أُعْطِيْتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فأَمَّا الْمَقَالِيدُ فهي الْمَفَاتِيحُ، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ بِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَرَجَحَ بِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَرَجَحَ بِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَرَجَحَ، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: فَأَيْنَ نَحْنُ؟ قَالَ: أَنْتُمْ حَيْثُ جَعَلْتُم أَنْفَسَكُمْ »(2).
* وَمِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ:
عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَرَّبَهَا فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ، فَقَالَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا » حَدِيث (3675). وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي « صَحِيحه »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِن فَضَائِلِ طَلحَةَ وَ الزُّبَيرِ، مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ (2417).
(2) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « الْمُسْند » (2/76)، وَفيه عُبَيْد اللهِ بْن مَرْوَان مجهول.
والحَدِيث صححه الشّيخ أَحْمَد شاكر، حَدِيث (5469).
الْهُدَى، يَقُولُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذا هُوَ عُثْمَانُ(1).
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُثْمَانُ إِنْ وَلَّاكَ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللهُ فَلَا تَخْلَعْهُ »(2).
إِنَّ عَهْدَ الْخَلِيفَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يُعْتَبَرُ الْعَصْرَ الذَّهِبَيَّ لِلْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ تَشْويهِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُفْتَرِينَ وَ الْمُضلِّلِينَ وَالْجَهَلَةِ، فَفِي زَمَنِهِ امْتَدَّتْ رُقْعَةُ الْإِسْلَامِ امْتِدَادًا عَظِيمًا، وَعمَّ الرَّخَاءُ وَالْأَمْنُ وَازْدَادَتِ الْأَعْطِيَاتُ.
واسْتَمَرَّ هَذَا الرَّخَاءُ وَهَذِهِ الْفُتُوحَاتُ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ زُهَاءَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ كَانَتِ الْفِتْنَةُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الظَّلَمَةِ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَقَتَلُوهُ فِي بَيْتِهِ، وَ هُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ التّرمذي، كِتَاب: الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب عُثْمَان، حَدِيث (3704) بإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
(2) سنن ابْن مَاجَة الْمُقَدِّمَة، بَاب فَضَائِل أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيث (112).
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: أَهَمُّ الْأَحْدَاثِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ
لَقَدْ كَانَ عَهْدُ عُثْمَانَ مَلِيئًا بالفُتُوحَاتِ، وَاسْتَمرَّتْ لِمُدَّةِ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ وَكَانَتْ مِنْ أَجَلِّ السَّنَوَاتِ، وَتَمَّ خِلَالَ هَذِهِ السَّنَوَاتِ نَشْرُ بِسَاطِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ قُبْرُصَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ مَنَعَ الْغَزْوَ عَنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ وَأَذِنَ عُثْمَانُ بِهِ، وَفُتِحَتْ أَذْرَبِيجَانُ، وَإِرْمِينِيَةُ، وَكَابُلُ، وَسِجِسْتَانُ، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ، وَفِي خِلَافَتِهِ كَانَتِ الْغَزْوَةُ الْعَظِيمَةُ « ذَاتُ الصَّوَارِي ».
وأَكْبَرُ تَوَسُّعٍ لِلْإِسْلَامِ فِي عَهْدِ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ كَانَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ قَامَ عُثْمَانُ بِتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
1- غَزْوُ إِفْرِيقِيَةَ سَنَةَ 27 هـ(1):
أمَرَ عُثْمَانُصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ أَنْ يَغْزُوَ بِلَادَ إِفْرِيقِيَةَ فَإِذَا افْتَتَحَهَا اللهُ عَلَيْهِ فَلَهُ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلًا.
فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَشْرَةِ آلَافٍ فَافْتَتَحَهَا سَهْلَهَا وَجَبَلَهَا وَدَخَلَ أَهْلُهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ خُمْسَ الْخُمْسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَبَعَثَ بأَرْبَعةِ أَخْمَاسِهِ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَسَّمَ أَرْبَعةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/157).
الجَيْشِ، فأَصَابَ الْفَارِسَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ: أَلْفٌ لَهُ، وَ أَلْفَانِ لِفَرَسِهِ وَأَصَابَ الرَّاجِلَ أَلْفٌ.
2- وَقْعَةُ جَرْجِيرَ وَالبَرْبرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ 27 هـ:
لَمَّا قَصَدَ الْمُسْلِمُونَ وَهُم عِشْرُونَ أَلْفًا إِفْرِيقِيَةَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّرْحِ، وَفِي جَيْشِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ؛ صَمَدَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الْبَرْبرِ جَرْجِيرُ فِي عِشْرِينَ وَمِئَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: مِئَتَيْ أَلْفٍ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، أَمَرَ جَيْشَهُ فَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ هَالَةً، فَوقَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَوْقِفٍ لَمْ يُرَ أَشْنَعَ مِنْهُ، وَ لَا أَخْوَفَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَلِكِ جَرْجِيرَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بِرْذَوْنٍ(1)، وَجَارِيَتَانِ تُظِلَّانِهِ بِرِيشِ الطَّوَاوِيسِ، فَذَهَبْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ فَسَأَلْتُه أَنْ يَبْعَثَ مَعِي مَنْ يَحْمِي ظَهْرِي فَأَقْصِدَ الْمَلِكَ، فَجَهَّزَ مَعِي جَمَاعَةً مِنَ الشُّجْعَانِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ فَحَمَوْا ظَهْرِي، وَذَهَبْتُ حَتَّى خَرَقْتُ الصُّفُوفَ إِليْهِ- وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَلِكِ- فَلَمَّا اقْتَربْتُ مِنْهُ أَحَسَّ مِنِّي الشَّرَّ فَفَرَّ عَلَى بِرْذَوْنِهِ، فَلَحِقْتُهُ فَطَعَنْتُه بِرُمْحِي، وَذَفَفْتُ عَلَيْهِ بِسَيْفِي، وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ فَنَصَبْتُهُ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ وَكَبَّرْتُ
________________________________
(1) هُوَ الْخيلُ غَيْر الْعَرَبيِّ. « لِسَان الْعَرَب » (13/51).
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْبَرْبرُ فَرَقُوا(1) وَفَرُّوا كَفِرَارِ الْقَطَا، وَ أَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ جَمَّةً وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَسَبِيًّا عَظِيمًا، وَذَلِكَ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ « سُبَيْطِلَةُ »- عَلَى يَوْمَيْنِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ- فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْقِفٍ اشْتُهرَ فِيهِ أَمْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.(2)
3- ذَاتُ الصَّوَارِي سَنَةَ 31 هـ:
جمعَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ هِرَقْلَ الرُّومَ وَمَعَهُمُ الْبَرْبَرُ لِقِتَالِ عَبْدِ اللهِ بْن سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، وَسَارُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَقَدْ خَرَجُوا فِي خَمْسِمِائَةِ مَرْكَبٍ، وَقَصَدُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي السَّرْحِ فِي أَصْحَابِهِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ.
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، بَاتَ الرُّومُ يُصَلِّبُونَ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا صَفَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّرْحِ أَصْحَابَهُ صُفُوفًا فِي الْمَرَاكِبِ، وَأَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.
وكَانَتِ الرِّيحُ مَعَ الرُّومِ وَالْبَرْبرِ، ثُمَّ سَكَنَتِ الرِّيحُ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِنْ شِئْتُمُ الْقِتَالُ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمينَ، فَهَرَبَ قُسْطَنْطِينُ وَجَيْشُهُ. وَأَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّرْحِ بِذَاتِ
________________________________
(1) أَي خافوا. « لِسَان الْعَرَب » (10/304).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة سبع وَعِشْرِينَ وَقْعَة جَرِير وَالبربر. وَانْظُرْ: « تَارِيخ خَلِيفَة بْن خَيَّاطٍ » (1/34).
الصَّوَارِي أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ مَنْصُورًا مُظَفَّرًا(1).
4- تَوسِعَةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.
5- بِنَاءُ أَوَّلِ أُسْطُولٍ بَحْرِيٍّ.
6- جَمْعُ الْقُرْآنِ مَرَّةً ثَانِيَةً.
وكَلَّفَ أَرْبَعةً: ثَلَاثَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَوَاحِدًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
أمَّا الْقُرَشِيُّونَ فَهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ.
وَأَمَّا الْأَنْصَاريُّ فَهُوَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَلَمَّا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ أُرْسِلَتْ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَمْ يَكْتَفِ عُثْمَانُ بِإِرْسَالِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ وَحْدَهَا لِتَكُونَ الْمَلْجَأَ وَ الْمَرْجِعَ بَلْ أَرْسَلَ مَعَ كُلِّ مُصْحَفٍ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ يُعَلِّمُ الْمُسْلِمِينَ الْقُرْآنَ وَفْقَ هَذَا الْمُصْحَفِ وَعَلَى مُقْتَضَاهُ.
فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يُقْرِئَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ السَّائِبِ إِلَى مَكَّةَ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شِهَابٍ إِلَى الشَّامِ، وَعَامِرَ بْنَ عَبْدِ الْقَيْسِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ إِلَى الْكُوفَةِ. وَتَرَكَ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ مُصْحَفًا سَادِسًا وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بالْمُصْحَفِ الْإِمَامِ.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 31 هـ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: بَدْءُ الْفِتْنَةِ
بَدَأَتِ الْفِتْنَةُ فِي سَنَةِ 34 مِنَ الْهِجْرَةِ عِنْدَمَا حَاوَلَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الطَّغَامِ أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَمْسَكَ بِهِمْ ثُمَّ أَنَّبَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ وَتَرَكَهُمْ(1)، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا بَلِ اسْتَعَدُّوا أَكْثَرَ وَخَرَجُوا مَرَّةً ثَانِيَة فِي سَنَةِ 35 مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ دِيَارِهِمْ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْحجَّ، وَمَرُّوا عَلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَاصَرُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ شَهِيدًا بَعْدَ حِصَارٍ دَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمُنِعَ خِلَالَهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ.
أَسْبَابُ الْفِتْنَةِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ سَبَبٌ رَئِيسٌ، رَجُلٌ يهُودِيٌّ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ(2).
وَقَدْ تَسَالَمَ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ، بَلْ وَنَسَبُوا فِرْقَةً مِنَ الْفِرَقِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ فَسَمَّوْهَا السَّبَئِيَّةَ أَوِ السَّبَائِيَّةَ، وَنَسَبُوا إِلَيْهَا مُعْتَقَدَاتٍ خَاصَّةً بِهَا، وَمِمَّنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ رَجُلٌ
________________________________
(1) وَليته لَمْ يتركهم. وَلَكِنَّهُ قدر الله.
(2) انْظُرْ كِتَاب: « عَبْدُ الله بْنُ سبأ هَلْ هُوَ حَقِيقَة أم خيال؟ ».
يُقَالَ لَهُ مُرْتَضَى الْعَسْكَرِيُّ، فِي كِتَابٍ لَهُ أَسْمَاهُ: « عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ، وَأَسَاطِيرُ أُخْرَى ».
وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ابْنَ سَبَأٍ أَيْضًا «طه حُسَيْن » فِي كِتَابِهِ « عَلِيٌّ وَ بنوه » وَغَيْرُهُمَا؛ أمَّا طه حُسَيْن فَلَمْ يَزِدْ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُعْتَادَةِ فِي إِنْكَارِ الْيَقِينِيَّاتِ وَالْمُسَلَّمَاتِ كَمَا فِي كِتَابِهِ فِي الشِّعْرِ الْجَاهِليِّ(1)، حَيْثُ أَنْكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ بَنَيَا الْكَعْبَةَ قَائِلًا:
( لِلْقُرْآنِ أَنْ يُحَدِّثَنَا عَنْ هَذَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ وَقَعَ) فَهُوَ قَدْ سَارَ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّكِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَمَّا هَذَا الْعَسْكَرِيُّ فَحَاوَلَ أَن يُلَبِّسَ عَلَى النَّاسِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ طَرِيقَتَهُ عِلْمِيَّةٌ وَأَنَّهُ جَمَعَ الْأَحَادِيثَ وَالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَتِ ابْنَ سَبَأٍ وَثَبَتَتْ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَسَيْفٌ كَذَّابٌ فَلَا وُجُودَ إِذَنْ لِابْنِ سَبَأٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
1- جَاءَ عِنْد ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ذَكَرَ ابْنَ سَبَأٍ لَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ مِنْ طَرِيق سَيْفِ بْنِ عُمَرَ(2).
2- أَثْبَتَ كَثِيرٌ مِنْ مُؤَرِّخِي الشِّيعَةِ وَجَامِعِي مَقَالَاتِهِمِ وَمُحَدِّثِيهِمْ
________________________________
(1) انْظُرْ صفحة (22).
(2) « تَارِيخ دِمَشْق » (29/6) فِي تَرْجَمَة عَبْد اللهِ بْن سبأ.
هَذِهِ الشَّخْصِيَّة فِي كُتُبِهِمْ.
- فهَذَا النُّوبَخْتِيُّ فِي كِتَابِه « فِرَقُ الشِّيعَةِ » بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَقْوَالَ ابْنِ سَبَأٍ قَالَ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ تُسَمَّى « السَّبَئِيَّة » أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ (1) (وَقَدْ تُوُفِّي النُّوبَخْتِيُّ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِيِّ).
- رَوَى الْكِشِّيُّ فِي كِتَابِه « رِجَالُ الشِّيعَةِ » عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْن سَبَأٍ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَيَزْعُمُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ اللهُ(2).
وَرَوَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ ابْنِ سَبَأٍ حَتَّى ذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ رِوَايَاتٍ.
- الصَّدُوقُ فِي كِتَابِه مَنْ لَا يَحضُرُهُ الْفَقِيهُ(3).
- الطُّوسِيُّ شَيْخُ الطَّائِفَةِ(4).
- الْمَجْلِسيُّ بَاقِرُ عُلُومِ الْأَئِمَّةِ عِنْدَهُمْ(5).
- النُّورِيُّ الطَّبْرَسِيُّ(6).
________________________________
(1) « فرق الشَّيعَة » (ص 22).
(2) « رِجَال الْكشي » (ص 98).
(3) رِوَايَة رقم (955).
(4) فِي كِتَابِهِ « رِجَال الطّوسي » (ص 1).
(3) فِي كِتَابِهِ « بِحَار الْأَنْوَارِ » (51/210) وَ (42/146).
(6) فِي كِتَابِهِ « مستدرك الْوسائل » (18/169).
- وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ تَرَكْتُهُمْ لِعَدَمِ الْإِطَالَةِ.
3- وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ: فَكُلُّ مَنْ أَرَّخَ هَذِهِ الْحِقْبَةَ ذَكَرَ ابْنَ سَبَأٍ وَأَثَرَهُ فِيهَا. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ وُجُودَ ابْنِ سَبَأٍ إِلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ كُتَّابِ الشِّيعَةِ، وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ كُتَّابُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ الشَّيعَةُ فِي إِنْكَارِهِمْ لِهَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ.
وعَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ هُوَ يَمَانِيُّ يَهُودِيٌّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ انْتَهَجَ التَّشَيُّعَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ فِرْقَةُ السَّبَئِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأُلُوهِيَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ هُوَ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: أَنْتَ اللهُ. فَأَمَرَ مَوْلَاهُ قَنْبَرًا بِأَنْ يَحْفِرَ حُفْرَةً، وَيُشْعِلَ فِيهَا النَّارَ، وَ قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرا ... أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا(1)
وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَحْرَقْتُهُ بالنَّارِ، فَأَحْرَقَ الْكَثِيرينَ مِنْهُمْ، وَفَرَّ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَأَظْهَرَ ابْنُ سَبَأٍ بَعْضَ الْعَقَائِدِ الْيَهُودِيَّةِ، كَالْقَوْلِ بِالرَّجْعَةِ
________________________________
(1) أصلُه فِي « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب استتابة الْمُرْتَدِّينَ، بَاب حكم الْمرتدِّ وَالْمرتدة وَاستتابتهم، حَدِيث (6922)، وَتَفْصِيل الْقِصَّة ذكرهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي شرحه لهَذَا الْحَدِيث، وَقَالََ: « رويناه فِي الْجزءِ الثَّالِثِ مِنْ « حَدِيثِ أَبِي طَاهرٍ الْمخلص » وَسندُه حسنٌ ».
وَالْوَصِيِّ، وَأَنَّ الْإِمَامَةَ تَكُونُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
واسْتَغَلَّ الْأَعْرَابَ، فَأَخَذَ يُشِيعُ عِنْدَهُمُ الْأَكَاذِيبَ مُدَّعِيًا أَنَّ عُثْمَانَ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَكَتَبَ كُتُبًا مُزَوَّرةً (هُوَ وَمَنْ سَاعَدَهُ) عَلَى الزُّبَيْرِ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَعَائِشَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْتِمُونَهَا بِأَخْتَامِهِمُ الْمُزَوَّرَةِ، كُلُّهَا فِيهَا الْإِنْكَارُ عَلَى عُثْمَانَ وَالتَّذَمُّر مِنْ سِيَاسَتِهِ، وَفِي السَّابقِ لَا تُوجَدُ أَجْهِزَةُ اتِّصَالَاتٍ حَدِيثَةٌ كَمَا هُوَ الْآنَ، وَالْمُتَلقُّونَ أَعْرَابٌ تَأْتِيهِمْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فَيَقْبَلُونَ وَيُصَدِّقُونَ، فَصَبأَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ ذَوِي الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَكَانَ يَقُولُ لِحَدِيثِي السِّنِّ وَقَلِيلِي التَّجْرِبةِ: « عَجَبًا لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى يَرْجِعُ وَ يُكَذِّبُ بِأَنَّ مُحمَّدًا يَرْجِعُ وَقَدْ قَالَ عزَّ وَجلَّ: [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] {القصص: 85}، فَمُحَمَّدٌ أَحَقُّ بِالرُّجُوعِ مِنْ عِيسَى ». وَكَانَ يَقُولُ: « كَانَ فِيمَا مَضِى أَلْفُ نَبِيٍّ وَلِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ، وَإِنَّ عَلِيًّا وَصِيُّ مُحمَّدٍ ». فَاسْتَجَابَ لَهُ نَاسٌ فِي مُخْتَلَفِ الطَّبَقَاتِ فَاتَّخذَ بَعْضَهُمْ دُعَاةً فَهِمُوا أَغْرَاضَهُ وَدَعَوْا إِلَيْهَا، وَآخَرُونَ صَدَّقُوا قَوْلَهُ فَصَارُوا يَدْعُونَ إِلَيْهِ عَنْ عَمَايةٍ.
وَمِنْ دُعَاتِهِ الَّذِينَ سَاهَمُوا فِي نَشْرِ دَعْوَتِهِ:
الغَافِقيُّ بْنُ حَرْبٍ- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ- كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ- سودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَرْقَاءَ- عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيُّ- حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ- حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ- قُتَيْرَةُ
السَّكُونِيُّ وَغَيْرُهُمْ(1).
وَأَمَّا تَزْوِيرُ الْكُتُب فَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: قَالَتْ عَائِشَةُ: تَرَكْتُمُوُه (أَيْ: عُثْمَان) كَالثَّوْبِ النَّقِيِّ مِنَ الدَّنَسِ، ثُمَّ قَرَّبْتُمُوهُ تَذْبَحُونَهٌ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ.
فَقَالَ لَهَا مَسْرُوقٌ: هَذَا عَمَلُكِ كَتَبْتِ إِلَى النَّاسِ تَأْمُرِينَهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَالَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَكَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ، مَا كَتَبْتُ لَهُمْ سَوَادًا فِي بَيَاضٍ، حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا.
قَالَ الْأَعْمَشُ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لِسَانِهَا(2).
فكُتِبَتْ كُتُبٌ مُزَوَّرَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهَا تَذُمُّ عُثْمَانَ بْنَ عفَّانَ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ هَذَا لَهُ أَتْبَاعٌ فِي شَتَّى الْوِلَايَاتِ، وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَيْهِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، وَ يُرْسِلُ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ: فَعَلَ بِنَا الْوَالِي كَذَا بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَفَعَلَ بِنَا الْوَالِي كَذَا بِأَمْرِ عُثْمَانَ، ذَهَبْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَفَعَلَ عُثْمَانُ بِنَا كَذَا، وَ عُثْمَانُ فَعَلَ بأَصْحَابِ مُحمَّدٍ كَذَا، وَجَاءَتْنَا رِسَالةٌ مِنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، جَاءَنَا خِطَابٌ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ عَائِشَةَ،
________________________________
(1) « مُخْتَصر التّحفة الاثني عشرية » (318).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/204). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: « إِسْنَاده صَحِيح».
جَاءَنَا كَذَا، فَصَارَ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ مِنْ دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا الشَّيْ ءَ الْيَسِيرَ يَتَأَثَّرُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَغَلَتْ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- الْقُلُوبُ.
السَّبَبُ الثَّانِي: الرَّخَاءُ الَّذِي أَصَابَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ:
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصرِْيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قَلَّمَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ إِلَّا وَيَقْتَسِمُون فِيهِ خَيْرًا، حَتَّى إِنَّهُ يُنَادَى تَعَالَوْا عِبَادَ اللهِ، خُذُوا نَصِيبَكُمْ مِنَ الْعَسَلِ، تَعَالَوا عِبَادَ اللهِ، خُذُوا نَصِيبَكُمْ مِنَ الْمَالِ(1).
وَذَلكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ كَانَ فِي أَوْجِهِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالرَّخَاءُ مِنْ عَادَتِه أَنْ يُورِثَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ التَّذَمُّرُ، وَ عَدَمُ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ لِبَطَرِ النَّاسِ، وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ.
السَّببُ الثَّالثُ: الاخْتِلَافُ بَيْنَ طَبْعِ عُثْمَانَ وَطَبْعِ عُمَرَ:
كان عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَدِيدًا، وَكانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَلِيمًا رَءُوفًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا كَمَا يدَّعِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ كَانَ حَلِيمًا، وَلِذَلِكَ عِنْدَمَا حَاصَرُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا جَرَّأَكُمْ عَلَيَّ؟ مَا جَرَّأَكُمْ عَلَيَّ إِلَّا حِلْمِي.
وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر: وَاللهِ لَقَدْ نَقَمُوا عَلَى عُثْمَانَ أَشْيَاءَ لَوْ
________________________________
(1) « تَحْقِيق مَوَاقِف الصَّحَابَة فِي الْفِتْنَة » (1/360).
فَعَلَهَا عُمَرُ مَا تَكَلَّمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
إِذَنْ لِمَاذَا نَقَمُوا عَلَى عُثْمَانَ؟ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُسَامِحُ وَ يَتْرُكُ وَيُفَوِّتُ لَهُمْ تِلْكَ الْأَخْطَاءَ وَيَعْفُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
السَّبَبُ الرَّابعُ: اسْتِثْقَالُ بَعْضِ الْقَبَائِلِ لِرئَاسَةِ قُرَيْشٍ:
الْقَبَائِلُ الْعَرَبيَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَبِخَاصَّةٍ تِلْكَ الَّتِي ارْتَدَّ بَعْضُ رِجَالِهَا عَنْ دِينِ اللهِ تَبَارَكَ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْد أَن قُوتِلُوا، رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ عَنْ قَنَاعَةٍ، وَبَعْضُهُم مِنْ غَيْرِ قَنَاعَةٍ، وَ بَعْضُهُمْ رَجَعَ وَفِي الْقَلْبِ شَيْءٌ، أُولَئِكَ اسْتَثْقَلوا أَنْ تَكُونَ الرِّئَاسَةُ دَائِمًا فِي قُرَيْشٍ، لِمَاذَا الرِّئَاسَةُ فِي قُرَيْشٍ؟ وَلِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ خَلْدُونَ: « وَجَدَتْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ الرِّئَاسَةَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَ أَنِفَتْ نُفُوسُهُمْ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ الطَّعنَ فِي الْوُلَاةِ »،(1) وَوَجَدُوا فِي لِينِ عُثْمَانَ فُرْصَةً لِذَلِكَ.
هَذِهِ أَهَمُّ الْأَسْبَابِ.
وهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى أَدَّتْ إِلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ تَرَكْتُهَا مَخَافَةَ الْإِطَالَةِ.
________________________________
(1) « تَحْقِيق مَوَاقِف الصَّحَابَة فِي الْفِتْنَة » (1/365).
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ: الْمَآخِذُ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
الْمَآخِذُ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَى حُكْمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ أُجْمِلُهَا ثُمَّ أُفَصِّلُهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الْأَوَّلُ: تَوْلِيَةُ أَقَارِبِهِ.
الثَّانِي: نَفْيُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ(1).
الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ خُمْسَ إِفْرِيقِيَةَ.
الرَّابِعُ: إِحْراقُ الْمَصَاحِفِ وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ.
الْخَامِسُ: ضَرْبُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى فُتِقَتْ أَمْعَاؤُهُ، وَ ضَرْبُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حَتَّى كُسِرَتْ أَضْلَاعُهُ.
السَّادِسُ: الزِّيَادَةُ فِي الْحِمَى.
السَّابِعُ: الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ.
الثَّامِنُ: الْغِيَابُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ.
التَّاسِعُ: الْفِرَارُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ يَوْمَ أُحُدٍ.
العَاشِرُ: الْغِيَابُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
الْحَادِي عَشَرَ: لَمْ يَقْتُلْ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بالْهُرْمُزَانِ.
الثَّانِي عَشَرَ: زِيَادَةُ الْأَذَانِ الثَّانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
________________________________
(1) « الرّبذة »: تَبعدُ عَنِ الْمَدِينَةِ مَسِيرةَ ثَلَاثَة أَيَّامٍ عَلَى طَرِيق مَكَّةَ « معجم الْبلدان »(3/24).
الثَّالِثَ عَشَرَ: ردُّ عُثْمَانَ الْحَكَمَ، وَقَدْ نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهُنَاكَ أَشْيَاءُ أُخْرَى كَقَوْلِهمْ إِنَّهُ صَعِدَ إِلَى دَرَجَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِنْبرِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ نَزَلَ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ نَزَلَ إِلَى الْأُولَى، وَلَمَّا جَاءَ عُثْمَانُ صَعِدَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَهَكَذَا اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَقَالُوا كَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ بالدُّرَّةِ، فَصَارَ هُوَ يَضْرِبُ بِالسَّوْطِ، وَقَالُوا آذى أَبَا الدَّرْدَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَكْثَرُهَا كَذِبٌ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيمَا يَأْتِي:
الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: وَلَّى أَقَارِبَهُ:
مَنْ أَقَارِبُ عُثْمَانَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟
أَقَارِبُ عُثْمَانَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى عَنْهُ:
أوَّلُهُمْ: مُعَاوِيَةُ.
الثَّانِي: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ.
الثَّالِثُ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَة.
الرَّابعُ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ.
الخَامِسُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ.
هَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ وَلَّاهُمْ عُثْمَانُ، وَهُمْ مِنْ أَقَارِبِه، وَ هَذَا فِي زَعْمِهِمْ
مَطْعَنٌ عَلَيْهِ، فَلْنَنْظُر إِلَى بَاقِي وُلَاةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، جَابِرٌ الْمُزَنِيُّ، حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، حَكِيمُ بْنُ سَلَامَةَ، الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهاسِ، مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ، النُّسَيْرُ الْعَجَلِيُّ، السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ، سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَة، خُنَيْسُ بْنُ خبيش.
هَؤُلَاءِ هُمْ وُلَاةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبِنَظْرَةٍ سَرِيعَةٍ نَجِدُ أَنَّ عَدَدَ الْوُلَاة مِنْ أَقَارِبِ عُثْمَانَ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَلِّي بَنِي أُمَيَّةَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: « لَا نعرفُ قَبِيلَةً مِنْ قَبَائلِ قُرَيْشٍ فِيهَا عُمَّالٌ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَر مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ؛ لأنّهم كَانُوا كَثِيرين، وَفيهم شَرَفٌ وَسُؤْدُدٌ »(1).
والوُلَاة الَّذِينَ وَلَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَهُم مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ هُمْ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، خَالِد بْن سَعِيدٍ، عُثْمَان بْن سَعِيدٍ، أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ. هَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ كَعَدَدِ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُثْمَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثُمَّ يُقَالُ بَعْد ذَلِكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةَ لَمْ يَتَوَلَّوا كُلُّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ وَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ ثُمَّ عَزَلَهُ فَوَلَّى
________________________________
(1) « مِنْهَاج السُّنَّةِ »(6/192).
مَكَانَهُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَلَمْ يَكُونُوا خَمْسَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا لَمْ يُتَوَفَّ عُثْمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَزَلَ أَيْضًا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ(1).
فَعِنْدَمَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْوُلَاةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرح، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْن كُرَيْزٍ فَقَطْ(2).
وهُنَا أَمْرٌ يَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَيْهِ: وَهُوَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ مِنَ الْكُوفَةِ! الْكُوفَةُ الَّتِي عَزَلَ مِنْهَا عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَزَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ.
وعَزَلَ عُثْمَانُ مِنْهَا أَبَا مُوسَى وَالْوَلِيدَ وَغَيْرَهُمَا.
الكُوفَةُ الَّتِي دَعَا عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِهَا.
الكُوفَةُ الَّتِي غَدَرَ أَهْلُهَا بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
الكُوفَةُ الَّتِي نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ.
وأخيرًا وَلَيْسَ آخِرًا الْكُوفَةُ الَّتِي قَتَلَ أَهْلُهَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ!
الكُوفَةُ الَّتِي لَمْ تَرْضَ بِوَالٍ أَبَدًا.
إِذًا عَزْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأُولَئِكَ الْوُلَاةِ لَا يُعْتَبَرُ مَطْعَنًا فِيهِمْ بَلْ مَطْعَنًا فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي وُلُّوا عَلَيْهَا، ثُمَّ هَلْ أَثْبَتَ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةُ كَفَاءَتَهُمْ أَوْ لَا؟ سَتَأْتِي شَهَادَاتُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أُولَئِكَ الْوُلَاةِ الَّذِينَ
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (3/445).
(2) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (3/445).
وَلَّاهُمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثُمَّ يُقَالُ كَذَلِكَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَّى أَقَارِبَهُ(1)، وَلَمْ يَنْقِمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا نَنْقِمُ عَلَيْهِ نَحْنُ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ- وَهُوَ تَوْلِيَةُ عُثْمَانَ لِأَقَارِبِهِ- الَّذِي يَنْقِمُهُ عَلَى عُثْمَانَ اثْنَانِ إِمَّا سُنِّيٌّ وَ إِمَّا شِيعيٌّ.
* فأمَّا الشِّيعيُّ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَلَّى أَقَارِبَهُ أَيْضًا، فَالْأَمْرُ سَوَاءٌ؛ فَإِذَا كَانَتْ تَوْلِيَةُ عُثْمَانَ لِأَقارِبِهِ تُعَدُّ مَطْعَنًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَوْلِيَةُ عَلِيٍّ لِأَقارِبِهِ لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ مَطْعَنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تكنْ مَطْعَنًا عَلَى عَلِيٍّ فَلَيْسَتْ بِمَطْعَنٍ عَلَى عُثْمَانَ، بَلْ إِنَّ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُثْمَانُ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بِاسْتِثْنَاءِ عَبْدِ اللهِ بْن عَبَّاسٍ.
* وَأمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سُنِّيًّا؛ فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَّاهُمْ مُحَابَاةً لَهُمْ، وَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَقُولَ إِنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوِلَايَةَ وَلِذَلِكَ وَلَّاهُمْ، وَالْأَصْلُ إِحْسَانُ الظَّنِّ فِي أَمْثَالِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ
________________________________
(1) وَلَّى: (عَبْد اللهِ) وَ (عُبَيْد اللهِ) وَ (قثم) وَ (تمام) أَبْنَاء الْعَبَّاس، وَ (ربيبه مُحَمَّد بْن أَبِي بَكرٍ )، وَ (عَبْد الرَّحْمَنِ بْن هبيرة ابْن أخته أم هانئ). « تَارِيخ خَلِيفَة بْن الْخياط » (ص. 200- 201).
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ نَنْظرُ فِي سِيَرِ أُولَئِكَ الْوُلَاةِ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهَذِهِ شَهَادَاتُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أُولَئِكَ الْوُلَاةِ:
الْأَوَّلُ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ:
لا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيانَ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْوُلَاةِ، بَلْ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَانُوا يُحِبُّونَهُ حُبًّا شَدِيدًا رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ، وَكانَ عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ قَدْ وَلَّاهُ عَلَيْهَا، وَكُلُّ الَّذِي فَعَلَه عُثْمَانُ أَنَّهُ أَبْقَاهُ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَزَادَهُ وِلَايَاتٍ أُخْرَى.
ثُمَّ هُوَ كَاتِبٌ لِلْوَحْيِ زَمَنَ رَسُولِ اللهِ، وَكانَ مِنْ خَيْرِ الْوُلَاةِ وَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ مَنْ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَ تُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ »(1) وَكانَ مُعَاوِيَةُ كَذَلِكَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
الثَّانِي: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ.
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَابَ إِلَى اللهِ جلَّ وَعَلَا، وَرَجَعَ لِيُبَايعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَايِعْهُ، فَإِنَّهُ جَاءَ تَائِبًا، فَلَم يُبَايِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، فَمَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ(2)،
________________________________
(1) « صَحِيح مُسْلِم » كِتَاب الْإِمارة: بَاب خِيَارِ الْأَئِمَّةِ وَشِرَارِهم حَدِيث (1855).
(2) أَخْرَجَهُ أَبُو داود، كِتَاب الْحدود، بَاب الْحكم فِي مَنِ ارْتَدَّ (4359).
فَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَتَابَ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَانَ مِنْ خَيْرِ الْوُلَاةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ إِفْرِيقِيَةَ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ عَنْهُ: « لَمْ يَتَعَدَّ، وَلَا فَعَلَ مَا يُنْقَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَن أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ أَحَدَ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ وَأَجْوَادِهِمْ »(1).
وَالفُتُوحَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي إِفْرِيقِيَةَ كُلُّهَا كَانَتْ عَلَى يَدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الثَّالثُ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ:
كانَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ الذَّهَبِيُّ عَنْهُ: « كَانَ أَمِيرًا شرِيفًا جَوَادً، مَمْدُوحًا، حَلِيمًا، وَقُورًا، ذَا حَزْمٍ وَعَقْلٍ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ »(2).
الرَّابِعُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامرِ بْنِ كُرَيْزٍ:
هُوَ الَّذِي فَتَحَ بِلَادَ كِسْرَى وَخُرَاسَانَ، وَانْتَهَتْ دَوْلَةُ فَارِسَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ عَلَى يَدِهِ، وَفَتَحَ سَجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، قَالَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ: « كَانَ مِنْ كِبَارِ مُلُوكِ الْعَرَبِ وَشُجْعَانِهِمْ وَأَجْوَادِهِمْ »(3).
الْخَامِسُ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ
ذُكِرَ عِنْد الشَّعْبِيِّ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَجِهَادُهُ، وَمَا كَانَ مِنْ فُتُوحَاتِهِ
________________________________
(1) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (3/34).
(2) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (3/445).
(3) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (3/21).
فَقَالَ: لَوْ أَدْرَكْتُمُ الْوَلِيدَ، وَغَزْوَهُ وَإِمَارَتَهُ!!(1)
وَقَدْ بَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ خَمْسَ سِنِينَ لَيْسَ عَلَى بَيْتِهِ بَابٌ، مَنْ يُرِيدُهُ يَأْتِي وَيُكَلِّمُهُ، وَكَانَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ، وَلَكِنَّهُم أَهْلُ الْكُوفَةِ كَمَا يُقَالُ.
وَقَدْ نُقِمَ عَلَى الْوَلِيدِ بْن عُقْبَةَ أَمْرَانِ اثْنَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالُوا: نَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات: 6}.
عَلَى الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَمَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ لِيَجْبِيَ صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ وَجَدَهُمْ قَدْ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَخَافَ وَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّهُم أَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَمْرِ عِنْدَمَا أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْآيَة، فَلَمَّا تَبَيَّنُوا الْأَمْرَ قَالُوا: لَمْ نَأْتِ لِنُقَاتِلَ، وَإِنَّمَا جِئْنَا بِصَدَقَاتِنَا لَمَّا تَأَخَّرَ عَلَيْنَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي: قالُوا كَانَ يُصَلِّي الْفَجْرَ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَصَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ؟
________________________________
(1) تَارِيخ الطَّبَرِيِّ سَنَة 30 هـ (2/610).
فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْم فِي زِيَادَةٍ، ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى عُثْمَانَ وَاشْتَكَوهُ فَجَلَدَهُ عُثْمَانُ حَدَّ الْخَمْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَهُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ(1).
أمَّا الْأَمْرُ الْأوَّلُ: فَهُوَ الْمَشْهورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ(2) أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ هُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَكِنْ لَا يَلْزمُ أَن يَكُونَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَى حُكْمًا عَامًّا لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بِخَبرٍ، وَإِن كَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهُ فَاسِقًا فَهَلْ يَعْنِي هَذَا أَنْ يَظَلَّ فَاسِقًا طَوَالَ عُمُرِه؟
فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {النور: 4-5}.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْن عُقْبَةَ، أَلَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ؟!
أمَّا شُرْبُهُ الْخَمْرَ فَهَذِهِ أَوَّلًا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى، لَا تَكْذِيبًا لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَهُوَ قَدْ جُلِدَ عَلَى الْخَمْرِ، وَ لكِنْ هَلْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ لَا؟ هَذَا أَمْرٌ آخَرُ.
فالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ لَمَّا كَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، خَرَجَ اثْنَانِِ مِنْ أَهْلِ
________________________________
(1) « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الْحدود، بَاب حَدِّ الْخَمْرِ، حَدِيث (1707).
(2) أَحْمَد(4/279).
الْكُوفَةِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَقَالَا لَهُ: رَأيْنَا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ صَلَّى بِنَا الْفَجْرَ وَهُوَ سَكْرَانُ، قَالَ أَحَدُهُمَا: رَأَيْتُهُ سَكْرَانَ وَقَالََ الْآخرُ: رَأَيْتُهُ يَتَقَيَّأُهَا.
فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَقَيَّأَهَا إِلَّا بَعْدَ أَن شَرِبَها.
وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَاضِرًا، وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فأَمَرَ عُثْمَانُ بِجَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ، وَلَكِنْ شَكَّكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، لَا فِي صِحَّةِ الْقِصَّةِ، نَعَمْ هُوَ جُلِدَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَكِن هَلْ كَانَ الشَّاهِدَانِ صَادِقَينِ أَوْ لَا؟
مَنْ أَرَادَ التَّوسُّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتابِ « الْعَوَاصِمُ مِنَ القَوَاصِمِ » بِتَحْقِيقِ مُحِبِّ الدِّينِ الْخطِيبِ فإِنَّه طَعَنَ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الثِّقَاتِ(1).
وإِنْ ثَبَتَتْ فَهَذِهِ لَيْسَتْ بمَطْعَنٍ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ وَعَزَلَهُ. فَهَلْ أَخْطَأَ عُثْمَانُ؟ وَاقِعُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يُخْطِىءْ، بلْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ عَزَلَ وَجَلَدَ قَرِيبَهُ وَوَالِيَهُ وَلَمْ يُحَابِهِ، وَهَلِ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ مَعْصُومٌ؟ وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا فِي بِدَايَةِ حَدِيثِنَا أَنَّنَا لَا نَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ قَدْ وَقَعَ في
________________________________
(1) « الْعَوَاصِمُ مِنَ القَوَاصِمِ » (ص 107- 108) الْحاشية.
زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا حِينَ شَرِبَ ابْنُ مَظْعُونٍ الْخَمْرَ وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] {المائدة: 93}.
فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ الصَّوَابَ، ثُمَّ عَزَلَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ وُلَاةُ عُثْمَانَ، الْوحيدُ الَّذِي يُمْكِنُ أَن يُطْعَنَ فِيهِ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَطْعَنٌ عَلَى عُثْمَانَ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَطْعَنٌ، فَهُوَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ نَفْسِهِ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: نَفْيُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ:
الرِّوَايَةُ الَّتِي عِنْد الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَة سَيْفِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي ذَرٍّ كَلَامٌ فَأَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ أَفْسَدَ النَّاسَ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَرْسِلْهُ إِليَّ، فَأَرْسَلَه مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَنَّبَهُ عُثْمَانُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الرَّبَذَةِ(1).
هَذِهِ رِوَايَةُ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ. وَلَقَدْ ذَكَرْنا مِنْ قَبْلُ أَنَّ لَدَيْنَا رِوَايَاتِنَا الصَّحِيحَةَ الَّتِي نَقْبَلُهَا وَهُنَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ، فإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ قُلْتُ:
________________________________
(1) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (3/335).
مَا أَنْزَلَكَ هَذَا الْمَنْزِلَ؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي [الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ]، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقُلْتُ أَنَا: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ(1).
وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأُثِيرُ النَّاسَ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا. فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ(2).
فَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَمْ يَطْرُدْ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَلَمْ يُرْسِلْهُ مُعَاوِيَةُ
________________________________
(1) مَذْهَب أَبِي ذر فِي مَسْأَلَة الذَّهب وَالفضة معلوم، إِذْ أنّه لَا يرى أَن يبقي الْإِنْسَان عِنْده شَيْئًا فَوْق حاجته، وَخالفه جماهير الصَّحَابَة، وَالْمَسْأَلَة الْآنَ فِيهَا شبه إِجْمَاع بَيْن الْمُسلِمين، بِأَنَّهُ يجوز للإِنْسَان أَنْ يَكُونَ عِنْده مَا شَاءَ مِنَ الذّهب وَالفضة إِذَا أَخْرَجَ زكاتها، وَلِذَلِكَ بوّب الْبُخَارِيّ: (باب: مَا أَخْرَجَ زكاته فليس بكنز)، وَذكر هَذِهِ الرِّوَايَة فِي ذَلِكَ الْبَاب. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ وَغَيْره مِنَ الصَّحَابَة. الْمُهِمّ فِي هَذَا أَنَّ مَذْهَب أَبِي ذر: أَنَّ الْإِنْسَان لَا بُدَّ لَهُ أَن يتصدق بِكُلِّ مَا زَادَ عَنْ حاجته وَلَا يجوز لَهُ أَن يبقي عِنْده ذهبًا وَلَا فِضَّة زِيَادَة عَلَى حاجته وَإِن كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زكاتهَا وَخالفه فِي هَذَا مُعَاوِيَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الزَّكَاة. بَاب مَا أدى زكاته فليس بكنز، حَدِيث (1406).
مُهَانًا مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكلُّ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، فَهَذِهِ قِصَّةُ أَبِي ذَرِّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، بَلْ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الرَّبَذَةِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: « إِذَا بَلَغَ الْبِناءُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا »(1).
فَهُوَ أَمْرٌ مِنْ نَبِيِّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقيامةِ وَحْدَهُ »(2) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ خُمْسَ إِفْرِيقِيَةَ
لم يَثْبُتْ أَنَّ عُثْمَانَ فَعَلَ هَذَا وَلَوْ كَانَ فَعَلَ هَذَا فإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ خُمْسُ الْخُمسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقْسَمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ: أَرْبَعَةٌ فِيهَا لِلْمُجَاهِدِينَ، وَخُمْسٌ يُقْسَمُ إِلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، ذَكَرَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ] { الْأنفال: 41}.
فَسَهْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ لِلْإِمَامِ، يَضَعُهْ حَيْثُ شَاءَ، وَالَّذِي ذَكَرُوهُ هُوَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَدَ مَرْوَانَ إِذَا فَتَحَ إِفْرِيقِيَةَ فَإِنَّهُ سَيَهَبُهُ خُمْسَ إِفْرِيقِيَا الْخَاصِّ بِهِ وَقَدْ مرَّ فِي فَتْحِ إِفْرِيقِيَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ مُكَافَأَةً لِعَبْدِ اللهِ بْن أَبِي السَّرْحِ إِذَا فَتَحَ إِفْرِيقِيَةَ.
________________________________
(1) « الطَّبَقَات » لابْن سَعْدٍ (4/226).
(2) أَخْرَجَهُ الْحاكم (3/50) وَصَحَّحهُ، وَقَالََ الذَّهَبِيُّ: « فِيهِ إِرسَال، وَفيه بريدُ بْنُ سُفيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ».
الْمَأْخَذُ الرَّابِعُ: إِحْرَاقُ الْمَصَاحِفِ:
قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدِ افْتَرَقُوا فِي الْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، حَتَّى إِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بالْقُرْآنِ، فَطَلبَ مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَن يَجْمَعَ الْقُرْآنَ مرَّةً ثَانِيَةً(1).
فَأَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَاخَالَفَهُ.
* وَالْمَصَاحِفُ الَّتِي أَحْرَقَهَا عُثْمَانُ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ مَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ وَقَدْ أَبْقَاهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ.
وَفِيهَا: تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ تَفْسِيرَاتٌ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، لِذَلِكَ أَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْرَاقِ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ، وَكَتَبَ الْمُصْحَفَ الْوَحِيدَ وَفِيهِ الْقَرَاءاتُ، وَلَمْ يلْغِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بَلْ تَرَكَ حَرْفًا وَاحِدًا فَقَطْ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ وَإِحْرَاقِ بَقيَّةِ الْمَصَاحِفِ:
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الْقُرآن، بَاب جمع الْقُرآن، حَدِيث (4987).
« تِلْكَ حَسَنَتُهُ الْعُظْمَى، وَخَصْلَتُهُ الْكُبْرَى، فإِنَّه حَسَمَ الْخِلافَ وَحَفِظَ اللهُ الْقُرآنَ عَلَى يَدَيْهِ »(1).
فَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ لِعُثْمَانَ، جَعَلُوهَا مِنْ مَسَاوِئِه وَمَثَالِبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَمَنْ يَكُنْ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ... يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلَالَا
الْمَأْخَذُ الْخَامِسُ: ضَرَبَ ابْنَ مَسْعُودٍ حَتَّى فَتَقَ أمْعَاءَهُ، وَضَرَبَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ حَتَّى كَسَرَ أَضْلَاعَهُ:
وَهَذَا كَذِبٌ؛ وَلَوْ فَتَقَ أمعاءَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا عَاشَ، فَمَا فَتَقَ أَمْعَاءَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا كَسَرَ أَضْلَاعَ عَمَّارٍ.
الْمَأْخَذُ السَّادِسُ: الزِّيَادَةُ فِي الْحِمَى(2):
كانَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَى وَقَالَ: « إِنَّما الْحِمَى حِمَى اللهِ وَرَسُولِهِ »(3).
وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ حِمىً لإِبلِ الصَّدَقَةِ، وَضَعَ لَهُمْ أَرْضًا خَاصَّةً لَا يرْعَى فِيهَا إِلَّا إِبِلُ الصَّدَقَةِ، حَتَّى تَسْمَنَ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهَا النَّاسُ، فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَانُ وَكَثُرَتِ الصَّدَقَاتُ، وَسَّعَ هَذَا الْحِمَى فَنَقَمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لَهُ:
________________________________
(1) « الْعواصم مِنَ الْقواصم » (ص 80).
(2) وَهي: تحويط الْمَكَان حَتَّى لَا يدخله أحد.
(3) « صَحِيح الْبُخَارِيّ ». كِتَاب الْمساقات: بَاب لَا حمى إِلَّا لله وَلرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيث (2370).
أَرَأَيْتَ مَا حَمَيْتَ مِنَ الْحِمَى، آللهُ أذِنَ لَكَ أَم عَلَى اللهِ تَفْتَرِي؟
فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ حَمَى الْحِمَى قَبْلِي لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا وَلِيتُ زَادَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَزِدْتُ فِي الْحِمَى(1).
فَهَلْ هَذَا مَأْخَذٌ؟!.
الْمَأْخَذُ السَّابِعُ: الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ:
صلَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلى عُمَرُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى عُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتمَّ فِي السَّفَرِ.
والْجَوَابُ هُوَ: أَوَّلًا: هَذِهِ مَسْأَلَةُ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ اجْتَهَدَ فِيهَا عُثْمَانُ فَأَخْطَأَ فَكَانَ مَاذَا؟ هَذَا إِذَا كَانَ قَدْ أَخْطَأَ فِعْلًا.
وَهَلْ هَذَا الْأَمْرُ يُبِيحُ دَمَ عُثْمَانَ؟ وَمَنِ الْمَعْصُومُ غَيْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثُمَّ إِنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ(2)، فَإِذَا كَانَ عُثْمَانُ فَعَلَ شَيْئًا فَهُوَ أَنَّهُ تَرَكَ الْمُسْتَحَبَّ فَقَطْ، وَفَعَلَ الْجَائِزَ، أَوْ تَرَكَ الرُّخْصَةَ وَفَعَلَ الْعَزِيمَةَ.
أَمَّا لِمَاذَا أَتَمَّ عُثْمَانُ؟ فَقَدْ قِيلَ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « فَضَائِل الصَّحَابَة » (1/470 رقم 765) بِسَنَدٍ صَحيح.
(2) بِهِ قَالَ مالك وَالشافعيُّ وَالْأوزاعيّ وَأحمدُ. « الْمغني » (2/54).
1- لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ- أَي تَزَوَّجَ- فِي مَكَّةَ فَكَانَ يَرَى أَنَّهُ فِي بَلَدِهِ وَلِذَلِكَ أَتَمَّ هُنَاكَ.
2- إِنَّهُ خَشِيَ أَن يُفْتَنَ الْأعْرَابُ وَيَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَيَقْصِرُونَ الصَّلَاةَ هُنَاكَ، فَأَتَمَّ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُمْ أَن أَصْلَ الصَّلَاةِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ولَمَّا أَتَمَّت عَائِشَةُ فِي السَّفَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالُوا لِعُرْوَةَ: مَاذَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَالْقَصْدُ أَنَّ عُثْمَانَ تَأَوَّلَ(1).
الْمَآخِذُ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ: لَمْ يَحْضُرْ بَدْرًا، وَفَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ، وَغَابَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ:
والرَّدُّ عَلَى هَذِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجَلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: قُرَيْشٌ. قَالَ: مَنِ الشَّيخُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ. فَجَاءَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي عَنْهُ.
هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
________________________________
(1) جَاءَ فِي كِتَاب « الْكَافِي » للكليني (4/524) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله جَعفَر الصَّادِق: أَنَّ الْإِتمامَ أَفْضَلُ فِي الْحرمين.
فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ الْمِصْريُّ: اللهُ أَكبرُ- يَعْنِي ظَهَرَ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ-.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبيِّنْ لَكَ: أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] {آل عِمْرَانَ: 155}.
وأمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ ».
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ(1)، فَبَعَثَه الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:
________________________________
(1) أَي لبَعَثَه النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدلَ عُثْمَانَ، لِأَنَّهُ أَرْسله النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهلِ مَكَّةَ حَتَّى يبينَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَاءَ ليؤديَّ عُمرَتَهُ صَلَوَات اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَحدثت بَيْعَة الرّضوانِ بَعْدمَا ذهب عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ وَلَم يَكُنْ حَاضرًا وَإِنَّمَا ذهبَ بأمرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، فبَيْعةُ الرّضوانِ مَا تمّت إِلَّا انْتِقَامًا لعُثْمَانَ لَمَّا بلغ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتلَ، فبَايع النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرّضوان أَصْحَابَه عَلَى الِانتِقَامِ لعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ إِنْ كَانَ قَدْ صحَّ قتله.
« هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ » فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ(1).
الْمَأْخَذُ الْحَادِي عَشَرَ: لَمْ يَقْتُلْ عُبَيْدَ اللهِ بْن عُمَرَ بالْهُرْمُزَانِ:
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهُ بَعْدَمَا قَتَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيُّ عُمَرَ بْنَ الْخطَّابِ قَتَلَ نَفْسَهُ لَمَّا أَلْقَوُا الْعَبَاءَةَ عَلَيْهِ(2)، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ قَامَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ فَقَتَلَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْهُرمُزَانُ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمَ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ قَالَ: كَانَ مَعَ أَبِي لُؤلُؤَةَ الْمَجُوسِيِّ قَبْلَ مَقْتَلِ عُمَرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبَيْنَهُمَا الْخِنْجَرُ الَّذِي قُتِلَ بِهِ عُمَرُ، فَظَنَّ أَنَّ الْهُرمُزَانَ مُشَارِكٌ لِأَبِي لُؤْلُؤَةَ فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ فَذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَتَلَهُ.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: « إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ حِينَ قُتِلَ عُمَرُ: قَدْ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي لُؤلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ وَمَعَهُ جُفَيْنَةُ وَالْهُرْمُزَانُ وَهُمْ نَجِيٌّ (أَيْ يَتَنَاجَوْنَ) فَلَمَّا بَغَتُّهُمْ ثَارُوا (أي قَامُوا) فَسَقَطَ مِنْ بَيْنِهِمْ خِنْجرٌ لَهُ رَأْسَانِ وَنِصَابُهُ وَسَطَهُ، فَانْظُرُوا مَا الْخِنْجَرُ الَّذِي قُتِلَ بِهِ عُمَرُ، فَوَجَدُوهُ الْخِنْجَرَ الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب: فَضَائِل الصّحَابَة، باب: مَنَاقِب عُثْمَان، حَدِيث (3699).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب: فَضَائِل الصَّحَابَة، باب: قصّة الْبَيْعَة، حَدِيث (3700).
(أَيِ الْهُرْمُزَان) قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى فَرَسٍ لِي، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ حَتَّى إِذَا مَضَى بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّ السَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: وَدَعَوْتُ جُفَيْنَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ نَصَارَى الْحِيرَةِ، فَلَمَّا عَلَوْتُهُ بِالسَّيْفِ صَلَّبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ انْطَلقَ عُبَيْدُ اللهِ فَقَتَلَ ابْنَةً لِأَبِي لُؤْلُؤَةَ صَغِيرَةً تَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَأَرَادَ عُبَيْدُ اللهِ أَلَّا يَدَعَ سَبْيًا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا قَتَلَهُ، فَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ فَنَهَوْهُ وَتَوَعَّدُوهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لأَقْتُلَنَّهُم وَغَيْرَهُمْ وَعَرَّضَ بِبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَمْ يَزَلْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهِ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِ السَّيْفَ، فَلَمَّا دَفَعَ إِلَيْهِ السَّيْفَ أَتَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ صَاحِبِهِ يَتَنَاصَيَانِ حَتَّى حُجِزَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عُثْمَانُ قَبْلَ أَن يُبَايَعَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى وَاقَعَ عُبَيْدَ اللهِ فَتَنَاصَيَا وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ يَوْمَ قَتَلَ عُبَيْدُ اللهِ جُفَيْنَةَ وَالْهُرْمُزَانَ وَابْنَةَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حُجِزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي قَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي فَتَقَ فِي الدِّينِ، فَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُشَايِعُونَ عُثْمَانَ عَلَى قَتْلِهِ، وَجُلُّ النَّاسِ الْأَعْظَمُ مَعَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُونَ لِجُفَيْنَةَ وَالْهُرْمُزَانِ أَبْعَدَهُمَا اللهُ، لَعَلَّكُمْ تُرِيدُونَ أَن تُتْبِعُوا عُمَرَ ابْنَهُ؟ فَكَثُرَ فِي ذَلِكَ اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ ثُمَّ قَالَ عَمْروُ بْنُ الْعَاصِ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لكَ
عَلَى النَّاسِ سُلْطَانٌ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ خُطْبَةِ عَمْروٍ وَانْتَهَى إِلَيْهِ عُثْمَانُ وَوُدِيَ الرَّجُلَانِ وَالجَارِيَةُ(1).
وَهُنَا ثَلَاثَةُ تَوْجِيهَاتٍ لِعَدَمِ قَتْلِ عُبَيْدِ اللهِ بالْهُرْمُزَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهُرْمُزانَ تَمَالَأَ مَعَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ كَمَا رَآهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهَذَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلقَتْلَِ كَمَا قَالَ عُمَرُ: « لَوْ تَمَالَأَ أَهْلُ صَنْعَاءَ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ لَقَتَلْتُهُم بِهِ »(2)، فَهُنَا يَكُونُ دَمُ الْهُرْمُزَانِ مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي قَتْلِ عُمَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا تَأَوَّلَ فِي عَهْدِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي إِحْدَى الْمَعَاركِ رَأَى رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمينَ الْكَثِيرَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُ فَرَّ مِنْهُ ثُمَّ اخْتَبَأَ خَلْفَ شَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْأَمْرُ اسْتَدْعَى أُسَامَةَ فَقَالَ: « أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ».
قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا -يَعْنِي خَائِفًا مِنَ السَّيْفِ-. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ » يَقُولُ: فَمَا زَالَ يُرَدّدُهَا عَلَيَّ « قَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ
________________________________
(1) « الطَّبَقَات » لابْن سَعْدٍ (3/355) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب: الدّيات، باب: إِذَا أَصَابَ قَوْم مِنْ رجل، حَدِيث (6896).
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟! » حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا الْآنَ(1).
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَى أُسَامَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لعُثْمَانَ لَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا.
الثَّالِثُ: قِيلَ: إِنَّ الْهُرمُزَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ، وَالْمَقْتُولُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُ وَلِيُّهُ السُّلْطَانُ فَتَنَازَلَ عَنِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ وَلدًا يُقَال لَهُ: الْقَامَذْبَان، وَأَنَّهُ تَنازَلَ عَنْ دَمِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ(2).
الْمَأْخَذُ الثَّانِي عَشَرَ: زَادَ الْأَذَانَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ مِن بَعْدِي »(3).
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُثْمَانَ مِنَ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ، وَرَأَى مَصْلَحَةً فِي أَن يُزَادَ هَذَا الْأَذَانُ لِتَنْبِيهِ
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب الْمغازي، بَاب بعث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ إِلَى الْحرقات، حَدِيث (4269)، « صَحِيح مُسْلِم »: كِتَاب الْإِيمَان باب: تَحرِيم قَتلِ الْكَافرِ بَعْدَ أَن قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ، حَدِيث (158) (96).
(2) قِصَّة تنازل الْقامذبان عَنْ قتلِ عُبَيْد اللهِ فِي « تَاريخِ الطَّبَرِيِّ » (3/305)، وَلَكِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ الكَذَّابِ.
(3) « سُنَن أَبِي دَاوُدَ »: كِتَاب السّنة، بَاب فِي لزوم السّنة، حَدِيث (4607)، « سنن التِّرمذِيّ »: كِتَاب الْعلم، بَاب مَا جَاءَ فِي الْأخذ بالسّنة، حَدِيث (2676).
النَّاسِ عَنْ قُرْبِ وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَنِ اتَّسَعَتْ رُقْعةُ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَهَدَ فِي هَذَا وَوَافَقَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ حَتَّى فِي زَمَنِ عَلِيٍّ وَزَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَزَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمينَ، فَهِيَ سُنَّةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ هُوَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فِي الْفَجْرِ، فَلَعَلَّ عُثْمَانَ قَاسَ هَذَا الْأَذَانَ عَلَيْهِ.
الْمَأْخَذُ الثَّالِثَ عَشَرَ: رَدَّ الْحَكَمَ وَقَدْ نَفَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَهَذِهِ الْفِرْيَةُ يُرَدُّ عَلَيْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَوَّلًا: أَنّهَا لَمْ تَثْبُتْ وَلَا تُعْرَفُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
ثَانِيًا: الْحَكَمُ كَانَ مِنْ مُسْلِمَةَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنَ الطُّلَقَاءِ، وَالطُّلقَاءُ مَسْكَنُهُمْ مَكَّةُ وَلَمْ يَعِيشُوا فِي الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ يَنْفِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا أَصْلًا.
ثَالِثًا: النَّفْيُ الْمَعْلُومُ فِي شَرِيعَتِنَا أَقْصَاهُ سَنةٌ لِلزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ فِي شَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْيًا مَدَى الْحَيَاةِ، وَأَيُّ ذَنْبٍ هَذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِنْسَانُ أَن يُنفَى مَدَى الْحَيَاةِ؟
فالنَّفيُ عُقُوبَة تَعْزِيرِيَّةٌ مِنَ الْحَاكِمِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا نَفَاهُ وَاسْتَمَرَّ مَنْفِيًّا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي خِلَافِةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ثُمَّ
أَعَادَه عُثْمَانُ بَعْدَ كَمْ؟ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
أَيْنَ الْبَأْسُ هُنَا؟
هَذَا إِنْ صَحَّتْ وَهِيَ لَمْ تَصِحَّ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَفَاعَةَ عُثْمَانَ فِي عَبْدِ اللهِ بْن سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَلَاشَكَّ أَنَّ الْحَكَمَ لَمْ يَأْتِ بِجُرْمٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، فَكَيْفَ يُسَامِحُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ وَلَا يُسَامِحُ هَذَا؟!!.
هَذِهِ هِيَ الْمَآخِذُ عَلَى عُثْمَانَ!!
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا حَسَبَ الْجَدْوَلِ الْآتِي:
أُمُورٌ مَكْذُوبَةٌ ... 2، 3، 5، 13
مَحَاسِنُ ... 4، 8،10
اجْتِهَادٌ ... 1، 6، 7، 11، 12
أَخْطَاءٌ مَغْمُورَةٌ بَلْ مَغْفُورَةٌ ... 9
الْمَبْحَثُ السَّادِسُ: مَقْتَلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
بَعْدَ أَنْ أُثِيرَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى عُثْمَانَ خَرَج أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُونَ أَنَّهُم يُرِيدُونَ الْحَجَّ وَقَدْ أَبْطَنُوا الْخُرُوجَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَاخْتُلِفَ فِي أَعْدَادِهِمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَأَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكُلَّ أَلْفَانِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ هُنَاكَ إِحْصَائِيَّةٌ دَقِيقَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقِلُّونَ عَنْ أَلْفَيْنِ وَلَا يَزِيدُونَ عَنْ سِتَّةِ آلَافٍ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
دَخَلُوا مَدِينَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ فُرْسَانِ قَبَائِلِهِمْ جَاءُوا لِعَزْلِ عُثْمَانَ إِمَّا بِالتَّهْدِيدِ وَإِمَّا بِالْقُوَّةِ، وَحَاصَرُوا بَيْتَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ إِلَى الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحِصَارَ اسْتَمَرَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا.
لَمَّا حُوصِرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ وَمُنِعَ مِنَ الصَّلَاةِ بَلْ وَمِنَ الْمَاءِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَجُلٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِتْنَةِ حَتَّى إِنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْن عَدِيِّ بْنِ
الْخِيَارِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِمَامُ فِتْنَةٍ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: « الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ! »(1).
* وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْتَ عُثْمَانَ كُلُّهُمْ يُرِيدُ الدِّفَاعَ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَشْهرِ الَّذِينَ جَلسُوا عِنْده فِي بَيْتِه الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَبُو هُرَيْرَةَ، مُحَمَّدُ ابْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ (السَّجَّاد)، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَدْ شَهَرُوا سُيُوفَهُمْ فِي وَجْهِ أُولَئِكَ الْبُغَاةِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ(2).
* وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ عَلَى بَغْلَةٍ يَقُودُهَا مَوْلَاهَا كِنَانَةُ فَلَقِيَهَا الْأَشْتَرُ فَضَرَبَ وَجْهَ بَغْلَتِهَا.
فَقَالَتْ: رُدُّونِي، لَا يَفْضَحْنِي هَذَا الْكَلْبُ(3).
وَلَكِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِعَدَمِ الْقِتَالِ، بَلْ إِنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ عُثْمَانَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ حَتَّى هَؤُلَاءِ السَّبعمِائَةِ لَا يَصِلُونَ إِلَى عَدَدِ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي: كِتَاب الْأذان: بَاب إِمَامَة الْمفتون وَالْمُبْتَدِع حَدِيث (695).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/184).
(3) ابْن سعد فِي « الطَّبَقَات » (8/1280)، وَإِسْنَاده حسن.
أُولَئِكَ الْبُغَاةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ أَنَّهُمْ أَلْفَانِ.
* عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَعْزِمُ عَلَى كُلِّ مَنْ رَأَى أَنَّ عَلَيْهِ سَمْعًا وَطَاعَةً إِلَّا كَفَّ يَدَهُ وَسِلَاحَهُ(1).
* وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ ثَابتٍ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْصَارُ بالْبَابِ قَالُوا: إِنْ شِئْتَ أَن نَكُونَ أَنْصَارَ اللهِ مَرَّتَيْنِ كَمَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكُونُ مَعَكَ.
فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا قِتَالٌ فَلَا(2).
* وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا ابْنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: اخْلَعْهَا، وَلَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ.
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا خَلَعْتَهَا أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَلَا أَرَى أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصًا قَمَّصَكَهُ اللهُ فَتكُونَ سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَوْمٌ خَليفَتَهُمْ، أَوْ إِمَامَهُمْ خَلَعُوهُ(3).
* وَقَالَ عُثْمَانُ لِعَبِيدِهِ: كُلُّ مَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ.
________________________________
(1) « الْمُصَنَّف » لابْنِ أَبِي شَيبةَ (15/24 رقم 19508) بِسَنَدٍ صَحيحٍ.
(2) « الْمُصَنَّف » لابْنِ أَبِي شَيبةَ (15/205 رقم 19509) بِسَنَدٍ صَحيحٍ.
(3) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي كِتَاب « فَضَائِل الصَّحَابَة » (1/473 رقم 767) بإِسنَادٍ صَحِيح.
فَهُوَ الَّذِي مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْقِتَالِ.
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حُمِلَ أَرْبَعَةٌ مِنْ شُبَّانِ قُرَيْشٍ مُلَطَّخِينَ بِالدِّمَاءِ مَحْمُولِينَ كَانُوا يُدَافِعُونَ عَنْ عُثْمَان وَهُمُ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ- عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ- مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ- مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ(1).
مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ؟
بَعْدَ أَنْ حُوصِرَ عُثْمَانُ، تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الْبَيْتَ فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ وَاضِعٌ الْمُصْحَفَ بَيْن يَدَيْهِ.
قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (وكَانَ الْحَسَنُ الْبصْرِيُّ قَدْ عَاشَ تِلْكَ الْفَتْرَةَ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ): أَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوِ الْأَنْصَارِ؟
فَقَالَ: كَانُوا أَعْلَاجًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ(2).
ولكِنَّ الرُّءُوسَ مَعْرُوفَةٌ وَهُمْ: كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ، وَرُومَانُ الْيَمَانِيُّ، وَشَخْصٌ يُقَالُ لَهُ جَبَلَةُ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرانَ، وَرَجُلٌ يُلَقَّبُ بِالْمَوْتِ الْأَسْوَدِ مِنْ بَنِي سَدُوسٍ.
وَقِيلَ: مَالِكُ بْنُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ.
هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ رُءُوسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
________________________________
(1) « الاستيعاب » لِابْنِ عبد الْبر بحاشية « الْإِصابة » (3/78).
(2) « تَارِيخ خَلِيفَة » (ص 176) بإِسنَادٍ صَحِيح.
أَمَّا مَنْ بَاشَرَ قَتْلَهُ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ رَجُلٌ مِصْرِيٌّ يُقَالُ لَهُ جَبَلَةُ.
* عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَأَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ فَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ: [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] {البقر ة: 137}.
قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجَلٌ سَوِيًّا(1).
* وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فإِذَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْلِي، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَغْفِرَ لِي.
يَقُولُ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقُولُ مِثْلَ مَا تَقُولُ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنّي كُنْتُ قَدْ أَعْطَيْتُ اللهَ عَهْدًا لَإِنْ مَكَّنَنِي مِنْ عُثْمَانَ لَأَصْفَعَنَّهُ، فَلَمَّا قُتِلَ وُضِعَ فِي سَرِيرِهِ فِي الْبَيْتِ فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَدَخَلْتُ أُظْهِرُ أنِّي أُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّ الْبَيْتَ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِهِ فَصَفَعْتُهُ وَهُوَ مَيِّتٌ فَيَبِسَتْ يَدِي.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي كِتَاب « فَضَائِل الصّحَابَة » (1/501 رقم 817) وَإِسْنَادُه صَحِيح، وَانْظُرْ كَذَلِكَ (765/766).
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُهَا يَابِسَةً كَأَنَّهَا عُودٌ(1).
كَيْفَ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَة؟
التَّعليلُ الْأَوَّلُ:
أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُغْمِدُوا سُيُوفَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْقِتَالِ، وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَدَرِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ:
الْأَوَّلُ: شَجَاعَةُ عُثْمَانَ.
وَالثَّانِي: رَحْمَتُهُ بأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ أُولَئِكَ أَعْرَابٌ أَجْلَافٌ وَأَنَّهُم مُفْسِدُونَ، فَرَأَى أَنَّهُ لَوْ قَاتَلَهُمُ الصَّحَابَةُ لَكَانَتِ الْمَفْسَدَةُ أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَرُبَّمَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى قَتْلِ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يَتَعَدَّوْنَ إِلَى انْتِهَاكِ الْأَعْرَاضِ، وَانْتِهَابِ الْأَمْوَالِ، فَرَأَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَن يُقْتَلَ هُوَ وَلَا يُقْتَلَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُهْتَكَ حُرْمَةُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/200) وَرِجَاله ثقاث غَيْر (عِيسَى بْن الْمنهال) ذكره ابْن حِبَّان فِي « الثِّقَات »، وَذكره كُلّ مِنَ الْبُخَارِيِّ فِي « التَّارِيخ الْكَبِير » (6/399) وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي « الْجَرْح وَالتَّعْدِيل » (6/288) وَسكتا عَنْهُ.
التَّعْلِيلُ الثَّانِي:
أَنَّ عَدَدَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَقَلَّ بِكَثِيرٍ مِنْ عَدَدِ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا عَلَى أرْبَعَةِ أَمَاكِنَ:
الْمَكَانُ الْأَوَّلُ: مَكَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْسِمَ كَانَ مَوْسِمَ حَجٍّ، وَقَدْ خَرَجَ الْكَثِيرُونَ لِلْحَجِّ، وَلَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ.
الثَّانِي: بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ، عَاشُوا فِي الْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
الثَّالِثُ: فِي الْجِهَادِ.
الْمَكَانُ الرَّابعُ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُن عَدَدُهُمْ مُكَافِئًا لِعَدَدِ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ.
التَّعْلِيلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ الصَّحَابَةَ بَعَثُوا أَوْلَادَهُمْ لِلدِّفَاعِ عَنْ عُثْمَانَ وَمَا كَانُوا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِلُ إِلَى الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا حِصَارٌ وَعِنَادٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُونَ، أَمَّا أَنَّهُمْ يَتَجَرَّءُونَ وَيَقْتُلُونَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَا يَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُم مِنْ قِتَالِ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مِنْ سَنَةِ 35 إِلَى 40 هـ
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
* اسْمُهُ وَنَسَبُهُ:
هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَوْجُ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
أُمُّهُ: فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ(1) وَهُوَ أَوَّلُ هَاشِمِيٍّ يُولَدُ مِنْ هَاشِمِيَّةٍ.
كُنْيَتُهُ: أَبو الْحَسَنِ، وَكَنَّاه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي تُرَابٍ.
أَسْلَمَ صَغِيرًا، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ عَلَى الْمشْهُورِ(2).
* أَزْوَاجُ عَلِيٍّ:
1- فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- أُمَامُةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَ وَفَاةِ خَالَتِهَا فَاطِمَةَ.
3- خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ قَيْسٍ.
4- لَيْلَى بِنْتُ مَسْعُودٍ.
________________________________
(1) « معرفة الصَّحَابَة » (1/278).
(2) « معرفة الصَّحَابَة » (1/287).
ه- أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ حِزَامٍ.
6- أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ.
7- الصَّهْبَاءُ بِنْتُ رَبِيعَةَ.
8- أمُّ سَعِيدٍ بِنْتُ عُرْوَةَ.
* أَوْلَادُهُ:
الذُّكُورُ: الْحَسَنُ- الْحُسَيْنُ- مُحَمَّدٌ الْأَكْبَرُ- عُبَيْدُ اللهِ- أَبُو بَكْرٍ - الْعبَّاسُ الْأكْبَرُ- عُثْمَانُ- جَعْفَرٌ الْأَكْبَرُ- عَبْدُ اللهِ- يَحْيَى- عَوْنٌ- عُمَرُ الْأَكْبَرُ- مُحَمَّدٌ الْأَوْسَطُ- مُحَمَّدٌ الْأَصْغَرُ.
الْإِنَاثُ: زَيْنَبُ الْكُبْرَىَ- أُمُّ كُلْثُوم الْكُبْرَىَ - رُقَيَّةُ- أُمُّ الْحَسَنِ- رَمْلَةُ الْكُبْرَى- أُمُّ هَانِئٍ- مَيْمُونَةُ- زَيْنَبُ الصُّغْرَى- رَمْلَةُ الصُّغْرَى - أُمُّ كُلْثُومٍ الصُّغْرَى- فَاطِمَةُ- أُمَامَةُ- خَدِيجَةُ- أُمُّ الْكِرَامِ- أُمُّ سَلَمَةَ- أُمُّ جَعْفَرٍ- جُمَانَةُ- نَفِيسَةُ.
* فَضَائِلُهُ:
يُمْكِنُ تَقْسِيمُ فَضَائِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
1- فَضَائِلُ خَاصَّةٌ بِهِ.
2- فَضَائِلُ لَهُ مَعَ آلِ الْبَيْتِ.
3- فَضَائِلُ لَهُ مَعَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ.
أَوَّلًا: الْفَضَائِلُ الْخَاصَّةُ بِهِ:
فَمِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّه اللهُ وَرَسُولُهُ(1).
وَمِنْهَا: عَنْ عَلِيٍّ قَالَ رَسُولُ اللهِ لِي: لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ(2).
وَمِنْهَا: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي(3).
وَمِنْهَا: وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ »(4).
ثَانِيًا: مَعَ آلِ الْبَيْتِ:
مِنْهَا: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَدِيرٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: « أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ » فَذَكَر كِتَابَ اللهِ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي: كِتَاب الْفَضَائِل بَاب مَنَاقِب عَلِيّ (3702) وَمُسْلِم كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل عَلِيّ (2405).
(2) أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْإِيمَان بَاب الدّليل عَلَى أَن حبَّ الْأَنْصَار، وَعَلِيٍّ مِنَ الْإِيمَان (78).
(3) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي: كِتَاب الْفَضَائِل، بَاب مَنَاقِب عَلِيٍّ (3706) وَمُسْلِم فِي كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب فضائل عَلِيّ (2404).
(4) أَخْرَجَهُ أَحْمَد 5/350، وَإِسْنَاده صَحِيح.
وَحَضَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: « وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ».
قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟
قَالَ: الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ، آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. قِيلَ لِزَيْدٍ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ(1).
وَمِنْهَا: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، فَأَدْخَلَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] {الْأحز اب: 33}(2).
ثَالِثًا: الْفَضَائِلُ الْعَامَّةُ:
فَمِنْهَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « اسْكُنْ حِرَاءُ، فإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ »(3) وَكَانَ عَلَيْهِ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَمِنْهَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَر فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ،
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ مُسْلِم: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مَا جَاءَ فِي فضل عَلِيّ (2408).
(2) أَخْرَجَهُ مُسْلِم: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب فَضَائِل أَهْل بيت النَّبِيّ (2424).
(3) أَخْرَجَهُ مُسْلِم كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل طَلْحَة وَالزُّبَيْر (2417) مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَصَاحِبُكُمْ فِي الْجَنَّةِ »(1).
وَمِنْهَا: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونُهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونُهُمْ »(2).
* وَمِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ عَلِيٌّ وَبَزَّ بِهِ أَقْرَانَهُ:
يَوْمَ الْخَنْدَقِ:
خَرَجَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِمُلَاقَاةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو كُنْتَ عَاهَدْتَ اللهَ أَلَّا يَدْعُوَكَ رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَحَدِ خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَهَا مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ: أَجَلْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ عَمْرٌو: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزَالِ. قَالَ لَهُ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَوَ اللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاللهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَحَمَى عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ. وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ قَالَ:
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ فِي كِتَاب الْمَنَاقِب بَاب مَنَاقِب عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ (3748) وَإِسْنَاده صَحِيح، وَقول سَعِيدٍ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ.
(2) صَحِيح الْبُخَارِيِّ كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة: بَاب فَضَائِل أَصْحَاب النَّبِيِّ (3651) وَمُسْلِم فِي كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة: بَاب فضل الصَّحَابَة (2533).
وَلَقَدْ بَحَحْتُ مِنَ النِّدَا ... ءِ لِجَمْعِهِمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الْمُشَجَّـ ... ـعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَلِذَاكَ إِنِّي لَمْ أَزَلْ... مُتَسَرِّعًا قِبَل الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ قَائِلَا:
لَا تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَا ... كَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ
فِي نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... وَالصِّدْقُ مَنْجَى كُلِّ فَائِزْ
إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِيمَ ... عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْـ ... ـقَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ(1)
يَوْمَ خَيْبَرَ:
خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ
شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ(2)
________________________________
(1) « عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ » للصلابي ص 99. وَانْظُرْ: « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » حَوَادِث سَنَة 5 هـ، غَزْوَة الْخَنْدَق.
(2) أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْجِهَاد: بَاب غَزْوَة ذي قرد (1807).
* بَيْعَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالْخِلَافَةِ:
عَنْ مُحمَّدِ بْن الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ دَارَ عُثْمَانَ وَقَد قُتِلَ، فَدَخَلَ إِلَى دَارِهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ، فَأَتَاه النَّاسُ فَضَرَ بُوا عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ قُتِلَ، وَلَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ خَلِيفَةٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَا مِنْكَ.
فَقَالَ لَهُم عَلِيٌّ: لَا تُرِيدُونِي؛ فَإِنِّي لَكُمْ وَزِيرٌ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرٌ. فَقَالُوا: لَا وَاللهِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَا مِنْكَ، قَالَ: فإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيَّ فإِنَّ بَيَعَتِي لَا تَكُونُ سِرًّا، وَلَكِنْ أَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُبَايِعَنِي بَايَعَنِي. فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَايَعَه النَّاسُ(1).
وبَايَعَه الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيعَتِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بُويعَ مِنَ الْجَمِيعِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، إِنَّمَا تَخَلَّفَ سَعْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنِ الْقِتَالِ مَعَهُ، أمَّا الْبَيْعَةُ فَقَدْ بَايَعُوهُ.
* قَالَ عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ: كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « فَضَائِل الصَّحَابَة »(2/573 رقم 696)، وَإِسْنَاده صَحِيح.
في الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَذَكَرُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ جَوْشَنٍ الْغَطَفَانيُّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّما زُرِّيَ بِأَبِي مُوسَى اتِّبَاعُهُ عَلِيًّا(1)، فَغَضِبَ الْحَسَنُ حَتَّى تَبَيَّنَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: فَمَنْ يُتَّبَعُ؟! قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَظْلُومًا فَعَمدَ النَّاسُ إِلَى خَيْرِهِمْ فَبَايَعُوهُ فَمَنْ يُتَّبَعُ؟! حَتَّى رَدَّدَهَا مِرَارًا(2).
وأَهلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
* قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: « الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ تَبْدِيعُ مَنْ تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَقَالَ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، وَأَمَرَ بِهِجْرانِهِ »(3).
فَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنْ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ اتَّفَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَابِعُ الْخُلَفَاءِ.
________________________________
(1) يُرِيد أنّ الَّذِي أخذه النَّاسُ طعنًا فِي أَبِي مُوسَى أَنَّهُ اتبعَ عَلِيا، وَالْمفروض أَن لَا يتبعه.
(2) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « فَضَائِل الصَّحَابَة » (2/576 رقم 976) بإِسْنَاد صَحِيح.
(3) « مَجْمُوع الْفتاوي » (4/438).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: أَهَمُّ الْأَحْدَاثِ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
* مَعْرَكَةُ الْجَمَلِ (سنة 36 هـ):
لَمَّا بُويعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، اسْتَأْذَنَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ فَأَذِنَ لَهُمَا، فَالْتَقَيَا هُنَاكَ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ الْخَبَرُ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ فِي مَكَّةَ وَعَزَمُوا عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ عُثْمَانَ.
فَجَاءَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْكُوفَةِ، وَاجْتَمَعُوا فِي مَكَّةَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بِمَنْ تَابَعَهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ يُريدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَصَّرُوا فِي الدِّفَاعِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَصْرةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِم عُثْمَانُ بْنُ حُنَيفٍ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟
قَالُوا: نُريدُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ.
فَقَالَ لَهُمْ: حَتَّى يَأْتيَ عَلِيٌّ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ.
ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِم جَبَلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ شَارَكُوا فِي قَتْلِ عُثْمَانَ فَقَاتَلَهُم فِي سَبْعِمِئَةِ رَجُلٍ فَانْتَصُرُوا عَلَيْهِ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَانْضَمَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى جَيْشِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
خرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ وَذَلِكَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَاكَ قِتَالٌ بَيْن عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ وَالِي عَلِيٍّ عَلَى الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَهَّزَ جَيْشًا قِوَامُهُ عَشْرَةُ آلَافٍ لِمُقَاتِلَةِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ.
وهُنَا يَظْهَرُ لَنَا جَلِيًّا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الَّذِي خَرَجَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْصُدُوا قِتَالَهُ كَمَا تَدَّعِي بَعْضُ الطَّوَائِفِ وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَى عَلِيٍّ لَذَهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مُبَاشَرَةً وَلَيْسَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
فَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ لَمْ يَحْدُثْ قَطُّ أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا خِلَافَةَ عَلِيٍّ وَلَا طَعَنُوا عَلَيْهِ وَلَا ذَكَرُوا فِيهِ جَرْحًا وَلَا بَايَعُوا غَيْرَهُ وَلَا خَرَجُوا لِقِتَالِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ فإِنَّه لَمْ يَكُنْ بالْبَصْرَةِ يَوْمَئِذٍ.
وَلِذلكَ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: لَقِيتُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ بَعْدَ حَصْرِ عُثْمَانَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرَانِي فَإِنِّي أَرَاهُ مَقْتُولًا؟
قَالَا: عَلَيْكَ بِعَلِيٍّ.
قَالَ: وَلَقِيْتُ عَائِشَةَ بَعْد قَتْلِ عُثْمَانَ فِي مَكَّةَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرِينِي؟
قَالَتْ: عَلَيْكَ بِعَليٍّ(1).
مُفَاوَضَاتٌ قُبَيْلَ الْقِتَالِ:
وأَرْسَلَ عَلِيٌّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو لِيَتَكَلَّمَا مَعَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَاتَّفَقَ الْمِقْدَادُ وَالْقَعْقَاعُ مِنْ جِهَةٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى عَدَمِ الْقِتَالِ وَبَيَّنَ كلُّ فَرِيقٍ وِجْهَةَ نَظَرِهِ.
فَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ يَرَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ تَتَبُّعُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ الْآنَ، بَلْ حَتَّى تَسْتَتِبَّ الْأُمُورُ، فَقَتْلُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ.
وبعدَ الِاتِّفَاقِ نَامَ الْجَيْشَانِ بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، وَبَاتَ السَّبَئِيَّةُ (وَهُمْ قَتَلَةُ عُثْمَانَ) بِشَرِّ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مَا ذَكَرَه الْمُؤَرِّخُونَ الَّذِينَ أَرَّخُوا لِهَذِه الْمَعْركَةِ أَمْثَالَ: الطَّبَرِيِّ(2)، وَابْنِ كَثِيرٍ(3)، وَابْنِ الْأَثِيرِ(4)، وَابْنِ حَزْمٍ(5)، وَغَيْرِهِمْ.
عند ذَلِكَ أَجْمَعَ السَّبَئيُّونَ رَأْيَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَتِمَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ، وَفِي السَّحَرِ وَالْقَوْمُ نَائِمُونَ، هَاجَمَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ السَّبَئيِّينَ جَيْشَ طَلْحَةَ
________________________________
(1) « فَتْح الْبَارِي » (13/38) وَقَالَ: « أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيّ بإِسْنَاد صَحِيح ».
(2) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (3/517).
(3) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/509).
(4) « الْكامل فِي التَّارِيخ » (3/120).
(د) « الْفِصَل فِي الْملل وَالْأَهْوَاء وَالنحل » (4/293).
والزُّبَيْرِ وَقَتَلُوا بَعْضَ أَفْرادِ الْجَيْشِ وَفَرُّوا، فَظَنَّ جَيْشُ طَلْحَةَ أَنَّ جَيْشَ عَلِيٍّ غَدَرَ بِهِمْ، فَنَاوَشُوا جَيْشَ عَلِيٍّ فِي الصَّبَاحِ، فَظَنَّ جَيْشُ عَلِيٍّ أَنَّ جَيْشَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَدْ غَدَرَ، فَاسْتَمَرَّتِ الْمُنَاوَشَاتُ بَيْن الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى كَانَتِ الظَّهِيرَةُ فَاشْتَعَلَتِ الْمَعْرَكَةُ.
مُحَاوَلَاتُ وَقْفِ الْقِتَالِ:
وَقَدْ حَاوَلَ الْكِبَارُ مِنَ الْجَيْشَيْنِ وَقْفَ الْقِتَالِ، وَلكِن لَمْ يُفْلِحُوا، فَكَانَ طَلْحَةُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَنْصِتُونَ؟ فَأَصْبَحُوا لَا يُنْصِتُونَهُ فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ فَرَاشُ نَارٍ، وَذُبَّانُ طَمَعٍ(1). وَعليٌّ يَمْنَعُهُمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ بِالْمُصْحَفِ لِوَقْفِ الْمَعْرَكَةِ، فَرَشَقَهُ السَّبئِيُّونَ بِالنِّبَالِ حَتَّى أَرْدَوْهُ قَتِيلًا.
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرْبَ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ إِذَا اشْتَعَلَتْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُوقِفَهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أبياتًا مِنَ الشِّعرِ لاِمرئ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ... وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ... مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ (2)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: « وَالْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ
________________________________
(1) « تَارِيخ خَلِيفَة بْن خَيَّاطٍ » (182).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْفِتْنَة، بَاب الْفِتْنَة الَّتِي تموج كموج الْبحر، قبيل الْحَدِيث (7096).
العُقَلَاء فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ، فَصَارَ الْأَكَابِرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَاجِزِينَ عَن إِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ، وَكَفِّ أَهْلِهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] {الْأنفال: 25}(1).
وَقْعَةُ الْجَمَلِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَيْ: فِي بِدَايَةِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَدَأَتْ بَعْدَ الظُّهْرِ وَانْتَهَتْ قُبَيْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ.
كَانَ مَعَ عَلِيٍّ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَأَهلُ الْجَمَلِ كَانَ عَدَدُهُمْ مَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَالسِّتَّةِ آلَافٍ، وَرَايَةُ عَلِيٍّ كَانَتْ مَعَ مُحمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرَايَةُ أَهْلِ الْجَمَلِ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ.
قُتِلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ فِتْنَةٌ سَلَّمَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهَا سُيُوفَنَا وَنَسْأَلُ اللهَ لَهُمُ الرِّضْوَانَ وَالْمَغْفِرَةَ.
مَقْتَلُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ:
وقُتِلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمُحمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، أمَّا الزُّبَيْرُ فَلَمْ يُشَارِكْ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ وَلَا طَلْحَةُ.
وذَلك أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى الْمَعْرَكَةِ لَقِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَتذْكُرُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تُقَاتِلُ
________________________________
(1) « مُخْتَصر مِنْهَاج السُّنَّةِ » (281).
عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ » فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ يُقَاتِلْ(1).
فالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَكِنْ هَلْ وَقَعَ هَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ؟
اللهُ أَعْلَمُ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرِّوَايَةِ سَنَدٌ قَوِيٌّ وَلَكِنْ هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ.
والْمشْهُورُ أَكْثَرُ أَنَّ الزُّبَيْرَ لَمْ يُشَارِكْ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ غَدْرًا عَلَى يدِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ.
* وَقُتِلَ طَلْحَةُ بِسَهْمٍ غَرْبٍ (بِسَهْمٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ )، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الَّذِي رَمَاهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَصَابَهُ فِي قَدَمِهِ مَكَانَ إِصَابَةٍ قَدِيمَةٍ فَمَاتَ مِنْهَا رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ يُحَاوِلُ مَنْعَ النَّاسِ مِنَ الْقِتَالِ وَلَمَّا انْتَهَتْ هَذِهِ الْمَعْرَكَةُ وَقُتِلَ الْكَثِيرُ خَاصَّةً فِي الدِّفَاعِ عَنْ جَمَلِ عَائِشَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَثِّلُ رَمْزًا لَهُمْ فَكَانُوا يَسْتَبْسِلُونَ فِي الدِّفَاعِ عَنْهَا.
وَلِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ أَنْ سَقَطَ الْجَمَلُ هَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ وَانْتَهَتْ، وَانْتَصَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَصِرْ أَحَدٌ، وَلَكِنْ خَسِرَ الْإِسْلَامُ وَخَسِرَ الْمُسْلمُونَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ.
بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ:
فَلَمَّا انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ صَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَمُرُّ بَيْنَ الْقَتْلَى فَوَجَدَ
________________________________
(1) « الْمُصَنف » لابْنِ أَبِي شَيبةَ (15/283 رقم 19674)، وَفيه رَجل مجهول. وَذكره الْحَافِظُ ابْنُ حَجرٍ فِي « الْمطالب الْعَالِيَة » (4412).
طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَجْلَسَهُ وَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ:
عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ أَبَا مُحَمَّدٍ.
وبَكَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا بِعِشْرِينَ سَنَةً(1).
* وَكَذَلِكَ رَأَى عَلِيٌّ مُحمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ فَبَكَى، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ يُلَقَّبُ بِـ « السَّجَّادِ » مِنْ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
وَكُلُّ الصَّحَابَةِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ الَّذِينَ شَارَكُوا فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ نَدِمُوا عَلَى مَا وَقَعَ.
* وَابْنُ جُرْمُوزٍ هَذَا دَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَمَعَهُ سَيْفُ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: قَتَلْتُ الزُّبَيْرَ، قَتَلْتُ الزُّبَيْرَ، فَلَمَّا سَمِعَهُ عَلِيٌّ قَالَ: « إِنّ هَذَا السَّيْفَ طَالَمَا فَرَّجَ الْكَرْبَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »، ثُمَّ قَالَ: « بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ »، وَلَمْ يَأْذنْ لَهُ بالدُّخُولِ عَلَيْهِ(2).
ولَمَّا انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ، أَخَذَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أُمَّ الْمُؤْمِنينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَأَرْسَلَهَا مُعزَّزَةً مُكَرَّمةً إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
________________________________
(1) « تَارِيخ دِمَشقَ » لِابْنِ عَسَاكِر. الْمُخْتَصر. (11/7 0 2)، « أُسد الْغابة » (3/88) وَقَالََ الْبوصيري: « رِجَالهُ ثقاث ». نقله عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجرٍ فِي « الْمطالب الْعَالِيَة » (4/302) مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِير فِي ألفاظه.
(2) « طبقات ابْن سَعْدٍ » (3/105) بِسَنَد حسن.
أَمَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ »، قَالَ عَلِيٌّ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: « لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا »(1) فَفَعَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لِمَاذَا لَمْ يَقْتُلْ عَلِيٌّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ؟
عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَنْظُرُ نَظَرَ مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ، فَرَأَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْقِصَاصِ لَا تَرْكَهُ، فَأَخَّرَ الْقِصَاصَ مِنْ أَجْلِ هَذَا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ.
* وَمِنْ أَشْهَرِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَمْنةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ. فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبرَ وَقَالَ: « مَنْ يَعْذُِرُنِي فِي رَجُلٍ وَصَلَ أَذَاهُ إِلَى أَهْلِي؟ (يَعْنِي: عَبْدَ اللهِِ بْنَ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ ) فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَقَالَ: أَنَا أَعذُِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ.
إِنْ كَانَ مِنَّا مَعْشَرَ الْأَوْسِ قَتَلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِهِ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « الْمُسْند » (6/393)، وَقَالََ الْحَافِظ فِي « الْفَتْح »(13/0 6) « سنده حسن ».
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَرَدَّ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَرَدَّ عَلَى سَعْدِ بْن عُبَادَةَ، فَصَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ(1). وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَبْلَ مَجِيءِ النِّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ مَنْزِلةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ بِثُلثِ الْجَيْشِ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا تَرَكَ جَلْدَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ لِمَاذَا؟ لِلْمَصْلَحَةِ؛ إِذْ رَأَى أَنَّ جَلْدَهُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ تَرْكِهِ.
* وَكَذِلكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَأَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْقِصَاصِ أَقلُّ مَفْسَدَةً مِنْ تَعْجِيلِهِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ رُؤُوسٌ لِلْفِتْنَةِ وَلَهُمْ قَبَائِلُ تُدَافِعُ عَنْهُمْ، وَالْأَمْنُ غَيْرُ مُسْتَتِبٍّ وَمَازَالَتِ الْفِتْنَةُ قَائِمَةً، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ لَنْ يَقْتُلُوا عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ وَقَدْ قَتَلُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
* وَلِذلِكَ لَمَّا وَصَلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَمْ يَقْتلْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ أَيْضًا لِمَاذَا؟ لِأَنَّه صَارَ يَرَى مَا كَانَ يَرَاهُ عَلِيٌّ، كَانَ عَلِيٌّ يَرَاهُ وَاقِعًا،
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْمغازي، بَاب حَدِيث الْإِفك، رقم الْحَدِيث (4141)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب التّوبة، بَاب حَدِيثِ الْإِفكِ وَقَبُولِ تَوبَةِ الْقَاذِف، حَدِيث (2770).
وَمُعَاوِيَةُ كَانَ يَرَاهُ نَظَرِيًّا فَلَمَّا آلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ رَآهُ وَاقِعًا، نَعَمْ مُعَاوِيَةُ أَرْسَلَ مَنْ قَتَلَ بَعْضَهُمْ وَلَكِنْ بَقِيَ آخَرُونَ إِلَى زَمَنِ الْحَجَّاجِ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْن مَرْوَان حَتَّى قُتِلَ آخِرُهُمْ.
الْمُهِمُّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَن يَقْتُلَهُمْ، لَيْسَ عَجْزًا وَلَكِنْ خَوْفًا عَلَى الْأُمَّةِ.
* مَعْرَكَةُ صِفِّينَ(1) (سَنَةَ 37):
كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ امْتَنَعَ عَنِ الْمُبَايَعَةِ لِعَلِيٍّ حَتَّى يَتِمَّ الْقِصَاصُ لِعُثْمَانَ فَلَمَّا انْتَهَى عَلِيٌّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ قَالَ: لَابُدَّ أَنْ يُبَايِعَ مُعَاوِيَةُ الْآنَ، وَجَهَّزَ الْجَيْشَ لِمُقَاتَلَةِ مُعَاوِيَةَ أَوْ يُبَايِع، فَخَرَجَ عَلِيٌّ بِجَيْشٍ قِوَامُهُ مِئَةُ أَلْفٍ إِلَى صِفِّينَ فِي الشَّامِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُعَاوِيَةُ بِخُرُوجِ عَلِيٍّ إِلَى قِتَالِهِ صَعِدَ الْمِنْبِرَ وَقَالَ: إِنَّ عَلِيًّا نَهَدَ إِلَيكُم فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَمَا الرَّأْيُ؟ فَضَرَبَ النَّاسُ بِأَذْقَانِهِم عَلَى صُدُورِهِم(2) فَقَامَ ذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ فَقَالَ: عَلَيْكَ الرَّأْيُ وَعَلَيْنَا الْفِعَالُ، وَالنَّاسُ سُكُوتٌ.
وصَعِدَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حِمدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ نَهَدَ إِلَيْكُمْ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَمَا الرَّأْيُ؟ فَأَضَبَّ أَهْلُ
________________________________
(1) « صِفِّين »: قرب الرّقة بِجَانِب نهر الْفرات. وَهِيَ حاليا فِي سوريا.
(2) يَعْنِي نزّلوا رُءُوسهم لَنم يرفع إِلَيْهِ أَحَد طَرْفَهُ.
(3) يَعْنِي ارتفعت أَصْوَاتُهم.
الْمَسْجِدِ(1)، يَقُولُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّأْيُ كَذَا... الرَّأْيُ كَذَا.
فَلَمْ يَفْهَمْ عَلِيٌّ كَلَامَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ تَكَلَّمَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَنَزَلَ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(2).
فَذَاكَ حَالُ أَهْلِ الشَّامِ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ طَاعَةٍ وَأَهْلَ جَلَدٍ، وَأهلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَهْلَ فَوْضَى كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمُ الَّذِينَ بَعْدَ ذَلِكَ قَاتَلُوا عَلِيًّا وَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
وَصَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى صِفِّينَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ فِي صَفَرَ.
وَكَانَ قِتَالُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي صِفِّين وَالْجَمَلِ عَنْ رَأْيٍ رَآهُ وَاجْتِهَادٍ تَبَنَّاهُ.
فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِه عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادِ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِكَ هَذَا أَعَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ رَأْيٌ رَأَيْتَهُ؟
قَالَ: ماعَهِدِ إِليَّ رَسُولُ اللهِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ(3).
هَلْ نَازَعَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْخِلَافَةِ؟
عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ
________________________________
(1) « تَارِيخ الْإِسْلَامِ » (ص 540) عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين.
(2) أَخْرَجَهُ أَبُو داود فِي كِتَاب السّنة بَاب مَا يَدُلُّ عَلَى ترك الْكَلَام فِي الْفِتْنَة ح 4666.
تُنَازِعُ عَلِيًّا، أَأَنْتَ مِثْلُهُ؟
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا أَطْلُبُ بِدَمِه، فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ فَلْيَدْفَعْ إِلَيَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَأُسَلِّمُ لَهُ الْأُمُورَ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَكَلَّمُوهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْفَعِ الْقَتَلَةَ(1).
فَمُعَاوِيَةُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَمْ يُنَازِعْ عَلِيًّا الْخِلَافَة أَبَدًا، وَلِذلِكَ لَمَّا تَنَازَعَا كَمَا سَيَأْتِي وَصَارَ التَّحْكِيمُ وَكَتَبَ هَذَا مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤمِنينَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لَا تَكْتُبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ، لَوْ بَايَعْتُكَ عَلَى أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ مَا قَاتَلْتُكَ، وَلَكِنِ اسْمَكَ وَاسْمِي فَقَطْ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْكَاتِبِ وَقَالَ: اكْتُبِ اسْمَهُ قَبْلَ اسْمِي لِفَضْلِهِ وَسَابِقَتِه فِي الْإِسْلَامِ(2).
ولم يَكُنِ الْقِتَالُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قِتَالًا بَيْنَ خَلِيفَةٍ وَخَلِيفَةٍ أَبَدًا، وَلَكِنَّ الْقِتَالَ سَبَبُه أَنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَ مُعَاوِيَةَ، وَمُعَاوِيَةُ رَافِضٌ لِلْعَزْلِ حَتَّى يُقْتَلَ قَتَلَةُ ابْنِ عَمِّهِ أَوْ يُسَلَّمُون إِلَيْهِ فَلَمْ يَكُنِ الْمَوْضُوعُ الْخِلَافَةَ كَمَا يُشَاعُ.
وكَانَ عَدَدُ جَيْشِ عَلِيٍّ مِئَةَ أَلْفٍ وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ مُعَاوِيَةَ سَبْعِينَ
________________________________
(1) « تَارِيخ الْإِسْلَامِ » (ص540) عهد الْخُلفَاء الرَّاشِدين، وَسنده صَحِيح.
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/288).
أَلْفًا، وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَكَانَ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِعَمَّارٍ: « يَا عَمَّارُ سَتَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيةُ »(1).
قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل رَحِمَهُ اللهُ: حَدِيثُ « تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ؟ ». قَالَ: لَا أَتَكَلَّمُ فِيهِ، تَرْكُه أَسْلَمُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلَتْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيةُ، وَسَكَتَ(2).
مَعَ مَنْ كَانَ الْحقُّ؟
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: « ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى تَصْوِيبِ مَنْ قَاتَلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا كَانُوا بُغَاةً، وَمَعَ هَذَا التَّصْوِيبِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ: اجْتَهدُوا فَأَخْطَئُوا »(3).
وقَالَ: « اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسَببِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَلَوْ عُرِفَ الْمُحِقُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ »(4).
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الصَّلَاة، بَاب التّعاون فِي بناء الْمَسْجِد، حَدِيث (447)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الْفِتْنَة، بَاب لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبرِ الرَّجُلِ..، حَدِيث (2915).
(2) « السُّنَّة » للخلَّالِ (ص 463 ر قم 722).
(3) « فَتْح الْبَارِي » (13/72).
(4) « فَتْح الْبَارِي » (13/37).
وقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَقْوِيَةِ مَذْهَبِ مَنْ نَاصَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْهُرُوبُ مِنْهُ بِلُزُومِ الْمَنَازلِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ وَلَوَجَدَ أَهْلُ الْفُسُوقِ سَبِيلًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ »(1).
قُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إِذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَلَكِن إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُشْتَبِهَةً لَزِمَ الِابتِعَادُ، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ الْكَثِيرُ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ.
إِذَنْ: فَالَّذِي يَجِبُ أَن نَعْتَقِدَهُ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ وَكَذَلِكَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ إِنَّما قَاتَلُوا عَنِ اجْتِهَادٍ، وَالْأَمْرُ كَانَ فِتْنَةً، وَمَعْرَكَةُ الْجَمَلِ بِالذَّاتِ لَمْ تَكُنْ عَنِ اسْتِعْدَادٍ لِقِتَالٍ وَلَم يَكُونُوا يُرِيدُونَ الْقِتَالَ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ الْجُمْهُورِ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلةِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيًّا بَدَأَهُمُ الْقِتَالَ؟
قِيلَ لَهُ: وَهُمْ أَوَّلًا امْتَنعُوا عَنْ طَاعَتِه، وَمُبَايَعتِه، وَجَعَلُوه ظَالِمًا مُشَارِكًا فِي دَمِ عُثْمَانَ، وَقَبِلوا عَلَيْهِ شَهَادَةَ الزُّورِ(2).
قُلْتُ: أُشِيعَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ.
________________________________
(1) « فَتْح الْبَارِي » (13/37).
(2) « مِنْهَاج السُّنَّةِ » (4/410).
وَرَاجَتْ هَذِهِ الْإِشَاعَةُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ لِأَرْبَعةِ أُمُورٍ:
1- عَدَمُ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ.
2- مَعْرَكَةُ الْجَمَلِ.
3- تَرْكُ الْمَدِينَةِ وَالسَّكَنُ بِالْكُوفَةِ، وَالكُوفَةُ هِيَ مَعْقِلُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ.
4- أَنَّ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِقَتْلِ عُثْمَانَ.
لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَقَعَ الشَّكُّ عِنْد أَهْلِ الشَّامِ (عِنْدَ الْجَهَلَةِ مِنْهُمْ) أَنَّ لعَلِيٍّ يَدًا فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ لِعَليّ يَدٌ بلْ كَانَ يَلْعَنُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، فإِنْ قِيلَ: هَذَا وَحْدَهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ قِتَالَهُمْ. قِيلَ: إِنَّهُ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، بَلْ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَتَرَكَهُ إِمَّا مُتَأَوِّلًا أَوْ مُذْنِبًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِتَفْريقِ الْجَمَاعَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ بَيْعَتِه، بَلْ كَانَتْ مُبَايَعَتُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمينَ(1).
مَنْ مِنَ الصَّحَابَةِ شَهِدَ تِلْكَ الْمَعَارِكَ؟
الصَّحَابَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا « الْجَمَلَ »، أَوْ « صِفِّينَ » هُمْ: عَلِيٌّ، الزُّبَيْرُ، طَلْحَةُ، عَائِشَةُ، ابْنُ الزُّبَيْرِ، الْحَسَنُ، الْحُسَيْنُ، عَمَّارٌ، ابْنُ عبَّاسٍ، مُعَاوِيَةُ، عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، الْقَعْقَاعُ
________________________________
(1) « مِنْهَاج السُّنَّةِ » (4/411).
ابْنُ عَمْرٍو، جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَبُو قَتَادَةَ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْن التَّيِّهَانِ، سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، فُضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ.
وَالَّذِينَ امْتَنَعُوا وَلَمْ يُشَارِكُوا هُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، مُحمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَبُو هُرَيْرَةَ، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَبُو بَكْرَةَ الثَّقَفِيُّ، الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، أُهْبَانُ بْنُ صَيْفِيٍّ، سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، بَلْ جُلُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.
* قِصَّةُ التَّحْكِيمِ:
وانْتَهَتْ مَعْرَكَةُ صِفِّينَ بِالتَّحْكِيمِ، أَيْ: تَوقَّفُوا عَنِ الْقِتَالِ بأَنْ رُفِعَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى الرِّمَاحِ، وَرَضِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالتَّحْكِيمِ، وَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ وَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الشَّامِ عَلَى أَن يَكُونَ التَّحْكِيمُ فِي رَمَضَانَ، وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ أَبَا مُوسَى الْأشْعَرِيَّ، وَأَرْسلَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ.
وَقِصَّةُ التَّحْكِيمِ الْمَشْهُورَةِ هِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ اتَّفَقَ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى عَزْلِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَصَعِدَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: أَنَا أَنْزِعُ عَلِيًّا مِنَ الْخِلَافَةِ كَمَا أَنْزِعُ خَاتَمِي هَذَا، ثُمَّ نَزَعَ خَاتَمَهُ، وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَقَالَ: وَأَنَا أَنْزِعُ عَلِيًّا كَذَلِكَ كَمَا نَزَعَهُ أَبُو مُوسَى وَكَمَا أَنْزِعُ خَاتَمِي هَذَا، وَأُثبِّتُ مُعَاوِيَةَ كَمَا أُثَبِّتُ خَاتَمِي هَذَا.
فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَخَرَجَ أَبُو مُوسَى غَاضِبًا وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى عَلِيٍّ فِي الْكُوفَةِ، وَرَجَعَ عَمْرُو بْن الْعَاصِ إِلَى الشَّامِ(1).
هَذِهِ الْقِصَّةُ مُزَوَّرَةٌ مَكْذُوبَةٌ، بَطَلُهَا أَبُو مِخْنَفٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. وَالْقِصَّةُ الصَّحِيحَةُ كَمَا رَوَاهَا أَهْلُ الْحَقِّ: وَهِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْتَقَى مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: مَا تَرَى فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ أَبُو مُوسَى: أَرَى أَنَّهُ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ(2)، فَقَالَ عَمْرُ وَبنُ الْعَاصِ: فَأَينَ
________________________________
(1) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (4/51)، وَ« الْكامل فِي التَّارِيخ » (3/168).
وعَمْرو بْن الْعَاصِ: صحابي جليل هَاجَر طوعا لَا كرهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمُهَاجِرِينَ نفاق لعدم الْحَاجَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاق فِي أَهْل الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَن أشراف مَكَّة وَكُبَرَاءهَا كَانُوا كفارا وَكَانَ الْمؤمن يؤذى فأنى يتأتى النِّفَاق؟! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ابْنا الْعَاصِ مؤمنان عَمْرٌو وَهِشَام » رَوَاه أَحْمَد (2/304).
(2) يقصدُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
تَجْعَلُنِي أَنَا وَمُعَاوِيَةَ؟ قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنْ يَسْتَعِنْ بِكُمَا فَفِيكُمَا الْمَعُونَةُ، وَإِنْ يَسْتَغْنِ عَنكُمَا فَطَالَمَا اسْتَغْنَى أَمْرُ اللهِ عَنكُمَا(1). ثُمَّ انْتَهَى الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِهذَا الْخَبَرِ وَرَجَعَ أَبُو مُوسَى إِلَى عَلِيٍّ بِهِ.
والرِّوَايَةُ الْأُولَى لَاشَكَّ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: السَّنَدُ ضعِيفٌ فِيهِ أَبُو مِخْنَفٍ الْكَذَّابُ.
ثَانِيًا: خَلِيفَةُ الْمُسْلِمينَ لَا يَعْزِلُهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، إِذْ لَا يُعْزَلُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ السُّهُولَةِ.
فَكَيْفَ يَتَّفِقُ رَجُلَانِ عَلَى عَزْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، هَذا كَلَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي التَّحْكِيمِ هُوَ أَنَّهُما اتَّفَقَا عَلَى أَن يَبْقَى عَلِيٌّ فِي الْكُوفَةِ وَهُوَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمينَ وَأَنْ يَبْقَى مُعَاوِيَةُ فِي الشَّامِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَأَنْ تَتَوَقَّفَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا.
ثَالِثًا: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
* مَعْرَكَةُ النَّهرَوَانِ (سنة 38 هـ):
رَجعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الْكُوفَة، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَكَانُوا قَدْ
________________________________
(1) انْظُرْ تَفْصِيلَ قَضِيَّةِ التَّحْكِيمِ فِي كِتَاب « مَرْوِيَّات أَبِي مِخنَفٍ فِي تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » وَقَدْ عزاه إِلَى « التَّارِيخِ الْكَبِير » (5/398). وَانْظُرْ « تارِيخ دِمَشقَ » (46/175) - تَرْجَمَة: عَمْرو بْن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
رَفَضُوا التَّحْكِيمَ وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ، وَبَدَءُوا يُشَغِّبُونَ عَلَى عَلِيٍّ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُونَ وَيَصِيحُونَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ.
وكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: « كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ »(1).
* ثُمَّ بَعْدَ ذَلِك قَتَلُوا الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ خَبَّابِ، وَقَتَلُوا زَوْجَتَهُ وَبَقَرُوا بَطْنَهَا وَكَانَتْ حَامِلًا مُتِمَّةً(2) فِي شَهْرِهَا، فَلمَّا بَلَغَ الْأَمْرُ عَلِيًّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كُلُّنا قَتَلْنَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِجَيْشٍ قِوَامُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ فَقَتَلَهُم فِي النَّهْرَوَانِ.
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهَا جُلُوسٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ لَيَالِيَ قُتِلَ عَلِيٌّ فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ شَدَّادٍ هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ؟ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ؟
قَالَ: وَمَا لِي لَا أَصْدُقُكِ!
قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ.
قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ، فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا « حَرُورَاءُ » مِنْ
________________________________
(1) وَذهبت مَثَلًا.
(2) يَعْنِي فِي الشّهر التّاسع.
جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللهُ تَعَالَى، وَاسْمٍ سَمَّاكَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللهِ الرِّجَالَ، وَلَا حُكْمَ إِلَّا لِلهِ تَعَالَى.
فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، أَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا امْتَلَأَتِ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا الْمُصْحَفُ! حَدِّثِ النَّاسَ!
فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ؟ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ! وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْهُ! فَمَاذَا تُرِيدُ؟
قَالَ: أَصْحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا، بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: [ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا] {النساء: 35}.
فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ.
وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ « كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ »(1).
وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
________________________________
(1) يُرِيدُ أَنَّهُمْ نقَموا عَلَيْهِ أَنَّهُ كتبَ اسمَهُ مُجردًا عَنْ إِمرَةِ الْمُؤمِنِينَ.
الرَّحِيمِ » فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا تَكْتُبْ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »، فَقَالَ: كَيْفَ نَكْتُبُ؟ فَقَالَ: اكْتُبْ « بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ »، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاكْتُبْ « مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ».
فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ أُخَالِفْكَ. فَكَتَبَ: « هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قُرَيْشًا »، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ]. {الْأحزاب: 21}.
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطْنَا مُعَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ إِنَّ هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أُعَرِّفُهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا يَعْرِّفُهُ بِهِ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ: [وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] {الرخرف: 58}.
فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللهِ.
فَقَامَ خُطَبَاؤُهُمْ فَقَالُوا: وَاللهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ كِتَابَ اللهِ، فَإِنْ جَاءَ بِحَقٍّ نَعْرِفُهُ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَإِنْ جَاءَ بِبَاطِلٍ لَنُبَكِّتَنَّهُ بِبَاطِلِهِ. فَوَاضَعُوا عَبْدَ اللهِ الْكِتَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ كُلُّهُمْ تَائِبٌ، فِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ، حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ الْكُوفَةَ(1). فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى بَقِيَّتِهِمْ،
________________________________
(1) « مستدرك الْحاكم » (2/150).
فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ النَّاسِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَقِفُوا حَيْثُ شِئْتُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمُ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ شَدَّادٍ، فَقَدْ قَتَلَهُمْ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَطَعُوا السَّبِيلَ وَسَفَكُوا الدَّمَ وَاسْتَحَلُّوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَقَالَتْ: آاللهِ؟
قَالَ: آاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كَانَ، قَالَتْ: فَمَا شَيْءٌ بَلَغَنِي عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَتَحَدَّثُونَهُ، يَقُولُونَ ذُو الثُّدَيِّ وَذُو الثُّدَيِّ؟
قَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ وَقُمْتُ مَعَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلَى، فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ جَاءَ يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي، وَرَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي، وَلَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِثَبَتٍ يَعْرِفُهُ إِلَّا ذَلِكَ، قَالَتْ: فَمَا قَوْلُ عَلِيٍّ حِينَ قَامَ عَلَيْهِ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْعِرَاقِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، قَالَتْ: هَلْ سَمِعْتَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَتْ: أَجَلْ، صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَرْحَمُ اللهُ عَلِيًّا، إِنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَا يَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ إِلَّا قَالَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَيَذْهَبُ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ وَيَزِيدُونَ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « الْمُسْند » (رقم 656) بتَحْقِيق أَحْمَد شاكر، وَقَالََ: « إِسْنَاده صَحِيح ».
عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ(1).
وَكَانَ عَدَدُ الْخَوَارِجِ أَلْفَ رَجُلٍ فَقَتَلَهُمْ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ جَيْشِ عَلِيٍّ إِلَّا أَرْبَعَةٌ أَوْ سَبْعَةٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ(2).
وكَانَ بَيْنَهُمْ الْمُخَدَّجُ ذُو الثُّدَيَّةِ الَّذِي رَآهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَانَ رَسُولُ اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْرُجُ فِرْقَةٌ عَلَى حِينِ اخْتِلَافٍ بَيْن الْمُسْلِمينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتينِ بالحَقِّ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ فِيهِمْ ذَا الثُّدَيَّةِ(3)، فَصَارَ عَلِيٌّ يَبْحَثُ عَنْهُ فِي الْقَتْلَى حَتَّى وَجَدَهُ، فَلَمَّا وَجَدَه سَجَدَ للهِ شُكْرًا(4) إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى الْحقِّ.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/298).
(2) « مسلِم »، كِتَاب الزَّكَاة، بَاب ذكر الْخَوَارِج الْحَدِيث (064 1/148) وَمَا بعده، وَانْظُرْ « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب علامات النُّبُوَّة، حَدِيث (3610).
(3) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « الْمُسْند » (2/154 رقم 848) بتَحْقِيق أَحْمَد شاكر، وَقَالََ: « إِسْنَاده صَحِيح ».
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: مقْتلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِين عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَنَةَ 40 هـ
حِينَ هَدَأَتِ الْأُمُورُ قَلِيلًا بَعْدَ مَعْرَكَةِ النَّهْرَوَانِ بِفَتْرَةٍ تُقَارِبُ السَّنَتَيْنِ، انْتَدَبَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَاجْتَمَعُوا بِمَكَّةَ وَتَعَاقَدُوا لَيَقْتُلُنَّ عَلِيِّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيانَ، وَعَمْرَوَ بْنَ الْعَاصِ.
قَالُوا: نَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِقَتْلِ هَؤُلَاء الثَّلَاثَةِ (وَذَلكَ لِيُرِيحُوا الْعِبَادَ مِنْهُمْ كَمَا يَزْعُمُونَ)، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيُّ: أَنَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ الْبَرْكُ التَّمِيمِيُّ: أَنَا لِمُعَاوِيَةَ، أَمَّا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: أَنا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْد سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ رَمَضَانَ.
وَكَانَ عَمْرٌو فِي مِصْرَ، وَمُعَاوِيَةُ فِي الشَّامِ، وَعَلِيٌّ فِي الْكُوفَةِ، فَطَعَنَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا، وَهُوَ خَارِجٌ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِخِنْجَرٍ قَدْ سَمَّهُ أُسْبُوعًا، وَقَالَ عَلِيٌّ لَمَّا طُعِنَ إِنْ أَنَا شُفِيْتُ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِنْ أَنَا مِتُّ فَاقْتُلَاه بِي (يُخَاطِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ).
فَقَالَ ابْنُ مُلْجِمٍ: لَا وَاللهِ فِإِني سَمَمْتُهُ جُمُعَةً (يُرِيدُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ).
فَلَمَّا مَاتَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَاءُوا فَقَطَعُوا يَدَيِ ابْنِ مُلْجِمٍ وَسَمَلُوا عَينَيْهِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَمْ يَجْزَعْ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَطْعَ لِسَانِهِ خَافَ قَالُوا: الْآنَ؟ قَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَعِيشَ فَتْرةً لَا أَذْكُرُ اللهَ فِيهَا!.
سُبْحانَ اللهِ!! هَذَا هُوَ الضَّلَالُ الْمُبِينُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، يَسْتَبِيحُ دَمَ وَلِيٍّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ يَخْشَى أَنْ تَمُرَّ عَلَيْهِ لَحْظَةٌ لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا!.
وخَرَجَ الْبَرْكُ لِمُعَاوِيَةَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَضَرَبَهُ وَلَكِنْ أَصَابَهُ وَلَم يَقْتُلْهُ، وَعُولِجَ وَلكِنْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا فِي قَطْعِ نَسْلِهِ.
وَالَّذِي أَرَادَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أُصِيبَ بِإِسْهَالٍ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَتَلَ الْإِمَامَ يَظُنُّهُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ الْإِمَامُ خَارِجَةَ بْنَ أَبِي حَبيبٍ فَجَاءَ وَضَرَبَه فَقَتَلَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَأَمْسَكُوهُ قَالُوا: مَاذَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالُوا: مَا قَتَلْتَ عَمْرًا وَإِنَّما قَتَلْتَ خَارِجَةَ.
قَالَ: أَرَدْتُ عَمْرًا وَأَرَادَ اللهُ خَارِجَةَ(1)، فَقُتِلَ وَقُتِلَ الْبَرْكُ وَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجِمٍ(2).
________________________________
(1) وَصارت هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيمَا بَعْد مَثَلًا شائعًا.
(2) « الطَّبَقَات الْكُبْرَى » (3/35)، « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/338).
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: سَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
الْمَشْهُورُ: أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ خَرَجُوا لِلِانْتِقَامِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَنْهُمْ.
أَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَخَذَ الْخِلَافَةَ عَزَلَ بَعْضَ الْوُلَاةِ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُثْمَانُ وَهُمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْعَزْلُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَفَضَ الْعَزْلَ، وَقَالَ: مِمَّن أُعْزَلُ؟ قَالُوا: مِن عَلِيٍّ.
قَالَ: وَأَيْنَ قَتَلَةُ ابْنِ عَمِّي؟ أَيْنَ قَتَلةُ عُثْمَانَ؟
قَالُوا لَهُ: بَايِعْ، ثُمَّ طَالِبْ بِقَتَلَةِ عُثْمَانَ.
قَالَ: لَا. بَلْ يُسَلِّمُنِي قَتَلَةَ عُثْمَانَ، ثُمَّ أُبَايِعُهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى قُوَّةٍ فِي الشَّامِ، وَأَنَّه لَنْ يُفَرِّطَ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُه لِلِانْتِقَامِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: لَا أُبَايِعُ حَتَّى يُقْتَلَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ يَقُولُ تُبَايِعُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ.
فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هُوَ فِي أَيِّهمَا قَبْلُ:
عَلِيٌّ يَرَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُبَايِعَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي أَمْرِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ عِنْدَمَا تَهْدَأُ الْأُمُورُ وَيَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ.
ومُعَاوِيَةُ كَانَ يَرَى الْعَكْسَ إِذْ كَانَ يَرَى أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ هُوَ قَتْلُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي مَوْضُوعِ الْخِلَافَةِ.
فَالْخِلَافُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ هُوَ خِلَافُ أَوْلَوِيَّاتٍ، وَكَانَ رَأْيُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ مِنْ رَأْيِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ بِقَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ مِنْ جِهَةٍ وَمُعَاوِيَةَ مِنْ جِهةٍ أُخْرَى أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ بَايعَا وَمُعَاوِيَةَ لَمْ يُبَايعْ بَعدُ.
مَوْقِفُ الصَّحَابَةِ مِنْ تِلكَ الْمَعَارِكِ:
اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى ثَلَاثِ طَوَائِفَ:
الطَّائِفَةُ الْأُولَى: طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ، تَرَىَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْجِيلُ بِقَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ.
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ، تَرَى هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَجِبُ أَن يَكُونَ وَيُحْسَمَ هُوَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ، وَتَأْجِيلُ النَّظَرِ فِي مَوْضُوعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ.
الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: وَيُمِثِّلُهَا سَعْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمُحمَّدُ بْنُ مَسْلَمةَ، وَالْأَحْنَفُ، وَأُسَامَةُ، وَأَبُو بَكْرَةَ الثَّقَفيُّ، وَجُلُّ الصَّحَابَةِ. تَرَى هَذِهِ الطَّائِفَةُ اعْتِزَالَ الْجَمِيعَ.
وسَبَبُ هَذِهِ الاخْتِلَافَاتِ: أَنَّ الْأُمُورَ كَانَتْ مُشْتَبِهَةً وَالوَقْتُ كَانَ وَقْتَ فِتْنَةٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَدَبَّرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَيَتَبَيَّنَ حَقِيقَتَهُ بِوُضُوحٍ(1).
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: « إِنَّ الطَّبَرِيَّ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحيحٍ عَن
________________________________
(1) وَلنا فِي غزو الْكويت فِي التَّارِيخ الْحَدِيث شاهد قَرِيب عَلَى اخْتِلَافِ الْآراء وَاضطراب الْأَمْرِ فِي فِتْنَة أودت بالكَثِيرِ مِنَ الْحكماءِ بله النَّاس الْعاديين.
الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيْتُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ بَعْدَ حَصْرِ عُثْمَانَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرَانِي فَإِنِّي أَرَاهُ مَقْتُولًا؟ قَالَا: عَلَيْكَ بِعَلِيٍّ. وَلَقِيْتُ عَائِشَةَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ فِي مَكَّةَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرِينِي؟ قَالَتْ: عَلَيْكَ بِعَلِيٍّ(1).
ولَمَّا خَرَجَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ إِلَى مَعْرَكَةِ الْجَمَلِ لَقِيَهُمُ الْأَحْنَفُ فَقَالَ لَهُم: وَاللهِ لَا أُقَاتِلُكُم وَمَعَكُم أُمُّ الْمُؤْمِنينَ، وَلَا أُقَاتِلُ رَجُلًا أَمَرْتُمُونِي بِبَيْعَتِهِ(2).
وقَدَ مَرَّ بِنَا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَليٍّ: يَا عَلِيُّ إِنَّهُ سَيكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائشَةَ أَمْرٌ فَارْفُقْ بِهَا. قَالَ عَلِيٌّ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا(3).
* مَوْقِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلجِمٍ، وَقَتَلَةِ عُثْمَانَ وَقَاتِلِ الزُّبَيْرِ، وَقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ، وَأَمثَالِهمْ:
قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: « ابْنُ مُلْجِمٍ عِنْدَنا مِمَّنْ نَرْجُو لَهُ النَّارَ، وَنُجَوِّزُ أَنَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ، وَحُكْمُهُ هُوَ حُكْمُ قَاتِلِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ
________________________________
(1) وَالَّذِي يظهرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أنّ (طَلحَةَ وَالزّبَيرَ وَعَائِشَةَ) مَا كَانُوا ينقمون عَلَى (عليٍّ ) الْخِلَافَةَ أَبَدًا، إِذْ هُمْ بَايعوه عَلَى الْخِلَافَةِ وَأمروا (الْأَحْنَفَ) بمُبَايعته، وَكلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أنّهم اجتهدوا فِي مَعرفةِ مَا يَجِبُ أَن يقوموا بِهِ أولًا.
(2) « فَتْح الْبَارِي » (13/38)، وَانْظُرْ « تَاريخ الطَّبَرِيّ ».
(3) رَوَاه أَحْمَد (6/393) وَقَالَ الْحَافِظُ فِي « الْفَتْح » (13/0 6) سنده حسن.
الزُّبَيْرِ، وَقَاتِل طَلْحَةَ، وَقَاتِلِ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، وَقَاتِلِ عَمَّارٍ، وَقَاتِلِ خَارِجَةَ، وَقَاتِلِ الْحُسَيْنِ(1)، فَكَلُّ هَؤُلَاءِ نَبْرَأُ مِنْهُمْ وَنُبْغِضُهُمْ فِي اللهِ وَنَكِلُ أُمُورَهُمْ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى »(2).
* أَيْنَ الْحَقُّ فِيمَا وَقَعَ بَيْن الصَّحَابَةِ؟
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَّارٍ « تَقْتُلُه الْفِئَةُ الْبَاغِيةُ »(3).
وقَالَ عَنِ الْخَوَارِجِ: « يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُم أَوْلَى الطَّائِفَتَينِ بِالْحَقِّ »(4).
فَالْحَدِيثَانِ صرِيحَانِ فِي أَنَّ الْحَقَّ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: « أَقْرَبُ الطَّائِفَتَينِ إِلَى الْحَقِّ ».
فالحَدِيثَانِ يَنُصَّانِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَقْرَبَ لِلْحَقِّ مِنْ مُخَالِفِيهِ فِي الْجَمَلِ، وَكَذَلِكَ فِي صِفِّينَ، وَلَكِن لَمْ يُصِبِ الْحَقَّ كُلَّهُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ) (الْأَوْلَى بِالْحَقِّ)، لَا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ كُلِّهِ. وَلَيْسَ هَذَا طَعْنًا فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَكِن لِبَيَانِ أَنَّ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنِ الْمُشارَكَةِ فِي الْفِتْنَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى
________________________________
(1) هَؤُلَاءِ حكمُهم وَاحِد؛ لَا يَخْرُجُون مِنَ الْملّةِ، وَلَكِن لَا شكَّ أنّهم فسقة مجرمون إِلَّا مَن تابَ مِنْهُمْ.
(2) « تَارِيخ الْإِسْلَامِ » (645) عصر الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فِي تَرْجَمَة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن ملجم.
(3) سبق تخريجه فِي مَعْرَكَة صِفِّينَ ص (187).
(4) سبق تخريجه فِي الْكَلَام عَلَى مَعْرَكَة النّهروان ص (203).
الحَقِّ كُلِّه، فَالسَّلَامَةُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَتْ فِي الْإِمْسَاكِ عَنِ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ نَدِمَ عَلِيٌّ لَمَّا رَأَى طَلْحَةَ قَتِيلًا، وَقَالَ: « لَيتَنِي مِتُّ قَبْلَ عِشْرِينَ سَنةً »(1).
ولَمَّا جَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ صِفِّينَ، وَكَلَّمَ عَلِيًّا بِالَّذِي حَدَثَ قَالَ: « وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ »(2).
ونَدِمُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي تِلْكَ الْمَعَارِكِ.
وَلَقَدْ أَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ وَقَالَ: « إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلمِينَ »(3).
فَأَثْنَى عَلَيْه لِلصُّلْحِ، وَلَمْ يُثْنِ عَلَى عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ قَاتَلَهُمْ.
والثَّنَاءُ عَلَى عَلِيٍّ كَانَ لِقتَالِهِ أَهْلَ « النَّهْرَوَانِ »، فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ كُلَّهُ فِي قِتَالِهِ لِلْخَوَارِجِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْزَنْ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِمْ، بَلْ فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ.
وعَليٌّ سَجَدَ للهِ شُكْرًا لَمَّا قَتَلَ أَهْلَ النَّهرَوَانِ، وَلَكِنَّهُ بَكَى لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ، وَحَزِنَ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ صِفِّينَ.
________________________________
(1) سبق تخريجه فِي مَعْرَكَة الْجَمَلِ ص (181).
(2) وَانْظُرْ مُصَنَّف ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بَاب مَا جَاءَ فِي صفين.
(3) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْن، حَدِيث (3746).
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
سَنَةِ 40 هـ إِلَى 41 هـ
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
* أَزْوَاجُهُ:
1- خَوْلَةُ بِنْتُ مَنْظُورٍ.
2- أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ أَبِي مَسْعُودٍ.
3- أُمُّ إِسْحَقَ بِنْتُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ
والْمَشْهُورُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ كَثِيرًا وَطَلَّقَ كَثِيرًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ:
فَالذُّكُورُ: الْحَسَنُ- زَيْدٌ- طَلْحَةُ- حُسَيْنٌ- عَبْدُ اللهِ- أَبُو بَكْرٍ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ- الْقَاسِمُ- عَمْرٌو- مُحَمَّدٌ.
الْإِنَاثُ: أُمُّ الْحَسَنِ- أُمُّ عَبْدِ اللهِ.
* فَضَائِلُه:
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبرِ وَالْحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَإِلَيْهِ مَرَّةً وَ يَقُولُ: « ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ »(1).
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُه وَالْحَسَنَ، وَيَقُولُ:
________________________________
(1) الْبُخَارِيّ: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة: بَاب فَضَائِل الْحَسَن وَالْحُسَيْن (3746) وَانْظُرْ: « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (7/245).
« اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا »(1).
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَمَلَ الْحَسَنَ وَهُوَ يَقُولُ: « بِأَبِي شَبِيهٌ بالنَّبِيِّ لَيْسَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ » وَعليٌّ يَضحَكُ(2).
* وَفَاتُهُ:
وتُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خِلالَ فَتْرةِ حُكْمِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ 49 هـ.
قَالَ عُميْرُ بْنُ إِسْحَقَ: دَخَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَعُودُهُ، فَقَالَ لِصَاحِبي: يَا فُلَانُ، سَلْنِي؟
قَالَ: مَا أَنَا بِسَائِلِكَ شَيْئًا. ثُمَّ قَامَ مِن عِنْدِنَا فَدَخَلَ كَنِيفًا لَهُ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ، سَلْنِي قَبْلَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي، فَإِنِّي وَاللهِ قَدْ لَفَظْتُ طَائِفَةً مِنْ كَبِدِي قَبْلُ قَلَّبْتُهَا بِعُودٍ كَانَ مَعِي، وَإِنِّي قَدْ سُقِيْتُ السُّمَّ مِرَارًا، فَلَم أُسْقَ مِثْلَ هَذَا فَسَلْنِي.
فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَائِلِكَ شَيْئًا، يُعَافِيكَ اللهُ إِنْ شَاءَ اللهُ.
ثُمَّ خَرجْنَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَتيْتُهُ وَهُوَ يَسُوقُ، فَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَيْ أَخِي: أَنْبِئْنِي مَنْ سَقَاكَ.
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب ذكر أُسَامَة ح 3735.
(2) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة: بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْن حَدِيث (3750) وَفِي بَاب صفة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3542).
قَالَ: لِمَ؟ أَتقْتُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: مَا أَنَا بِمُحَدِّثِكَ شَيْئًا، إِنْ يَكُ صَاحِبِي الَّذِي أَظُنُّ فَاللهُ أَشَدُّ نِقْمَةً، وَإِلَّا فَوَاللهِ لَا يُقْتَلُ بِي بَرِيْءٌ(1).
وقِيلَ: أَنَّ الَّتِي سَقَتْهُ السُّمَّ زَوْجَتُهُ جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ وَلَكِنَّه لَمْ يَثْبُتْ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: « هَذَا شَيْءٌ لَا يَصِحُّ فَمَنِ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَيْهِ »(2).
وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: « وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ »(3).
________________________________
(1) « الطَّبَقَات الْكُبْرَى » (ص 335 رقم 294) الطّبقة الْخَامِسة مِنَ الصَّحَابَة تَحْقِيق مُحَمَّد بْن صامل السّلمي.
(2) « تَارِيخ الْإِسْلَامِ »- عهد مُعَاوِيَة- (ص 40).
(3) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/44).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: الْبَيْعَةُ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالْخِلَافَةِ
بَعْدَ مَقْتَلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بَايَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَخَرَجَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّهُمْ إِلَى الْآنَ لَم يَنْزِلُوا عَلَى طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
* الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُصَالِحُ مُعَاوِيَةَ وَيَجْتَمِعُ أَمْرَ الْمُسْلِمينَ:
خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَفِي نِيَّتِهِ الصُّلْحُ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ الْقِتَالَ، بَلْ إِنَّ الْحَسَنَ كَانَ مُعَارِضًا لِخُرُوجُ عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ(1).
وكَانَ مِنْ عَلَامَاتِ إِرَادَتِه لِلصُّلْحِ أَنَّهُ عَزَلَ قَيْسَ بْنَ سَعدِ بْنِ عُبادَةَ عَنِ الْقِيَادَةِ وَجَعَلَ الْقِيَادَةَ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمَا.
فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالكَتَائِبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ آخِرُهَا.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَلَقَدْ سَمْعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ابْنِي هَذَا
________________________________
(1) « مصنف عبد الرّزاق » (5/462).
سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(1).
