السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق - ج1
(العراقيون لا يفقهوا ان توقف الفاسدين في البلاد عن فسادهم أشبه بحلم ابليس بالجنة). ذكر ابن عبد ربه " قال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها". (العقد الفريد1/25). ( سراج الملوك/61). (حدائق الأزهار/77). قال معاوية: مهما كان في الملك فإنه لا ينبغي أن يكون فيه أربع خصال: الكذب، فإنه إن وعد خيراً لم يرج، وإن أوعد شراً لم يخف؛ والبخل، فإنه إذا بخل لم ينصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ والحسد، فإنه إذا حسد لم يشرف أحد في دولته، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ والجبن: فإنه إذا جبن اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره". (البصائر والذخائر1/171). روى المبرد عن معاوية قوله" إذا لم يكن الملك حليما استفزّه الشىء اليسير الذى يندم عليه، وإذا لم يكن شجاعا لم يخفه عدوّه، وإذا كان شحيحا لم يكن له خاصة ولا مناصح، وإذا لم يكن صدوقا لم يطمع فى رأيه".(الفاضل/88). ويعتبر معاوية أول منظر للسياسة الشرعية في التأريخ الإسلامي. لا يوجد ما يسمى بالسياسة الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية كمصطلح قائم بحد ذاته، ولكن يوجد ما يفصلها في القرآن الكريم والأحاديث النبوية بما يعنيها ضمنيا، قال تعالى في سورة التحريم/6 ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه)). وورد بصيغة أخرى" كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ". (صحيح البخاري/2554). (صحيح مسلم/1829). كما ورد ايضا سنن أبي داود والترمذي والنسائي وأحمد وغيرها. كما إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل القاعدة الذهبية للسياسة الشرعية. الملك والحاكم والأمير والزوج والزوجة والخادم كل منهم راع حسب مكانته وعمله وحجم مسؤوليته ومسؤول عن رعيته. قال ابو القاسم المغربي" السياسات ثَلَاث سياسة السُّلْطَان لنَفسِهِ، وسياسته لخاصته، وَالثَّالِثَة لرعيته، فالسائس الْفَاضِل إِنَّمَا يصلح نَفسه أَولا ثمَّ يصلح بسياستها خاصته وَمَا يحملهَا عَلَيْهِ من الْآدَاب الصَّالِحَة لرعيته، فينشأ الصّلاح على تدريج وَتسود الاسْتقَامَة على تدريج". (السياسة/40). مفهوم الرعية لا يتعارض مع المواطنة، وليس مقصود بها الخراف، كما ذكر أحد كبار شيوخ الأزهر (خالد محمد خالد) الذي اعترض على كلمة الرعايا وسمى كتابه (موطنون لا رعايا) فهذه نظرة ضيقة وسوء فهم ما ورد في الحديث النبوي الشريف، فليس من المنطق ان ترفض حديثا نبويا دون التبحر في معناه ومعرفة القصد منه، وما فات الشيخ الأزهري ان كلمة مواطنه مستحدثة ولا أثر لها في القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا يمكن ان نقول مثلا (ايديولوجية الخليفة الفلاني) تعبيرا عن القول (فكرة الخليفة الفلاني) فلكل حديث مكانه وزمنه وظرفه. قال محمد بن علي بن الفضيل: ماكنت أعلم أمور الرعية تجري على عادة ملوكها، حتى رأيت الناس في أيام الوليد بن عبدالملك قد أشتغلوا بعمارة الكُرم والبساتين، واهتموا ببناء الدور وعمارة القصور، ورأيتهم في زمان سليمان بن عبدالملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب الطعام، حتى كان الرجل يسأله صاحبه: أي لون اصطنعت، وماالذي أكلت؟ ورأيتهم في أيام عمر بن عبدالعزيز قد اشتغلوا بالعبادة، وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات وإعطاء الصدقات، لتعلم أن في كل زمان تقتدي الرعية بالسلطان، ويعلمون بأعماله ويقتدون بأفعاله من القبيح والجميل، واتباع الشهوات، وإدراك الكمالات. ( دولة السلاجفة للصلابي). لذا إذا فككنا عبارة السياسة الشرعية الى (سياسة) و (شرع) سنرجع الى الحديث النبوي الشريف (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)، وهذا برأينا أفضل تعبير عن المفهوم لأنه يَعني بضرورة وكيفية تسييس الناس أي الذين يكونوا تحت مسؤليتك الشرعية.