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحَسَنِ سِجِلًّا قَدْ خُتِمَ فِي أَسْفَلِهِ اكْتُبْ فِيهِ مَا تُرِيدُ فَهُو لَكَ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: بَلْ نُقَاتِلُهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ) عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَإِنَّكَ لَا تَخْلُصُ مِنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ حتَّى يُقْتَلَ عَدَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَمَا خَيْرُ الْحَيَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ؟
وإِنِّي وَاللهِ لَا أُقَاتِلُ حَتَّى لَا أَجِدَ مِنَ الْقِتَالِ بُدًّا.
وَالْتَقَى مُعَاوِيَةُ بِالْحَسَنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَنَازَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِمُعَاوِيَةَ بِالْخِلَافَةِ فَأَصْبَحَ مُعَاوِيَةُ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنينَ، وَسُمِّي هَذَا الْعَامُ عَامَ الْجَمَاعَةِ.
وكَانَ حُكْمُ الْحَسَنِ لِمُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْن، حَدِيث (3746).
الْفَصْلُ السَّادِسُ: خِلَافَةُ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مِنْ سَنَةِ 41 إِلَى 60 هـ
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سُطُورٍ
أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَبْلَ أَبِيهِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ عَامَ الْفَتْحِ(1).
أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ:
1- مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيَّةُ. وَأَنْجَبَتْ لَهُ « يَزِيدَ ».
2- فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ الْمُنَافِيَّةُ.
وَأَنْجَبَتْ لَهُ: « عَبْدَ الرَّحْمَنِ »، وَ« عَبْدَ اللهِ ».
3- نَائِلَةُ بِنْتُ عُمَارَةَ الْكَلْبِيَّةُ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
1- قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ: « اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ »(2).
2- وَقَالَ رَسُولُ اللهِ: اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ وَقِهِ الْعَذَابَ(3)
3- وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ ملْحَانَ قَالَتْ: نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي
________________________________
(1) « تَارِيخ الْإِسْلَامِ » لِلذَّهَبِيِّ- عهد مُعَاوِيَة 308.
(2) أَخْرَجَهُ التّرمذي: كِتَاب الْمَنَاقِب: بَاب مَنَاقِب مُعَاوِيَة (4113)
(3) أَخْرَجَهُ أَحْمَد 4/127.
ثُمَّ اسْتَيقَظَ يَبْتَسِمُ فَقلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟
قَالَ: « أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَليَّ، يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ كَالمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ ».
قَالَتْ: فَادْعُ اللهَ أَن يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَها، ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجَعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: « أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ ».
فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَّمَا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّامَ فَقُرِّبَتْ إِلَيهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ(1).
قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَنْدَلُسِيُّ- أَحَدُ شُرَّ احِ الْبُخَارِيِّ-: « فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ، لأَنّه أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ »(2).
* سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُعَاوِيَةَ؟
فَقَالَ: مَاذَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه » فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ(3).
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْجِهَاد وَالسّير: بَاب فضل مَنْ يصرع فِي سَبِيل اللهِ حَدِيث (2800).
(2) « فَتْح الْبَارِي » (6/120).
(3) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/130).
* وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبارَكِ: أَيُّهُما أَفْضَلُ هُوَ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟
فَقَالَ: « لَتُرَابٌ فِي مِنْخَرَيْ مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ »(1).
* وَسُئِلَ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ مُعَاوِيَةُ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟
فَغَضِبَ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ: « أَتَجْعَلُ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ رَجُلٍ مِنَ التَّابعينَ، مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ، وَصِهْرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ »(2).
* وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكَ فِي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ.
فَقَالَ: إِنَّهُ فَقِيهٌ(3).
* قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: « وَطَمِعَ فِي مُعَاوِيَةَ مَلِكُ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَخْشَاهُ وَأَذَلَّهُ وَقَهَرَ جُنْدَهُ وَدَحَاهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّوَمِ انْشِغَالَ مُعَاوِيَةَ بِحَرْبِ عَلِيٍّ تَدَانَى إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/130).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/130).
(3) « صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، باب: مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْن، حَدِيث (3765).
وطَمِعَ فِيهِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ: وَاللهِ لَئِنْ لَم تَنْتَهِ وَ تَرْجِعْ إِلَى بِلَادِكَ يَا لَعِينُ لَأَصْطَلِحَنَّ أَنَا وَابْنُ عَمِّي عَلَيْكَ وَلأُخْرِجَنَّكَ مِنْ جَمِيعِ بِلادِكَ وَلَأُضَيِّقَنَّ عَلَيْكَ الْأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ وَانْكَفَّ وَبَعَثَ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ »(1).
*وَفَاةُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
تَولَّى مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ وَصارَ خَلِيفَةً مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا حَتَّى سَنَةِ ستِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَكَانَ زَمَنُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَمَنَ فُتُوحَاتٍ وَاسْتِقْرَارٍ.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/119).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: أَهَمُّ الْأَحْدَاثِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
كَانَتْ خِلَافَةُ مُعَاوِيَةَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمينَ إِذِ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْفَوْضَى وَالْقِتَالِ وَانْقَطَعَ طَمَعُ الْأَعْدَاءِ بِاسْتِعَادَةِ مَا أَخَذَه مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمينَ اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَجَّهُوا قُوَّتَهُم لِلْخَارِجِ حَيْثُ رُفِعَتْ رَايَةُ الْجِهَادِ وَعَادَتِ الْفُتُوحَاتُ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ سَيْرَةً حَسَنةً فَقَرَّبَ مَا كَانَ بَعِيدًا وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيَّامِهِ مُعَارِضٌ لَهُ، بَلْ كُلٌّ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ (إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شِرْذِمةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ)، وَاشْتُهِرَ فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ مَا يُسمَّى بالصَّوَائِفِ وَالشَّوَاتِي، وَهِيَ غَزْوُ الشِّتَاءِ وَغَزْوُ الصَّيفِ.
وأَهَمُّ الْأَعْمَالِ فِي زَمَنهِ:
* إِقَامَة دَارٍ لِصِنَاعَةِ السُّفُنِ فِي مِصْرَ سَنَةَ 54 هـ.
* غَزْوُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ 50 هـ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، وَأَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُون مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُم »(1).
وغَزَاهَا مَرَّةً أُخْرَى سَنَةَ 54 هـ، وَحَاصَرَهَا وَاسْتَمَرَّ حِصَارُهَا إِلى سَنَةِ 57 هـ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْجِهَاد: بَاب مَا قِيلَ فِي قِتَال الرُّوم (2924).
وتَمَّ فَتْحُ « تِكْرِيتَ »، « رُودِسَ »، « بَنْزَرْتَ »، « سُوسَةَ »، « سَجِسْتَانَ »، « قُوهِسْتَانَ » وَ « بِلَادِ السَّنْدِ ».
* بِنَاءُ الْقَيْرَوَانِ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ بَعَثَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ فَافْتَتَحَهَا وَاخْتَطَّ قَيْرَوَانَهَا، وَكَانَ مَوْضِعُهُ غَيْضَةً(1). لَا تُرَامُ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَابِّ فَدَعَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى إِنَّ السِّبَاعَ كَانَتْ تَحْمِلُ أَوْلَادَها(2).
* مِنَ الْخِلَافَة إِلَى الْمُلْكِ:
وعِندَما انْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ تَحَوَّلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الْمُلْكِ.
* قَالَ سَفِينَةُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤتِي اللهُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ».
قَالَ سَفِينَةُ: « خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَانِ، وَخِلَافَةُ عُمَرَ عَشْرُ سِنِينَ، وَخِلَافَةُ عُثْمَانَ اثْنَتَا عَشْرَة سَنَةً وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ سِتُّ سِنينَ »(3).
وعِنْدَمَا نَرْجِعُ إِلَى كُتُبِ التَّارِيخِ نَجِدُ أَنَّهُمْ يَذْكُرُوَنَ أَنَّ أَبا بَكْرٍ حَكَمَ
________________________________
(1) مجتمع الشّجر.
(2) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (3/240).
(3) « سُنَن أَبِي دَاوُدَ »، كِتَاب: السّنة، بَاب فِي الْخُلَفَاء، حَدِيث (4646). وَأحمد فِي « مُسْنده » (4/273)، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَعُمَرَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ وَشَهْرَيْنِ، وَعُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَعَلِيًّا أَرْبَعَ سَنَوَاتٍ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَالْحَسَنَ سِتَّةَ أشْهُرٍ، وَمَجْمُوعُهَا ثَلَاثُونَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: « تَنَازلَ الْحَسَنُ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »(1)
* وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَامِرِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمةٌ، ثُمَّ مُلْك أَعْفَرُ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبَرُوتٌ »(2).
وَقَوْلُهُ: « أَوَّلُ دَينِكُم نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ » أَيْ: إِمَامَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، ثُمَّ قَالَ: « مُلْكٌ وَرَحْمةٌ » وَهُوَ عَهْدُ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ « مُلْكٌ أَعْفَرُ » مِنَ « التَّعْفِيرِ » وَهُوَ الِالْتِصَاقُ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ ذَمٌّ لَهُ كَقَوْلِهِمْ: تَرِبَتْ يَدَاكَ وَهُوَ ضِدُّ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، ثُمَّ « مُلْكٌ وَجَبَرُوتٌ » وَ هَذَا يَنْضَبِطُ بِمَا بَعْدَ مُعَاوِيَةَ سَوَاءٌ فِي مُلْكِ « يَزِيدَ » أَوِ الَّذِي بَعْدَ « يَزِيدَ » عَدَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزيزِ.
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/17).
(2) « سنن الدَّارِمِيّ »، كِتَاب الْأشربة، بَاب مَا قِيلَ فِي الْمسكر (2/114)، رجالُهُ ثِقَات إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ إِنَّ مكحولا لَم يسمع مِن أَبِي ثَعلبةَ الْخشنيِّ- راوي الْحَدِيث عَنْ أَبِي عُبَيْدَة.
* وَفَاةُ الْحَسَنِ بْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وتُوُفِّيَ خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَنَة 49 هـ.
* الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
في سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ النَّاسَ أَنْ يُبَايِعُوا لِابْنِهِ يَزِيدَ بَعْدَهُ، وَهُنَا عَدَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْ طَرِيقَةِ مَنْ سَبَقَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْأَمْرَ أَوْ نَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَصَّ عَلَى عُمَرَ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَنَصَّ عَلَى سِتَّةٍ وَأَخْرَجَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ ابْنَ عَمِّهِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللهِ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أَحَدٍ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ وَلَم يَنُصَّ عَلَى أَحَدٍ، وَتَنَازَلَ الْحَسَنُ لِمُعَاوِيَةَ.
فَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: إِمَّا أَنْ تَتْرُكَهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْه أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَاعْهَدْ بالخِلَافَةِ لِرَجُلٍ لَيْسَ مِنْكَ، أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَوْ أَنْ تَتْرُكَ الْأَمْرَ وَالْمُسْلِمُونَ يَخْتَارُونَ، وَلَكِنَّ مُعَاوِيَةَ أَبَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ « يَزِيدَ »(1).
ولَعَلَّهُ عَدَلَ عَنِ الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ لِمَا كَانَ يَتَوجَّسُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ إِذَا جَعَلَهَا شُورَى، وَقَدْ رَأَى الطَّاعَةَ وَالْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الْجَانِبِ الَّذِي
________________________________
(1) رَوَاه خَلِيفَة بْن خَيَّاطٍ فِي طبقاته (ص 52) مِنْ طَرِيق جويرية بِنْت أَسْمَاء عَنْ أشياخ أَهْل الْمَدِينَة.
فِيهِ ابْنُهُ يَزِيدُ (1). وَهَذَا إِنْ كَانَ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ بَلِ الصَّوَابُ فِي الشُّورَى.
مَوْقِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبَيْعَةَ صَحِيحَةٌ وَ لَكِنَّهُم عَابُوا هَذِهِ الْبَيْعَةَ لِأَمْرَينِ اثْنَينِ:
الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ جَدِيدَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ جَعَلَ الْخِلَافَةَ فِي وَلَدِهِ فَكَأَنَّهَا صَارَتْ وِرَاثةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شُورَى وَتَنْصِيصًا عَلَى غَيْرِ الْقَرِيبِ، فَكَيْفَ قَرِيْبٌ وَابْنٌ مُبَاشِرٌ، فَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ رُفِضَ الْمَبْدَأُ بِغَضِّ النَّظرِ عَنِ الشَّخْصِ، فَهُم رَفَضَوا مَبْدَأَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وِرَاثةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُم أَوْلَى مِن « يَزِيدَ » بِالْخِلَافَةِ كَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحُسَيْنِ، وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ تَرَكَ الْأَفْضَلَ فِي أَنْ يَجْعَلهَا شُورَى وَأَنْ لَا يَخُصَّ فِيهَا أَحَدًا مِنْ قَرَابَتِهِ فَكَيْفَ وَلَدًا؟! وَإِنَّه عَقَدَ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ فَانْعَقَدَتْ شَرْعًا(2).
أَمَّا مِن وَجْهَةِ نَظَرِ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُم يَرَوْنَ الْإِمَامَة وَالخِلَافَةَ فِي عَلِيٍّ وَأَبْنَائِه فَقَطْ، فَهُمْ لَا يَعِيبُونَ بَيْعَةَ « يَزِيدَ » بِذَاتِهَا وَإِنَّما يَعِيبُونَ كُلَّ بَيْعَةٍ لَا تَكُونُ لِعَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ فَهُمْ يَعِيبُونَ بَيْعَةَ
________________________________
(1) انْظُرْ: « مُقَدِّمَة ابْن خَلْدُون » فصل فِي وَلاية الْعَهْد (ص 166).
(2) « الْعواصم مِنَ الْقواصم » (ص 228).
أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ كُلَّهَا بِغضِّ النَّظَرِ عَنِ الْمُبَايَعِ لَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا نَصٌّ لِعَلِيٍّ وَأَبْنَائِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
هَلْ كَانَ يَزِيدُ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ أَوْ لَا؟
ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ(1) قِصَّةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّهُم مَشَوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَخُو الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ مِنْ أَبِيْهِمَا فَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ فَأَبَى عَلَيهِمْ، قَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ.
فَقَالَ مُحَمَّدُ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَد حَضَرْتُه وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ، مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ.
قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصنُّعًا لَكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: مَا الَّذِي خَافَهُ مِنَّي أَوْ رَجَاهُ؟ أَفَأَطْلَعَكُم عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرَ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّكُمْ لَشُركَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُطْلِعْكُمْ فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا. قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ، وَإِنْ لَم نَكُنْ رَأَيْنَاهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادةِ ثُمَّ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/236).
قَرَأَ عَلَيْهِمْ قَوْلَ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {الزخرف: 86}.
وكَذَا مَا نُقِل عَنْ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ بَعْد مَقْتَل الْحُسَيْن:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الْقَرْنَ مِنْ سَادَاتِهمْ ... وَعَدَلْنَاهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
وَلَعَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلَا ... خَبَرٌ جَاءَ وَلَا وَحْيٌ نَزَلْ(1)
فهَذَا أَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ.
فَالْفِسْقُ الَّذِي نُسِبَ إِلَى يَزِيدَ فِي شَخْصِهِ كَشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ مُلَاعَبَةِ قِرَدَةٍ أَوْ فُحْشٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ لَم يَثْبُتْ عَنْهُ بِسَندٍ صَحِيحٍ فَهَذَا لَا نُصَدِّقُهُ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ وَنَقُولُ عِلْمُهُ عِنْدَ رَبِّي سُبْحَانَه وَتَعَالَى، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَم يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالْعِلْمُ عِنْدِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي حَالِ يَزِيدَ، وَهَذَا لَا يَهُمُّنا فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كَوْنَ الْإِمَامِ فَاسِقًا لَا يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بهَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي حَدَثَتْ كَمَا سَيَأْتِي.
________________________________
(1) نقله الطَّبَرِيّ فِي « تَارِيخه » عَنِ الْمعتضد الْخَلِيفَة الْعَبَّاسي فِي أَحْدَاث سَنَة 284.
الْفَصْلُ السَّابِعُ: خِلَافَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
مِنْ سَنَةِ 60 إِلَى 64 هـ
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: الْبَيْعَةُ ليَزِيدَ وَرَفْضُ الْحُسَيْنِ لِلْمُبَايَعَةِ وَخُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْكُوفَةِ(1)
بُويْعَ لِيَزِيدَ بِالْخِلَافَةِ سَنَةَ سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثينَ سَنةً، وَلَمْ يُبَايِعِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَا فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمَّا طُلِبَ مِنْهُمَا أَنْ يُبَايِعَا لِيَزِيدَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنْظُرُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَأُخْبِرُكُم بِرَأْيِي، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ وَلَمْ يُبَايِعْ.
وَلَمَّا جِيءَ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقِيلَ لَهُ: بَايِعْ.
قَالَ: إِنِّي لَا أُبَايِعُ سِرًّا وَلَكِن أُبَايِعُ جَهْرًا بَيْنَ النَّاسِ.
قَالُوا: نَعَمْ، وَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ خَلْفَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
* أَهْلُ الْعِراقِ يُرَاسِلُونَ الْحُسَيْنَ:
بَلَغَ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُسَيْنَ لَمْ يُبَايِعْ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بلْ وَلَا يُرِيدُونَ مُعَاوِيَةَ، لَا يُرِيدُونَ إِلَّا عَلِيًّا وَأَوْلَادَهُ رَضِيَ اللهُ تبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ، فَأَرْسَلُوا الْكُتُبَ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ كُلُّهُم يَقُولُونَ فِي كُتُبِهِمْ: إِنَّا بَايَعْنَاكَ وَلَا نُرِيدُ إِلَّا أَنْتَ، وَلَيْسَ فِي عُنُقِنَا بَيْعَةٌ لِيَزِيدَ بَلِ الْبَيْعَةُ لَكَ، وَتَكَاثرَتِ الْكُتُبُ
________________________________
(1) انْظُرْ: « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة »، حَوَادِث سَنَة 60 هـ.
عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى بَلَغَتْ أَكْثَر مِنْ خَمْسِمِائَةِ كِتَابٍ كُلُّهَا جَاءَتْهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَدْعُونَه إِلَيهِمْ.
* الْحُسَيْنُ يُرْسِلُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ:
عِندَ ذَلِكَ أَرْسَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِتَقَصِّي الْأُمُورِ هُنَاكَ وَلِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَجَلِيَّتَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ إِلَى الْكُوفَةِ صَارَ يَسْأَلُ حَتَّى عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ هُنَاكَ لَا يُرِيدُونَ يَزِيدَ بَلِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَ نَزَلَ عِنْدَ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، وَجَاءَ النَّاسُ جَمَاعَاتٍ وَوُحْدَانًا يُبَايِعُونَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ عَلَى بَيْعَةِ الْحُسَيْنِ رَضِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا بَلَغَهُ الْأَمْرُ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ النَّاسُ وَيُبَايِعُونَهُ لِلْحُسَيْنِ أَظْهَرَ كَأَنَّه لَمْ يَسْمعْ شَيْئًا وَلَمْ يَعْبَأْ بِالْأَمْرِ، حَتَّى خَرَجَ بَعْضُ الَّذِينَ عِنْدَه إِلَى يَزِيدَ فِي الشَّامِ وَأَخْبَرُوهُ بِالْأَمْرِ، وَأنَّ مُسْلِمًا يُبَايِعُهُ النَّاسُ وَأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهذَا الْأَمْرِ.
* تَأَمِيرُ عُبَيْدِ اللهِ بْن زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ:
أَمَرَ يَزِيدُ بِعَزْلِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَرْسَلَ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ فَضَمَّ لَهُ الْكُوفَةَ مَعَهَا لِيُعَالِجَ هَذَا الْأَمْرَ، فَوَصَلَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ لَيْلًا إِلَى الْكُوفَةِ مُتَلَثِّمًا فَكَانَ عِنْدَمَا
يَمُرُّ عَلَى النَّاسِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ يَقُولُونَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ وَأَنَّه دَخَلَ مُتَخَفِّيًا مُتَلَثِّمًا لَيْلًا، فَعَلِمَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ وَأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، عِنْدَ ذَلِكَ دَخَلَ الْقَصْرَ ثُمَّ أرْسَلَ مَوْلَى لَهُ اسْمُهُ مَعْقِلٌ لِيَتَقَصَّى الْأَمْرَ وَيَعْرِفَ مَنِ الرَّأْسُ الْمُدَبِّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟
فَذَهَبَ عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ « حِمْصَ » وَأَنَّه جَاءَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ لِمُسَانَدَةِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَصَارَ يَسْأَلُ حَتَّى دُلَّ عَلَى دَارِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَدَخَلَ وَوَجَدَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ وَبَايَعَهُ وَأَعْطَاهُ الثَّلَاثَة آلَافِ دِينَارٍ وَصَارَ يَتَرَدَّدُ أَيَّامًا حَتَّى عَرَفَ مَا عِنْدَهُمْ وَرَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ.
خُرُوجُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الْكُوفَةِ:
بَعدَ أَنِ اسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ وَبَايَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمُسلِم بْنِ عَقِيلٍ، أَرْسَلَ إِلَى الْحُسَيْنِ أَن أَقْدِمْ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَهَيَّأَ، فَخَرَجَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللهِ قَدْ عَلِمَ مَا قَامَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَجِيءَ بِهِ فَسَأَلَهُ: أَيْنَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
فَنَادَى مَوْلَاهُ مَعْقِلًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَعَرَفَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَانَتْ خُدْعَةً مِنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ
زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْنَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ؟
فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُهَا، فَضَرَبَه عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ ثُمَّ أمَرَ بِحَبْسِهِ.
* خِذْلَانُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِمُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ:
وَبَلَغَ الْخَبَرُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَخَرَجَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَحَاصَرَ قَصْرَ عُبَيْدِ اللهِ وَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مَعَهُ، وَكَانَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشْرَافُ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ خَذِّلُوا النَّاسَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَطَايَا وَخَوَّفَهُم بِجَيْشِ الشَّامِ، فَصَارَ الْأُمَرَاءُ يُخَذِّلُونَ النَّاسَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَمَا زَالَتِ الْمَرْأةُ تَأْتِي وَتَأْخُذُ وَلَدَهَا، وَيَأْتِي الرَّجُلُ وَيَأخُذُ أَخَاهُ، وَيَأْتِي أَمِيرُ الْقَبِيلَةِ فَيَنْهَى النَّاسَ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَرْبعةِ آلَافٍ ! وَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَمُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَحْدَهُ، ذَهَبَ كُلُّ النَّاسِ عَنْهُ، وَبقِي وَحِيدًا يَمْشِي فِي دُرُوبِ الْكُوفَةِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَطَرَقَ الْبَابَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ كِنْدَةَ فَقَالَ لَهَا: أُرِيدُ مَاءً، فَاسْتَغْرَبَتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَت لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَأَنَّ النَّاسَ خَذَلُوهُ، وَأَنَّ الْحُسَيْنَ سَيَأْتِي؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَقْدِمْ فَأَدْخَلَتْهُ عِنْدَهَا فِي بَيْتٍ مُجَاوِرٍ، وَأَتَتْهُ بِالْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَلَكِنَّ وَلَدَهَا قَامَ بِإِخْبَارِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ بِمَكَانِ مُسْلِم بْنِ عَقِيلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ رَجُلًا فَحَاصَرُوهُ
فَقَاتَلَهُمْ وَفِي النِّهَايَةِ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ عِنْدَمَا أمَّنُوهُ، فَأُخِذَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي فِيهِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، فَلَمَّا دَخَلَ سَأَلَهُ عُبَيْدُ اللهِ عَن سَبَبِ خُرُوجِهِ هَذَا؟.
فَقَالَ: بَيْعَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَوَ لَيْسَتْ فِي عُنُقِكَ بَيْعَةٌ لِيَزِيدَ؟
فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. قَالَ: دَعْنِي أُوصِي. قَالَ: نَعَمْ أَوْصِ. فَالْتَفَتَ فَوَجَدَ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنِّي رَحِمًا تَعَالَ أُوصِيكَ، فَأَخَذَه فِي جَانِبٍ مِنَ الدَّارِ وَأَوْصَاهُ بِأنْ يُرسِلَ إِلَى الْحُسَيْنِ بِأَنْ يَرْجِعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلًا إِلَى الْحُسَيْنِ لِيُخْبِرَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَضَى، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ خَدَعُوهُ. وَقَالَ مُسْلِمٌ كَلِمتَهَ الْمَشْهُورَةَ: « ارْجِعْ بِأَهْلِكَ وَلَا يَغُرَّنَّكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ كَذَبُوكَ وَكَذَبُونِي وَلَيْسَ لِكَاذِبٍ رَأْيٌ ».
قُتِلَ عِنْدَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَكَانَ الْحُسَيْنُ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيةِ قَبْلَ مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ.
مُعَارَضَةُ الصَّحَابَةِ لِلْحُسَيْنِ فِي خُرُوجِهِ:
وكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ حَاوَلُوا مَنْعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْخُرُوجِ وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَأَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ. كُلُّ هَؤُلَاءِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْحُسَيْنَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْكُوفَةِ نَهَوْهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالُ بَعْضِهِمْ:
1- عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ:
قَالَ لِلْحُسَيْنِ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ: لَولَا أَنْ يُزْرِي بِي وَبِكَ النَّاسُ لَشَبَّثْتُ يَدِي فِي رَأْسِكَ فَلَمْ أَتْرُكَّ تَذْهَبُ(1).
2- ابْنُ عُمَرَ:
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ بِمَكَّةَ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟
قَالَ: الْعِرَاقَ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْكُتُبَ الَّتي أُرْسِلَتْ مِنَ الْعِرَاقِ يُعْلِنُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُ وَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُم وَبيْعَتُهُمْ، (قَدْ غَرُّوَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ).
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَأْتِهِم، فَأَبَى الْحُسَيْنُ إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ.
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْهُ، وَاللهِ لَا يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا، وَمَا صرَفَهَا اللهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيرٌ لَكُمْ، فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَاعْتَنَقَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَبَكَى وَقَالَ: « أَسْتَودِعُكَ اللهَ مِنْ قَتِيلٍ »(2).
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/161).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/162).
3- عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
قَالَ لِلْحُسَيْنِ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟! تَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ. لَا تَذْهَبْ(1) فَأَبَى الْحُسَيْنُ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ.
4- أَبُو سَعيِدٍ الْخُدْرِيُّ:
قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنِّي لَكَ نَاصِحٌ وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مُشْفِقٌ، قَدْ بَلَغِنِي أَنَّهُ قَدْ كَاتَبَكُم قَوْمٌ مِن شِيعَتِكُمْ بِالكُوفَةِ يَدْعُونَكَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَخْرُجْ إِلَيهِمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ فِي الْكُوفَةِ: وَاللهِ لَقَدْ مَلَلْتُهُمْ وَأَبْغَضْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَأَبْغَضُونِي، وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ وَفَاءٌ قَطُّ، وَمَنْ فَازَ بِهِمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، وَاللهِ مَا لَهُم نِيَّاتٌ وَلَا عَزْمٌ عَلَى أَمْرٍ وَلَا صَبْرٌ عَلَى سَيْفٍ(2).
* وَمِمَّن أَشَارَ عَلَى الْحُسَيْنِ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ مِن غَيْرِ الصَّحَابَةِ:
الفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ، وَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ الْحُسَيْنِ لَقِيَ الْفَرَزْدَقَ الشَّاعِرَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ؟
قَالَ مِنَ الْعِرَاقِ، قَالَ: كَيْفَ حَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟
قَالَ: قُلُوبُهُمْ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ وَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ(3).
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/163).
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/163).
(3) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/168).
* الْحُسَيْنُ يَصِلُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ:
وَبَلَغَ الْحُسَيْنَ خَبَرُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يَرْجِعَ فَكَلَّمَ أَبْنَاءَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَقَالُوا: لَا وَاللهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْخُذَ بِثَأْرِ أَبِينَا، فَنَزَلَ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَبَعدَ أَنْ عَلِمَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ أَمَرَ الْحُرَّ بْنَ يَزِيدَ التَّمِيمِيَّ أَنْ يَخْرُجَ بِأَلْفِ رَجُلٍ مُقَدِّمَةً لَيَلْقَى الْحُسَيْنَ فِي الطَّرِيقِ، فَلَقِي الْحُسَيْنَ قَرِيبًا مِنَ الْقَادِسِيَّةِ.
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِلَى أَيْنَ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ؟!
قَالَ: إِلَى الْعِرَاقِ.
قَالَ: فَإِنِّي آمُرُكَ أَنْ تَرْجِعَ وَأَنْ لَا يَبْتَلِيَنِي اللهُ بِكَ، ارْجِعْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ أَوِ اذْهَبْ إِلَى الشَّامِ إِلَى حَيْثُ يَزِيدُ لَا تَقْدَمْ إِلَى الْكُوفَةِ.
فَأَبَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ ثُمَّ جَعَلَ الْحُسَيْنُ يَسِيرُ جِهَةَ الْعِرَاقِ، وَصارَ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ يُعَاكِسُهُ وَيَمْنَعُهُ.
فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: ابْتَعِدْ عَنِّي ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ.
فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ: وَاللهِ لَوْ قَالَهَا غَيْرُكَ مِنَ الْعَرَبِ لَاقْتَصَصْتُ مِنْهُ وَمِنْ أُمِّهِ، وَلَكِنْ مَاذَأا أَقُولُ وَأُمُّكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
* وُصُولُ الْحُسَيْنِ إِلَى كَرْبَلَاء
وَقَفَ الْحُسَيْنُ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ « كَرْبَلَاءُ »، فَسَأَلَ مَا هَذِهِ؟
قَالُوا: كَرْبَلَاءُ.
فَقَالَ: « كَرْبٌ وَبَلَاءٌ ».
وَلَمَّا وَصَلَ جَيْشُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَعَدَدُهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ كَلَّمَ الْحُسَيْنَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَه إِلَى الْعِرَاقِ حَيْثُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ فَأَبَى.
وَلَمَّا رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: إِنِّي أُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَاخْتَرْ مِنْهَا مَا شِئْتَ.
قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: أَن تَدَعَنِي أَرْجِعُ، أَوْ أَذْهَبُ إِلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَذْهَبُ إِلَى يَزِيدَ حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ بِالشَّامِ.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: نَعَم أَرْسِلْ أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ، وَأُرْسِلُ أَنَا إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَنَنْظُرُ مَاذَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ، فَلَمْ يُرْسِلِ الْحُسَيْنُ إِلَى يَزِيدَ وَأَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ.
فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَأنَّ الْحُسَيْنَ يَقُولُ: أُخَيِّرُكُم بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، رَضِيَ ابْن زِيَادٍ أَيَّ وَاحِدَةٍ
يَخْتَارُهَا الْحُسَيْنُ، وَكَانَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، وَكَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: لَا وَاللهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ.
فَاغْتَرَّ عُبَيْدُ اللهِ بِقَوْلِهِ فَقَالَ: نَعَمْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِي.
فَقَامَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ بِإِرْسَالِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ، وَقَالَ: اذْهَبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِي فَإِنْ رَضِي عُمَرُ بْنُ سَعْدِ وَإِلَّا فَأَنْتَ الْقَائِدُ مَكَانَهُ.
وَكَانَ ابْنُ زِيَادٍ قَدْ جَهَّزَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ يَذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الرَّيِّ، فَقَالَ لَهُ: اقْضِ أَمْرَ الْحُسَيْنِ ثُمَّ اذْهَبْ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ قَدْ وَعَدَه بِولَايةِ الرَّيِّ.
فَخَرَجَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ لِلْحُسَيْنِ، وَأَنَّه لَابُدَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ فَرَفَضَ وَقَالَ: « لَا وَاللهِ لَا أَنزِلُ عَلَى حُكْمِ عُبَيْدِ الله بْنِ زِيَادٍ أَبَدًا ».
* الْحُسَيْنُ يُذَكِّرُ جَيْشَ الْكُوفَةِ بِاللهِ:
وَكَانَ عَدَدُ الَّذِينَ مَعَ الْحُسَيْنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فَارِسًا، وَجَيْشُ الْكُوفَةِ خَمَسَةُ آلَافٍ، وَلَمَّا تَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ قَالَ الْحُسَيْنُ لِجَيْشِ ابْنِ زِيَادٍ: رَاجِعُوا أَنْفُسَكُم وَحَاسِبُوهَا، هَلْ يَصْلُحُ لَكُم قِتَالُ مِثْلِي؟ وَأَنَا ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي وَلِأَخِي: « هَذَانِ سَيِّدَا
شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ »(1).
وَصَارَ يَحُثُّهُم عَلَى تَرْكِ أَمْرِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَالِانْضمَامِ إِلَيْهِ فَانْضَمَّ لِلْحُسَيْنِ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ، فِيهِمُ الْحَرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ الَّذِي كَانَ قَائِدَ مُقَدِّمَةِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ. فَقِيلَ لِلحُرِّ بْنِ يَزِيدَ: أَنْتَ جِئْتَ مَعَنَا أَمِيرَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْآنَ تَذْهَبُ إِلَى الْحُسَيْنِ؟!
فَقَالَ: وَيْحَكُمْ وَاللهِ إِنِّي أُخَيِّرُ نَفْسِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاللهِ لَا أَخْتَارُ عَلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ قُطِّعْتُ وَأُحْرِقْتُ.
بَعدَ ذَلِكَ صَلَّى الْحُسَيْنُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِن يَوْمِ الْخَمِيسِ، صَلَّى بِالفَرِيقَيْنِ بِجَيْشِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَبِالَّذينَ مَعَهُ، وَكَانَ قَالَ لَهُمْ: مِنْكُمْ إِمَامٌ وَمِنَّا إِمَامٌ. قَالُوا: لَا، بَلْ نُصَلِّي خَلْفَكَ، فَصَلَّوا خَلْفَ الْحُسَيْنِ الظُّهْرَ وَالعَصْرَ، فَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ تَقَدَّمُوا بِخُيُولِهِمْ نَحْوَ الْحُسَيْنِ وَكَانَ الْحُسَيْنُ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ فَلَمَّا رَآهُمْ وَكَانَ قَدْ نَامَ قَلِيلًا قَالَ: مَا هَذَا؟! قَالُوا: إِنَّهُمْ تَقَدَّمُوا فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَيهِم فَكَلِّمُوهُم وَقُولُوا لَهُم مَاذَا يُرِيدُونَ؟
فَذَهَبَ عِشْرُونَ فَارٍسَا مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخُو
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ « التِّرمذيّ »: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْنِ، حَدِيث (3768). وَهُوَ ضَعِيف مِن رِوايةِ الْحُسَيْنِ، وَلكنّه صَحِيح مِن رِوايةِ حُذَيفَةَ وَأبي سَعِيدٍ وَغَيْرهما.
الْحُسَيْنِ فَكَلَّمُوهُمْ وَسَأَلُوهُمْ، قَالُوا: إِمَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَإِمَّا أَنْ يُقَاتِلَ.
قَالُوا: حَتَّى نُخْبِرَ أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْحُسَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَخبَرُوهُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ: أَمْهِلُونَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَغَدًا نُخْبِرُكُمْ حَتَّى أُصَلِّي لِرَبِّي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّي لِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ يُصَلِّي للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَستَغْفِرُهُ وَيَدْعُو اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
* وَقْعَةُ الطَّفِّ (سَنَةَ 61 هـ):
فِي صَبَاحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ شَبَّ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا رَفَضَ الْحُسَيْنُ أَنْ يَسْتَأْسِرَ لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، وَكَانَت الْكِفَّتَانِ غَيْرَ مُتَكَافِئَتَيْنِ، فَرَأَى أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَذَا الْجَيْشِ، فَصَارَ هَمُّهُمُ الْوَحِيدُ الْمَوْتَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَأَصْبَحُوا يَمُوتُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْوَاحِدُ تِلْوَ الْآخَرِ حَتَّى فَنَوْا جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَولُدُهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْن كَانَ مَرِيضًا.
وبَقِيَ الْحُسَيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ نَهَارًا طَوِيلًا، لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُبْتَلَى بِقَتْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى جَاءَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَصَاحَ بِالنَّاسِ وَيْحَكُمْ ثَكِلَتْكُم أُمَّهَاتُكُمْ
أَحِيطُوا بِهِ وَاقْتُلُوهُ، فَجَاءُوا وَحَاصَرُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فَصَارَ يَجُولُ بَيْنَهُمْ بِالسَّيْفِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ وَكَانَ كَالسَّبُعِ، وَلَكِنَّ الْكَثْرَةَ تَغْلِبُ الشَّجَاعَةَ.
وصَاحَ بِهِمْ شَمِرٌ: وَيْحَكُمْ مَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟! أَقْدِمُوا. فَتَقَدَّمُوا إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالَّذِي بَاشَرَ قَتْل الْحُسَيْنِ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ، وَحَزَّ رَأْسَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقِيلَ: شَمِرٌ، قَبَّحَهُمَا الله.
وَبَعْدَ أَنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ فِي الْكُوفَةِ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ بِقَضِيبٍ كَانَ مَعَهُ يُدْخِلُهُ فِي فَمِهِ، وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ لَحَسَنَ الثَّغَرِ، فَقَامَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ: وَاللهِ لَأَسُوأَنَّكَ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ مَوْضِعَ قَضِيبِكَ مِنْ فِيهِ(1).
قَالَ إِبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَوْ كُنْتُ فِيمَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَمُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرَ فِي وَجْهِي(2).
* مَنْ قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ:
* قُتِلَ مِن أَبْنَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْحُسَيْنُ نَفْسُهُ، وَجَعْفَرٌ
________________________________
(1) « الْمعجم الْكَبِير » للطبراني (5/206 رقم 5107)، وَانْظُرْ « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْنِ، حَدِيث (3748).
(2) « الْمعجم الْكَبِير » (3/112 رقم 2829) وَسنده صَحِيح.
والْعَبَّاسُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ.
* وَمِن أَبْنَاءِ الْحُسَيْنِ: عَبْدُ اللهِ، وَعَلِيٌّ الْأَكْبرُ غَيْرُ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ.
* وَمِنْ أَبْنَاءِ الْحَسَنِ: عَبْدُ اللهِ وَالقَاسِمُ وَأَبُو بَكْرٍ.
* وَمِن أَبْناءِ عَقِيلٍ: جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ كَانَ قَدْ قُتِلَ بالكُوفَةِ.
* وَمِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ: عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ(1).
ثَمَانِيةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِن آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ غَيْرِ الْمُتَكَافِئَةِ.
* إِرْهَاصَاتُ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنْ أُمِّ سَلَمةَ قَالَتْ: « كَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُسَيْنُ مَعِي فَبَكَى الْحُسَيْنُ فَتَرَكْتُهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَنَى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلُهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتي يُقْتَلُ بِهَا فَأَرَاهُ إِيَّاهَا فَإِذَا الْأَرْضُ يُقَالُ لَهَا كَرْبَلَا »(2).
________________________________
(1) « تَارِيخ خَلِيفَة بْن خَيَّاطٍ » (234).
(2) « فَضَائِل الصّحَابَة » (2/782 رقم 1391)، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور لكنّه ضَعِيف مِنْ جَمِيع طُرقهِ عَنْ أمِّ سَلَمَةَ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ الْجِنَّ تَنُوحُ عَلَى الْحُسَيْنِ لَمَّا قُتِلَ(1).
وأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ السَّمَاءَ صَارَتْ تُمْطِرُ دَمًا، أَوْ أَنَّ الْجُدُرَ لُطِّخَتْ بِالدِّمَاءِ، أَوْ مَا يُرْفَعُ حَجَرٌ إِلَّا وَيُوجَدُ تَحْتَهُ دَمٌ، أَوْ مَا يَذْبَحُونَ جَزُورًا إِلَّا صَارَ كُلُّهُ دَمًا، فَهَذِه كُلُّهَا أَكَاذِيبُ وَتُرَّهَاتٌ وَلَيْسَ لَهَا سَنَدٌ صحِيحٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدٍ مِمَّن عَاصَرَ الْحَادِثَةَ، وَإِنَّما هِيَ أَكَاذِيبُ تُذْكَرُ لِإِثَارَةِ الْعَوَاطِفِ. أَوْ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ مُنْقَطِعَةٍ مِمَّن لَم يُدْرِكِ الْحَادِثَةَ(2).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ بِنِصْفِ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ يَلْتَقِطُهُ، قُلْتَ، يَا رَسُولُ اللهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ لَمْ أَزَلْ أَتَتَبَّعُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ.
قَالَ عَمَّارٌ رَاوِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ: فَحَفِظْنَا ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُ قُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ »(3).
والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي »(4) وَابْنُ عَبَّاسٍ
________________________________
(1) « فَضَائِل الصّحَابَة » (2/766 رقم 1373)، وَسنده حسن.
(2) راجع: « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » أَحْدَاث سَنَة 61 هـ.
(3) « فَضَائِل الصَّحَابَة » (2/778 رقم 1380)، وَإِسْنَاده صَحِيح.
(4) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب التّعبير، بَاب مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمنام، حَدِيث (6994)، « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب الرّؤيا، بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَد رَآنِي، حَدِيث ر قم (2266).
أَعْلَمُ النَّاسِ بِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَذَابُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ:
والَّذي أَمَرَ بِقَتْلِ الْحُسَيْن عُبَيْدُ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَلَكِن لَمْ يَلْبَثْ هَذَا أَنْ قُتِلَ، قَتَلَه الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ انْتِقَامًا لِلْحُسَيْنِ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ مِمَّنَ خَذَلَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ.
فَكَانَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّهُم أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِمُوا مِن أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنّهُمْ أَوَّلًا: خَذَلُوا مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ حَتَّى قُتِلَ وَلَم يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَثَانِيًا: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ لَمْ يُدَافِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْحُرِّ بْنِ يَزيدَ التَّمِيمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، أَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُم خَذَلُوهُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَضْرِبُونَ صُدُورَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا آبَاؤُهُمْ كَمَا يَزْعُمُونَ(1).
عَنْ عُمَارةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ نُضِّدَتْ (أَيْ: صُفَّت) فِي الْمَسْجِدِ فِي « الرَّحْبَةِ »، يَقُول: فَانْتَهَيْتُ إِلَيهِمْ وَهُم يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ، فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَتَخَلَّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ
________________________________
(1) وَجَيْشُ الْمختارِ الَّذِي انتقمَ للحُسَيْنِ سمَّى نفسَهُ (جَيْشَ التَّوَّابِينَ) اعتِرَافًا مِنْهُمْ بتَقَصِيرِهِمْ تِجَاه الْحُسَيْنِ، وَهَذَا بِدَايَةُ ظهورِ الشِّيعَةِ كمَذْهَب سياسيٍّ، أَمَّا الشِّيعَةُ كمَذْهَبٍ عَقَائِديٍّ وَفقهيٍّ فَإِنَّهُ متأخر جِدًّا بَعْدَ انقضاءِ دَولَةِ بَنِي أمَيةَ بزمنٍ.
زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا (1).
وَهَذَا انْتِقَامٌ مِن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِن هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي سَاهَمَ مُسَاهَمَةً كَبِيرةً فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: لَا تَسُبُّوا عَلِيًّا وَلَا أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ، فإِنَّ جارًا لَنَا مِنْ بَلْهُجَيْمِ(2) قَالَ: « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى هَذَا الْفَاسِقِ -الْحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ- قَتَلَهُ اللهُ ، فَرَمَاهُ اللهُ بِكَوْكَبَيْنِ فِي عَيْنَيْهِ(3)، فَطَمَسَ اللهُ بَصَرَهُ »(4).
________________________________
(1) « جَامِع التِّرمذِيّ »، كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْنِ، حَدِيث (3780). وَقَالَ التّرمذي: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
(2) قَبِيلَة مِنْ قَبَائِل الْعَرَب.
(3) الْكَوْكَب: بَيَاض يصيب الْعين، وَقَدْ يذهب ببصرها.
(4) الْمعجم الْكَبِير (3/2 1 أرقام 0 283)، وَسنده صَحِيح.
مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟
قَبْلَ أَنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ دَعُونَا نَرْجِعْ سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ إِلَى عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ مَعَ شِيْعَتِهِمَا:
1- عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَشْتَكِي مِنْ شِيعَتِهِ (أهلِ الْكُوفَةِ) فيَقُولُ: « وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا.
أَشُهُودٌ كَغِيَابٍ، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ الْقَوْلِ حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا(1)، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ الْحَيَّةِ(2)، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ. أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْمُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!
يَاأَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ
________________________________
(1) جُمْلَة يضرب بِهَا الْمثل فِي الْفرْقَة: لِسَان الْعَرَبِ (سبأ).
وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُوأَسْمَاعٍ، وَبُكْمٌ ذَوُوكَلَامٍ، وَعُمْيٌ ذَوُوأَبْصَارٍ، لاَ أَحْرَارَ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانَ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ الاِْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ »(1).
وَلَمْ يَقِفِ الْأَمْرُ عِنْدَ هَذَا الْحدِّ بَلِ اتَّهَمُوهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ بِالكَذِبِ:
رَوَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: « أمَّا بَعْدُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ، حَمَلَتْ فلمَّا أَتَمَّتْ أَقْلَصَتْ، وَمَاتَ قَيِّمُهَا، وَطَال تَأَيُّمُهَا، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا، أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَارًا، وَلَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقًا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللهُ! فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ؟ »(2).
وقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا، وَشَحنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وَجَرَّعْتُمُوني نَغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ »(3).
2- الْحَسَنُ بْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « أرَى وَاللهِ مُعَاوِيَة خَيْرًا لِي مِنْ هَؤُلَاءِ، يزْعُمُونَ
________________________________
(1) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (1/187- 189).
(2) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (1/187-119).
(3) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (1/187-189).
أَنَّهُمْ لِي شِيعَةٌ؛ ابْتَغَوْا قَتْلِي، وَانْتَهَبُوا ثَقْلِي، وَأَخَذُوا مَالِي، وَالله لَئِنْ أَخَذَ مِنِّي مُعَاوِيَةُ عَهْدًا أَحْقِنُ بِهِ دَمِي وَأُؤَمَّنُ بِهِ فِي أَهْلِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقتْلُونِي، فَيَضِيعُ أَهْلُ بَيْتِي وَأَهْلِي، وَلَوْ قَاتَلْتُ مُعَاوِيَةَ لَأَخَذُوا بِعُنُقِي حَتَّى يَدْفَعُونَني إِلَيْهِ سِلْمًا »(1).
وقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِشِيعَتِهِ: « يَا أَهْل الْعِرَاقِ إِنَّهُ سَخِيَ بنَفْسِي عَنْكُمْ ثَلَاثٌ: قَتْلُكُمْ أَبِي، وَطَعْنُكُمْ إِيَّايَ، وَانْتِهَابُكُمْ مَتَاعِي »(2).
* غَدْرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَوْنُهُمْ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ:
لَقَدْ نَصَحَ مُحَمَّدُ بْن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَائِلًا لَهُ: يَا أَخِي إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ عَرَفْتَ غَدْرَهُمْ بِأَبيكَ وَأَخِيكَ. وَقَدْ خِفْتُ أَن يَكُونَ حَالُكَ كَحَالِ مَنْ مَضَى(3).
وقَالَ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ الْفَرَزدْقُ لِلْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَما سَأَلَهُ عَنْ شِيعَتِهِ الَّذِينَ هُوَ بِصَدَدِ الْقُدُومِ إِلَيْهِمْ: « قُلوبُهُمْ مَعَكَ وَأَسْيَافُهُمْ عَلَيْكَ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَاللهُ يفْعَلُ مَا يَشَاءُ ». فَقَالَ الْحُسَيْنُ:
________________________________
(1) « النّدوة » (3/08 2) وَ « فِي رحاب أَهْل الْبَيْت » ص (270).
(2) « لَقَدْ شيَعْنِي الْحُسَيْن » ص (283).
(3) اللهوف لِابْنِ طاووس ص 39، عاشوراء للإِحسائي ص 115، الْمَجَالِس الْفاخر ة لعبد الْحُسَيْن ص 75، منتهى الْآمال 4/454، عَلَى خُطَى الْحُسَيْن ص 96.
« صَدَقْتَ للهِ الْأَمْرُ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فَإِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ وَنَرْضَى فَنَحْمَدُ الله عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ فَلَمْ يَبْعْدُ مَنْ كَانَ الْحَقَّ نِيَّتُهُ وَالتَّقْوَى سَرِيرَتُهُ »(1).
وعِنْدَمَا خَاطَبَهُمْ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَشَارَ إِلَى سَابِقَتهِمْ وَ فَعْلَتهِمْ مَعَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فِي خِطَابٍ مِنْهُ: « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ »(2).
3- عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ:
قَالَ مُوَبِّخًا شِيعَتَهُ الَّذِينَ خَذَلُوا أَبَاهُ وَقَتَلُوهُ قَائِلًا: « أيُّهَا النَّاسُ نَشَدْتُكُمْ باللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ، وَأَعْطَيْتُمُوهُ الْعَهْدَ وَالْمِيثاقَ وَالْبَيْعَةَ وَقَاتَلْتُمُوهُ وَخَذَلْتُمُوهُ، فَتَبًّا لِمَا قَدَّمْتُم لِأَنفُسِكُمْ، وَسَوْأَةً لِرأْيِكُمْ، بِأيَّةِ عَيْنٍ تَنْظُرونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْ إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: « قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي وَانْتَهَكْتُمْ
________________________________
(1) الْمَجَالِس الْفاخرة ص 79، عَلَى خُطَى الْحُسَيْن ص 100، لواعج الْأشجان للأَمِين ص 60، معَالم الْمدرستين 3/62.
(2) معَالم الْمدرستين 3/71-72، معالي السّبطين 1/275، بحر الْعلوم 194، نفس الْمهموم 172، خَيْر الْأَصْحَاب 39، تظلم الزّهراء ص.17.
حُرْمَتِي فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي ». فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ النِّسَاءِ بِالْبُكَاءِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلَكْتُمْ وَمَا تَعْلَمُونَ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: « رَحِمَ اللهُ امْرَءًا قَبِلَ نَصِيحَتِي، وَحَفِظَ وَصِيَّتِي فِي اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَإِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً. فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: نَحْنُ كُلُّنا سَامِعُونَ مُطِيعُونَ حَافِظُونُ لِذِمَامِكَ غَيْرُ زَاهِدِينَ فِيكَ وَلَا رَاغِبِينَ عَنْكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ، فإِنَّا حَرْبٌ لِحَرْبِكَ، وَسِلْمٌ لِسِلْمِكَ، لَنَأْخُذَنَّ يَزِيدَ وَنَبْرَأَ مِمَّنْ ظَلَمَكَ وَظَلَمَنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَيُّهَا الْغَدَرَةُ الْمَكَرَةُ حِيْلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمْ، أتُرِيدُونَ أَنْ تَأْتًوا إِلَيَّ كَمَا أَتَيْتُمْ آبَائِي مِنْ قَبْلُ؟ كَلَّا وَرَبِّ الرَّاقِصَاتِ فَإِنَّ الْجُرْحَ لَمَّا يَنْدَمِلْ، قُتِلَ أَبِي بِالْأَمْسِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مَعَهُ، وَلَمْ يُنْسِنِي ثَكْلَ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ وَثَكْلَ أَبِي وَبَنِي أَبِي وَوَجْدَهُ بَيْن لَهَاتِي وَمرَارَتَهُ بَيْنَ حَنَاجِرِي وَحَلْقِي وَغَصَّتهَ تَجْرِي فِي فِرَاشِ صدْريِ »(1).
________________________________
(1) ذكر الطّبرسي هَذِهِ الْخُطْبَة فِي الاحتجاج (2/32) وَابْن طاووس فِي الْملهوف ص 92 وَالْأَمِين فِي لواعج الْأشجان ص 158 وَعَبَّاس الْقمي فِي منتهى الْآمال الْجزء الْأَوَّل ص 572، وَحُسَيْن كوراني فِي رحاب كربلاء ص 183 وَعبد الرّزاق الْمقرم فِي مَقْتَل الْحُسَيْن ص 317 وَمرتضى عياد فِي مَقْتَل الْحُسَيْن ص 87 وَأعادهَا عَبَّاس الْقمي فِي نفس الْمهموم ص 360 وَذكرهَا رضى الْقَزْوِينِي فِي تظلم الزّهراء ص 262.
وعِنْدَمَا مَرَّ الْإِمَامُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ رَأَى أَهْلَ الْكُوفَةِ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ، زَجَرَهُمْ قَائِلًا: « تَنُوحُونَ وَتَبْكُونَ مِن أَجْلِنَا فَمَنِ الَّذِي قَتَلَنَا؟ »(1).
4- أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
قَالَتْ: « يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ سَوْأَةً لَكُمْ، مَا لَكُمْ خَذَلْتُمْ حُسَيْنًا وَقَتَلْتُمُوهُ، وَانْتَهَبْتُمْ أَمْوَالَهُ وَوَرِثْتُمُوهُ، وَسَبَيْتُمْ نِسَاءَهُ، وَنَكَبْتُمُوهُ، فَتَبًّا لَكُمْ وَسُحْقًا لَكُمْ، أَيُّ دَوَاهٍ دَهَتْكُم، وَأَيُّ وِزْرٍ عَلَى ظُهورِكُمْ حَمَلْتُمْ، وَأَيُّ دِمَاءٍ سَفَكْتُمُوهَا، وَأَيُّ كَرِيمَةٍ أَصَبْتُمُوهَا، وَأَيُّ صَبِية سَلَبتْمُوهَا، وَأيُّ أَمْوَالٍ انْتَهَبْتُمُوهَا، قَتَلْتُمْ خَيْرَ رِجَالَاتٍ بَعْدَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبِكُمْ »(2).
5- زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
قَالَتْ وَهِيَ تُخاطِبُ الْجَمْعَ الَّذِي اسْتَقْبَلَهَا بالبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ:
« أَتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! أَيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيرًا وَاضْحَكُوا قَلِيلًا، فَقَدْ ذَهَبْتُم بِعَارِهَا وَشَنَارِهَا، وَلَنْ تَرْحَضُوهَا بِغَسْلٍ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَنَّى
________________________________
(1) الْملهوف ص 86 نفس الْمهموم 357 مَقْتَل الْحُسَيْن لمرتضى عياد ص 83 ط 4 عَام 1996 م تظلم الزّهراء ص 257.
(2) الْملهوف ص 91 نفس الْمهموم 363 مَقْتَل الْحُسَيْن للمقرم ص 6 31، لواعج الْأشجان 157، مَقْتَل الْحُسَيْن لمرتضى عيادص 86 تظلم الزّهراء لرضي بْن نبي الْقَزْوِينِي ص1 26.
تُرْحَضُونَ قَتْلَ سَلِيلِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ »(1).
وفي رِوَايَةٍ: « أَنَّهَا أَطَلَّت بِرَأْسِهَا مِنَ الْمِحْمَلِ وَقَالَتْ لِأَهْلِ الْكُوفَة: « صَهْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ تَقْتُلُنَا رِجَالُكُمْ وَتَبْكِينَا نِسَاؤُكُمْ فَالْحَاكِمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَوْمَ فَصْلِ الْقَضَاءِ »(2).
6- جواد مُحَدِّثي:
« وَقَدْ أَدَّتْ كُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ يُعَانِيَ مِنْهُمُ الْإِمَامُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَمَرَّيْنِ، وَوَاجَهَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمُ الْغَدْرَ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ مَظْلُومًا، وَقُتِلَ الْحُسَيْنُ عَطْشَانًا فِي كَرْبَلَاءَ قُرْبَ الْكُوفَةِ وَعَلَى يَدَيْ جَيْشِ الْكُوفَةِ »(3).
7- حُسَيْن كُوراني:
قَالَ: « أَهْلُ الْكُوفَةِ لَمْ يَكْتَفُوا بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ، بَلِ انْتَقَلُوا نَتِيجَةَ تَلَوُّنِ مَواقِفِهِمْ إِلَى مَوْقِفٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بَدَأُوا يُسَارِعُونَ بِالْخُرُوجِ إِلَى كَرْبَلَاءَ، وَحَرْبِ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي كَرْبَلَاءَ كَانُوا يَتَسَابَقَوُن إِلَى تَسْجِيلِ الْمواقِفِ الَّتِي تُرْضِي
________________________________
(1) مَعَ الْحُسَيْن فِي نهضته ص 295 وَمَا بعدها.
(2) نقلها عَبَّاس الْقمي فِي نفس الْمهموم ص 365 وَذكرهَا الشّيخ رضى بْن نبى الْقَزْوِينِي فِي تظلم الزّهراء ص 264.
(3) موسوعة عاشوراء ص 59.
الشَّيْطَانَ، وَتُغْضِبُ الرَّحْمَنَ »(1).
* وَقَالَ حُسَيْن كُوراني أَيْضًا:
« وَنَجِدُ مَوْقِفًا آخَرَ يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَأْتِي عَبْدُ اللهِ بْنُ حَوزَةَ التَّمِيمِيُّ يَقِفُ أَمَامَ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَصِيحُ:
أَفِيكُمْ حُسَيْنٌ؟ وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ كَتَبوُا لِلْإِمَامِ أَوْ مِنْ جَمَاعَةِ شِبْثٍ وَغَيْرِهِ الَّذِينَ كَتَبُوا ثُمَّ يَقُولُ: يَا حُسَيْنُ أَبشِرْ بِالنَّارِ »(2).
8- مُرْتَضى مُطَهِّرِي:
قَالَ مُرْتَضى الْمُطَهِّري: « وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ الْكُوفَةَ كَانُوا مِنْ شِيْعَةِ عَلِيٍّ وَأنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا الْإِمَامَ الْحُسَيْنَ هُمْ شِيْعَتُهُ »(3).
وقَالَ أَيْضًا: « فَنَحْنُ سَبَقَ أَنْ أَثبَتَنْا أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُهِمَّةٌ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَقُلْنَا أَيْضًا: بِأَنَّ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ عَلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ عَلَى يَدِ الشِّيعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسِينَ عامًا فَقَطْ عَلَى وَفَاةِ النَّبِيِّ لَأَمْرٌ مُحَيِّرٌ وَلُغْزٌ عَجيِبٌ وَمُلْفِتٌ لِلْغَايَةِ »(4).
________________________________
(1) فِي رحاب كربلاء ص 60-61.
(2) فِي رحاب كربلاء ص 61.
(3) الْملحمة الْحُسَيْنية (1/129).
(4) الْملحمة الْحُسَيْنية (3/94).
وَالَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَفَرِحَ بِهِ: عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ.
وَالَّذِي بَاشَرَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ: شَمِرُ بْنُ ذي الْجَوْشَنِ، وَسِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ. وَهؤُلَاءِ ثَلاثَتُهُمْ كَانُوا مِن شِيْعَةِ عَلِيٍّ، وَمِنْ ضِمْنِ جَيْشِهِ فِي صِفِّيْنَ.
9- كَاظِم الْإِحْسَائِيُّ النَّجَفِيُّ:
قَالَ: « إِنَّ الْجَيْشَ الَّذِي خَرَجَ لِحَرْبِ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ، كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَيْسَ فَيهِمْ شَامِيٌّ وَ لَا حِجَازِيٌّ وَلَا هِنْدِيٌّ وَلَا بِاكِسْتَانِيٌّ وَلَا سُودَانِيٌّ وَلَا مِصْرِيٌّ وَ لَا أَفْرِيقِيٌّ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَدْ تَجَمَّعُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى »(1).
10- حُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْبراقي النَّجَفِيُّ:
« قَالَ الْقَزْوِينِيُّ: وَمِمَّا نُقِمَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ طَعَنُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَتَلُوا الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنِ اسْتَدْعَوْهُ »(2).
11- مُحْسِنُ الْأَمِين:
« ثُمَّ بايَعَ الْحُسَيْنَ مِنْ أَهلِ الْعِراقِ عِشْرُونَ أَلفًا غَدَرُوا بِهِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَبَيْعَتُه فِي أَعْناقِهِمْ، فَقَتَلُوهُ »(3).
________________________________
(1) عاشوراء ص 89.
(2) تَارِيخ الْكُوفَة ص 113.
(3) أعيان الشِّيعَة 1/26.
مَنْ بَاشَرَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟
الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّرَاجِمِ أَنَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ رَجُلَانِ هُمَا: سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُ، وَشَمِرُ بْنُ ذي الْجَوْشَنِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هُوَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعُبَيْد اللهِ وَشَمِرٌ كَانَا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ:
1- عُبَيْدُ اللهِ بْن زِيَادٍ: ذَكَرَ الطُّوسِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الرِّجَالِ وَعَدَّهُ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ(1).
2- شَمِرُ بْن ذِي الْجَوْشَنِ: قَالَ النّمازي الشّهرودي عَنْ شَمِرْ:
وَكَانَ يَوْمَ صِفِّينَ فِي جَيْشِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ(2).
________________________________
(1) « رِجَال الطّوسي » ص 54 تَرْجَمَة (120) ط 1 الْمطبعة الْحيدرية- النّجف 1961 م، تَحْقِيق: مُحَمَّد صَادِق بحر الْعلوم.
(2) « مستدركات علم رِجَال الْحَدِيث » للعلامة عَلِيّ النّمازي الشّهرودي. مؤسسة النّشر الْإِسْلَامِيّ- قم 1425 هـ (4/220) تَرْجَمَة (6899).
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: مَوْقِفُ النَّاسِ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ
لاشَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ الَّتي أُصِيبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍ غَيْرُهُ وَقَدْ قُتِلَ مَظْلُومًا رَضِيَ اللهُ عَنه وَعَن أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَتْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِن الْمُسْلِمينَ مُصِيبَةٌ، وَفِي حَقِّهِ شَهَادَةٌ وَكَرَامَةٌ وَرَفْعُ دَرَجَةٍ وَقُرْبَى مِنَ اللهِ حَيْثُ اخْتَارَهُ لِلْآخِرَةِ وَلِجَنَّاتِ النَّعِيمِ بَدَلَ هَذِهِ الدُّنْيَا الْكَدِرَةِ.
ونَحْنُ نَقُولُ: لَيْتَهُ لَمْ يَخْرُجْ، وَلِذَلِكَ نَهَاهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلْ بِهَذَا الْخُرُوجِ نَالَ أُولَئِكَ الظَّلَمَةُ الطُّغَاةُ مِن سِبْطِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَتَلُوهُ مَظْلُومًا شهِيدًا، وَكَانَ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي مَا لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ لَوْ قَعَدَ فِي بَلَدِهِ.
وَلَكِنَّه أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مَا قَدَّرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ وَلَوْ لَمْ يَشَأِ النَّاسُ.
وَقَتْلُ الْحُسَيْنِ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِن قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَ قَدَ قُدِّمَ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْه مَهْرًا لِبَغِيٍّ، وَقُتِلَ زَكَرِيَّا، وَكَذَلِكَ قُتِلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُم أَفْضَلُ مِنَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا تَذَكَّرَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ أَنْ يَقُومَ بِاللَّطْمِ وَالشَّقِّ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَ شَقَّ الْجُيُوبَ »(1)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَنَا بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ »(2).
والصَّالِقَةُ الَّتِي تَصِيحُ، وَالْحَالِقَةُ الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا، وَالشَّاقَّةُ الَّتِي تَشُقُّ ثِيَابَهَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ النَّائِحَةَ إِذَا لَمْ تَتُبْ فَإِنَّهَا تُلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ »(3).
فَالوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلْمِ إِذَا جَاءَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْمَصَائِبِ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة: 156}.
مَوْقِفُ النَّاسِ مِن قَتْلِ الْحُسَيْنِ:
النَّاسُ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ طَوَائِفَ:
الطَّائِفَةُ الْأُولَى: يَرَونَ أَنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ بِحَقٍّ وَأَنَّه كَانَ خَارِجًا عَلَى الْإِمَامِ وَأَرَادَ أَن يَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: قَالَ
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْجنائز، بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شق الْجيوب، حَدِيث (1294)، وَصَحِيح مُسْلِم: كِتَاب الْإِيمَان بَاب تحريم ضرب الْخدود (103).
(2) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْجنائز بَاب مَا ينهى مِنَ الْحلق عِنْد الْمُصِيبَة (1296). وَصَحِيح مُسلِم: كِتَاب الْإِيمَان، بَاب تحَرِيمِ ضَربِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالدعَاءِ بِدَعوَى الْجَاهِلِيَّةِ، حَدِيث رقم (140/167).
(3) صَحِيح مُسلِم: كِتَاب الْجنائز، بَاب التَّشدِيدِ فِي النِّيَاحَةِ، حَدِيث رقم (934).
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَكُم وَأَمْرُكُم عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ »(1)، وَالْحُسَيْنُ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمينَ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « كَائِنًا مَنْ كَانَ » اقْتُلُوهُ فَكَانَ قَتْلُهُ صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ النَّاصِبَةِ(2) الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ.
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ. وَهُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ.
الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُم أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالُوا: قُتِلَ مَظْلُومًا، وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَلِّيًا لِلْأَمْرِ أَي: لَمْ يَكُنْ إِمَامًا، وَلَا قُتِلَ خَارِجِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَلْ قُتِلَ مَظْلُومًا شَهِيدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« الْحسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ »(3).
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّجُوعَ أَوِ الذَّهَابَ إِلَى يَزِيدَ فِي الشَّامِ وَلَكِنَّهُم مَنَعُوهُ حَتَّى يَسْتَأْسِرَ لِابْنِ زِيَادٍ.
________________________________
(1) صَحِيح مُسلِم: كِتَاب الْإِمارة، بَاب حُكمِ مَن فَرَّقَ أَمرَ الْمُسلِمينَ وَهُوَ مُجتَمِعٌ حَدِيث رقم (1852).
(2) « النّاصبة »: همُ الَّذِينَ ناصبوا عَلِيّا وَأهلَ بَيْتهِ الْعداءَ.
(3) أَخْرَجَهُ التِّرمذِيّ: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْنِ حَدِيث (3768).
* بِدْعَتَانِ مُحْدَثَتَانِ:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ:
« بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ أَحْدَثَ النَّاسُ بِدْعَتَيْنِ:
الْأُولَى: بِدْعةُ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ اللَّطْمِ وَالصُّرَاخِ وَالبُكَاءِ وَالْعَطَشِ وَإِنْشَادِ الْمَرَاثِي، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَبِّ السَّلَفِ وَلَعْنَتِهِمْ وَإِدْخَالِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَعَ ذَوِي الذُّنُوبِ حَتَّى يُسَبَّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَتُقْرَأُ أَخْبَارُ مَصْرَعِهِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ، وَكَانَ قَصْدُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ وَالفُرْقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَإِلَّا فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعَادَ هَذِهِ الذَّكْرَى فِي كُلِّ عَامٍ مَعَ إِسَالَةِ الدِّمَاءِ وَتَعْظِيمِ الْمَاضِي وَالتَّعلُّقِ بِهِ وَالالْتِصَاقِ بِالْقُبُورِ ».
الثَّانِيَةُ: بِدْعَةُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَتَوزِيعُ الْحَلْوَى وَالتَّوسِعَةِ عَلَى الْأَهْلِ يَوْمَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ.
وَكَانَتِ الْكُوفَةُ بِهَا قَوْمٌ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ لِآلِ الْبَيْتِ وَكَانَ رَأْسُهُمُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ الْمُتَنَبِّىءُ الْكَذَّابُ وَقَوْمٌ مِنَ الْمُبْغِضِينَ لِآلِ الْبَيْتِ وَمِنْهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ وَلَا تُرَدُّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ بلْ تُرَدُّ بإِقَامَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقر ة: 156}(1).
________________________________
(1) « مِنْهَاج السُّنَّةِ » (5/554، 555) بتصرف.
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ: مَوْقِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
* مَوْقِفُ يَزِيدَ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ:
لَمْ يَكُنْ لِيَزِيدَ يَدٌ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا دِفَاعًا عَنْ يَزِيدَ وَلَكِنَّهُ دِفَاعٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ.
أَرْسَلَ يَزِيدُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيَادٍ لِيَحُولَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِهِ، بَلِ الْحُسَيْنُ نَفْسُهُ كَانَ حَسَنَ الظَّنِّ بِيَزِيدَ حِينَ قَالَ: « دَعُونِي أَذْهَبْ إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ ».
قَالَ شَيْخ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: « إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ باتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ، وَلَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ قَتْلُ الْحُسَيْنِ أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ وَظَهَرَ الْبُكَاءُ فِي دَارِهِ وَلَم يَسْبِ لَهُم حَرِيمًا بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُم إِلَى بِلَادِهِمْ.
أَمَّا الرِّوَايَاتُ الَّتي فِيهَا أَنَّهُ أُهِينَ نِسَاءُ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُنَّ أُخِذْنَ إِلَى الشَّامِ مَسْبِيَّاتٍ وَأُهِنَّ هُنَاكَ هَذَا كُلُّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ بلْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يُعِظِّمُونَ بَنِي هَاشِمٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفرٍ لَمْ يَقْبلْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرَوَانَ هَذَا الْأَمْرَ، وَأَمَرَ الْحَجَّاجَ أَنْ يَعْتَزِلَهَا وَيُطَلِّقَهَا، فَهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَنِي
هَاشِمٍ؛ بَلْ لَمْ تُسْبَ هَاشِمِيَّةٌ قَطُّ »(1).
فَالْهَاشِمِيَّاتُ كُنَّ عَزِيزَاتٍ مُكَرَّمَاتٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، فَالْكَلَامُ الَّذِي يُقَالُ عَنْ يَزِيدَ أَنَّهُ سَبَى نِسَاءَ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ مَكْذُوبٌ.
وَمَا ذُكِرَ أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ أُرْسِلَ إِلَى يَزِيدَ فَهَذَا أَيْضًا لَم يَثْبُتْ، بَلْ إِنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ بَقِيَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ فِي الْكُوفَةِ، وَدُفِنَ الْحُسَيْنُ وَلَا يُعْلَمُ قَبْرُهُ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ دُفِنَ فِي كَرْبلَاءَ حَيْثُ قُتِلَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
________________________________
(1) « منهاج السنة »(4/557-559) بتصرف.
* الْمَوْقِفُ الْوَسَطُ فِي يَزِيدَ:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ:
« النَّاسُ فِي يَزيدَ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:
الطَّائِفَةُ الْأُولَى: تَتَعَصَّبُ لَهُ وَتُحِبُّهُ بَلْ تدَّعِي فِيهِ النُّبُوَّةَ وَالْعِصْمَةَ.
الطَّائِفَة الثَّانِيَةُ: تَتَعَصَّبُ عَلَيْهِ، تُبْغِضُهُ بَلْ تُكُفِّرُهُ وَتَرَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ النِّفاقَ وَيَكْرَهُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَنْسِبُ إِلَيْهِ - لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ أَوْ أَوْقَعَ فِي أَهْلِ الْحَرَّةِ مَا أَوْقَعَ- مِنَ الشِّعْرِ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الْقَرْنَ مِنْ سَادَاتِهمْ ... وَعَدَلْنَاهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
وأنه قَالَ:
لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ ... تِلْكَ الرُّءُوسُ عَلَى رُبَى جَيْرُونِ
نَعَقَ الْغُرَابُ فَقُلْتُ نُحْ أَوْ لَا تَنُحْ ... فَلَقَدْ قَضَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ دُيُونِي
ثُمَّ قَالَ: « وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مَلِكٌ مِنْ مُلوكِ الْمُسْلِمِينَ وَخَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلفَاءِ الْمُلُوكِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا.
وَأَمَّا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَارَيْبَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا شَهِيدًا كَمَا قُتِلَ أَشْبَاهُهُ مِنَ الْمَظْلُومِينَ الشُّهَدَاءُ، وَقَتْلُ الْحُسَيْنِ مَعْصِيَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ مِمَّن قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ رَضِي بِذَلِكَ، وَهُوَ مُصِيبَةٌ
أُصِيبَ بِهَا الْمُسْلمُون مِن أَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّهِ شَهَادَةٌ لَهُ، وَرَفْعُ دَرَجَةٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ »(1).
* النَّهْي عَنْ لَعْنِ يَزِيدَ:
وَلَعَلَّ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي زَمَنِ يَزِيدَ « وَقْعَةُ الْحَرَّةِ »(2)، وَقِتَالُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَتْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَبِسَبَبِهَا هُنَاكَ مَنْ يُجَوِّزُ لَعْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُ، وَالَّذِي يُجَوِّز لَعْنَ يَزِيدَ يَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ ثَلَاثَةَ أُمُور:
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْفِسْقِ، فإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ الْفَاسِقُ؟
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنْ يُثْبِتَ جَوَازَ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ.
وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ الْمَيِّتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَمْ يَلْعَنْهُ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَ اتَ فَإِنَّهُم قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا »(3).
________________________________
(1) « مُخْتَصر مِنْهَاج السُّنَّةِ »(1/346).
(2) وَذَلِكَ لَمَّا خَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى يَزِيدَ فَاستباحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
(3) صَحِيح الْبُخَارِي، كِتَاب الْجنائز، بَاب مَا ينهى عَنْ سب الْأموات، حَدِيث (1393).
وَدِينُ اللهِ لَم يَقُمْ عَلَى السَّبِّ وَإِنَّمَا قَامَ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَالسَّبُّ لَيْسَ مِن دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ، بَلْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ »(1).
فَسِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَلَم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ يَزِيدَ خَارِجٌ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيه: إِنَّهُ فَاسِقٌ.
وَهَذَا كَمَا قُلْنَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ مَا ذَكَرُوهُ عَنْهُ مِن فِسْقٍ، وَعِلْمُه عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
بلْ إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ »(2).
وَكَانَ هَذَا الْجَيْشُ بِقَيَادَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَذَلِكَ سَنَةَ 49 هـ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: « قَدْ أَخْطَأَ يَزِيدُ خَطَأً فَاحِشًا فِي أَمْرِهِ لِأَمِيرِهِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ أَنْ يُبِيحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ مَا انْضَمَّ
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب الْإِيمَان، بَاب خوف الْمؤمن أَن يحبط عمله، حَدِيث (48)، « صَحِيح مُسْلِم »: كِتَاب الْإِيمَان، بَاب بَيَان قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِبَابِ الْمُسْلِمِ فُسُوق وَقِتَالُهُ كُفر، حَدِيث (64).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب الْجِهَاد، بَاب مَا قِيلَ فِي قِتَال الرُّوم، حَدِيث (2924).
إِلَى ذَلِكَ مِن قَتْلِ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَ أَبْنَائِهِمْ »(1).
فَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: « لَا نَسُبُّه وَلَا نُحِبُّهُ »(2).
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/225).
(2) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ »(4/36).
الْبَابُ الثَّانِي: عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: تَعْرِيفُ الصَّحَابِيّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
الصَّحَابِيُّ: لُغَةً: نِسْبَةً إِلَى صَاحِبٍ، وَلَهُ فِي الُّلغَةِ مَعَانٍ تَدُورُ حَوْلَ الْمُلَازَمَةِ وَالِانْقِيَادِ(1).
وَاصْطِلَاحًا: مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ(2).
وَهُنَاكَ تَعَارِيفُ أُخْرَى.
والصَّحَابَةُ يَتَفَاوَتُونَ فِي مُلَازَمَتِهِمْ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي فَضْلِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي عَدَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْأَدِلَّة عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ:
قَالَ تَعَالَى: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الْفَتْح: 18}.
بَيَّنَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرةِ، إِذْ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصِّدْقِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهَذِه شَهَادَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ.
________________________________
(1) « لِسَان الْعَرَب »(1/519).
(2) « الْإِصا بة »(1/10).
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ »(1).
وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُه الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ عَدَدُ الَّذِينَ بَايعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِئَةٍ وَقِيلَ أَلْفًا وَخَمْسَمِئَةٍ، شَهِدَ اللهُ لَهُم بِالْإِيمَانِ وَأَثْبَتَ أَنَّ قُلُوبَهُم تُوَافِقُ ظَاهِرَهُمْ، وَأَنَّه لَيْسَ فِيهِم مُنَافِقٌ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ وَلَكِنْ لَمْ يُبَايِعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* قَالَ تَعَالَى: [وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحَدِيد: 10}.
أَي: وَعَدَ الَّذين أَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا مِن قَبْلِ الْفَتْحِ الْحُسْنَى، وَوَعَدَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا مِن بَعْدِ الْفَتْحِ الْحُسْنَى وَمِصْدَاقُ هَذَا قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
________________________________
(1) جَامِع التِّرمذِيّ: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب فِي فضل مَنْ بَايع تَحْت الشَّجَرَة حَدِيث (3863)، وَأصله فِي « صَحِيح مُسلِم »: كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَابُ مِن فضائِلِ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَهلِ بَيْعَةِ الرُّضوَانِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، حَدِيث (2496).
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] {الْأنْبِيَاء: 100-103}.
فَهَذِه أَيْضًا شَهَادةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعُمُومِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَأَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أَمْ مَنْ آمَنَ وَأَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ.
* وَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ مَصَارِفِ الْغَنِيمَةِ: [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر: 8}.
وَقَولهُ: [يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا] كَلامٌ عَنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَثْبَتَه اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {الحشر: 9}.
* قَالَ جَلَّ وَعَلَا عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] {آل عِمْرَانَ: 110}.
وَيَسْتَحِيلُ أَبَدًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ كَمَا تَقُولُ بَعْضُ
الطَّوَائِفِ: إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كُلَّهُمُ ارْتَدُّوا إِلَّا ثَلَاثَةٌ(1).
الَّذينَ يَرْتَدُّونَ جَمِيعًا وَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةٌ لَا يَقُولُ اللهُ فِيهِمْ إِنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
* وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُم أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ »(2).
* وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامةِ فَيقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَارَبِّ، فَيقُولُ اللهُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لأُمَّةِ نُوحٍ: هَلْ بلَّغَكُمْ؟ فَيقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيقُولُ اللهُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ بَلَّغْتَ؟ فَيقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَشْهَدُونَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة: 143}.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرًا هَذِهِ الْآيَةَ: « الْوَسَطُ: الْعَدْلُ »(3).
وَكَذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَالَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَكْلٍ
________________________________
(1) « أصول الْكافي »(2/244).
(2) صَحِيح الْبُخَارِيّ: فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قَوْل النَّبِيّ لَوْ كُنْتُ مُتِّخِذًا خَلِيلًا حَدِيث (3673).
(3) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب التَّفْسِير، بَاب وَكَذَلِكَ جعلناكم أُمَّة وَسطًا، حَدِيث (4487).
مُجْمَلٍ وَعَامٍّ مَا قَامَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِن تَمْحِيصِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رَوَاهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا وَجَدُوا صَحَابِيًّا كَذَبَ كَذِبَةً وَاحِدَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مَعَ ظُهُورِ الْبِدَعِ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ صَحَابِيٌّ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَبَدًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1).
ثُمَّ كَذَلِكَ لَابُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَدَالَةِ الْعِصْمَةُ، نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِعَدَالَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّنَا لَا نَقُولُ بِعِصْمَتِهِمْ فَهُم بَشَرٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ »(2) فَهُم مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ خَطَّاءُونَ يُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْطَاؤُهُمْ مَغْمُورَةً فِي بُحُورِ حَسَنَاتِهِم رَضِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.
________________________________
(1) قالَ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ: « إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ؛ فَوَ جَدَ قَلبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِه، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ. ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعبَادِ بَعْدَ قَلبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلهم وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ.. » اهـ. رَوَاه الْإِمَامُ أَحْمَدً فِي « مُسْندِه »(1/379) وَقَالَ الْعلامةُ أَحْمَدُ شاكر: « إِسْنَادُهُ صَحِيح ». « الْمُسْند » بتَحْقِيقه رقم (3600)، وَقَالَ الْمُحَدِّثُ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ- فِي « تخريج الطّحاو ية ص 470 »-: « حسَن موقوفا، أَخْرَجَهُ الطَّيالِسِيُّ وَأحمدُ وَغيرُهما بِسَنَدٍ حسنٍ، وَصحّحَهُ الْحاكمُ وَوافقه الذَّهَبِيُّ، وَاشتُهرَ عَلَى الْألسِنَةِ مرفوعًا، وَفِي سندِه كذّاب، وَالصَحِيحُ وَقفُهُ، وَهما مخرّجانِ فِي « الضَّعِيفة »(532، 533) ».
(2) « مُسْنَد أَحْمَدَ »(3/198).
* قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللهُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُم أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ(1).
* وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ: « اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ عُدُولٌ وَلَم يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا شُذُوذٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ »(2).
وَكَذَا نَقَلَ الْعِراقِيُّ، وَالْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ(3).
* قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللهُُ: « عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ(4) لأَوْجَبَتِ الْحَالُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ وَبَذْلِ الْمُهَجِ وَالْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَاليَقِينِ الْقَطْعَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَالاعْتِقَادَ عَلَى نَزَاهَتِهِمْ وَأَنَّهُم أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَدِّلِينَ وَالْمُزَكِّينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبَدَ الْآبِدِينَ »(5).
________________________________
(1) « الاستيعاب »(1/8).
(2) « الْإِصا بة »(1/17).
(3) انْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ في: كِتَابَ « صحابة رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ وَالسّنة » الْبَاب الرَّابِع- مبحث: عَدَالَة الصَّحَابَة.
(4) يقصدُ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذكرَهَا وَالَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدالةِ الصّحَابَةِ.
(5) « الْكفاية فِي علم الرِّوَايَة »(ص 96).
الْفَصْلُ الثَّانِي: مَنْ طَعَنَ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ؟
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: ماذَا يُريدُ الطَّاعِنُونَ فِي أَصْحَابِ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُمْكِنُنَا أَن نُقَسِّمَ الطَّاعِنِينَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِسْمَينِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَنْ يَطْعَنُونَ فِيهِمْ لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ لَهُم مِمَّا ذَكَرْنَاهُ سَالِفًا. وَبِسَبَبِ تَلْبِيسِ عُلَماِء السُّوءِ عَلَيهِمْ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَطْعَنُونَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُةُ هَذَا الدِّينِ- نَقَلَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ- فَإِذَا لَمْ نَثِقْ بِنَقَلَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بالتَّالِي لَنْ نَثِقَ بِمَا نَقَلُوهُ لاِحْتِمَالِ أَنَّهُمْ زَادُوا فِيهِ أَوْ نَقَصُوا، وَذَلِكَ لِعَدمِ عَدَالَتِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْخَطَرُ الْحَقِيقِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُحَصِّلَةَ النِّهَائِيَّةَ هِيَ الطَّعْنُ فِي دِينِ اللهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالنَّقَلَةِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِي رَحِمَهُ اللهُ - فِي كَلَماتٍ لَوْ خُطَّتْ بِمَاءِ الذَّهَبِ لَمَا كَانَ كَثِيرًا -: « إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَطْعَنُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلم أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَنا حَقٌّ وَالسُّنَّةَ عِنْدَنا حَقٌّ، وَإِنَّما نَقَلَ لَنَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَوُلاءِ يُرِيدُونَ أَن يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ »(1).
________________________________
(1) « تَارِيخ دِمَشْق » لِابْنِ عَسَاكِر (59/141).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: الْفِرَقُ الَّتِي طَعَنَتْ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وَحُجَجُهُمْ
الَّذِينَ طَعَنُوا فِي عَدَالَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْ بَعُ فِرَقٍ:
الفِرْقَةُ الْأُوَلى: الشِّيعَةُ.
الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَوَارِجُ.
الفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: النَّوَاصِبُ.
الفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ.
وَحُجَجُهُمْ فِي طَعْنِهِمْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْتِي:
أَوَّلًا: وُقُوعُ الْمَعَاصِي مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَانِيَا: قَالُوا: مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
ثَالِثًا: قَالُوا: يَلْزَمُ مِنَ الْعَدَالَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْزِلَةِ: وَإِذَا كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْزِلَةِ مَنْفِيَّةً عِنْدَنا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ الْعَدَالَةُ تَكُونُ مَنْفِيَّةً.
رَابِعًا: قَالُوا لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وخُلَاصَةُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ الْوَاهِيَةِ مَا يَأْتِي:
* أَمَّا وُقُوعُ الْمَعَاصِي مِنْ بَعْضِهِم!!
فَقَدْ ذَكَرَنَا أَنَّ وُقُوعَ الْمَعَاصِي لَا يَضُرُّ بِعَدَالَتِهِمْ وَإِنَّمَا نَقُولُ: هُم عُدُولٌ وَغَيْرُ مَعْصُومِينَ.
* وَأَمَّا قُولُهُم: « إِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ »!!
فَهَذَا كَذِبٌ، وَالْمُنَافِقُونَ لَيْسُوا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَتَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ
هُو: مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَلْقَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ وَلَا مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ، فَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ هَذَا التَّعْرِيفِ.
* وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: « يَلْزَمُ مِنَ الْعَدَالَةِ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْمَنْزِلَةِ »:
فَهَذَا غَيْرُ صحِيحٍ وَلَا يَلْزَمُ، بَلْ نَحْنُ نَقُولُ عُدُولٌ وَبَعْضُهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَبُوبَكْرٍ أَفْضَلُ مِن جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْدَه عُمَرُ، وَبَعْدَه عُثْمَانُ، وَبَعْدَه عَلِيٌّ، وَبَعْدَه بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلُ بَدْرٍ فَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَهَكَذَا، فَالْقَصْدُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَا يَتَسَاوَوْنَ فِي الْفَضْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: [وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحَدِيد: 10}.
وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَتَسَاوَوْنَ فِي الْفَضْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] {البقر ة: 253}.
فَالصَّحَابَةُ كَذِلَكَ.
* أَمَّا قَوْلُهُم: « إِنهَّ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ الصَّحَابَةِ »!!
فَقَد مَرَّتْ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَدَلُّوا بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ.
وَلَكِن نَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ قَوْلَ اللهِ سُبْحَانَه وَتَعَالَى:
[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] {آل عِمْرَانَ: 7}.
فَالَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمٍ عَدَالَة الصَّحَابَةِ لَهُم شُبُهَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَهُمْ شُبُهَاتٌ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَالرَّدُّ عَليهَا:
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: شُبُهَاتٌ حَوْلَ الصَّحَابَةِ وَرَدُّهَا
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَوْضِ
قَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرِدُ عَلَيَّ رِجَالٌ أَعْرِفُهُم وَيْعرِفُونَنِي، فَيُذَادُونَ عِنَ الْحَوْضِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ »(1).
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَرِوَايَاتٌ كَثِيرَة:
مِنْهَا: « إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنُاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ يَارَبِّ مِنِّي وَمِن أُمَّتي، فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرَتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمِ ».
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيكَةَ أَحَدُ روَاةِ الْحَدِيثِ: « اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا »(2).
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: « أَنَا فَرَطُكُم عَلَى الْحَوْضِ(3)، وَلَأُنَازِعَنَّ أَقْوَامًا ثُمَّ لَأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيُقُالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدثُوا بَعْدَكَ »(4).
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب التَّفْسِير، بَاب كَمَا بَدَأَنا أَوَّل خلق نعيده، (4740).
(2) صَحِيح الْبُخَارِيّ، كِتَاب الرِّقاق: بَاب فِي الْحوض (6593).
(3) فرطكم: أَي أسبقكم.
(4) صَحِيح مُسلِم: كِتَاب الطّهارة، بَاب استحباب إِطالة الْغرة، حَدِيث (249).
وَتَوْجِيهُ الرَّدِّ عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ:
أَوَّلًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْحَابِ هُنَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] {المُنَافِقون: 1}.
وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُن يَعْلَمُهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] {التوبة: 10}.
فَهَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ يَظُنُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ.
ثَانِيًا: الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ ارتَدُّوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
أَصْحَابِي فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُم لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
ثَالِثًا: الْمُرَادُ الْمَعْنَى الْعَامَّ، أَي: كُلُّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَم يُتَابِعْهُ، فَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِكَلِمَةِ صحَابِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بْنُ أَبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لَمَّا قَالَ:
[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ] {المُنَافِقون: 8}.
نُقِلَ لِعُمَرَ هَذَا الْكَلَامُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ(1).
فَجَعَلَه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَعْنى اللُّغَوِيِّ لَا عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ مِمَّنْ فَضَحَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمِمَّنْ أَظْهَرَ نِفَاقَهُ جَهْرَةً.
رَابِعًا: قَدْ يُرَادُ بِكَلِمَةِ أَصْحَابِي كُلُّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَلَوْ لَم يَرَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ، « أُمَّتِي » أَوْ « إِنَّهُمْ أُمَّتِي ».
وأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَعْرِفُهُمْ »، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَعْرِفُهُم وَلَم تَرَهُمْ؟ فَيقُولُ: إِنِّي أَعْرِفُهُمْ مِنَ آثَارِ الْوُضُوءِ(2).
ويُؤَكِّدُ هَذَا فَهْمُ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ عِنْدَمَا قَالَ: « اللَّهُمَّ
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِي: كِتَاب التَّفْسِير بَاب قَوْله [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ] حَدِيث (4905).
(2) « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب الطّهارة، بَاب استحباب إِطالة الْغرة وَالتحجيل فِي الْوضوء، حَدِيث (249). وَهَذَا نصُّه: عَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقبرة، فَقَالَ: « السَّلَامُ عَلَيكُم دَارَ قَوْم مؤمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شاءَ الله بِكُم لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَينَا إِخوَانَنَا » قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟=
إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا » وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْخَوَارِجُ وَلَا النَّوَاصِبُ وَ لَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الشِّيعَةُ عَلَى ارْتِدَادِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: وَمَا الَّذِي يُخْرِجُ عَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا؟
ونَحْنُ لَا نَقُولُ بِردَّتِهِم، وَحَاشَاهُمْ، بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بإِمَامَتِهِمْ، وَنَقُولُ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا كَانُوا عَلَى حِرَاءٍ: اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ(1)، وَكَانَ عَليٌّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَثَبَتَ عَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: « سَيِّدَا شَبَاب أَهْلِ الْجَنَّةِ »(2).
________________________________
= قَالَ: « أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ »، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ ». قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: « فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا ».
(1) رَوَاه مُسْلِم كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب فَضَائِل طَلْحَة وَالزُّبَيْر (2417).
(2) « سنن التَّرمذِيّ »: كِتَاب الْمَنَاقِب بَاب مَنَاقِب الْحَسَن وَالْحُسَيْن، حَدِيث (3768)، « سنن ابْن مَاجَهْ » الْمُقَدِّمَة بَاب فضل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ حَدِيث (118)، « مُسْنَد أَحْمَدَ » حَدِيث (10616).
فَإِنْ قَالَ الرَّوَافِضُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الَّذِينَ يُذَادُونَ عَنِ الْحَوْضِ؟!
فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ النَّوَاصِبَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ عَلِيًّا أَيْضًا مِمَّن يُذَادُ عَنِ الْحَوْضِ.
وَإِنْ قِيلَ: ثَبَتَتْ فَضائِلُ لِعَلِيٍّ؟!
فَسَيُقَالُ: ثَبَتَتْ فَضائِلُ أَكْثَرُ مِنْهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: اللهُ تَعَالَى لَمْ يَمْدَحْ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ
فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] {الْفَتْح: 29}.
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَه وَتَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ قَلِيلٍ: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] {آل عِمْرَانَ: 7}.
فَذَهَبَ الطَّاعِنُونَ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ إِلَى آخِرِ كَلِمَاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ]. فَقَالُوا: [مِّنْهُمْ] « مِنْ » هُنَا لِلتَّبْعِيضِ فَاللهُ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ فَبَعْضُهُم يَدْخُلُ وَبَعْضُهُم لَا.
وَهَذَا مِنَ التَّلِبِيسِ وَالكَذِبِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُم تَجَاوَزَ هَذَا الْأَمْرَ
وَنَقَلَ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ « مِنْ » هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ مِنْ بَعْضِهِمْ(1) وَهَذَا كَذِبٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:
أَوَّلًا: إِنَّ « مِنْ » هُنَا عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ لَيسَتْ لِلتَّبْعِيضِ. وَ إِنَّمَا [مِّنهُمْ] تَأْتِي عَلَى مَعْنيَينِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: مِنْ جِنْسِهِمْ وَأَمْثَالِهمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] {الحج:30}. وَلَا يَعْنِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ نَجْتَنِبَ بَعْضَ الْأَوْثَانِ وَنَتْرُكَ بَعْضَهَا لَا نَجْتَنِبُهَا، بَلِ الْمَطْلُوبُ أَنْ نَجْتَنِبَ جَمِيعَ الْأَوْثَانِ، فَقُولُ اللهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْ ثَانِ أَيِ اجْتَنَبِوُا الرِّجْسَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ.
الْمَعْنى الثَّانِي: أَوْ تَكُونُ « مِنْ » هُنَا مُؤَكِّدَةً كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا] {الإِسْرَاء: 82}. لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ بَعْضَهُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، وَبَعْضَهُ الْآخَرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَبَدًا، بَلِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِفَاءٌ وَرَحْمةٌ. فَـ [ مِنْ ] مُؤَكِّدَةٌ أَيْ: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَقَولُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [مِّنْهُمْ] أَي: مِنْ أَمْثَالِهمْ أَوْ مِنْهُمْ
________________________________
(1) « ثُمَّ اهتديت » للمتشيع التّيجاني (117).
لِلتَّأْكِيدِ عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
ثَانِيًا: لِنَنْظُرْ إِلَى سِيَاقِ الْآيَةِ، كُلُّهَا مَدْحٌ لَيْسَ فِيهَا ذَمٌّ لِبَعْضِهِمْ بَلْ مَدْحٌ لِكُلِّهِم، كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمُ رُكَّعًا سُجَّدًا] فَزَكَّى اللهُ ظَاهِرَهُمْ بِالسُّجُودِ وَالرُّ كُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَزَكَّى بَاطِنَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا] لَا كَمَا قَالَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء: 142}.
انْظُرْ كَيْفَ وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُزَكِّ بَاطِنَهُمْ بَلْ كَذَّبَهُم فِي بَاطِنِهِمْ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُمْ أَنَّهُم يُصَلُّونَ مَعَ الْمُؤْمنِينَ، أَمَّا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: [يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا]، وَالْقَوْلُ بأنَّ « مِنْهُمْ » أَي مِنْ جِنْسِهِم، أَوْ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى حَالِهمْ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ كُلِّ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيمَا أَعْلَمُ كَالنَّسَفِيِّ، وَابْنِ الْجَوزِيِّ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَا لزَّجَّاجِ، وَالْعُكْبَرِيِّ، وَالنَّيْسَابُورِيِّ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَالطَّبَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، كُلُّ هَؤُلَاءِ لَمَّا تَكَلَّمُوا عَن هَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: إِنَّ « مِنْ » هُنَا مُؤَكِّدَةٌ أَوْ مُجَنِّسَةٌ وَلَيسَتْ تَبْعِيضِيَّةً كَمَا يَدَّعِي بَعْضُهُمْ(1).
________________________________
(1) وَانْظُرْ « إِعراب الْقُرآن وَصرفه وَبَيَانه » لمحمود صافي ج ه 2/26 ص 272.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَغْضَبُوا النَّبِيَّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
بَعْدَ أَن عَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَجَعَ وَلَم يَعْتَمِرْ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِأَمْرِهِ، فَغَضِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاس: إِنَّ مَنْ يُغْضِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
وَالْجَوَابُ:
أَوَّلًا: ذِكْرُ حَالِ الصَّحَابَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ:
يَقُولُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ لِقُرَيْشٍ: « أَيْ قَوْمِ وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ يَتَنَخَّمُ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ... »(1).
فَالْأَمْرُ لَيْسَ مَعْصِيَةً مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَهُم شَوْقٌ
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب: الشّروط، باب: الشّروط فِي الْجِهَاد، حَدِيث (2731 وَ 2732).
لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَتَمَنَّوْا لَوْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْيَهُ أَوْ أَنْ يُنزِّلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ يَأْمُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ تَأَخَّرُوا فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا حِكْمَةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَذَلِكَ لَمَّا رَأَتْ هَذَا الْأَمْرَ قَالَتْ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاحْلِقْ أَنْتَ وَانْحَرْ هَدْيَكَ.
فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ حَلَقَ وَ نَحَرَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ دُونَ أَمْرٍ جَدِيدٍ، إِذًا الْأَمْرُ لَم يَكُنْ مَعْصِيَةً، فَبِمُجَرَّدِ أَنْ رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ وَنَحَرَ عَلِمُوا أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْتَهَى وَأَنَّه لَا مَجَالَ لِلرُّجُوعِ، فَحَلَقُوا وَنَحَرُوَا وَاسْتَجَابُوا لِأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الْفَتْح: 18}.
وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] {الْفَتْح: 29}.
فَأَنْرَلَ سُورَةَ الْفَتْحِ كَامِلَةً بَعْدَ صلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَسَمَّاهُ فَتْحًا وَهُوَ
الفَتْحُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي فتحَ اللهُ تبارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ كَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ إِلَّا الشِّيعَةُ، فَالنَّوَاصِبُ وَالْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَم يَسْتَدِلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
فَنُقُولُ لِلشِّيعَةِ: أَعَلِيٌّ كَانَ مَعَهُم أَمْ لَا؟
بَإِجْمَاعِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ مَعَهُمْ، بَلْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ كِتَابَ الصُّلْحِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْروٍ، وَعَلِيٌّ كَذلِكَ لَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحْلِقْ، فَمَا كَانَ ذَمًّا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُو ذَمٌّ لِعَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِعَدَمِ الذَّمِّ لِعَلِيٍّ وَلَا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلِيٌّ كَذلِكَ هُنَا رَفَضَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحْوِ اسْمِهِ فَهَلْ يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ؟!
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: زَعْمُهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ لَعَنَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ جَيْشِ أُسَامَةَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَخَلَّفا عَنْهُ
قَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ وَكَانَ مِن ضِمْنِ الْجَيْشِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَجُلُّ الصَّحَابَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ: « لَعَنَ اللهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَن جَيْشِ أُسَامَةَ ».
فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ جَيْشُ أُسَامَةَ، فَلَم يَخْرُجْ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ، قَالُوا: فَهُمَا مَلْعُونَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ:
أَوَّلًا: نَقُولُ هَذَا كَذِبٌ، فَإِنَّه لَم يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
لَعَنَ اللهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، نَعَمْ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ أُسَامَةَ وَلَكِنْ لَمْ يَلْعَنْ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.
ثَانِيًا: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ ضِمْنِ جَيْشِ أُسَامَةَ، كَيْفَ وَأَبُوبَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَيْفَ يُخْرِجُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا؟
أَمَّا عُمَرُ: فَكَانَ مِن ضِمْنِ جَيْشِ أُسَامَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَم يَخْرُجْ بَعْدُ جَيْشُ أُسَامَةَ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصّدِّيقُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يُبْقِيَ عُمَرَ لِيَسْتَشِيرَهُ فِي أُمُورِهِ.
وَهَذَا مِن عَظِيمِ خُلُقِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدَّيقِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبقِيَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِدُونِ إِذْنِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَأَذِنَ لَهُ فَبَقِيَ عُمَرُ مَع أَبِي بَكْرٍ الصّدِّيقِ.
فَهَذِهِ قِصَّةُ أُسَامَةُ، لَا كَمَا يَدَّعُونَ(1).
________________________________
(1) انظر: « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (2/429)، وَ« الْكامل »(2/215)، وَ« الْبِدَايَة وَالنهَاية »(5/203) وَمَا بعدها.
الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَتْلُ خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ لِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ
لَمَّا تُوفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ عَنْ دِينِ اللهِ، فَأَرسَلَ أَبُوبَكْرٍ الْجُيُوشَ لِمُحَارَبةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَكَانَ مِن أُولَئِكَ الْقَادَةِ الْعَظَامِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَرْسَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى النُّبوَّةَ، وَانْتَصَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَ لِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مَعْرَكَةٍ عَظِيمَةٍ يُقَالُ لَهَا مَعْرَكَةُ الْحَدِيقَةِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ صَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدُ فِي الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتي ارْتَدَّتْ عَن دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِنْ عَادُوا إِلَى الدِّينِ وَإِلَّا قَاتَلَهُم رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ جَاءَهُم خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَكَانُوا قَدْ مَنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِم لَمْ يَدْفَعُوهَا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدّيقِ بَلْ لَمْ يَدْفَعُوهَا أَصْلًا.
فَجَاءَهُم خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ لَهُم: أَيْنَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ؟ مَالَكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؟
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ كُنَّا نَدْفَعُه لِصَاحِبِكُمْ فِي حَيَاتِهِ فَمَاتَ فَمَا بَالُ أَبِي بَكْرٍ؟
فَغَضِبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: أَهُوَ صَاحِبُنَا وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ، فَأَمَرَ ضِرَارَ بْنَ الْأَزْوَرِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ قدْ تَابَعَ سَجَاحِ الَّتِي ادَّعَتِ النُّبوَّةَ(1).
وَهُنَاكَ رِوَايةٌ وَهِيَ: أَنَّ خَالِدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا كَلَّمَهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَأَسَرَ مِنْهُمْ مَنْ أَسَرَ. قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَدْفِئُوا أَسْرَاكُمْ، وَكَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً وَكَانَ مِنْ لُغَةِ ثَقِيفٍ أَدْفِئُوا الرَّجُلَ يَعْنِي: اقْتُلُوهُ، فَظَنُّوا أَنَّ خَالِدًا يُرِيدُ الْقَتْلَ فَقَتَلُوهُمْ بِدُونِ أَمْرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَيُّ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ حَصَلَ، فَإِنَّ قَتَلَهُمْ كَانَ حقًّا أَوْ كَانَ تَأْوِيلًا وَهَذَا لَا يُعَابُ عَلَيْه.
وَأَمَّا قَوْلُهمْ إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ دَخَلَ عَلَى زَوجَتِه فِي نَفْسِ اللَّيْلَةِ فَهَذَا كَذِبٌ، فَبَعْدَ أَنْ قَتَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَنْ قَتَلَ وَسَبَى مِنْهُمْ، اسْتَخْلَصَ زَوْجَتَهُ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مِنَ السَّبِيِّ، وَلَكِن أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِن أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ أَنَّهُ قَتَلَهُ مِن أَجْلِ زَوْجَتِهِ فَهَذَا كُلُّه كَذِبٌ(2).
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبيل اللهِ يَقُولُ: لَأَنْ
________________________________
(1) قَالَ ابْنُ طاووس مِنْ عُلَمَاء الشِّيعَة: « ارْتَدَّتْ بَنُو تَمِيم وَالزيات وَاجْتَمَعُوا عَلَى مَالِك بْن نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعي ». انْظُرْ « فصل الْخَطاب فِي إِثبات تحريف كِتَاب رب الْأرباب »(ص 105).
(2) انْظُرْ « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة »: (6/326).
أُصَبِّحَ الْعَدُوَّ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُهْدَى إِلَيَّ فِيهِ عَرُوسٌ أَوْ أُبَشَّرَ فِيهَا بِوَلَدٍ(1).
فَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْقَادَةِ الْعِظَامِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَالِدٌ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ، سَلَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ »(2).
وَلِذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ مِن خَالِدٍ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ قَتْلُ مَالِكِ بْنِ نُويْرَةَ وَمَنْ مَعَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ: اعْزِلْ خَالِدًا فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَاللهِ!! إِنَّهُ سَيْفٌ سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ(3).
وإِن كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ قَاتِلَ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فَمَا بَالُ عَلِيٍّ لَمْ يَقْتُلْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ وَصهْرُهُ وَخَلِيفَةُ الْمُسْلِمينِ، وَمَالِكُ بْنُ نُوَيْرَة مَشْكُوكٌ فِي إِسْلَامِهِ، فَإِنْ كَانَ عَليٌّ مَعْذُورًا فأَبُو بَكْرٍ مَعْذُورٌ.
وَلَمَّا الْتَقَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُتَمِّمَ بْنَ نُوَيْرَةَ أَخَا مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: مَاذَا قُلْتَ فِي أَخِيكَ؟
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة »: (7/117).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب خَالِد بْن الْوَلِيد، حَدِيث (3757)، الْفقرة الْأُولَى مِنَ الْحَدِيثِ. وَالحَدِيث رَوَاه ابْن عَسَاكِر كاملًا، (8/15)، وَانْظُرْ « السّلسلة الصَّحِيحَة » حَدِيث (1237).
وانْظُرْ: « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » أَحْدَاث سَنَة 11 هـ ذكر الْبطاح وَخبره، وَ« الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة »، خِلَافَة أَبَى بكر، فصل: مَقْتَل مَالِك بْن نُوَيْرَةَ.
قَالَ مُتَمِّمٌ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ: لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمِالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا
فَقَالَ عُمَرُ: وَالله لَوَدِدْتُ أَنْ أَرْثِيَ أَخِي زَيْدًا بِمِثْلِ مَا رَثَيْتَ أَخَاكَ.
فَقَالَ مُتَمِّمٌ: لَوْ مَاتَ أَخِي عَلَى مِثْلِ مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَخُوكَ مَا رَثَيْتُهُ(1).
قَالَ عُمَرُ: مَا عَزَّانِي أَحَدٌ فِي أَخِي بِمِثْلِ مَا عَزَّيْتَنِي.
وكَانَ زَيْدٌ قَدِ اسْتُشْهِدَ فِي مَعْرَكَةِ الْيَمَامَةِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ.
________________________________
(1) « الْكامل فِي التَّارِيخ » لِابْنِ الْأَثِير (2/242) بتصرف.
الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: قَتْلُ مُعَاوِيَةَ لِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ
قَالُوا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَتَلَ الصّحَابِيَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ ظُلْمًا.
قُلْتُ: حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ؟
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ حُجْرًا تَابِعِيٌّ وَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَهَذَا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: إِنَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ كَانَ تَابِعِيًّا وَلَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ(1).
لِمَاذَا قَتَلَ مُعَاوِيَةُ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ؟
حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ مِمَّنَ قَاتَلَ مَعَه فِي صِفِّينَ، وَبَعْدَ تَنَازُلِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ وَاسْتِقْرَارِ الْأمْرِ لِمُعَاوِيَةَ وَسُمِّيَ عَامَ الْجَمَاعَةِ، وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ أَوْ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَا يَخْفَى حَالُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا عَلِيًّا، وَخَانُوا ابْنَهُ الْحَسَنَ، وَغَدَرُوا بِالْحُسَيْنِ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ طَعَنُوا فِي إِمَارَةِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُمُ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي إِمَارَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَفِيِ إِمَارَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، بَلْ لَمْ
________________________________
(1) « الْإِصابة » (1/313).
يُرْضِهِمْ أَحَدٌ أَبَدًا إِلَّا بِقُوَّةِ السَّيْفِ. وَكَانَ زِيَادٌ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَ ةِ مِن قِبَلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهُو مِن وُلَاةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(1)، فَلَمَّا صَارَ مُعَاوِيَةُ خَلِيفَةً تَرَكَهُ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَزَادَهُ الْكُوفَةَ.
وَحَدَثَ أَنْ قَامَ زِيَادٌ فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ فَيُقَالَ: إِنَّهُ أَطَالَ فِي الْخُطْبَةِ، فَقَامَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ.
فَاسْتَمَرَّ زِيَادٌ فِي خُطْبَتِهِ فَقَامَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَحَصَبَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَامَ أَتْبَاعُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَحَصَبُوهُ أَيْضًا بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَرْسَلَ زِيَادٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِمَا وَقَعَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ بإِرْسَالِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ إِلَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، لأَنه أَرَادَ أَنْ يُثِيرَ الْفِتْنَةَ(2).
وَأَرَادَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَقْطَعَ دَابِرَ الْفِتْنَةِ مِن أَوَّلِهَا فَقَتَلَهُ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَتْ عَائِشَةُ لِمُعَاِوِيَةَ: لِمَاذَا قَتَلْتَ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ؟ قَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعِينِي وَحُجْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ عِنْدَ اللهِ(3).
ونَحْنُ نَقُولُ: دَعُوهُ وَحُجْرًا حَتَّى يَلْتَقِيَا عِنْدَ اللهِ.
________________________________
(1) « تَارِيخ خَلِيفَة بْن خَيَّاطٍ » (ص 201- 202).
(2) « الْإِصابة » (1/313)، وَ« سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (3/466، 463)، وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/52) وَمَا بعدها.
(3) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (8/55)، وَ« الْعواصم مِنَ الْقوصم » (ص 220).
الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ: ظَلَمَ أَبُو بَكْرٍ فَاطِمَةَ فِي مِيرَاثِهَا
قَالُوا: بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَطْلُبُ مِيْرَاثَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعْطِهَا أَبُو بَكْرٍ حَقَّهَا.
وَالَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الدَّلِيلِ هُمُ الشِّيعَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَوجِيهِ طَلَبِ فَاطِمَةَ لِفدَكَ(1).
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فَدَكَ إِرْثٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ هِبَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَهَا فَاطِمَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ- وَهُوَ أَنَّ فَدَكَ إِرْثٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهَا أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَطْلُبُ مِنْهُ إِرْثَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَدَكَ وَسَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « إِنَّا لَا نُورَثُ، مَا تَرَ كْنَاه صَدَقَةٌ »(2).
أَوْ « مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»(3).
________________________________
(1) فَدَك اسْم لأرض غنمهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُود فِي خيبر.
(2) « صَحِيح مُسلِم »: كِتَاب الْجِهَاد وَالسّير، بَاب حكم الْفيء حَدِيث (1757).
(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فرض الْخمس، بَاب فرض الْخمس حَدِيث (3093)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب الْجِهَاد وَالسّير، بَاب قَوْل النَّبِيّ لَا نورث (1759).
أَوْ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ(1).
ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.
هَكَذَا أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ فَاطِمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: « إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ »(2).
وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ التَّي فِي الصَّحِيحَيْنَ: « إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاه صَدَقَةٌ » فَوَجَدَتْ(3) فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدّيقِ.
فَإِمَّا أَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي سَمَاعِه، وَهِيَ اسْتَدَلَّتْ بِالعُمُومِ فِي قَوْلِ اللهِ [يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] {النساء: 11}.
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب قرابة رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم (3712)، وَصَحِيح مُسْلِم، كِتَاب الْجِهَاد وَالسّير، بَاب قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نورث، حَدِيث (1758).
(2) « مُسْنَد أَحْمَدَ » (3/225).
(3) أَي غَضبت.
وأَهْلُ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَبْحَثُونَ عَن عُذْرٍ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا يَبْحَثُونَ عَن عُذْرٍ لِفَاطِمَةَ؛ لِأَنَّهُم يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاه أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ نَفْسُهُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ رَوَوُا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمَّا مَا قَبِلَتْ مِنْهُ هَذَا الْكَلَامَ حَاوَلَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنْ يَبْحَثُوا عنْ عُذْرٍ لِفَاطِمَةَ، لَا لِأَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُنَا قَدْ أَخْطَأَ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ.
وَقَالُوا: غَضِبَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ !!
وَنقُولُ: مَا يَضُرُّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْه فَاطِمَةُ إِنْ كَانَ اللهُ رَضِي عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ اللهُ: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الْفَتْح: 18}.
وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ رَأْسَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُو ا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَمَنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَضِيَ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَضرُّهُ غَضَبُ مَنْ غَضِبَ.
وَكَذَا نَقُولُ: لَوْ جَعَلَ أيُّ إِنْسَانٍ نَفْسَهُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ وَجَاءَتْه فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُطَالِبُ بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ قَدْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « لَا نُورَثُ ». فَهَلْ يُقَدِّمُ قَوْلَ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ أَوْ يُقَدِّمُ
رِضَى فَاطِمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؟
* وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ فَاطِمَةَ وَجَدَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ !!
الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِن زِيَادَاتِ الزُّهْرِيِّ وَإِدْرَاجِهِ وَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الرِّوَايَةِ.
ثُمَّ نَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بالتَّفْصِيلِ.
* أَمَّا قَوْلُهُم: إِنَّهُ إِرْثٌ!!
فَنَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » بِمَعْنَى الَّذِي تَرَكْنَا هُوَ صَدَقَةٌ، وَلِذَلِك جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ « مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَةٌ ».
وحَرَّفَ الْبَعْضُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: « مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً » فَيَجْعَلونَ « مَا » نَافِيَةً أَيْ لَمْ نَتْرُكْ صَدَقَةً!!
وأَهْلُ السُّنَّةِ يَجْعَلُونَ « مَا » هُنَا مَوْصُولَةً وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ « مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » بالرَّفْعِ وَيُؤَكِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ رِوَايَةُ « مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَةٌ ».
فَالنَّبِيُّ لَا يُورَثُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْه، بَلْ عَلَى الصَّحِيحِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَمِيعًا لَا يُورَثُونَ.
وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِقَولِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: [يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] {مر يم: 6-7}
قَالُوا هُنَا أَثْبَتَ الْوِرَاثَةَ، وَأَثْبَتَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فَقَالَ عَنْ سُلَيمَانَ:
[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ] {النمل: 16}.
وَتَفْسِيرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَينِ مَا يَأْتِي:
* أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [ يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعقُوبَ] فَنَقُولُ:
أَوَّلًا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِرَجُلٍ صَالِحٍ أَنْ يَسَأَلَ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَدًا حَتَّى يَرِثَ الْمَالَ فَقَطْ، فَكَيْفَ نَرْضَى هَذَا لِنَبِيٍّ كَرِيمٍ وَهُوَ زَكَرِيَّا أَنْ يَسْأَلَ وَلَدًا لِكَيْ يَرِثَ مَالَهُ؟!.
ثَانِيًا: الْمَشْهُورُ أَنْ زَكَرِيَّا كَانَ فَقَيرًا يَعْمَلُ نَجَّارًا(1)، فَأَيُّ مَالٍ عِنْدَ زَكَرِيَّا حَتَّى يَطْلُبَ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهَ وَارِثًا، بَلِ الْأَصْلُ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُبْقُونَ الْمَالَ، بَلْ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيرِ.
ثَالِثًا: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْه سَياقُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
[يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ].
كَمْ شَخْصٌ فِي آلِ يَعْقُوبَ؟ وَأَيْنَ يَحْيَى مِن آلِ يَعْقُوبَ؟ آلُ يَعْقُوبَ هُم مُوسَى، وَدَاودُ، وَسُلَيْمَانُ، وَيَحْيَى، وَزَكَرِيَّا، وَأَقْوَامُهُمْ، بَلْ كَانَ كُلُّ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ؛ لِأَنَّ
________________________________
(1) فَفِي الْحَدِيث: « كَانَ زكريا نجارًا » رَوَاه مُسْلِم كِتَاب الْفضاتل بَاب زكريا عَلَيْهِ السَّلَامُ (2379).
إِسْرَائِيلَ هُوَ يَعْقُوبُ فَكَيْفَ بِبَقِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، إِذَنْ فَكَمْ سَيَكُونُ نَصِيبُ يَحْيَى؟
ثُمَّ إِنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالفَرْعِ الْوَارِثِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: [يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ] يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَرَادَ وِرَاثَةَ الْمَالِ، بَلْ ذَكَرَ يَعْقُوبَ؛ لِأَنَّ يَعْقُوبَ نَبِيٌّ وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ فَأَرَادَ أَنْ يَرِثَ النُّبوَّةَ وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ.
رَابِعًا: وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ »، أَوْ قَوْلُه: « إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ »، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ « إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ »(1).
* وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ] فَكَذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ الْمَالَ، وَإِنَّمَا وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ لِأَمْرَيْنِ اثْنَينِ:
الْأَوَّلُ: إِنَّ دَاوُدَ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ لَهُ مِئَةَ زَوْجَةٍ، وَلَهُ ثَلَاثَمِئَةِ سرِّيَّة (أَي: أَمَة)، وَلَه كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلَادِ فَكَيْفَ لَا يَرِثُهُ إِلَّا سُلَيْمَانُ؟ بَلْ إِخْوَةُ سُلَيْمَانَ أَيْضًا يَرِثُونَ، فَتَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ إِنْ كَانَ مَعَهُ وَرَثَةٌ آخَرُونَ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَبُو داود فِي « السُّنَن »، كِتَاب الْعلم، بَاب الْحث عَلَى طلب الْعلم حَدِيث (3641)، وَإِسْنَاده صَحِيح.
فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِرْثًا عَادِيًّا مَا كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَكَانَ تَحْصِيلَ حَاصِلٍ، لِأَنَّ إِرثَ الْمَال أَمْرٌ عَادِيٌّ، وَالَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللهَ أَرَادَ شَيْئًا آخَرَ خَصَّه بِالذِّكْرِ وَهُوَ إِرْثُ النُّبُوَّةِ.
* وَأَمَّا قَوْلُهُم: إِنَّهَا هِبَةٌ وَهَدِيَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَهَا لِفَاطِمَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَدْ رَوَى الْكاشاني فِي « تَفْسِيره »: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْه: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] {الإِسر اء: 26}. فَنَادَى فَاطِمَةَ فَأَعْطَاهَا فَدَكَ(1).
وَلْنَقِفْ قَلِيلًا هُنَا:
أَوَّلًا: هَذِهِ الْقِصَّةُ مَكْذُوبَةٌ، وَلَمْ تَنْزِلْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا شَيْئًا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ فَاطِمَةَ طَلَبَتْ فَدَكَ مِنْ بَابِ الْإِرْثِ لَا مِن بَابِ الْهِبَةِ، وَفَتْحُ خَيْبَر فِي أَوَّلِ السَّنَةِ السَّابِعَةِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَتْ فِي الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ(2)، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَتْ فِي التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ(3)، فَكَيْفَ يُعْطِي فَاطِمَةَ وَيَدَعُ أُمَّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ صَلَواتُ اللهِ
________________________________
(1) « تَفْسِير الصّافي » (3/186).
(2) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (2/250)، « الْإِصابة » (4/206).
(3) « سِيَر أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ » (2/252)، « الْإِصابة » (4/466).
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا اتِّهَامٌ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* ثُمَّ إِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ لَمَّا جَاءَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ ابْنِي حَدِيقَةً، وَأُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلَّ أَوْلَادِكَ أَعْطَيْتَ؟ قَالَ: لَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ(1).
فَسَمَّاه جَوْرًا وَذَلِكَ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ، فَهَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْهَدُ عَلَى الْجَوْرِ، هَلْ يَفْعَلُ الْجَوْرَ؟!
أَبَدًا. بَلَ نَحْنُ نُنَزِّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هِبَةً؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبضَتْهَا أَوْ لَمْ تَقْبِضْهَا.
فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهَا فَكَيْفَ جَاءَتْ تُطَالِبُ بِهَا.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهَا فَإِنَّ الْهِبَةَ إِنْ لَمْ تُقْبَضْ فَكَأَنَّهَا لَم تُعْطَ.
فَعَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ الْقَوْلُ إِنَّهَا إِرْثٌ أَوِ الْقَوْلُ إِنَّهَا هِبَةٌ، فَالْقَولُ سَاقِطٌ فَهِيَ لَا إِرْثٌ وَلَا هِبَةٌ.
والعَجِيبُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ الصِّديقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عَليٌّ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ فَدَكَ لِفَاطِمَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ إِرْثًا أَوْ هِبَةً فَهِيَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهِيَ مَاتَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِلَى مَنْ
________________________________
(1) « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب: الْهبات، بَاب كراهة تفضيل بَعْض الْأَوْلَاد فِي الْهبة حَدِيث (1623).
تَذْهَبُ فَدَكُ؟
تَذْهَبُ إِلَى الْوَرَثَةِ. فَعَلِيٌّ لَهُ الرُّبُعُ لِوُجُودِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَزَيْنَبُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَهُمُ الْبَاقِي، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَم يُعْطِ فَدَكَ لِأَوْلَادِهِ، فَإِنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ ظَالِمًا وَعُمَرُ ظَالِمًا وَعُثْمَانُ ظَالِمًا؛ لِأَنَّهُم مَنَعُوا فَدَكَ أَهْلَهَا فَلِمَ لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى عَلِيٍّ، لِأَنَّهُ مَنَعَ فَدَكَ أَهْلَهَا وَلَم يُعْطِهَا لِأَوْلَادِ فَاطِمَةَ.
* وَفَدَكُ كَانَتْ بِيَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا تُوفِّيَ كَانَتْ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، وَفِي عَهْدِ عُمَرَ جَاءَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَطَلَبَا مِنْهُ أَن تَكُونَ بِيَدَيْهِمَا فَأعْطَاهُمَا إِيَّاهَا يُدِيرَانِهَا ثُمَّ كَانَتْ بِيَدِ عَلِيٍّ وَظَلَّتْ عِنْدَهُ إِلَى أَن تُوُفِّيَ سَنَةَ 40 هـ، ثُمَّ بيدِ الْحَسَنِ، ثُمَّ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ(1).
* وَنَحْنُ نُنَزِّهُ الْجَمِيعَ، نُنَزِّهُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَمَنْ كَانَتْ فَدَكُ فِي يَدِهِ إِلَى زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ.
فَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ هِبَةً وَلَم تَكُنْ كَذَلِك إِرْثًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَانِيًا: كَيْفَ يَتْرُكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ الزَّاهِدُ، وَمِمَّا
________________________________
(1) « فَتْح الْبَارِي » (6/239) حَدِيث رقم (3094).
يَدُلُّ عَلَى هَذَا أُمُورٌ:
1- حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ سَاهِمُ الْوَجْهِ قَالَتْ: فَحَسِبْتُ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَاكَ سَاهِمَ الْوَجْهِ أَفَمِنْ وَجَعٍ؟ فَقَالَ: لَا. وَلَكِنَّ الدَّنَانِيرَ السَّبْعَةَ الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا أَمْسِ، أَمْسَيْنَا وَلَمْ نُنْفِقْهَا(1).
2- تُوفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْد يَهُودِيٍّ مُقَابِلَ ثَلَاثِينَ صَاعًا اسْتَلَفَهَا(2). فَمَنْ عِنْدهُ فَدَكُ وَسَهْمُ خَيْبَرَ يَرْهَنُ دِرْعَهُ مُقَابِلَ عِشْرِينَ صَاعًا؟!
* وَيَذكُرُونَ عَنْ فَاطِمَةَ: أَنَّهَا لَمَّا مُنِعَتْ فَدَكَ غَضِبَتْ وَذَهَبَتْ إِلَى قَبْرِ أَبِيهَا تَشْتَكِي إِلَيْهِ!!
وَهَذَا كَذِبٌ، بَلْ وَلَا يَلِيقُ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَ أَرْضَاهَا فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ يَعقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: [قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {يُوسُف: 86}.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَرَضَّاهَا حَتَّى رَضِيَتْ، كَمَا أَخْرَجَ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسلًا صَحِيحًا(3)، وَالشَّعْبِيُّ مِنْ كِبَارِ
________________________________
(1) رَوَاه أَحْمَد 6/314 وَمَعْنى ساهم الْوجه أَي متغير لونه « النِّهَايَة » (2/429).
(2) رَوَاه الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْجِهَاد بَاب مَا قِيلَ فِي درع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2916).
(3) « فَتْح الْبَارِي » (6/233).
التَّابِعِينَ وَاللهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْر.
وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ: أَنَّ فَاطِمَةَ غَسَّلَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَأَسْمَاءُ زَوْجَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَيْفَ تُغَسِّلُهَا زَوْجَةُ أَبِي بَكْرٍ الصّدِّيقِ وَأَبُو بَكْرٍ لَا يَدْرِي بِمَوْتِهَا؟
والصَّحِيحُ: أَنَّهَا دُفِنَت لَيْلًا وَلَم يُؤْذَنْ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا.
وعَائِشَةُ دُفِنَتْ لَيْلًا بَلْ وَسَيِّدُ الْخَلْقِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ لَيْلًا.
الشُّبْهَةُ الثَّامِنَة: قَوْلُ عُمَرَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: إِنَّهَا فَلْتَةٌ
قَالُوا: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق: إِنَّهَا فَلْتَةٌ.
وَنَقُولُ: نَعَمْ هَذَا صَحِيحٌ، ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدِّيقِ إِنَّهَا فَلْتَةٌ، وَلَكِنْ دَعُونَا نَقْرَأْ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْقِصَّةَ كَامِلَةً:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: لَئِنْ مَاتَ عُمَرُ لَأُبَايِعَنَّ فُلَانًا، وَأَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هَذَا الْكَلَامُ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ وَقَى اللهُ شَرَّهَا، وَلَيْسَ فِيكُم مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ ذَهَابِهِ مَعَ أَبِي بَكْرِ الصّدِّيقِ إِلَى سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ (1) مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ
________________________________
(1) أَي حَضَّرت.
يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحِدَّةِ(1).
فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ.
فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَاللهِ مَا تَرَكَ مِن كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلَّا قَالَ فِي بَدِيهَتِه مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتَّى سَكَتَ فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُم مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُم لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِن قُرَيْشٍ، هُم أَوْسَطُ الْعَرَب نَسَبًا وَدَارًا، وَقَد رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ (يَقْصِدُ: عُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ)، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِي وَيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَ هَذَا، كَانَ وَاللهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِم أَبُو بَكْرٍ.
وحَتَّى قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَن حَضَرَنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِن مُبَايعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِيْنَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَن يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنا، فَإِمَّا بَايعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيكُونُ فَسَادًا، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِن غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةَ أَنْ يُقْتَلَا(2).(3).
________________________________
(1) الْحِدّةُ: سُرعةُ الْغضبِ.
(2) أَي خشية أَن يقتلَهما النَّاسُ.
(3) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْحدود، بَاب رجم الْحبلى مِنَ الزّنا إِذَا أحصنت، حَدِيث (6830).
فَهَذِهِ قِصَّةُ الْبَيْعَةِ، نَعَمْ هِيَ فَلْتَةٌ، وَلَكِنْ لَهَا قِصَّةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مُفَصَّلَةً فِي كَلَامِنَا عَلَى سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَلَا يَكُونُ هَذَا طَعْنًا عَلَى عُمَرَ رَضِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
الشُّبْهَة التَّاسِعَةُ: كَذِبُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ يَهْجُرُ
قَالُوا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله- أَي: حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ- وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ ».
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِندَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا »(1).
وَطَعْنُهُم فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْحَدِيثِ يَتَمَثَّلُ فِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ كَذِبًا أًنَّ عُمَرَ قَالَ: « إِنَّ رَسُولَ الله يَهْجُرُ »(2).
وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ!! لَمْ يَقُلْ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُرُ، بَلِ الرِّوَايَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِما أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مَرَضُ
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْعلم، باب: كِتَاب الْعلم، حَدِيث (114)، وَصَحِيح مُسلِم، كِتَاب الْوصية، حَدِيث (1637).
(2) « فَاسألوا أَهْل الذّكر » للمتشيع التّيجاني (ص 144، 179)، وَعزاه إِلَى الْبُخَارِيّ كذبا وَزورا!!
الْمَوْتِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدًا. وَبَيَّنَ هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمَّا أُغْمِيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصلَّى النَّاسُ؟.
قَالَتْ: هُمْ فِي انْتِظَارِكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَرَّبُوا إِلَيهِ الْمَاءَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الصَّلَاةِ فَسَقَطَ مَغْمِيًّا عَلَيهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قَالُوا: هُمْ فِي انْتِظَارِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: قَرِّبُوا لِي مَاءً فَأَتَوهُ بِالْمَاءِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ لِلصَّلَاةِ فَسَقَطَ.
فَلَمَّا سَقَطَ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَفَاقَ: قَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قَالُوا: هُمْ فِي انْتِظَارِكَ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ(1).
نَعَمْ هُنَاكَ مَنْ قَالَ: أَهَجَرَ. وَلَكِنَّه لَيْسَ عُمَرَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا أَشْفَقَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُوعَكُ كَرَجُلَيْنِ مِنْكُمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَذَلِكَ لِأَنَّ لَكَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ(2).
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيّ »: كِتَاب الْأَذَان، بَاب إِنَّمَا جَعَلَ الْإِمَام ليؤتم بِهِ، حَدِيث (687)، وَصَحِيح مُسلِم: كِتَاب الصَّلَاة، بَاب اسْتِخْلَاف الْإِمَام إِذَا عرض لَهُ عذر حَدِيث (418).
(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ » كِتَاب الْمرضى: بَاب أشد النَّاس بَلَاء حَدِيث (5648)، وَصَحِيح مُسلِم: كِتَاب الْبر وَالصلة بَاب ثواب الْمؤمن فِيمَا يصيبه مِنْ مرض حَدِيث رقم (2571).
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا فلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا. أَشْفَقَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِه تَعَالَى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ](1).
وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « وَاللهِ مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ وَالْجَنَّةِ إِلَّا وَأَخْبَرْتُكُم بِه، وَمَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُم اللهُ بِهِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُم بِه، وَمَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُم اللهُ عَنْه إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُم عَنْهُ »(2) فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ فِي الدِّينِ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَهُ؟
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَني أَنْ آتِيَهِ بِطَبَقٍ يَكْتُبُ فِيه مَا لَا تَضِلُّ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ: فَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ (يَعْنِي: خَشِيْتُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْكِتَابُ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَحْفَظُ وَأَعِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« أُوصِيْكُم بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم »(3).
________________________________
(1) « سِلْسِلَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة » (4/417 تَحْت الْحَدِيث 1890).
(2) سنن النّسائي: كِتَاب الْحج، بَاب الْقران حَدِيث (2719)، وَسنده صَحِيح.
(3) أ خر جه « الْبيهقي » (5/17).
فَإِذَا قَالُوا: الصَّحَابَةُ عَصَوْا أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَم يَأْتُوهُ بِالْكِتَابِ.
فَنَقُولُ: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ عَصَى؛ فَإِنَّه هُوَ الْمَأْمُورُ مُبَاشَرَةً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْكِتَابِ. فَلِمَاذَا لَمْ يَأْتِهِ بِهِ؟! فَإِذَا لُمْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، فَعَلِيٌّ يُلَامُ!!
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَى الْجَمِيعِ لِأُمُورٍ:
أَوَّلًا: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ قَالَ: فَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَحْفَظُ وَأَعِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُوصِيكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ(1).
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذًا تَلَفَّظَ بَمَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ.
ثَانِيًا: الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْه أَوْ مُسْتَحَبًّا، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ الْوَاجِبِ تَبْلِيغُهَا فَقَولُهُم هَذَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَلِّغْ جَمِيعَ الشَّرْعِ، وَهَذَا طَعْنٌ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعْنٌ فِي اللهِ الَّذِي قَالَ: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ].
وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ!! فَنَقُولُ: هَذَا هُوَ قَوْلُنَا جَمِيعًا.
ثَالِثًا: إِنَّ الصَّحَابَةَ امْتَنَعُوا شَفَقَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِن بَابِ الْمَعْصِيَةِ.
________________________________
(1) « مُسْنَد أَحْمَدَ »، مُسْند الْعشرة الْمُبَشِّرين، مُسْند عَلِيّ (693).
الشُّبْهَةُ الْعَاشِرَةُ: نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَن مُتْعَةِ الْحَجِّ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَهُما مَشْرُوعَتَانِ فَكَيْفَ يُحَرِّمُ عُمَرُ مَا أحَلَّهُ اللهُ؟
أَوَّلًا: مُتْعَةُ الْحَجِّ:
فَنَقُولُ: عَلَى فَرْضِ أَنَّ عُمَرَ أَخْطَأَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَكَانَ مَاذَا؟!
نَحْنُ لَا نَدَّعِيِ الْعِصْمَةَ لِعُمَرَ، بَلْ نَقُولُ: يُخْطِئُ كَمَا تُخْطِىءُ بَاقِي الصَّحَابَةِ هَذَا إِذَا افْتَرَضْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ.
عَنِ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبدٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: أَحْرَمْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، (يَعْنِي: مُتَمَتِّعًا) فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ(1).
فَهَذَا عُمَرُ يَرَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ: بَلْ وَمَدَحَ هَذَا الرَّجُلَ وَلَمْ يَنْهَهُ وَقَالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ.
وَعَن سَالِمٍ عِنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُخَالِفُ أَبَاكَ.
قَالَ: إِنَّ أَبِي لَم يَقُلِ الَّذِي تَقُولُونَ؟ إِنَّمَا قَالَ: « أَفْرِدُوا الْعُمْرَةَ
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد (1/25).
مِنَ الْحَجِّ »، فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا وَعَاقَبْتُمْ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَحَلَّهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَفَكِتَابُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ عُمَرُ؟(1).
مَاذَا كَانَ مُرَادُ عُمَرَ إِذًا؟
كَانَ مُرَادُ عَمَرَ أَنْ لَا يُعَرَّى بَيْتُ اللهِ عَنِ الْعُمْرَةِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْتَمِرُونَ مَعَ الْحَجِّ وَهِيَ الْمُتْعَةُ، بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْتُونَ إِلَى بَيْتِ اللهِ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَحُجُّوا مُفْرِدِينَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتُونَ إِلَى بَيْتِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِعُمْرَةٍ بِسَفَرٍ مُسْتَقِلٍّ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ اللهِ عَارِيًا مِنَ الْخَلْقِ.
فَالنَّهْيُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَم يَكُنْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَآهُ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَفْضَلُ، وَلَا يُعَابُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ مُتَمَتِّعًا قَالَ لَهُ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ.
ثَانِيًا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ:
إِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يُبِيحُ مُتْعَةَ النِّسَاءِ-: « مَهْلًا يَا ابْنَ عبَّاس؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ
________________________________
(1) « سنن الْبيهقي (5/51) وَقَالَ الْأَلْبَانِيّ فِي مُقَدِّمَة صفة الصَّلَاة « رِجَاله ثِقَات ».
خَيْبَر، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَنَسِيَّةِ »(1).
وَكذَلِكَ حَدِيثُ سَلَمةَ بْنِ الْأكْوَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ عَامَ أَوْطَاس »(2)، وَكَذَلِكَ رَوَى سَبُرَةُ الْجُهَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْمُتْعةَ عَامَ الْفَتْحِ(3) وَفِي رِوَايَةٍ: « إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »(4).
فَعُمَرُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ مَاذَا؟
فَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى عَن شَيْءٍ نَهَى رَبُّ الْعِزَّةِ تبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: [وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ] {المؤمنون: 5- 7}.
فسَمَّاهُمُ الله عَادِينَ.
وَهُم يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] {النساء: 24}.
________________________________
(1) « صَحِيح مُسلِم »: كِتَاب النِّكَاح: بَاب نكاح الْمتعة حَدِيث (1407) (31). وَراجع: « وَسَائِل الشِّيعَة » (12/12).
(2) « صَحِيح مُسلِم »: كِتَاب النِّكَاح: بَاب نكاح الْمتعة حَدِيث (1405) (18).
(3) « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب النِّكَاح: بَاب نكاح الْمتعة حَدِيث (1406) (20).
(4) « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب النِّكَاح: بَاب نكاح الْمتعة حَدِيث (1406) (21).
ويَسْتَدِلُّونَ بِالقِرَاءَةِ: [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً]:
نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَلَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ.
وَهِي مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَواءٌ كَانَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَوْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَوْ سَبُرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَوْ غَيْرِهِمْ.
الشُّبْهَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اتِّهَامُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِالْكُفْرِ
قَالُوا عَنْ قَوْلِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] {التّحر يم: 1- 4}.
قَالُوا: [صَغَتْ ] أَي: مَالَتْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالُوا: هَذِهِ آيَاتٌ مِن كِتَابِ اللهِ نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ وَحَفْصةَ زَوْجَتِيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْنَا: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِنْتِ عَمَّتِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي لأَجِدُ مِنْكَ رِيْحَ مَغَافِيرَ(1)، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ شَرِبْتُ
________________________________
(1) اسْم نوع مِنَ الشّجر.
عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ إِلَيْهِ(1).
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَقَالَ لَهَا: لَا تُخْبِرِي أَحَدًا وَلَن أَعُودَ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَدْ نَجَحَتْ فِي خُطَّتِهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ عَنِ الْعَسَلِ وَأَنَّه لَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ] الْآيات {التحريم: 1}.
* قَوْله تَعَالَى [ إِنْ تَتُوبَا ] يَعْنِي مِن هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْغَيْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ.
* وَقَولُه: [ صَغَتْ ] أَي: مَالَتْ عِنِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْفِعْلِ فَالفِعْلُ خَطَأٌ، وَلَيْسَ مَعْنَى مَالَتْ: كَفَرَتْ، كَيْفَ وَهُنَّ زَوْجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُنَّ اللَّاتِي أَمَرَ اللهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ مِنْهُنَّ وَاحِدةً وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَسْتَبْدِلَ بِهِنَّ أَحَدًا وَأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلِيْهِنَّ، قَالَ تَعَالَى: [لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا] {الْأحزاب: 52}، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ أَذِنَ اللهُ بِالزَّوَاج.
الْمُهِمُّ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَيْرَةَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ جِدًّا يَحْصلُ بَيْنَ النِّسَاءِ، بَلْ إِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَيْنِ.
________________________________
(1) صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الطّلاق، بَاب لِمَ تحرم مَا أحل الله لَكَ (5267).
فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَينِ؛ فَحِزْبٌ فِيهِ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَسَوْدَةُ.
والْحِزْبُ الْآخَرُ فِيهِ: أُمُّ سَلَمَةَ، وَسَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ حَبِيبَةَ، جُوَيْرِيَةُ، مَيْمُونَةُ، زَيْنَبُ-.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ يَقُلْنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهَا حَيْثُ كَانَ مِن نِسَائِهِ.
فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ لَهَا فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ.
قَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى الله مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
ثُمَّ إِنَّهُنَّ (أَيْ: حِزْب أُمِّ سَلَمَةَ) دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللهَ الْعَدْلَ
فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: يَا بُنيَّةُ أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟
قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ -يعَنِي عَائِشَةَ-. فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ.
فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْه فَأَغْلَظَتْ - يَعْنِي: فِي الْكَلَامِ- وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللهَ الْعَدْلَ فِي ابْنْةِ أَبِي قُحَافَةَ: يَقُولُ فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَتَكَلَّمُ أَوْ لَا، فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا.
فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ(1).
فالْقَصْدُ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ ضَرَائِرُ، وَيَقَعُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: نَعَمْ أَخْطَأَتْ حَفْصةُ وَعَائِشَةُ، وَلَكِنْ مَا كَفَرَتَا بِاللهِ تَعَالَى فِي فِعْلِهِمَا ذَلِكَ.
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: صَحِيح الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْهبة، بَاب مِنْ أهدى إِلَى صَاحِبه، حَدِيث (2581)، وَصَحِيح مُسلِم: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب فِي فَضَائِل عَائِشَة، حَدِيث (2442).
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اسْتِلْحَاقُ مُعَاوِيَةَ لزِيَادٍ
قَالُوا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَلْحَقَ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.
قُلْنَا: زِيَادٌ لَيْسَ ابْنًا لِعُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ بَلْ كَانَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِزِيَادِ بْنِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِ سُمَيَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ سُمَيَّةَ بِالزِّنَا (هُوَ وَلَدُ زِنَا وَلَا يَضُرُّهُ هَذَا شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ فِيهِ) كَانَ جَاءَهَا بَعْضُ الرِّجَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ (وَهَذَا الزِّنَا لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَالزِّنَا أَهْوَنُ مِنَ الشِّرْكِ)، وَكَانَ زِيَادٌ وَالِيًا مِنْ وُلَاةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ رَجُلًا مُفَوَّهًا خَطِيبًا مُتَكَلِّمًا.
وَمُعَاويَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ وَالِدُهُ أَنَّ زِيَادًا هَذَا ابْنُهُ مِنْ سُمَيَّةَ ابْنُ زِنَا صَحِيحٌ لَكِنْ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَم يَكُنْ أَحَدٌ ادَّعَى زِيَادًا، وَلَم يَكُن لِسُمَيَّةَ زَوْجٌ، لَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ لَقُلْنَا: « الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ »، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، هِيَ أَمَةٌ جَامَعَهَا أَبُو سُفْيَانَ فَأَتَتْ مِنْهُ بِزِيَادٍ فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، وَقَدْ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ إِنْكَارُ ابْنِ عَامِرٍ عَلَيْهِ اسْتِلْحَاقَ زِيَادٍ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا ابْنَ عَامِرٍ، أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ! أَمَا وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزَّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَم
يَزدْ فِيَّ إِلَّا عِزًّا وَإِنّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضعْتُه مَوْضِعَهُ(1).
وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ اسْتِلْحَاقَهُ زِيَادًا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مِن بَابِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ أَحَدًا؟ أَمْ لَا يَجُوزُ؟
مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ زِيَادًا، زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيانَ، فَهَذَا الَّذِي عَابُوا فِيه مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
________________________________
(1) « تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (5/214).
الْخُلَاصَةُ
وَأَخِيرًا نَقُولُ:
وَعَلى فَرْضِ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هِيَ مَعَاصٍ وَقَعَتْ مِن بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا الْمَانِعُ مِن مَغْفرَةِ اللهِ لَهَا، وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَرْبَعةٌ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.
* مِنْ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ:
1- التَّوْبَةُ: [إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] {الفرقان:70}.
2- الاسْتِغْفَارُ: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا] {نوح:10}.
3- الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيةُ: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود: 114}.
* مِنَ النَّاسِ:
4- دُعَاءُ الْمؤْمِنينَ لَهُ:
قَالَ تَعَالَى: [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}.
5- إِهْدَاءُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَهُ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّلهُمَ إِنَّ هَذَا عَن مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَمَّنْ
لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ »(1).
وحَدِيث « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عَن شُبْرُمَةَ »(2)
وَهَذِه الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ، وَأَكْثرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِهْدَاءَ الطَّاعَاتِ يَنْفعُ الْمُسْلِمَ.
6- شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
* مِنَ اللهِ:
7- الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ فِي الدُّنْيَا:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا يُصيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ »(3).
8- عَذَابُ الْقَبْرِ:
وَقْد يُكْتَفَى بِهِ عَن عَذَابِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ بِحَسْبِ الذُّنُوبِ.
9- فِي عَرَصَاتِ الْقِيامَةِ:
حَيثُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَامَحَة: [وَنَزَعْنَا مَا فِي
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد 3/336، وَإِسْنَاده حسن.
(2) أَخْرَجَهُ أَبُو داود: كِتَاب الْجج، بَاب الرّجل يحج عَنْ غَيْره ح 1811.
(3) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ: كِتَاب الْمرضى، بَاب مَا جَاءَ فِي كفارة الْمرضى ح 5641، وَمُسْلِم فِي كِتَاب الْبر: بَاب ثواب الْمؤمن فِيمَا يصيبه ح 2573.
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ] {الْأعر اف: 43}.
10- مَغْفِرةُ اللهِ:
[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء: 48}.
لَمَّا دَخَلَ الْمِسْورُ بْنُ مَخْرَمَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ دَارَ بَيْنَهُمَا الْحَدِيثُ الْآتِي:
قَالَ مُعَاوِيَةُ لِلمِسْوَرِ: مَا تَنْقِمُ عَلَيَّ؟
فَذَكَرَ الْمِسْوَرُ أُمُورًا هِيَ جَمِيعُ مَا يَنْقِمُ عَلَيْهِ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَمَعَ هَذَا يَا مِسْوَرُ أَلَكَ سَيِّئَاتٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَتَرْجُو أَن يَغْفِرَهَا اللهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ فَمَا جَعَلَكَ أَرْجَى لِرَحْمةِ اللهِ مِنِّي؟ وَإِنِّي مَعَ ذَلِكَ وَاللهِ مَا خُيِّرْتُ بَيْنَ اللهِ وَبَينَ غَيْرِهِ إِلَّا اخْتَرْتُ اللهَ عَلَى غَيْرِهِ، وَوَاللهِ لَمَا آلِيهِ مِنَ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِكَ، وَإِنِّي عَلَى دِينٍ يَقْبَلُ مِنْ أَهْلِهِ الْحَسَنَاتِ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَمَا جَعَلَكَ أَرْجَى لِرَحْمَةِ اللهِ مِنِّي؟.
قَالَ الْمِسْوَرُ: فَخَصَمَنِي(1).
________________________________
(1) انْظُرْ: « مصنف عبد الرّزاق » (20717): بَاب منْ أذلَّ السّلطان.
الْبَابُ الثَّالِثُ: مَنِ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَمْهِيدٌ
أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ أَبُو بَكْرٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشِّيعَةُ غَيْرَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَأَنَّه هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً بِلَا فَصْلٍ، وَاسْتَدَلُّو ا بِبَعْضِ الْأدِلَّةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ سَوَاءً كَانَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مُسْلِمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِن أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَهَذِه الْأَدِلَّةُ سَنَذْكُرُ أَهَمَّهَا وَأَصَحَّهَا ثُمَّ نُبَيِّنُ مَدَى دِلَالَتِهَا عَلَى الْمُرَادِ.
وَنَقُولُ كَذَلِكَ: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غَنِيٌّ عَنِ الْإِطْرَاءِ، فَهُو صِهْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْرِ بَنَاتِهِ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَابِعُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَة جِدًّا، وَلَكِنَّ الْقَضِيَّةَ لَيْسَتْ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهَذَا أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْقَضِيَّةَ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ: هَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِمَّن سَبَقَهُ أَمْ لَا؟
ونَسْتَطِيعُ أَن نَقْسِمَ أَدِلَّةَ مَنْ قَالَ بِأَوْلَوِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ إِلَى قِسْمَيْنِ: نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ
وَتَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي:
1- حَدِيثُ الْغَدِيرِ.
2- حَدِيثُ الْكِسَاءِ وَآيَةُ الْمُبَاهَلَةِ.
3- آيَةُ الْوِلَايَةِ.
4 حَديثُ الْمَنْزِلَةِ.
5- آيَةُ ذَوِي الْقُرْبَى.
6- حَدِيثُ الثَّقَلَيْنِ.
7- حَدِيثُ عَلِيّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ.
8- حَدِيثُ الِاثْنَيْ عَشَرَ.
9- حَدِيثُ مَدِينَة الْعِلْمْ.
10- حَدِيثُ الْإِنْذَار يَوْمَ الدَّارِ.
الْقِسْم الثَّانِي: الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ:
وتَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي:
1- أَشْجَعُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- أَعْلَمُ النَّاسِ.
3- أَقْرَبُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبًا وَصِهْرًا.
4- أوَّلُهُمْ إِسْلَامًا.
4- لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ لِمَنْ قَالَ بِأَوْلَوِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالرَّدُّ عَلَيْهَا
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الْغَدِيرِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: « أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: « وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ».
فَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ لِزَيْدٍ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟
قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.
قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟
قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ.
قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ(1).
وَجَاءَ عِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ، كَالتِّرْمذِيِّ(2)، وَأَحْمَدَ(3)، وَالنَّسَائِيِّ فِي
________________________________
(1) « صَحِيح مُسلِم »: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مِنْ فَضَائِل علي، حَدِيث (2408).
(2) « جَامِع التِّرْمِذِيِّ »: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب عَلِيّ، حَدِيث (3713).
(3) أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي « الْمُسْند » (5/347).
« الْخَصَائِص»(1)، وَالْحَاكِمِ(2) وَغَيْرِهِمْ زِيَادَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ».
* وَجَاءَتْ زِيَادَاتٌ أُخْرَى كَمِثْلِ قَوْلِهِ: « اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَه، وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ » وَزِيَادَاتٌ أُخْرَى لَاجَدْوَى مِن ذِكْرِهَا الْآنَ.
* فأَمَّا زِيَادَةُ « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ » فَوَرَدَتْ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِم بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ الْأُخْرَى كَقَولِه: « اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ » هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحَّحَهَا بَعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ.
* وَأَمَّا زِيَادَةُ: « انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ » فَهَذِه زِيَادَةٌ مَكْذُوبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِهِ الشِّيعَةُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بَابِ قَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَليٌّ مَوْلَاهُ »، وَيَقُولُونَ: إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ » أَي: عَلِيٌّ هُوَ الْخَلِيفَةُ وَالْمَوْلَى بِمَعْنَى الْوَالِي، أَي: السَّيِّد الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ، هَذِهِ هِيَ جِهَةُ الدَّلَالَةِ.
________________________________
(1) « خصائص عَلِيّ » (ص 96 رقم 79).
(2) « الْمستدرك » (3/110).
وَجَاءَ الْحَدِيثُ كَذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا كَانَ فِي الرَّحْبَةِ فِي الْكُوفَةِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِي يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ »؟ فَشَهِدَ بِذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا(1).
* سَبَبُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ لِعَلِيٍّ:
يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَوْقَفَ النَّاسَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ أَي: فِي الْجُحْفَةِ الَّتِي فِيهَا غَدِيرُ خُمٍّ وَكَانَ عَدَدُهُم أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ أَلْفٍ - وَكَانَ مُفْتَرَقَ الْحَجِيجِ- وَأَنَّه اجْتَمَعَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيّنَ لَهُم هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَليٌّ مَوْلَاهُ » وَيزِيدُونَ الزِّيَادَاتِ الَّتي مَرَّ ذِكْرُها.
والصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ سَبَبُهُ أَمْرَانِ اثْنَانِ:
الْأَوَّلُ: عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرْسِلَ لَهُ مَنْ يَقْبِضُ الْخُمُسَ(2)، فَجَاءَ عَلِيٌّ وَقَبضَ الْخُمُسَ ثُمَّ اخْتَارَ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ وَدَخَلَ بِهَا، وَقَالَ بُرَيْدَةُ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا وَقَدِ اغْتَسَلَ(3)، فَقُلْتُ لِخَالدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا؟!
________________________________
(1) « السّلسلة الصَّحِيحَة » (رقم 1750).
(2) وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْسلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ليغزوَ (اليمنَ)، وَبعْد أنِ انْتَصَرَ أرسلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرسلَ لَهُ مَن يُخمّسُ الْغَنِيمَةَ.
(3) وَذلكَ أنّ عَلِيّا لَمَّا خمَّسَ أخذَ امْرَأَة مِنَ السَّبي، فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ خَرَجَ وَاغتسل.
فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبُرَيْدَةَ: يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ فَقْلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ(1)، وَفِي رِوَايَةٍ(2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبُرَيْدَةَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ.
الثَّانِي: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ عَلِيًّا مَنَعَهُمْ مِنْ رُكُوبِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، ( لَمَّا كَانُوا فِي الْيَمَنِ) وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا وَخَرَجَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لَمَّا أَدْرَكُوهُ فِي الطَّريقِ إِذَا الَّذِي أَمَّرَهُ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ بِالرُّكُوبِ فَلَمَّا رَآهُمْ وَرَأَى الْإِبِلَ عَلَيْهَا أَثَرُ الرُّكُوبِ غَضِبَ ثُمَّ عَاتَبَ نَائِبَهُ الَّذِي جَعَلَهُ مَكَانَهُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمَّا لَقِيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرْنَا مَا لَقِيْنَاهُ مِنْ عَلِيٍّ (مِنَ الْغِلْظَةِ وَالتَّضْيِيقِ)، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ حُلَلًا أَرَادُوا أَنْ يَلْبَسُوهَا فَمَنَعَهُم عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِن لُبْسِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَهْ يَا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ (وَهُو أَبُو سَعِيدٍ ) بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَحْسَنَ فِي سَبيلِ اللهِ ».
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ النَّسَائِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ » كِتَاب: الْمغازي، باب: بعث عَلِيّ وَخَالِد إِلَى الْيَمَن، حَدِيث (4350).
(2) « جَامِع التِّرْمِذِيِّ » كِتَاب: الْمَنَاقِب، باب: مَنَاقِب عَلِيّ، حَدِيث (3712).
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ فِيه « الْقِيلُ وَالقَالُ » مِن ذَلِكَ الْجَيْشِ بِسَبَبِ مَنْعِهِ إِيَّاهُمُ اسْتِعْمَالَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُمُ الْحُلَلَ الَّتي أَطْلَقَهَا لَهُمْ نَائِبُهُ لِذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ لَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن حَجَّتِهِ وَتَفَرَّغَ مِن مَنَاسِكِهِ وَفِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَّ بِغَدِيرِ خُمٍّ فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَبَرَّأَ سَاحَةَ عَلِيٍّ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِهِ لِيُزِيلَ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ(1).
إِذًا: هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الْحَدِيثِ، هُم تَكَلَّمُوا فِي عَلِيٍّ، وَلِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَهُوَ فِي مَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى أَوْ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا أَجَّلَ الْأَمْرَ إِلَى أَنْ رَجَعَ. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ فِي السَّرِيَّةِ.
وَغَدِيرُ خُمٍّ فِي الْجُحْفَةِ، وَهِيَ تَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ تَقْرِيبًا مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ كِيلُو مِتْرًا، وَالَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ مُفْتَرَقُ الْحَجِيجِ كَذَّابٌ؛ لِأَنَّ مُجْتَمَعَ الْحَجِيجِ مَكَّةُ، وَمُفْتَرَقَ الْحَجِيجِ مَكَّةُ، فَلَا يَكُونُ مُفْتَرَقُ الْحَجِيجِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ أَكْثَرَ مِن مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ كِيلُو مِتْرًا أَبَدًا، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبْقَوْنَ فِي مَكَّةَ، وَأَهْلُ الطَّائِفِ يَرْجِعُونَ
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (5/95).
إِلَى الطَّائِفِ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَهَكَذَا، كُلُّ مَنْ أَنْهَى حَجَّهُ فَإِنَّه يَرْجِعُ إِلَى بَلَدِهِ وَكذَلِكَ الْقَبَائِلُ الْعَرَبِيَّةُ تَرْجِعُ إِلَى مَضَارِبِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَقَطْ، وَهُمُ الَّذِينَ خَطَبَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ».
وَالاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي مَفْهُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي الثُّبوتِ، فَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ » أَي: مَنْ كُنْتُ وَالِيَهُ فَعَلِيٌّ وَالِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ » أَي: الْمُوَالَاةُ الَّتِي هِيَ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَعَكْسُهَا الْمُعَادَاةُ وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:
أَوَّلًا: لِلزِّيَادَةِ الَّتِي وَرَدَتْ، وَقُلْتُ صَحَّحَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ».
فَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ هِيَ شَرْحٌ لِقَوْلِهِ: « فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ » فَهِيَ فِي مَحَبَّةِ النَّاسِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
ثَانِيًا: إِنَّ وُقُوفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَم يَكُنْ لِأَجْلِ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَأَكْثرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ أَنَّ وُقُوفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلرَّاحَةِ، وَالسَّفَرُ مِن مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ طَوِيلٌ يَسْتَغْرِقُ خَمْسَةً إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَ النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَنَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الِاحْتِرَامُ
والتَّوْقِيرُ وَالِاتِّبَاعُ أَيْضًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا وَقَعَ بِشَأْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ».
ثَالِثًا: دِلَالةُ كَلِمَةِ مَوْلَاهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمَوْلَى يَقَعُ عَلَى الرَّبِّ، وَالْمَالِكِ، وَالْمُنْعِمِ، وَا لنَّاصرِ، وَالْمُحِبِّ، وَالْحَلِيفِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمُعْتِق، وَابْنِ الْعَمِّ وَالصِّهْرِ(1)، كُلُّ هَذِهِ تُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَيهَا كَلِمَةَ « مَوْلَى ».
رَابِعًا: الْحَديثُ لَيْسَ فِيه دِلَالَةٌ عَلَى الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَرَادَ الْخِلَافَةَ لَم يَأْتِ بِكَلِمَةٍ تَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَ هَا ابْنُ الْأَثِيرِ، وَلَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: « عَلِيٌّ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي » أَوْ « عَلِيٌّ الْإِمَامُ مِنْ بَعْدِي »، أَوْ « إِذَا أَنَا مِتُّ فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ »، وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهذِه الْكَلِمَةِ الْفَاصِلَةِ الَّتي تُنْهِي الْخِلَافَ إِنْ وُجِدَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا قَالَ: « مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ »(2).
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ
________________________________
(1) « النِّهَايَة فِي غريب الْحَدِيث وَالْأَثَر » (5/228).
(2) قَالَ النُّوريُّ الطّبرسيُّ أحدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الشَّيعةِ: « لَمْ يصرحِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعليٍّ بِالْخِلَافَةِ بعدَه بِلَا فصلٍ فِي يَوْمِ الْغَدِير، وَأَشَارَ إِلَيْهَا بكَلَامٍ مُجملٍ مُشتركٍ بَيْن مَعانٍ يَحْتَاج إِلَى تعيينِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِلَى قرائنَ » اهـ « فصل الْخَطَّاب ». (205/206).
كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] {الحَدِيد: 15}.
فَسَمَّاهَا مَوْلَى لِشِدَّةِ الْمُلَاصَقةِ وَالِاتِّحَادِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.
خَامِسًا: الْمُوَالَاةُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِعَلِيٍّ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاةِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَعَلِيٌّ كَانَ مَوْ لَى الْمُؤْمِنِينَ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَوْلَى الْمُؤْمِنينَ بَعْد وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَهُوَ الْآنَ مَوْلَانَا كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] {المائدة: 55}.
وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ رُءُوسِ الَّذِينَ آمَنُوا.
سَادِسًا: لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْوَالِيَ لَمَا قَالَ: « مَوْ لَى »، وَلَكِنْ يَقُولُ: « وَالِي »، فَكَلِمَةُ « مَوْلَى » تَخْتَلِفُ عَن كَلِمَةِ « وَالِي »، فـ « الْوَالِي » مِنَ الْوِلَايةِ وَهِيَ الْحُكْمُ، أمَّا « الْمَوْلَى » فَهِيَ مِنَ الْوَلَايةِ وَهِيَ الْحُبُّ، وَالنُّصْرَةُ، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] {التحريم: 4}. مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالتَّأْييدِ.
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَن قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ:
[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] {آل عِمْرَانَ: 68}.
وَلَم يَعْنِ هَذَا أَنَّهُمْ هُمُ الرُّؤسَاءُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُوَ إِمَامُهُمْ وَرَئِيسُهُمْ.
* قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعيُّ عَنْ حَدِيثِ زَيْدٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَاءَ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ اللهُ: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ] {مُحَمَّد: 11}(1).
فَالحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَلِيٌّ مِن أَوْلِيَاءِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، تَجِبُ لَهُ الْمُوَالَاةُ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّأْيِيدُ.
________________________________
(1) « النِّهَايَة فِي غريب الْحَدِيث وَالْأَثَر » (5/228).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: حَدِيثُ الْكِسَاءِ وَآيَةُ الْمُبَاهَلَةِ
رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا(1) قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ(2)، فَأَدْخَلَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] {الْأحزاب: 33}.
يَسْتَدِلُّونَ بِهذَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، وَمَا يُرِيدُهُ اللهُ يَقَعُ، فَإِذَا أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ صَارُوا مَعْصُومِينَ، فَإِذَا صَارُوا مَعْصُومِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
أَوًّلًا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى « آيَةَ التَّطْهِير » إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يَا نسَاءَ النَّبِيِّ
________________________________
(1) وَالحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ الْمُؤمِنِينَ (عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدّيقِ) رَ ضيَ اللهُ عَنْهُمَا كَمَا ترَى، فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمنصِفُ لَهَا وَهِيَ تروي فَضَائِلَ (آلِ الْبَيْتِ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَعَ هَذَا يطعنُ فِيهَا مَن لَا يخافُ اللهَ تَعَالَى بحجة مَحبةِ آلِ الْبَيْتِ؟! وَ هَا هُوَ الْإِمَامُ مُسلِمٌ - رَحِمَهُ اللهُ- يُخَرِّجُ الْحَدِيثَ فِي « صَحِيحهِ » برقم (2424) وَ لَمْ يَكتُمهُ كَمَا يفتري الْبَعْضُ عَلَى أئمّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
(2) « الْمِرطُ » بكسرِ الْميمِ، كِسَاء مِنْ صوفٍ أَوْ خَزٍّ. كَمَا فِي « الْمعاجم ». لذا يُسمَّى هَذَا الْحَدِيثُ بحَدِيثِ الْكِسَاءِ.
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا] {الْأحزاب: 32- 34}. فَالَّذِي يُرَاعِي سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ يُوقِنُ أَنَّهَا فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً.
وَأَمَّا قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ].
وَلَمْ يَقُلْ « عَنْكُنَّ »، وَ[وَيُطَهِّرَكُمْ] وَلَمْ يَقُلْ: « يُطَهِّركُنَّ » فَيَسْتَدِلُّ الْبَعْضُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ هُنَا مِيمُ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى خُرُوجِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّطْهِيرِ وَدُخُولِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَن وَالْحُسَيْنِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] ثُمَّ أَتْبَعَهَا بـ: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ].
فَالْخِطَابُ كُلُّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَانِيًا: ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِيمَ الْجَمْعِ بَدَلَ نُونِ النِّسْوَةِ لِأَنَّ النِّسَاءَ دَخَلَ مَعَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهُو رَأْسُ أَهْلِ بَيْتِهِ)، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ: [قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] {هود: 73}. مَعَ أَنَّهُمَا إِبْرَاهِيمُ وَزَوْجَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ
الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ] {القصص: 29}.
وَكَانَت مَعَهُ زَوْجَتُهُ. وَقَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِزَوْجِهَا: [مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا]. تَعْنِي نَفْسَهَا، فَقَوْلُ اللهِ: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]. وَقَالَ هُنا: « عَنْكُم » لِدُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ نِسَائِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ دَخَلُوا ضِمْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِن أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْكِسَاءِ لَا بِدَلِيلِ الْآيَةِ، فَحَدِيثُ الْكِسَاءِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لَمَّا غَطَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالكِسَاءِ وَقَرَأَ: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] فَأَدْخَلَهُمْ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ.
ثَالِثًا: إِنَّ مَعْنَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَدَّى زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَعَدَّى عَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَفَاطِمَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَنَّه لَمَّا قِيلَ لَهُ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ الْعَبَّاسِ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ (1). إِذًا، اتَّسَعَ مَفْهُومُ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل عَلِيّ (2408/36).
فَهُمْ نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ الْآيَةِ. وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْكِسَاءِ وَبِدَلِيلِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
وَآلُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَآلُ عقَيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَآلُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَآلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمِيعُ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ آلِ الْبَيتِ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ.
بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا: وَاللهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ (قَالَا لِي(1)، وَلِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ) إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَاهُ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ قَالَ: فَبَيْنَمَاهُمَا فِي ذَلِكَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا تَفْعَلَا. فَوَاللهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ، فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا (يَعْنِي: تَحْسُدُنَا) فَوَاللهِ لَقَد نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا نَفَسْنَاهُ عَلَيْكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَرْسِلُوهُمَا، فَانْطَلَقَا وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ.
________________________________
(1) الْقَائِلُ: (قالا لي..) هُوَ: عبدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ - وَقِيلَ: اسمُه الْمُطَّلِب -، وَالْمعنَى: أَنَّ كلًا مِن رَبِيعَةَ وَالعَبَّاسِ أَرْسلَا وَلدَيهما: عبدَالمُطَّلِبِ وَالفَضلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليطلبا عملًا يستعينانِ بِهِ عَلَى زواجهما.
قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ، قَالَ: فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ، ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلَامَ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ وَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ. قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ. قَالَ وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ عَلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ(1).
رَابِعًا: الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ إِرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ، إِرَادَةُ الْمَحَبَّةِ، وَهِيَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ.
يَعْنِي: يُحِبُّ اللهُ أَنْ يُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ أَذْهَبَ الرِّجْسَ عَن فَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعلِيٍّ وَزَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِ عقَيلٍ، وَآلِ جَعْفَرٍ، وَآلِ عَبَّاسٍ.
وَلَكِنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَلَّلهُمْ بِالْكِسَاءِ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ(2). فَإِذَا كَانَ اللهُ أَذْهَبَ عَنْهُم
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ مُسْلِم: كِتَاب الزَّكَاة بَاب ترك استعمال آل النَّبِيّ عَلَى الصَّدَقَة برقم (1072).
(2) رَوَاه التِّرمذيُّ: كِتَاب الْمَنَاقِب بَاب مَنَاقِب أَهْل بيت النَّبِيّ (رقم 3787).
الرِّجْسَ لِمَاذَا يَدْعُو لَهُم بِإِذْهَابِ الرِّجْسِ(1)؟!
دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ إِرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ مِثْلُ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء: 26- 28}.
كُلُّ هَذِهِ الْإِرَادَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا هِيَ الْإِرَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، فَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنِ النَّاسِ جَمِيعًا وَيُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا، وَلَكِنْ هَلْ تَابَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ؟ فَمِنَ النَّاسِ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَلَم يَتُبِ اللهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {التغابن: 2}.
خَامِسًا: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُريدُ إِذْهَابَ الرِّجْسِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَعَنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ.
وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ أَن يَتَجَنَّبَ أَمَاكِنَ الْوَسَخِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: [وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ] {المدثر: 4}.
وَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ، وَأَمَرَ بِالاغْتِسَالِ عِنْدَ الْجَنَابةِ(2).
________________________________
(1) بَلْ عِنْد الشِّيعَة الاثني عشرية أَن الْأَئِمَّة الاثني عشر وَمَعَهُمْ فَاطِمَة خلقوا مطهرين.
(2) كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدّالةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنى، وَهِيَ فِي كتبِ الْفقه/أَبْوَاب الطّهارة.
سَادِسًا: التَّطْهِيرُ لَيْسَ خَاصًّا بِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، بَلْ وَاقِعٌ لِغَيرِهِمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {التوبة: 103}، وَقَالَ تَعَالَى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {المائدة: 6}.
وقَالَ تَعَالَى: [إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ] {الْأنفال: 11}.
وهَؤُلَاءِ (الثَّلَاثُمِائَةِ وَبِضْعَةَ عَشَرَ) يَكُونُونَ إِذَنْ - عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ - وَقِيَاسِهِمْ مَعْصُومِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: [لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ].
سَابِعًا: إِذْهَابُ الرِّجْسِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ نَحْنُ نُوقِنُ أَنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْ عَلِيٍّ الرِّجْسَ وَلِذَلِكَ صَارَ مَوْلَى الْمُؤْمِنينَ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَفَاطِمَةُ، وَكَذَلِكَ
زَوجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا] {الْأحز اب: 6}.
وكًذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ جَمِيعًا بِدَلِيلِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَالِفًا (1) فَصَارُوا مَوَالِيَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إِنَّ ذَهَابَ الرِّجْسَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِمَامَةِ مِن بَابِ أَوْلَى.
وَأَمَّا آيَةُ الْمُبَاهَلَة وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] {آل عِمْرَان: 61}.
فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بالْإِمَامَةِ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ بَعِيدٍ.
________________________________
(1) انْظُرْ تَفْصِيلَ الرَّدّ عَلَى هَذِهِ الشُّبهةِ في: « مُختصر التّحفة الاثني عشرية » (ص 149).
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: آيَةُ الْولَايَةِ
وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] {المائدة: 55}.
ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثًا عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ رَاكِعًا فِي الصَّلَاةِ، فَجَاءَ فَقِيرٌ يَسْأَلُ الصَّدَقَةَ، وَقِيلَ يَسْأَلُ الزَّكَاةَ فَمَدَّ عَلِيٌّ يَدَهُ وَفِيهَا خَاتَمٌ فَأَخَذَ الْفَقِيرُ الْخَاتَمَ مِن يَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْآيَةَ: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]، قَالُوا: وَمَا أَعْطَى الزَّكَاةَ وَهُوَ رَاكِعٌ إِلَّا عَلِيٌّ فَصَارَ هُوَ الْوَلِيَّ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ.
وَالرَّدُّ مِن وُجُوهٍ:
أَوَّلًا: هَذِهِ الْقِصَّةُ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْخَاتَمِ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ مَدْحِهِ بِمَا لَم يَثْبُتْ وَيَكْفِيهِ مَا مَدَحَهُ اللهُ عزَّ وَجَلَّ بِهِ وَمَا مَدَحَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ] {المؤمنون: 1- 2}.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا » (1).
________________________________
(1) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »: كِتَاب الْعَمَل فِي الصَّلَاة: بَاب مَا ينهى عَنِ الْكَلَام برقم 1199، وَمُسْلِم: كِتَاب الْمساجد بَاب تحريم الْكَلَام فِي الصَّلَاة برقم (538).
فَكَيْفَ نَرْضَى لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ رُؤُوسِ الْخَاشِعِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَهُوَ يُصَلِّي، أَمَّا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ؟ بِالطَّبْعِ كَانَ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَالأَوْلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْشَعُ فِي صَلَاتِه قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ، وَيُؤَخِّرُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.
ثَانِيًا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا الْمُزَكِّي لَا أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَأْتِيَهُ الطَّالِبُ، فَأَيُّهُمَا أَفْضلُ أَنْ تُبَادِرَ أَنْتَ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ أَوْ أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِكَ وَزَكَاتُكَ عِنْدَكَ ثُمَّ تَنْتَظِرَ حَتَّى يَطْرُقُوا عَلَيْكَ الْبَابَ فَتُعْطِيَهُم زَكَاةَ أَمْوَالِكَ؟ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ.
ثَالِثًا: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ فَقِيرًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَهْرُ فَاطِمَةَ مِن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا دِرْعًا فَقَطْ، لَم يُمْهِرْهَا مَالًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، كَانَ فَقِيرًا، وَمِثْلُ عَلِيٍّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَابِعًا: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا مَدْحُ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُمْدَحُ إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ وَهُوَ رَاكِعٌ وَلَصَارَتْ سُنَّةً، لِأَنَّ اللهَ مَدَحَ مَنْ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَتَكُونُ السُّنَّةُ فِي دَفْعِ الزَّكَاة أَنْ يَدْفَعَهَا الْإِنْسَانُ وَهُوَ رَاكِعٌ وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.
خَامِسًا: ذَكَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَهِيَ غَيْرُ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ
إِقَامَةَ الصَّلَاةِ كَمَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا كَمَا أَدَّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ عَلَى الْكَمَالِ فِي الطَّهَارَةِ، فِي الْأَدَاءِ، فِي الرُّكُوعِ، فِي السُّجُودِ، فِي الْخُشُوعِ، فِي الذِّكْرِ، فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذِه هِيَ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ.
وإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا سَبَبُ ذِكْرِ الرُّكُوعَ بَعْدَ ذِكْرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ رُكُوعٌ آخرُ.
الْمُرَادُ هُوَ الْخُضوعُ للهِ تَبَارَك وَتَعَالَى.
كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَن دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَام: [وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ] {ص: 24}.
وَهُو قَدْ خَرَّ سَاجِدًا، وَإِنَّمَا سَمَّاه رَاكِعًا لِلذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وكَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ] {المُرْسَلات: 48}.
أي: اخْضَعُوا وَاسْتَسْلِمُوا لأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَن مَرْيمَ: [يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] {آل عِمْرَانَ: 43}. أي: اخْضَعِي وَاخْشَعِي لِأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَمَرْيمُ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْعِبَادَةِ وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، فَلَيْسَ مَقْصودُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ وَهُوَ رَاكِعٌ.
سَادِسًا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا خَانَتْ بَنُو قَيُنقَاعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبُوا إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَرَادُوهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ فَتَرَكَهُمْ وَعَادَاهُمْ وَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا الْآيَةَ: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] {المائدة: 55}(1).
أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُم خَاضِعُونَ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآياتِ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة: 51}.
يَعْنِي: عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مُوَالِيًا لِبَنِي قَينُقاعَ، وَلَمَّا حَصَلَتِ الْخُصُومَةُ بَينَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَاهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَوَقَفَ مَعَهُمْ، وَذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ، أَمَّا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَإِنَّه تَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ثُمَّ عَقَّبَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذِكْرِ صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ].
________________________________
(1) « تَفْسِير الطَّبَرِيّ » (6/178).
فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
سَابِعًا: إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ.
فَيَسْتَطِيعُ مُحِبُّو مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقُولُوا: نَزَلَتْ فِي مُعَاوِيَةَ.
وَأَنْ يَأْتُوا بِحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ كَمَا أَتَى غَيْرُهُمْ بِحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ عَنْ عَلِيٍّ.
ثُمَّ يَأْتِي مُحِبُّو عُثْمَانَ فَيَقُولُونَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ، وَيَأْتُونَ أَيْضًا بِحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ.
ثَامِنًا: عَلَى فَرْضِ نُزُولِهَا فِي عَلِيٍّ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَتَولَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَحْنُ نَتَوَلَّاهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
تَاسِعًا: الْآيَةُ جَاءَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّانَقُولُ إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُفْرَدُ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الْجَمْعُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا قَرِينَةَ هُنَا.
عَاشِرًا: وَيَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ].
لِلْحَصْرِ فَتَبْطُلُ خِلَافَةُ مَنْ سبَقَ يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَنَحْنُ أَوَّلًا أَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ثُمَّ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ قَوْلَه إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَهِيَ تُبْطِلُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فهِي أَيْضًا - إِذَا كَانَتْ لِلْحَصْرِ- تُبْطِلُ خِلَافَةَ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ،
وعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، وَجَعْفَرٍ وَغَيْرِهِمْ.
حَادِي عَشَرَ: إِنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأنَّه مُتَولٍّ عَلَى عِبَادِهِ أَيْ أَنَّهُ أَمِيرٌ عَلَيْهِمْ بَلْ هُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَرَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ؟
وَكَذَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ عَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ الْمَنْزِلَةِ
خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ « تَبُوكَ » وَلَم يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْه وَمَا تَخَلَّفَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا سِتَّةُ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُلُوسِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمَعْذُورُونَ مِنَ الْمَرْضَى وَكِبَارِ السِّنِّ وَالْمُعَاقِينَ وَالْعُمْيِ وَالفُقَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: النِّسَاءُ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْأَطْفَالُ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: الْمُخَلَّفُونَ الْعَاصُونَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرِّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَسَبْعَةٌ آخَرُونَ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: الْمُنَافِقُونَ.
هَذِه سِتَّةُ أَصْنَافٍ فَقَطْ، وَكَانَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَدِينَةِ، فَتَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَرَكَ عَلِيًّا فِي الْمَدِينَةِ لِأَمْرٍ فِي نَفْسِهِ يَعْنِي: بُغْضًا لِعَلِيٍّ أَوِ اسْتِثْقَالًا(1).
________________________________
(1) « مُخْتَصر تَارِيخ ابْن عَسَاكِر » (17/347).
فَبَلَغَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَذَا الْكَلَامُ فَتَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَبْكِي(1) رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَةِ؟!
فَطَيَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطِرَهُ وَقَالَ: « أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي »(2).
قَالُوا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَرْضى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِن مُوسَى » دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَارُونَ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ لِِمِيقَاتِ رَبِّهِ، فَعَلِيٌّ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا بَاطِلٌ مِن وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: إِنَّ هَارُونَ لَم يَخْلُفْ مُوسَى بَلِ الْمِشْهُورُ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُوُفِّيَ قَبْلَ مُوسَى بِسَنَةٍ(3).
الثَّانِي: إِنَّ هَارُونَ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ لَمَّا خَرَج مُوسَى لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَمَعَ هَارُونَ الْعَسْكَرُ وَالْجَيْشُ وَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ بَعْضُ الرِّجَالِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ
________________________________
(1) « مُخْتَصر تَارِيخ ابْن عَسَاكِر » (17/345).
(2) « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عَلِيّ، حَدِيث (3706)، « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة. بَاب مِنْ فَضَائِل عَلِيّ حَدِيث 2404 دُون أن تذكر تفاصيل الْقِصَّة عِنْدهما.
(3) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (1/304)، « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (1/297).
تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَمَّا عَلِيٌّ فَلَم يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ اللهِ أَوْ مَنْ أَمَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَقَاءِ فَاخْتَلَفَ الْأَمْرُ.
الثَّالِثُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا طَيَّبَ خَاطِرَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي جَاءَ وَاشْتَكَى وَلَوْ لَمْ يَأْتِ عَلِيٌّ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَأَنَا مَا خَلَّفْتُكَ بُغْضًا لَكَ، أَتَعْلمُ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ تَرَكَ هَارُونَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَنْقَصَةً لِهَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. كَذَلِكَ إِذَا خَرَجْتُ أَنَا وَتَرَكْتُكَ فِي الْمَدِينَةِ فَليْسَ هَذَا مَنْقَصَةً لَكَ، لِذَلِكَ لَوْ كَانَ غَيْرُ عَلِيٍّ وَ قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ فِي عَلِيٍّ وَجَاءَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَكَى بِنَفْسِ الشَّكْوَى الَّتِي اشْتَكَاهَا عَلِيٌّ لَمَا كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا اشْتَكَى عَلِيٌّ وَلَمْ يَشْتَكِ غَيْرُهُ لَمَّا تكَلَّمَ فِيهِ النَّاسُ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْوُلَاةِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُهُمْ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَةِ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُمْ عَلَى رِجَالٍ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ بِالْجَيْشِ كُلِّهِ عَادَةً.
فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى الْأَمْرَ كَأَنَّ فِيه مَنْقَصَةً وَتَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ خَرَجَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُه عَنْ سَبَبِ هَذَا التَّرْكِ فَبيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ عنْ كُرْهٍ، وَلَا كَمَا يَدَّعِي الْمُنَافِقُونَ، إِنَّمَا كَمَا أَبْقَى مُوسَى هَارُونَ، أَنَا أُبْقِيكَ فِي أَهْلِي.
الرَّابِعُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَم يُبْقِ عَلِيًّا خَلِيفَةً عَلَى الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، بَلِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً، كَمَا يَذْكُرُ أَهْلُ السِّيَرِ
كَابْنِ جَرِيرٍ(1) وَابْنِ كَثِيرٍ(2) وَغَيْرهَِما أَنَّ الْوَالِيَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَيْسَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ.
الْخَامِسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ لَنَا أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ مِنَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ مَنْقَبَةٌ لَهُ وَأَنَّه لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَعَليٌّ خَلِيفَتُهُ ثُمَّ نَرَى عَلِيًّا يَخْرُجُ بَاكِيًا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَفَهِمْنَاهَا وَلَمْ يَفْهَمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ فَلو كَانَ تَرْكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ مَنْقَبَةً بِحَدِّ ذَاتِهَا لَمَا خَرَجَ خَلْفَهُ، وَلَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا وَهُوَ خَلِيفَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
السَّادِسُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ غَيْرَ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ غَزْوَةِ « تَبُوكَ » خَرَجَ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ عَلِيٌّ فِي الْيَمَنِ وَلَمْ يَتْرُكْ عَلِيًّا فِي الْمَدِينَةِ.
أَمَّا تَشْبِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ بِهَارُونَ!
فَنَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّه أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِأَعْظَمَ مِن هَارُونَ؛ فَفِي غَزْوَة « بَدْرٍ » لَمَّا كَانَتْ قضِيَّةُ الْأَسْرَى، وَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَرَأَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَأَنْ يُفَادِيَهُمْ قَوْمُهُم وَرَأَى عُمَرُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ إِنَّ مَثَلَكَ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ قَالَ: [رَبِّ
________________________________
(1) « تَاريخ الطَّبَرِيِّ » (2/368)، وَلَكِن قَالَ: « الْوالي عَلَى الْمَدِينَةِ سباعُ بْنُ عرفطةَ ».
(2) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (5/7).
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {إِبْرَاهِيم: 36}. وَمَثَلَكَ كَمَثلِ عِيسَى إِذْ قَالَ: [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] {المائدة: 118}.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّ مَثَلَكَ مَثَلُ نُوحٍ لَمَّا قَالَ: [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا] {نوح: 26}.
وَمَثَلَكَ مَثَلُ مُوسَى لَمَّا قَالَ: [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ] {يونس: 88}(1).
فَشَبَّهَ أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَشَبَّه عُمَرَ بِنُوحٍ وَمُوسَى، وَأُولَئِكَ مِن أُولِي الْعَزْمِ وَهُم خَيْرُ الْبَشَرِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُم أَفْضَلُ مِنْ هَارُونَ بِدَرَجَاتٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَلَيْسَ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ بِهَارُونَ بِأَفْضَلَ أَوْ بِأَعْظَمَ مِنْ تَشْبِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وُعُمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَمُوسَى وَنُوحٍ.
________________________________
(1) أَخْرَجَهُ أَحْمَد (1/383) وَرِجَاله ثِقَات إِلَّا أَن أَبَا عُبَيْدَة بْن عَبْد اللهِ بْن مَسْعُود لَمْ يسمع مِنْ أبيه.
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ: آيَةُ ذَوِي الْقُرْبَى:
وَهِي قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ] {الشورى: 23}.
قَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ بَمَوَدَّةِ قَرَابَتِه، وَبَعْضُهُمْ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا فِي قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
فَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صحِيحِهِ(1) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]. فَقُلْتُ (أي: سَعِيد بْن جُبَيْرٍ) إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي(2). فَالْتَفَتَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ(3) وَقَالَ: عَجِلْتَ فَوَاللهِ مَا مِن بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلِمُحَمَّدٍ فِيهِمْ قُرْبَى.
فَقَالَ: إِلَّا أَن تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ قَرَابَةٍ.
________________________________
(1) كِتَاب التَّفْسِير: سورة الشُّورَى: بَاب الْمَوَدَّة فِي الْقربى برقم (4818).
(2) ذكر الْأنطاكي فِي كِتَابه: « لِمَاذَا اخترت مَذْهَب الشِّيعَة؟ » هَذَا الْحَدِيث وَبتره هنا، وَنسب كَلَام سَعِيد إِلَى ابْن عَبَّاسٍ ص 84.
(3) تنبّه أَخِي الْقَارِئ إِلَى أَنَّ ابْنَ عبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا صَحَابِيّ عَالِم جَلِيل بحر فِي الْعلومِ، دَعَا لَهُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ودعاؤه مُستجاب- بِأَن يعلِّمَهُ اللهُ التَّأْوِيلَ وَالحِكمَةَ، وَقَدْ أجِيبَ دعاؤُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ أَيْضًا مِن ذَوِي الْقُربَى (ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَلَمْ يمنعهُ هَذَا مِن تَأْوِيلِ الْآيَة عَلَى وَجههَا الصّوابِ - كَمَا أَمره اللهُ تَعَالَى-.
وَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ] {ص: 86}.
وَقَالَ: [قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ] {سبأ:47}.
وَقَالَ: [وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ] {يُوسُف: 104}.
وَقَالَ: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا] {الفرقان: 57}.
وَالقُرْآنُ يُصدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا] {النساء: 82}.
فَلَا يُمكِنُ إِذًا أَن يَنُصَّ اللهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا وَيَكُونُ هَذَا حَالَ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِآيَةٍ تُنَاقِضُ هَذَا كُلَّهُ فَتَقُولُ: هُوَ يَسْأَلُ أَجْرًا وَهُوَ مَوَدَّةُ قَرَابَتِهِ!!.
فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ: أَسْأَلُكُم أَجْرًا وَاحِدًا وَهُوَ أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي؟! أَبَدًا.
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا، بَلْ جِمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُم اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَسْأَلُوا قَوْمَهُم أَجْرًا.
فَهَذَا نُوحٌ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] {الشعراء: 109}.
وَهُودٌ قَالَ لِقَوْمِهِ: [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] {الشعراء: 127}.
وَصَالِحٌ قَالَ لِقَوْمِهِ: [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] {الشعراء: 145}.
وَلُوطٌ قَالَ لِقَوْمِهِ: [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] {الشعراء: 164}.
وَشُعَيْبٌ قَالَ لِقَوْمِهِ: [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] {الشعراء:180}.
والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَسْأَلَ أَجْرًا، وَهُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى].
مَعْنى [إِلَّا] هُنَا إِمَّا أَن تَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَيْ بِمَعْنَى ( لَكِن) وَهُوَ الصَّحِيحُ بِدِلَالةِ الْآياتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَرِيبًا، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا أَبَدًا فَيكُونُ قَوْلُ اللهِ: [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى].
وَلَكِنْ وُدُّونِي فِي قَرَابَتِي، أَنَا قَرِيبٌ مِنْكُم دَعُونِي أَدْعُو النَّاسَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ قُرَيْشًا، أَنْ يَتْرُكُوهُ يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَإِنْ ظَهَرَ كَانَ لَهُمْ هَذَا، وَإِنْ قَتَلَهُ النَّاسُ فَيَسْلَمُونَ مِنْ دَمِهِ.
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلَ أَجْرًا أَبَدًا لِقَرَابَتِهِ.
لَوْ كَانَ يُرِيدُ أَجْرًا لِقَرَابَتِهِ كَانَ يَقُولُ: لِذِي الْقُرْبَى أَوْ لِذَوِي الْقُرْبَى
أَمَّا أَنْ يَقُولَ (فِي الْقُرْبَى) فَلَا يَصِحُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُمُسَ قَالَ: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الْأنفال: 41}.
وَلَم يَقُلْ: فِي الْقُرْبَى وَإِنَّمَا قَالَ: وَلِذِي الْقُرْبَى.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: « جَميعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّوصِيَةِ بِحُقُوقِ ذَوِي قُرْبَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَوِي قُرْبَى الْإِنْسَانِ إِنَّمَا قِيلَ فِيهَا [ذَوِي الْقُرْبَى] وَلَم يَقُلْ (فِي الْقُرْبَى) »(1).
يُقَالُ كَذَلِكَ، لَيْسَ مُنَاسِبًا لِشَأْنِ النُّبوَّةِ طَلَبُ الْأَجْرِ وَهُوَ مَوَدَّةُ ذَوِي قُرْبَاهُ لِأَنَّ هَذَا مِن شِيمَةِ طَالِبي الدُّنْيَا.
إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ تُهْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الشُّورَى، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ لَمْ يُخْلقَا بَعْدُ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَاطِمَةَ.
________________________________
(1) « مِنْهَاج السُّنَّةِ » (7/101).
الْمَبْحَثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ الثَّقَليْنِ
حَدِيثُ: « تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُم بِهِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي »(1).
يَسْتَدِلُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَمَسَّكَ الْمُؤْمِنُ بِعِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: إِذَا وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِهِمْ صَارُوا هُم أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الْخُلَفاءُ مِن بَعْدِهِ.
وَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْحَدِيثُ فِيه كَلَامٌ مِن حَيْثُ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّابِتُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ بِالتَّمَسُّكِ بِكتَابِ اللهِ، وَالوَِصيَّةُ بِأَهْلِ الْبَيتِ كَمَا مَرَّ مِن حَدِيثِ زَيدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَأَوْصَى بِكِتَاب اللهِ وَحَثَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ ثُمَّ قَالَ: « وَأَهْلُ بَيْتِي أذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذكّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي(2) »، فَالَّذِي أَمَرَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ كِتَابُ اللهِ، وَأَمَّا أَهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِرِعَايَتِهِم وَإِعْطَائِهِم حُقُوقَهُمُ الَّتِي أَعْطَاهُم
________________________________
(1) رَوَاه التّرمذي: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب أَهْل الْبَيْت، حَدِيث (3786)، وَشيه: زَيد الْأنماطيُّ، وَهُوَ مُنكرُ الْحَدِيثِ، وَالحَدِيثُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ طر يقٍ مَعَ اخْتِلَافِ ألفاظهِ، وَلَا تخلو جَمِيعُهَا مِنْ ضَعفٍ.
(2) صَحِيح مُسْلِم: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب فَضَائِل عَلِيّ (2408).
اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاهَا.
وَقَد ثَبَتَ مِن حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: « قَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا لَنْ تَضِلُّوا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللهِ »(1)، فَهُو الَّذِي إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ الْإِنْسَانُ لَا يَضِلُّ أَبَدًا، وَلَم يَذْكُرْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
الْوَجْهِ الثَّانِي: مَنْ عِتْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ عِتْرَةُ الرَّجُلِ هُم أَهْلُ بَيْتِهِ، وَعِتْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ كُلُّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَهُم بَنُو هَاشِمٍ، هَؤُلَاءِ هُمْ عِتْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ مَعَهُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وَلْنَنْظُرْ مَنْ أَوْلَى النَّاسِ بِالتَّمَسُّكِ بِهَؤُلَاءِ؟
السُّنَّةُ أَمِ الشِّيعَةُ؟
الشِّيعَةُ لَيْسَ لَهُم أَسَانِيدُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُم يُقِرُّونَ بِهَذَا أَنَّهُم لَيْسَ عِنْدَهُم أَسَانِيدُ فِي نَقْلِ كُتُبِهِم وَمَرْوِيَّاتِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ كُتُبٌ وَجَدُوهَا، فَقَالُوا: ارْوُوهَا فَإِنَّهَا حَقٌّ(2).
________________________________
(1) « صَحِيح مُسلِم »، كِتَاب: الْحج، بَاب حجة النَّبِي، حَدِيث (1218).
(2) رَوَى الْكليني عَنْ مُحَمَّد بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: قلتُ لأبي جَعْفَرٍ الثَّانِي (مُحَمَّدٍ الْجوادِ): جعلتُ فداكَ إِنَّ مَشَايِخنا رووا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأبي عَبْد اللهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَام-، وَكَانَتْ التّقيّةُ شَدِيدَةً، فكتموا كُتُبَهم، وَلَمْ تُروَ عَنْهُمْ، فَلمَّا مَاتُوا صارت الْكتبُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: « حدِّثوا بِهَا فإِنهَا حقّ » اهـ « الْكَافِي » (1/53). وَأَبُو جَعْفَرٍ الثَّانِي: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ علِي بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ، وَالذين جَاؤُوه هُم تلامذتُه، فَكَيْفَ صارت الْكُتبُ الصَّحِيحَةُ حقًّا وَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِع كلَّ هَذَا الانقطاع.
أَمَّا أَسَانِيدُهُمْ: فَكَمَا يَقُولُ الْحُرُّ الْعَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الشِّيعَةِ أَسَانِيدُ أَصْلًا وَلَا يُعَوِّلُونَ عَلَى الْأَسَانِيدِ(1) فَأَيْنَ لَهُم أَنَّ مَا يَرْوُونَهُ فِي كُتُبِهِم ثَابِتٌ عَن عِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ نَحْنُ أَتْبَاعُ عِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَعْطَيْنَاهُمْ حَقَّهُمْ وَلَمْ نُزِدْ وَلَمْ نُنْقِصْ، كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ، فإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ؛ فقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ » (2).
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِمَامُ الْعِتْرَةِ وَعَالِمُهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ فِي الْعِلْمِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قَبْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَلْ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْ ثَبَتَ عَنْه أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ(3). بَلْ ثَبَتَ عَنْه عِنْدَ الشِّيَعةِ أَنَّهُ قَالَ: « وَأَنَا لَكُم وَزِيرًا، خَيرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرًا »(4).
________________________________
(1) انْظُرْ: كِتَاب « خاتمة الْوسائل- الْفَائِدَة التّاسعة » فَإِنَّهُ يبينُ فِيهِ أَن (الاثني عشرية) لَيْسَ لَهُمْ أَسَانِيد تصحح عَلَى أساسهَا الرِّوَايَات، وَأَنَّ قَضِيَّة الْإِسْنَاد أَمر مستحدت.
(2) الْبُخَارِيّ: كِتَاب أَحَادِيث الْأنْبِيَاء، باب: قَوْل اللهِ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ)، حَدِيث 3445.
(3) الْبُخَارِيّ: كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، (باب)، حَدِيث (3671).
(4) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (ص 95 خُطْبَة رقم 92).
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي»(1).
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ »(2) فَأَمَرَ بِالْعَضِّ عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ.
وَقَالَ: « اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ »(3).
وَقَالَ: « اهْتَدُوا بِهَدْي عَمَّارِ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ »(4)، وَلَم يَدُلَّ هَذَا عَلَى الْإِمَامَةِ أَبَدًا، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ عَلَى هَدْيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ عِتْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضلَالَةٍ أَبَدًا، وَلَكِن مَنْ أَصْحَابُ عِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!، قَدْ فَصَّلْنا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ(5).
________________________________
(1) « مستدرك الْحاكم » (1/93).
(2) رَوَاه أَبُو داود: كِتَاب السّنة، بَاب لزوم السّنة، حَدِيث (4607)، « جَامِع التِّرْمِذِيِّ »، كِتَاب: الْعلم، باب: مَا جَاءَ فِي الْأخذ بالسّنة، حَدِيث (2676).
(3) رَوَاه التّرمذي: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب أَبِي بَكرٍ وَعُمَر، حَدِيث (3662)، « سنن ابْن ماجه »- الْمُقَدِّمَة، بَاب فَضَائِل أَصْحَاب النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيث (86).
(4) رَوَاه التّرمذي: كِتَاب الْمَنَاقِب، بَاب مَنَاقِب عَبْد اللهِ بْن مَسعُودٍ، حَدِيث (3805).
(5) انْظُرْ غَيْر مأُمُور ص (350) فِي الْكَلَام عَلَى: (حَدِيث الْكساء).
الْمَبْحَثُ السَّابِعُ: حدِيثُ « عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ »:
قَالُوا: إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنا أَوْ عَلِيٌّ (1) » دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ:
هَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي إِسحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ مَشْهُورٌ، يُكْثِرُ التَّدْلِيسَ عَنِ الضُّعَفَاءِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَحَديثُهُ صَحِيحٌ بَلْ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُصرِّحْ بِالتَّحْدِيثِ فَإِنَّه يُتَوَقَّفُ فِي قَبُولِ حَدِيثِهِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزْجَانِيُّ: « كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا تُحْمَدُ مَذَاهِبُهُمْ (يَعْنِي التَّشَيُّع) هُمْ رُءُوسُ مُحَدِّثي الْكُوفَةِ مِثْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَزبيد وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمُ احْتَمَلَهُمُ النَّاسُ عَلَى صِدْقِ أَلْسِنَتِهِمْ فِي الْحَدِيثِ، وَوَقَفُوا عِنْدَمَا أَرْسلُوا لَمَّا خَافُوا أَنْ لَا يَكُونُ مَخَارِجُهَا صحِيحَةً. فَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَرَوى عَنْ قَوْمٍ لَا يُعْرَفُونَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ عَنْهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا حَكَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْهُمْ » (2)
________________________________
(1) الشّطر الْأَوَّل مِنَ الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ بلفظ: « أَنْتَ مِنِّي وَأنا منك » فِي كِتَاب الصُّلْح بَاب كَيْفَ يَكْتُب هَذَا مَا صالح فلان (2699) وَأَمَّا زِيَادَة « وَلَا يؤدي عني إِلَّا أَنا أَوْ عَلِيّ » فأَخْرَجَهَا أَحْمَد 4/164.
(2) « تهذيب التّهذيب » (8/66).
وَنَقُولُ أَيْضًا: عَلِيٌّ مِنَ النَّبِيِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فِي الِاتِّبَاعِ وَالنُّصْرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلَيْبِيبٍ لَمَّا فَقَدَهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: « انْظُرُوا إِلَى جُلَيْبِيبٍ » قَالُوا: مَا وَجَدْنَاهُ قَالَ: « ابْحَثُوا عَنْهُ فِي الْقَتْلَى ». فَوَجَدُوهُ قَدْ سَقَطَ وَحَوْلَهُ سَبْعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « قَتَلَ سَبْعةً وَقَتَلُوهُ، جُلَيْبِيبٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ »(1).
وَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَشْعَرِيِّينَ قَالَ: « هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ »(2).
فَلَا يَلْزَمُ مِن قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: « إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ » أَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ اتَّحَادِ طَرِيقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ، وَالْتِزَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ طَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّسَبُ وَالْمُصاهَرَةُ وَالِاتِّبَاعُ وَالنُّصرَةُ وَالتَّأْيِيدُ وَالْقِيامُ بِحَقِّ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِن عَلِيٍّ ».
________________________________
(1) « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل جليبيب حَدِيث (2472).
(2) « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة بَاب مِنْ فَضَائِل الْأَشْعَرِيين حَدِيث (2500).
الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا
يَسْتَدِلُّون كَثِيرًا بِحَدِيثِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَه أَلْفَاظٌ عِدَّةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:
- « يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ »(1).
- « لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُم مِن قُرَيْشٍ »(2).
- « لَا يزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا »(3).
- « لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُم تَجْتَمِعُ عَلَيهِمُ الْأُمَّةُ »(4).
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
* الْحَدِيثُ فِيه أَنَّ الدِّينَ يَكُونَ عَزِيزًا فَتْرَةَ خِلافَتِهِمْ ثُمَّ يَزُولُ هَذَا الْعِزُّ. فَمَتَى الْعِزُّ؟ وَمَتَى الذُّلُ؟
* الشِّيعَةُ تَقُولُ: لَم يَكُنِ الدِّينُ عَزِيزًا أَبَدًا فِي خِلَافَةِ مَنْ سَبَقَ بَلْ كَانَ أَئِمَّتُهُم مُسْتَتِرِينَ خَائِفِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالتَّقِيَّةِ. بَلْ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَمْرَ
________________________________
(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: « صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب: الْأحكام، بَاب حَدِيث (7222). وَ « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب: الْإِمارة، بَاب النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ حَدِيث (1821).
(2) « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب: الْإِمارة، بَاب النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ حَدِيث (1821).
(3) « صَحِيح مُسْلِم »، كِتَاب: الْإِمارة، بَاب النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ حَدِيث (1821).
(4) أَبُو داود 4279 وَالطبراني فِي الْكَبِير 1849.
كَانَ فَاسِدًا زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بَلْ إِنَّ عَلِيَّا عِنْدَهُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُظْهِرَ الدِّينَ الصَّحِيحَ بَلْ كَانَ يَعْمَلُ بِالتَّقِيَّةِ فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُظْهِرَ الْقُرْآنَ الصَّحِيحَ وَلَا مَنَعَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ وَلَا أَحَلَّ زَوَاجَ الْمُتْعَةِ.
* الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيه حَصْرٌ لِعَدَدِ الْأَئِمَّةِ بَلْ هُوَ خَبَرٌ أَنَّ الدِّينَ يَكُونُ عَزِيزًا وَقْتَ حُكْمِهِمْ.
* وِلَايةُ الْمُنْتَظَر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَتَى يَكُونُ عِزٌّ، وَمَتَى يَكُون ضَعْفٌ؟
* قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « كُلُّهُم مِن قُرَيْشٍ » يُسْتَبْعَدُ مَعَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَلِيًّا وَأَوْلَادَهُ، بَلْ لَوْ قَالَ: مِن وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ لَادَّعَاهَا الشِّيعَةُ كَذَلِكَ بِأَنَّ أَئِمَّتَهُم مِنْ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ.
* جَاءَ فِي الصَّحِيح: « فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَر مُنَافِقًا »(1).
فَالْعَدَدُ لَا عِبْرَةَ بِهِ.
* جَاءَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ الرُّسُلِ وَرِسَالَاتِهِمْ وَلَمْ يَتَطَرَّقْ لِلْأَئِمَّةِ مَعَ أَنَّهُم أَفْضَلُ، وَأَهَمُّ مِنَ الرُّسُلِ عِنْدَهُمْ.
* لِمَ قَبِلَ عَلِيٌّ بِالشُّورَى، وَتَنَازَلَ الْحَسَنُ لِمُعَاوِيَةَ، وَبَايَعَ الْحُسَيْنُ لِمُعَاوِيَةَ، وَبَايَعَ جَمِيعُ أَئِمَّتِهِمْ لِلْخُلَفَاءِ...؟.
* كَيْفَ يَكُونُ الْحَدِيثُ نَصًّا عَلَى عَلِيٍّ، وَالنُّصُوصُ عَنْ عَليٍّ
________________________________
(1) رَوَاه مُسْلِم: كِتَاب صِفَات الْمُنَافِقين، حَدِيث (2779).
تُنَافِي ذَلِكَ، كَمَا فِي « نَهْجِ الْبَلَاغَةِ »:
- « وَأَنَا لَكُم وَزِيرًا، خَيرٌ لَكُم مِنِّي أَمِيرًا »(1).
- لَمَّا تَولَّى عَلِيٌّ الْخِلَافَةَ لَم يَدَّعِ نَصًّا بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُم حَمَلُوهُ عَلَيْهَا: « إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسمَّوْهُ إِمَامًا كَانَ ذَلِكَ للهِ رِضًا »(2).
- قَالَ الْبَيَاضِيُّ: « إِنَّ عَلِيًّا لَم يَذْكُرِ النَّصَّ لِلصَّحَابَةِ » (الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ).
-* وَلَمَّا قَامَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ (النَّفْسُ الزَّ كِيَّةُ) سَمَحَ الصَّادِقُ لِولَدَيْهِ مُوسَى وَعَبْدِ اللهِ بِالانْضِمَامِ إِلَيْهِ(3).
* لَا يُعْقَلُ وُجُودُ كُلِّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الِّتِي يَرْوِيهَا الشِّيعَةُ فِي ذِكْرِ الْأَئِمَّةِ جَمَاعَاتٍ أَوْ أَفْرَادًا، ثُمَّ تَغِيبُ جَمِيعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ رُوَاةِ الشِّيعَةِ الْكِبَارِ وَفِرَقِ الشِّيعَةِ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَلِفُ بَعْدَ وَفَاةِ كُلِّ إِمَامٍ تَقْرِيبًا مِمَّا يَدُلُّ دِلَالةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وُضِعَتْ مُتَأَخِّرًا.
* وِلَايَةُ الْأَئِمَّةِ عِنْدَهُمْ سِرِّيَّةٌ: عَنِ الرِّضَا قَالَ: وِلَايةُ اللهِ أَسَرَّهَا إِلَى جِبْرَائِيلَ، وَأَسَرَّهَا جِبْرَائِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَسَرَّهَا مُحَمَّدٌ إِلَى
________________________________
(1) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (ص 136).
(2) « نَهْج الْبَلَاغَةِ » (ص 367).
(3) « مقاتل الطّالبيين » (244).
عَلِيٍّ، وَأَسَرَّهَا عَلِيٌّ إِلَى مَنْ شَاءَ، ثُمَّ أَنْتُم تُذِيعُونَ ذَلِكَ؟! مَنِ الَّذِي أَمْسَكَ حَرْفًا سَمِعَهُ(1). « الْكَافِي ».
* أَوْصَافُ الِاثْنِي عَشَرَ وَزَمَنُهُمْ:
- يَتَولَّوْنَ الْخِلَافَةَ.
- الْإِسْلَامُ فِي عَهْدِهِم عَزِيزٌ.
- النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِمْ.
وَلَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ أَيُّ وَصْفٍ سِوَى الْعَدَدِ.
والعَدَدُ مُدَّعًى بَعْدَ الْحَدِيثِ، إِضَافَةً إِلَى أَن الْحَسَنَ الْعَسْكَرِيَّ مَاتَ بِدُونِ ذُرِّيَّةٍ.
________________________________
(1) الْكَافِي: كِتَاب الْإِيمَان وَالكفر، بَاب الْكتمان (2/224).
الْمَبْحَثُ التَّاسِعُ: 9- حَدِيث « أَنا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وعَلِيٌّ بَابُهَا »
هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا.
* أَمَّا السَّنَدُ:
فَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ(1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
الْأَوَّلُ: فِيهِ أَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي بِصَدُوقٍ.
وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: رَافِضِيٌّ خَبِيثٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مُتَّهَمٌ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ.
وَنَقَلَ الدُّورِيُّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَثَّقَهُ بَيْنَمَا نَقَلَ ابْنُ مِحْرزٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيه: لَيْسَ مِمَّنْ يَكْذِبُ.
الثَّانِي: فِيهِ:
1- مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَكِيمٍ: فِيه لِينٌ.
2- الْحَسَنُ بْنُ فَهمِ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
3- الْأَعْمشُ سُلَيمانُ بْنُ مِهْرَانَ: ثِقَةٌ إِلَّا أَنَّهُ مُدَلِّسٌ وَقَد عَنْعَنَهُ أَي
________________________________
(1) ا لمُستَدرَكِ 3/226.
لَم يُصرِّحْ بِالسَّمَاعِ.
وَالْحَدِيثُ ضَعَّفَه أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرٌ، لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ صحِيحٌ(1).
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَصْلَ لَهُ(2).
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَمْ مِنْ خَلْقٍ افْتَضَحُوا فِيهِ(3).
قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَتْنِ شَيْءٌ(4).
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: هَذَا شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ (5).
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ غَيْرُ ثَابتٍ(6).
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَصِحُّ وَلَا أَصْلَ لَهُ(7).
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَابْنُ تَيْمِيَةَ وَالْأَلْبَانِيُّ: مَوْضُوعٌ(8).
________________________________
(1) « الْمَقَاصِد الْحَسَنَة » (170).
(2) « كشف الْخفا » (1/235).
(3) « تَارِيخ بَغْدَاد » (11/205).
(4) « الضّعفاء الْكَبِير » (3/150).
(5) « الْمجروحين » (2/151).
(6) « الْعلل » (3/247).
(7) « الْموضوعات » (1/349).
(8) « فتح الْملك الْعَلِيّ » (51)، « تلخيص الْمستدرك » (3/126) « مَجْمُوع الْفَتَاوَى » (8 1/377)، « ضَعِيف الْجَامِع » (1416).
* أَمَّا مَتْنُهُ:
فَمُنْكَرٌ لِأُمُورٍ: الْعَالِمُ لَا يُقَالُ لَهُ مَدِينَةُ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ مَحْدُودَةٌ بَلْ يُقَالُ: بَحْرُ الْعِلْمِ، سَمَاءُ الْعِلْمِ، فَضَاءُ الْعِلْمِ، وَأَمْثَالها.
لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ: بَابُ مَدِينَةِ الْعِلْمِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْمَبْعُوثُ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَلَيْسَ مُحَمَّدًا.
الْعِلْمُ نَقَلَه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ عَلِيٍّ كَأَزْوَاجِهِ وَبقِيَّةِ أَصْحَابِهِ.
فكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يُؤْخَذُ عِلْمُ النَّبِيِّ إِلَّا عَنْ طرِيقِ الْبَابِ الَّذِي هُوَ عَلِيٌّ؟.
الْمَبْحَثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ الْإِنْذَار يَوْمَ الدَّارِ
قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ مُشِيرًا إِلَى عَلِيٍّ: « إِنَّ هَذَا أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي مِن بَعْدِي، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ».
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَالْجَوَابُ:
هَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ سَنَدًا وَمَتْنًا.
* أَمَّا السَّنَدُ:
فِيهِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ: أَبُو مَرْيَمَ الْكُوفِيُّ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّد بِهِ أَبُو مَرْيَمَ الْكُوفِيُّ(1).
قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ(2).
* وَأَمَّا مَتْنُهُ:
فَظَاهِرُ الْمَتْنِ مُنْكَرٌ لِأُمُورٍ:
* بَنُو عَبْد الْمُطَّلِبِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ لَمْ يَبْلُغُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَهَذَا عَدُّهُمْ:
________________________________
(1) « الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة » (3/38).
(2) « مِيزَان الاعتدال » (2/328).
أَبُو طَالِبٍ- أَبُو لَهَبٍ- الْغَيْدَاقُ- قُثَم- حَجْلٌ- الْمقوم- ضِرَارٌ- الْعَبَّاس- حَمْزَةُ- عَبْدُ الْكَعْبَةِ- الزُّبَيْرُ- عَبْدُ اللهِ- الْحَارِثُ.
وَالَّذِي أَدْرَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِعْثَةَ النَّبِيِّ أَرْبَعَةٌ فَقَطْ هُمْ:
حَمْزَةُ- الْعَبَّاسُ- أَبُو طَالِبٍ- أَبُو لَهَبٍ. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ.
وَأَمَّا ذُرِّيَّتُهُمْ:
فَحَمْزَةُ: كَانَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ صِغَارًا لَمْ يُعْقِبُوا.
الْعَبَّاسُ: أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ الْفَضْلُ، وُلِدَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ بِخَمْسِ سَنَوَاتٍ.
أَبُو طَالِبٍ: وَلَه أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ أَصْغَرُهُمْ عَليٌّ، ثم: طَالِبٌ وَعَقِيلٌ وَجَعْفَرٌ.
أَبُو لَهَبٍ: وَلَه ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ: عُتْبَةُ وَعُتَيْبَةُ وَمُعَتِّبٌ.
الْغَيْدَاقُ: لَا عَقِبَ لَهُ.
قُثَم: مَاتَ صَغِيرًا.
حَجْلٌ: لَهُ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ: مُرَّة.
المقوم: لَم يُعْقِبْ ذُكُورًا.
ضرار: لَمْ يُعْقِبْ.
عَبْدُ الْكَعْبَةِ: لَمْ يُعْقِبْ.
الزُّبَيْر: لَهُ وَلَدٌ عَبْدُ اللهِ وَلَمْ يُعْقِبْ.
الْحَارِثُ: لَهُ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ: أَبُو سُفْيَانَ- رَبِيعَةُ- نَوْفَلٌ- عَبْدُ شَمْسٍ - عَبْدُ اللهِ- أُمَيَّةُ- عُبَيْدةُ.
فَأَيْنَ الْأَرْبَعُونَ.
* قَوْلُهُ: « فَأَيَّكُم يُؤَازِرُنِي عَلَى أَمْرِي هَذَا؛ فَيكُونُ أَخِي وَوَصِيِّي فِيكُمْ » لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ النَّبِيِّ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْإِجَابةِ لِلشَّهَادَةِ لَا تُوجِبُ الْخِلَافَةَ وَقَد أَجَابَهُ كَثِيرُونَ.
* حَمْزَةُ وَجَعْفرٌ وَعُبَيْدةُ بْنُ الْحَارِثِ أَجَابُوا النَّبِيَّ وَنَصَرُوا الدِّينَ أَكْثَر مِنْ عَلِيٍّ.
* عَلِيٌّ عُمُرُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ 8 أَوْ 10 سَنَوات.
* قَوْلُهمْ لِأَبِي طَالِبٍ: أَمَرَكَ أَن تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ رَفَضَ أَنْ يُطِيعَ الْأَصْلَ وَهُوَ النَّبِيُّ فَكَيْفَ يُطِيعُ الْفَرْعَ وَهُوَ عَلِيٌّ وَيُعَيَّرُ بِهِ.
* * * *
هَذِهِ تَقْرِيبًا أَهَمُّ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَلَعَلَّ هُنَاكَ أَدِلَّةً أُخْرَى أَعْرَضْتُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ، عَلَى الْأَقَلِّ مِن وِجْهَةِ نَظَرِي.
الْفَصْلُ الثَّانِي: الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لِمَنْ قَالَ بِأَوْلَوِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالرَّدُّ عَلَيْهَا
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ مِنْ شُجْعَانِ الصَّحَابَةِ بَلْ كَانَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللهِ وَسَيْفًا مِنْ سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ عَلىَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَقدُّمِهِ فِي الشَّجَاعَةِ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ.
وَهَذَا لَا يُسَلَّمُ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تُفَسَّرُ بِشِيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قُوَّةُ الْقَلْبِ وَالثَّبَاتُ.
وَالثَّانِي: شِدَّةُ الْقِتَالِ بِالْبَدَنِ.
فَالْأَوَّلُ: هُوَ الشَّجَاعَةُ.
أَمَّا الثَّانِي: فَيَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ كَانَ قَوِيَّ الْقَلْبِ وَالْعكْسُ صَحِيحٌ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ يَقْتُلُ كَثِيرًا إِذَا كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ تُؤَمِّنُهُ بَيْنَمَا تَجِدُهُ يَنْخَلِعُ قَلْبُهُ وَيَجْبُنُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَتَجِدُ الرَّجُلَ الثَّابِتَ الْقَلْبِ الَّذِي لَم يَقْتُلْ بِيَدَيْهِ كَثِيرًا ثَابِتًا فِي الْمَخَاوِفِ مِقْدَامًا عَلَى الْمَكَارِهِ، وَهَذِه الْخَصْلَةُ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي أُمَرَاءِ الْحُرُوبِ وَقُوَّادِهِ وَمُقدَّمِيهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأُوْلَى.
والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الشَّجَاعَةِ الَّتي هِيَ الْمَقْصودَةُ فِي أُمَرَاءِ الْحُرُوبِ وَمَع هَذَا لَمْ يَقْتُلْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا وَهُوَ أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ.
وَكَانَ عَلَيٌّ وَغَيْرُهُ يَتَّقُونَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَشْجَعُ مِنْهُمْ(1) وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُم قَدْ قَتَلَ بِيَدِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّجَاعَة أَبُو بَكْرٍ؛لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْأَهْوَالَ الَّتِي كَانَ يُبَاشِرُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَم يَجْبُنْ وَكَانَ يَقِي بِنَفْسِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْهِجْرَةِ وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ بِيدِهِ وَلِسَانِهِ، وَفِي بَدْرٍ كَانَ مَع النَّبِيِّ فِي الْعَرِيشِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقْصِدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَهُنَاكَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَا أَكْثَرَ مِمَّنْ قَتَلَهُم عَلِيٌّ.
وَهُنَاكَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ كَالزُّبَيْرِ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدٍ.
________________________________
(1) رَوَى الْمَجْلِسي عَنْ علي: أَنَّهُ كَانَ يلوذ برَسُول اللهِ يَوْم بدر. « بِحَار الْأَنْوَارِ » (16/232).
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: أعلَمُ النَّاسِ
يُعْرَفُ الصَّحَابِيُّ الْعَالِمُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِصَابَتُهُ فِي فَتَاوِيهِ.
الثَّانِي: كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ لَهُ.
أَمَّا الْإِصَابَةُ فِي الْفَتَاوَى فَلَا يُعْرَفُ لأَبِي بَكْرٍ مَسْأَلَةٌ فِي الْفِقْهِ أَخْطَأَ فِيهَا بَلْ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلةٍ إِلَّا حَسَمَهَا.
بَيْنَمَا أخْطَأَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمْ فِي مَسَائِلَ وَخُولِفُوا وَقَد بَوَّبَ الشَّافِعِيُّ الْمُطِلِبِيُّ بابًا فِي كِتَابِهِ « الْأُمِّ » فِي الْخِلَافِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَد بَيَّنَا ذَلِكَ فِي كَلَامِنَا عَنْ عِلْمِ أَبِي بَكْرٍ فِي ترْجَمتِه(1).
وَأَمَّا كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ.
وَقَد نَقَلَ مَنْصُورٌ السَّمْعَانِي الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلمُ مِنْ عَلِيٍّ(2).
________________________________
(1) راجع مَا تقدم ص (60).
(2) انْظُرْ غَيْر مأُمُور « مِنْهَاج السُّنَّةِ » (7/502).
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: أَقْرَبُهُم لِلنَّبيِّ نَسَبًا
قُرْبُ النَّسَب مِنَ النَّبِيِّ شَرَفٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ وَلذَلِكَ لَا يُقَدِّمُ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا.
« وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ »(1)، وَلَوْ كَانَ النَّسَبُ وَحْدَهُ يَنْفَعُ لَانْتَفَعَ بِهِ أَبُو لَهَبٍ.
ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا لَيْسَ أَقْرَبَ النَّاسِ نَسَبًا إِلَى النَّبِيِّ بَلِ الْعَبَّاسُ أَقْرَبُ مِنْ عَلِيٍّ، وَكَذَا حَمْزَةُ، فَهُمَا عَمَّا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُمَا سِبْطَاهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَعْفَرٌ وَالْفَضْلُ بنْ الْعَبَّاسِ وَعَقِيلٌ وَغَيْرُهُمْ فِي دَرَجَةِ عَلِيٍّ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى النَّبِيِّ مِنْ بَاقِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهَذَا حَقٌّ وَلَكِن لَيْسَ هذَا سَبَبًا لِخِلَافَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثَمانُ يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ فِي عَبْدِ مَنَافٍ.
وأبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَلْتَقِيَانِ مَعَ النَّبِيِّ فِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ.
________________________________
(1) جزء مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي رَوَاه مُسْلِم (2699).
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: أَوَّلُهُم إِسْلَامًا
هَذِهِ دَعْوَى قَالَهَا بَعضُ أَهْلِ الْعِلْم مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ حِينَ أَسْلَمَ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: «عَلِيٌّ أَوَّلُ الصِّبْيَانِ إِسْلَامًا، وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ الرِّجَالِ إِسْلَامًا، وَخدِيجَةُ أَوَّلُ النِّسَاءِ إِسْلَامًا، وَبِلالٌ أَوَّلُ الْعَبِيدِ إِسْلَامًا ».
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ بُعِثَ وَلِعَلِيٍّ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ أَوْ عَشْرٌ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَم يَنْتَفَعِ النَّبِيُّ بِإِسْلَامِ عَلِيٍّ كَثِيرًا؛ لِصِغَرِ سِنِّهِ كَمَا انْتَفَعَ بِإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ: لَمْ يَسْجُدُ لصَنَمٍ قَطُّ
لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ عَلِيًّا لَم يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ وَكَيْفَ يَسْجُدُ لِصَنَمٍ وَقَد نَشَأَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِ إِذْ أَنَّهُ مِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالعَبَّاسَ وَحَمْزَةَ انْطَلَقُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَطَلبُوا مِنْهُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ثَلَاثَةً مِن بَنِيهِ لِيَقُومُوا بِتَرْبِيَتِهِمْ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ.
فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّا وَذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ فَلَعَلَّ عَلِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَبْلُغِ الرَّابِعَةَ مِن عُمُرِهِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مَتَى سَيَسْجُدُ لِصَنَمٍ؟!
ثُمَّ لَيْسَ عَلِيٌّ فَقَطْ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَم يُذْكَرْ أَنَّهُ سَجَدَ لِصَنمٍ وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبًّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَكُلُّ صِغَارِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْجُدُوا لِصَنَمٍ.
بَلْ نحْنُ كَذَلِكَ لَمْ نَسْجُدْ لِصَنَمٍ فَهَلْ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ بِالضَّرُورَةِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ وَإِنْ كَانَ تَابَ مِنْ ذَلِكَ؟.
فَعَقِيلٌ وَجَعْفَرٌ وَالْعَبَّاسُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ سَجَدُوا لِلْأَصْنَامِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا كَانُوا مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ.
الْخَاتِمَةُ: في تَسَاؤُلَاتٍ مُهِمَّةٍ لَابُدَّ مِنْهَا
وَهُنَا مَجْمُوعَةٌ مِن الْأَسْئِلَةِ نَخْتِمُ بِهَا هَذَا الْفَصْلَ:
1- مَا الَّذِي أَلَّفَ بَيْنَ بَصَائِرِ النَّاسِ عَلَى كِتْمَانِ حَقِّ عَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ؟ وَمَا مَصْلَحَتُهُمْ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا الَّذِي أَعَادَ إِلَيْهِمْ بَصَائَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَامُوا مَعَهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ؟
2- لِمَ لَمْ يُغَيِّرْ عَلِيٌّ أَحْكَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَ تَوَلِّيهِ؟
3- نَازَعَ الْأَنْصَارُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ابْتِدَاءً ثُمَّ رَجَعُوا فَلِمَ لَمْ يُعَارِضْ عَلِيٌّ؟.
4- لِمَ قَبِلَ الْمُسْلمُونَ جَمِيعًا أَبَا بَكْرٍ مَعَ أَنَّهُ لَم يُرْهِبْهُمْ وَلَمْ يُرَغِّبْهُمْ وَلَم تَكُنْ لَهُ عَشِيرَةٌ كَبِيرَةٌ تَمْنَعُه خَاصَّةً وَقَدْ جَاءَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَعَ رَجُلَيْنِ فَقَطْ هُمَا عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ.
ه- لِمَ لَمْ يَقُمِ النَّاسُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ لَم يَكُنْ لَهُ حَرَسٌ وَلَا حَجَبَةٌ وَلَا عَشِيرَةٌ تَمْنَعُهُ وَلَا أَمْوَالٌ يَشْتَرِي بِهَا الذِّمَمَ.
6- الْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَصرُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَحَارَبُوا الْعَرَبَ قَاطِبةً بَلِ الْعَالَمَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ تَرْمِيهِمْ بِقَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عُلِمَ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ مِن الْأَنْصَارِ
أَحَدًا وَلَا آذَى أَحَدًا. فَمَا الَّذِي جَعَلَهُمْ يَبِيعُونَ آخِرَتَهُم بِدُنْيَا غَيْرِهِمْ؟
7- وَكَذَا الْأَمْرُ ذَاتُهُ يُقَالُ فِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ عَلِيٍّ؟
8- إِذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَرِيصَيْنَ عَلَى إِبْعَادِ عَلِيٍّ عَنِ الْخِلَافَةِ فَمَا الَّذِي جَعَلَ عُمَرَ يُدْخِلُهُ فِي الشُّورَى؟ وَلِمَ لَم يَسْتَمِرَّ فِي إِبْعَادِهِ؟ وَلِمَ قَبِلَ عَلِيٌّ؟.
9- لِمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عَلِيٍّ أَيُّ مُعَارَضَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي وَقْتِ خِلَافتَيْهِمَا. بَلْ بَايَعَ رَاضِيًا وَعَمِلَ مَعَهُما لِنُصْرَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ؟
10- أَيْنَ بَنُو هَاشِمٍ وَمَا عُلِمَ عَنْهُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ مِن نُصْرَةِ عَليٍّ وَالْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِ؟
11- مَاذَا اسْتَفَادَ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَوْ عُثْمَانُ مِنَ الْخِلَافَةِ؟
أمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَا جَمَعَ مَالًا وَلَا وَرَّثَ مُلْكًا وَلَا وَلَّى أَحَدًا مِن أَقَارِبِهِ، وَكَذَا الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ إِلَّا أَنَّهُ أُخِذَ عَلَى عُثْمَانَ تَوْلِيَةُ أَقَارِبِهِ، وَقَد أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كَلَامِنَا عَنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَأَهَمِّ الْمَآخِذِ الَّتي أُخِذَتْ عَلَيْهِ.