مع ضرورة التنبيه ان حجم المسؤولية يتصاعد من الخادم الراعي لأموال سيده وأسراره ومصالحه الى الملك والزعيم والأمير، فهذا الخادم نتحصر مسؤليته في خدمه سيده، والزوج والزوجة تنحصر مهمتهما في رعاية الأسرة، والملك والأمير والزعيم تكون مسؤليتهم هي الأكبر لأن عليهم ان يراعوا الشعب، ويحققوا له الحياة الكريمة ويشبعوا حاجاته من مأكل ومشرب ومسكن وعز وكرامة، واليوم يمكن الحكم على صلاحية ونجاح السياسة الشرعية لأي حاكم من خلال رقي دولته ومعدل التنمية والتقدم والأزدهار والعيش الكريم للشعب، وهذا هو المبدأ الذي خرجت به منظمة الشفافية الدولية لتقييم دول العالم، ومع الأسف كان الدول العربية في السلم الأخير في المراتب مما يعني فشل السياسية الشرعية للحكام إذا استثينا دول الخليج العربي، التي قطعت مشوارا مهما في التطور والرقي. قال ابو القاسم المغربي" أوصى ابو بكر الصّديق (رض) يزِيد بن أبي سُفْيَان لما أنفذه على العساكر إِلَى الشَّام : ابدأ جندك بِالْخَيرِ وعدهم مَا بعده وَإِذا وعظت فأوجز فَإِن الْكَلَام إِذا كثر نسى الأول بِالْآخرِ واصلح نَفسك يصلح لَك النَّاس فَإِن الْأَمِير إِنَّمَا يتَقرَّب إِلَيْهِ بِمثل فعله". (السياسة/59). قال الفارابي " لَا بُد للمرء من الْمُشَاورَة مَعَ غَيره فِي آراء وتدبيره فَيَنْبَغِي أَن يستودعها ذَوي النبل وكبير الهمة وَعزة النَّفس وَذَوي الْعُقُول والألباب فَإِن أمثالهم لَا يذيعونها وَإِن يُبَاشر فِي وَقت إفشاء الرَّأْي الْأُمُور الَّتِي يستعان بِمِثْلِهَا على إحكام ذَلِك الرَّأْي من الاستشارة وَالنَّظَر فِي أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين وَالِاسْتِمَاع إِلَى الْأَحَادِيث فِي السياسات اللائقة بذلك التَّدْبِير وَأَن يستر وجهده الْأُمُور الظَّاهِرَة المتعلقه بذلك التَّدْبِير الَّذِي يظْهر مَعَ ظُهُورهَا السِّرّ وَيسْتَعْمل مَا يضاد ذَلِك الرَّأْي من غير أَن يظْهر فِي نَفسه حرصا على اسْتِعْمَال الأضداد". (السياسة/28). على الرغم من تخلف الدول العربية ووصول بعضها الى الى العتبة الأولى في سلم الرقي كالعراق وسوريا واليمن ولبنان، علاوة على الصومال وموريتانيا والسودان، لكن زعماء هذه الدول لا يا يشعروا بالخجل من هذه السمعة الدولية، كأن الأمر لا يعنيهم، مع ان هذه السمعة تنعكس على موقف دول العالم تجاه دولهم وشعوبهم، انظروا كيف استباحت دول العالم العراق وسوريا ولبنان واليمن، ففي سوريا قوات امريكية وروسية وايرانية وميليشيات لبنانية وعراقية وافغانية وباكستانية، وانظروا الى العراق الذي يتعرض الى هجومات ايرانية وتركية شبه يومية، ولاحظوا سمعة جوازات سفرهم الرديئة، وعدم احترام شعوبهم في مطارات العالم. وسوف نمرٌ على ما ورد في تأريخ الأمة بما يخص السياسة الشرعية، كيف تعامل ابناء النخبة من صحابة وأتباع وفلاسفة وشعراء وأدباء. والحقيقة تقال فقد أبدعوا هؤلاء جميعا في وصف السياسة وعلاقتها بالشرع، وتأثيرها على الناس، ودور الرعاة بشكل عام في رعاية من هم يقعوا تحت مسؤليتهم الشرعية والدنيوية. وهذا ما يتجلى في قول إبن الأزرق" عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور إِنِّي لأعْلم رجلا إِن صلح صلحت الْأمة وَإِن فسد فَسدتْ الْأمة قَالَ وَمن هُوَ ؟قَالَ: أَنْت قلت وبظهر ذَلِك باعتبارين:ـ أَحدهمَا فِي الدّين: فقد قَالُوا النَّاس على دين الْملك فَإِن صلح مِنْهُ بِالْعَدْلِ تعدى الرّعية فلزموا قوانينه انفرادا وَمُخَالفَة وَإِن فَسدتْ مِنْهُ بالجور فشي فيهم ضَرَره كَذَلِك. الثَّانِي فِي الدُّنْيَا: فَإِن بصلاحه تفتح فِيهَا بَرَكَات الأَرْض وَالسَّمَاء وبفساده يظْهر نقيض ذَلِك برا وبحرا قَالَ الله تَعَالَى ((وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض))}، وَقَالَ تَعَالَى ((ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس)) ". (بدائع السلك1/85). قال الماوردي" لَا يَسْتَغْنِي الْملك عَن الكفاة وَلَا الكفاة عَن الإفضال والإفضال عَن الْمَادَّة وَلَا الْمَادَّة عَن الْعدْل. فالملك بِغَيْر الكفاة مختل والكفاة بِغَيْر الإفضال مسلطون والإفضال بِغَيْر الْمَادَّة مُنْقَطع وَإِنَّمَا يُقيم الْموَاد تسليط الْعدْل وَفِي تسليط الْعدْل حَيَاة الدُّنْيَا وبهاء الْملك، وَفِي هَذَا التَّنْزِيل تَعْلِيل للعدل فَإِنَّهُ من قَوَاعِد الْملك". (تسهيل النظر/188). وقال الماوردي حول كيفَ يساس الْملك" الملك يساس بِثَلَاثَة أُمُور: أَحدهمَا بِالْقُوَّةِ فِي حراسته وحفاظه، وَالثَّانِي بِالرَّأْيِ فِي تَدْبيره وانتظامه، وَالثَّالِث بالمكيدة فِي فل أعدائه. فَتكون الْقُوَّة مُخْتَصَّة بِالْعقلِ، والرأي مُخْتَصًّا بِالتَّدْبِيرِ، وهما على الْعُمُوم فِي جَمِيع الْأَحْوَال والأعمال، فَأَما المكيدة فمختصة بفل الْأَعْدَاء فَإِن من ضعف كَيده قوي عدوه وَهَذَا أصل يعْتَمد عَلَيْهِ مدَار السياسة وَيحمل عَلَيْهِ تَدْبِير الْملك". (تسهيل النظر/222). قال ابن سينا" إِن أول مَا يَنْبَغِي أَن يبْدَأ بِهِ الْإِنْسَان من أَصْنَاف السياسة سياسة نَفسه إِذْ كَانَت نَفسه أقرب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَأَكْرمهَا عَلَيْهِ وأولاها بعنايته وَلِأَنَّهُ مَتى أحسن سياسة نَفسه لم يعي بِمَا فَوْقهَا من سياسة الْمصر. وَإِن يعلم إِن كل رام إصْلَاح فَاسد لزمَه أَن يعرف جَمِيع فَسَاد ذَلِك الْفساد معرفَة مستقصاه حَتَّى لَا يُغَادر مِنْهُ شَيْئا ثمَّ يَأْخُذ فِي إِصْلَاحه وَإِلَّا كَانَ مَا يصلحه غير حريز وَلَا وثيق". (السياسة/78). ما يهمنا في الوقت الحاضر هو ما يتعلق برأس السياسة الشرعية والذي يتمثل بالحاكم، وأفضل من عبر عنها الطرطوشي" إذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد وعم العباد، فرقت أديانهم واضمحلت مروآتهم وفشت فيهم المعاصي وذهبت أماناتهم، وتضعضعت النفوس وقنطت القلوب، فمنعوا الحقوق وتعاطوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان وجوزوا البهرج، فرفعت منهم البركة وأمسكت السماء غياثها، ولم تخرج الأرض زرعها أو نباتها، وقل في أيديهم الحطام وقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم وتنازعوا المقدار اللطيف وتجاحدوا القدر الخسيس، ففشت فيهم الأيمان الكاذبة والحيل والبيع والخداع في المعاملة، والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء، ولا يمنعهم من السرقة إلا العار ومن الزنا إلا الحياء، فيظل أحدهم عارياً عن محاسن دينه متجرداً عن جلباب مروءته، وأكثر همته قوت دنياه وأعظم مسراته أكله من هذا الحطام، ومن عاش كذلك فبطن الأرض خير له من ظهرها". ( سراج الملوك/45). وحذر الماوردي من الآفات التي تعصف بكل منصب، فقال: قيل فِي منثور الحكم آفَة الْمُلُوك سوء السِّيرَة وَآفَة الوزراء خبث السريرة وَآفَة الْأُمَرَاء مُفَارقَة الطَّاعَة وَآفَة الْجند مُخَالفَة القادة وَآفَة الرّعية ضعف السياسة وَآفَة الْعلمَاء حب الرياسة وَآفَة الْقُضَاة حب الطمع وَآفَة الْعُدُول قلَّة الْوَرع وَآفَة الْملك تضَاد الحماة وَآفَة الْعدْل ميل الْوُلَاة وَآفَة الجرئ إِضَاعَة الحزم وَآفَة الْقوي استضعاف الْخصم وَآفَة الْمجد عوائق الْقُضَاة وَآفَة الْمُشَاورَة انْتِقَاض الارآء وَآفَة الْمُنعم قبح الْمَنّ وَآفَة المذنب سوء الظَّن وَآفَة الزعماء قلَّة السياسة ". (تسهيل النظر/235). وحذر ابن خلدون من حاشية السلطان واليوم ندعوهم بالمستشارين. ويميل السلطان إلى هؤلاء المصطنعين الّذين لا يعتدّون بقديم ولا يذهبون إلى دالّة ولا ترفّع. إنّما دأبهم الخضوع له والتّملّق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتّسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر بما يحصل لهم من قبل السّلطان والمكانة عنده ويبقى ناشئة الدّولة فيما هم فيه من التّرفّع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلّا بعدا من السّلطان ومقتا وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدّولة". (تأريخ ابن خلدون/492). مما ذكر ابن الجوزي عن المحسن التنوخي" بلغنا عن المعتضد بالله، أنّ خادما من خدمه جاء يوما، فأخبره أنّه كان قائما على شاطىء الدجلة، في دار الخليفة، فرأى صيادا، وقد طرح شبكته فثقلت بشيء، فجذبها، فأخرجها، فإذا فيها جراب، وأنّه قدّره مالا، فأخذه، وفتحه، وإذا فيه آجر، وبين الآجر، كفّ مخضوبة بحناء. قال: فأحضر الجراب والكف والآجر. فهال المعتضد ذلك، وقال: قل للصياد يعاود طرح الشبكة، فوق الموضع، وأسفله، وما قاربه. قال: ففعل، فخرج جراب آخر فيه رجل. قال: فطلبوا، فلم يخرج شيء آخر. فاغتم المعتضد، وقال: معي في البلد من يقتل إنسانا ويقطع أعضاءه، ويغرّقه، ولا أعرف به؟ ما هذا ملك. قال: وأقام يومه كلّه، ما طعم طعاما". (الأذكياء/43). أمثال وأقوال مأثورة في السياسة الشرعية ـ ذكر الجبرتي" يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية". (عجائب الآثار1/22). ـ قال ابن عبد ربه " قيل لعبد الله بن الحسن: إنّ فلانا غيّرته الولاية. قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغيّر لها، ومن ولي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها". (العقد الفريد1/75). ـ قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل. وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم. ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن". (العقد الفريد1/9). ـ قال ابن عبد ربه " قال المأمون: الملوك تتحمّل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرم". (العقد الفريد1/13). ـ ذكر الجبرتي" قال وهب بن منبه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به ادخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء وإذا هم بالخير أو عمل به ادخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء ويعم البلاد والعباد ". (عجائب الآثار1/22). ـ قال ابن جماعة" اتّفق حكماء الْعَرَب والعجم على هَذِه الْكَلِمَات وَهِي: الْملك بِنَاء أساسه الْجند، فَإِن قوى الأساس دَامَ الْبناء، وَإِن ضعف الأساس سقط الْبناء. لَا سُلْطَان إِلَّا بجند، وَلَا جند إِلَّا بِمَال، وَلَا مَال إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل". (تحرير الأحكام/69). ـ قال الثعالبي" ينبغي أن يكون الملك كالغيث يحيي إذا همى، والسيل يردي إذا طمى، والبدر يهدي إذا سما، والدهر يصمي إذا رمى".(الظرف والظرفاء1/17). ـ قال بن مسكويه" على مدير المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه ثم يقسم عنايته بالناس ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية. والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية". (تهذيب الاخلاق/83) . ـ روى المبرد"حدّثنى مبارك الطبرى قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدىّ: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلّا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلّا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلّا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه".(الفاضل/88). للكلام جزء تابع.. بعون الله علي الكاش
السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق - ج2
ذكر وكيع" قال إياس بْن معاوية: كل بنيان بني على أساس أعوج لم يستقم بنيانه". (أخبار القضاة2/356). وهذا ما يمكن الإستدلال عليه في تجارب العراق وايران وسوريا ولبنان واليمن. تنويه سيكون الجزء الثالث والأخير متعلقا بالسياسة الشرعية في العراق بعد عام 2003، وبيان موقف الراعي العراقي من رعيته، فمن غير المألوف في السياسة الشرعية أن يقتل ويسرق الراعي رعيته ولا أن يهجرهم ويسومهم العذاب، ولا ان يفرق بين رعيته حسب الدين والمذهب والعنصر والجنس واللون، ولا ان ويخدم دولة أخرى وشعب آخر لا يمت له إلا بصلة جوار، وتأريخ الجوار مبني على العداء والحقد والفوقية الفارغة. أما الدين فهو مختلف فدين نظام الملالي المبني على ولاية الفقيه لا علاقة له بالإسلام، ولا يمت صلة به، الإسلام دين مكارم الأخلاق والسلم والتآخي والتسامح والحب واحترام الجار، وهذه الصفات جميعها تفتقر اليها ولاية الفقيه، وسنفصل الأمر لاحقا. قال الزمخشري" القاضي تعمل فيه الرشوة، ما لم تعمل في الشارب النشوة، يسمى القاضي، وهو السمّ القاضي". (أطواق الذهب/17). وقال ابن المعتز: الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى. ( اللطائف والظرائف/28). قال الماوردي" حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عُزِلَ عَنْ وِلَايَةٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي وَجَدْتهَا حُلْوَةَ الرَّضَاعِ، مَرَّةَ الْفِطَامِ". (أدب الدنيا والدين/244). وذكر العدوي الشيزري سَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس حكيما من حكمائهم فَقَالَ مَا عز الْملك قَالَ الطَّاعَة. قَالَ: فَمَا سَبَب الطَّاعَة قَالَ التودد إِلَى الْخَاصَّة وَالْعدْل على الْعَامَّة. قَالَ: فَمَا حصن الْملك قَالَ وزراؤه وأعوانه فَإِنَّهُم إِذا صلحوا صلح الْملك وَإِذا فسدوا فسد الْملك قَالَ فَمَا سَبَب صَلَاحهمْ قَالَ: الْبَذْل والإنعام وَالْإِحْسَان الشَّامِل قَالَ: فَأَي الْأُمُور أَحْمد للْملك قَالَ: الرِّفْق بالرعية وَأخذ الْأَمْوَال مِنْهُم من غير مشقة وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه وسد الثغور وَأمن السبل وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وزجر الْقوي عَن الضَّعِيف قَالَ فَأَي خصْلَة تكون فِي الْملك أَنْفَع قَالَ الصدْق فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَأما الأساس للمملكة وأركانها فَهُوَ الدّين". (المنهج المسلوك/237). ـ قال التوحيدي" قالت الترك: ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضروب الحيوان سخاء الديك، وتحنّن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركيّ، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن بعروا، (هي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء)". (الإمتاع والمؤانسة1/109). ـ قال التوحيدي" قال بعض ندماء الإسكندر له: إن فلانا يسيء الثناء عليك، فقال: أنا أعلم أن فلانا ليس بشرّير، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمر دعاه إلى ذلك، فبحث عن حاله فوجدها رثّة، فأمر له بصلة سنيّة، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل، فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خير أو شرّ". (الإمتاع والمؤانسة2/182). حكى اسبهبد مرزبان " لا بد للملوك من خمس خصال: الأولى اجتناب التبذير، الثانية مراعاة النفس والتأمل في حالة الرضى والغضب، الثالثة تقديم مصالح رعيته على مصالح نفسه، الرابعة لا يمكن القوي من الضعيف، الخامسة لا يقدم أحدا على العلم والعلماء وليتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". (مرزبان نامة/226). طاهر بن الحسين يضع أسس نظرية السياسة الشرعية ذكر ابن خلدون" من أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة. ونصّ الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس أمرك وملاك شأنك وأوّل ما يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها ورتّل في قراءتك وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك واحضض عليه جماعة ممّن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ وجلّ تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في الدّين والطّلب له والحثّ عليه والمعرفة بما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر والنّاهي عن المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء معرفة وإجلالا له ودركا للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للنّاس من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثّقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا أجمع فضلا منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق والتّوفيق قائد إلى السّعادة وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلّها. ولا تقصّر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصّالحة والسّنن المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أنّ القصد في شأن الدّنيا يورث العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك وأحسن ظنّك باللَّه عزّ وجلّ تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلّها تستدم به النّعمة عليك ولا تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه من عملك قبل أن تكشف أمره فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون السّيئة بهم آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم، وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله الشّيطان في أمرك مغمزا فإنّه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغمّ بسوء الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك تجد بحسن الظّنّ قوّة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى محبّتك والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة برعيّتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم أيسر عندك ممّا سوى ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع هذا وتفرّد بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن ومؤاخذ بما أساء فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقّوه ولا تعطّل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة وجانب البدع والشّبهات يسلم لك دينك وتقم. ك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصّلاح. والصّدق، وأعزّ الأشراف بالحقّ، وآس الضّعفاء، وصل الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم وقم بالحقّ فيهم، وبالمعرفة الّتي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش والغرور فيما أنت بسبيله. وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص الرّأي وقلّة اليقين باللَّه عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه واليقين به. واعلم أنّ الملك للَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء. ولن تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد أسرع منه إلى حملة النّعمة من أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى واستصلاح الرّعيّة وعمارة بلادهم والتّفقّد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامّة وترتّبت بها الولاية وطاب بها الزّمان واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق. الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت ذلك قرّت النّعمة عليك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيّتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما أردت وأجهد نفسك فيما حدّدت لك في هذا الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ وجلّ وارج الثّواب فيه فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين وإحسان المحسنين. ولا تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا ولا تصلنّ كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ نمّاما ولا تأمننّ غدّارا ولا توالينّ فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا تحقّرنّ إنسانا ولا تردّنّ سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا تزهونّ فخرا ولا تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ في طلب الآخرة ولا ترفع للنّمام عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في الدّنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا تدخلنّ في مشورتك أهل الرّفه والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلّا قليلا فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم. وابتدئ من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطيّة لهم. واجتنب الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي وهو قول الله عزّ وجلّ «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9» فسهّل طريق الجود بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم من فيئك حظّا ونصيبا وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم وأدرّ عليهم أرزاقهم ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السّلطان من السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ذا رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنّه ميزان الله الّذي تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة وتأمن السّبل وينتصف المظلوم وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة ويرزق الله العافية والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في مجاريها. واشتدّ في أمر الله عزّ وجلّ وتورّع عن النّطف وامض لإقامة الحدود. وأقلّ العجلة وأبعد عن الضّجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشّبهة وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبّت وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر واعتبر وتواضع لربّك وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ على نفسك ولا تسرعنّ إلى سفك دم، فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها. وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام عزّا ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له. ولا تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ ذلك أجمع لأنفسهم وألزم لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك لأنّك راعيهم وقيّمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة بالعلم والعمل بالسياسة والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك من الحقوق اللّازمة لك فيما تقلّدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك واجتررت به المحبّة من رعيّتك وأعنت على الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفّرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامّة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك كلّها ذا عدل وآلة وقوّة وعدّة. فنافس في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمّالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع كلّ عامل في عمله معاين لأموره كلّها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع فأمضه وإلّا فتوقّف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه ربّما نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كلّ ما أردت وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في جميع أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ للغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك ذلك حتّى تمرض منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك وانظر أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم وشهدتّ مودّتهم لك ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا يجدوا لخلّتهم مسّا وأفرد نفسك للنّظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك . والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيّتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى في العطف عليهم والصّلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء من بيت المال وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف في بيت المال. واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل الرّفق منهم. وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها ما يناله به من مئونة ومشقّة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالّذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته وأكثر الإذن للنّاس عليك وأبرز لهم وجهك وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإنّ العطيّة على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من أهل السّلطان والرّئاسة في القرون الخالية والأمم البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند محبّته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرّك وإعلانك بما فيه من النّقص فإنّ أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك . وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك فوقّت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا للحقّ والحزم فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتّثبّت منه ولا تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك وأنعم النّظر فيه والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره فإنّ الله عزّ وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان للَّه عزّ وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا وللملّة والذّمّة عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسّلام. وحدّث الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع أمره أعجب به النّاس واتّصل بالمأمون فلمّا قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلّا وقد أحكمه وأوصى به ثمّ أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السّياسة والله أعلم".(تأريخ ابن خلدون/380ـ 388). لا أظن بعد هذا العرض المشوق هناك حاجة للتعليق.
السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق - ج3
مقدمة قال علي بن أبي طالب (رض)" لا يصلح لكم يا أهل العراق إلّا من أخزاكم، وأخزاه الله". ( ربيع الأبرار5/200). من الأقوال والحكايات التي أوردناها في هذا المبحث، يمكن إستنتاج معنى السياسة الشرعية بكل وضوح، فحقوق الإنسان وموقف الحاكم من مواطنيه هي لب السياسة الشرعية، والهدف الأسمى لها، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال الصحابة والتابعين وكبار الحكماء المسلمين، بل وغير المسلمين أيضا، ولكننا سنقصر المبحث عن السياسة الشرعية ضمن المنظور الإسلامي، وإلا لأحتاج المبحث الى كتابا مستقلا يضم المحاور الخاصة بالسياسة الشرعية من كل الجوانب. ولاشك ان القضاء العادل هو الرقيب الرئيس على السياسة الشرعية في البلد، فكلما قوي القضاء صَلحت السياسة الشرعية وكلما تراخى وكان في خدمة الحاكم وليس الشعب ساءت السياسة الشرعية. القرآن الكريم هو دستور السياسة الشرعية في الإسلام، وتتبعه السنة النبوية وسلوك الخلفاء من بعد النبي المصطفى، ومن المؤسف ان سيرة العديد من الخلفاء تعرضت للتشويه المتعمد لأسباب دينية وطائفية وعنصرية، وقد تماشى معها الرواة الجهلة ومن يبغض الإسلام وغالوا فيها، وربما أكثر من شمله التشويه في العهد الأموي ـ وهو العهد العربي الأصيل الذي لم تدخل فيه العناصر الأجنبية وتتسلم مناصب عليا في الدولة ـ منهم كاتب النبي (صلى الله عليه وسلم) معاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد وعبد الملك بن مروان والوليد، وفي الزمن العباسي الأول أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، والأخيران بسبب موقفهما من الأعاجم الخراسانيين (ابو مسلم الخراساني)، والبرامكة (نكبة البرامكة). كان الرواة الشيعة من ابرز الطعانيين في الإسلام، وقدموا خدمة كبيرة للمستشرقين في تشويه معالم الدين الاسلامي من خلال إفترائهم على الصحابة والخلفاء، والطعن بالقرآن الكريم، مع ان أئمتهم الذين لم يتمردوا على الخلفاء عاشوا بسلام وبحبوحة، ولم يتعرض لهم الخلفاء. والغريب في الأمر هو توارث الحقد من جيل لآخر، ففي العراق مثلا طالب النواب الشيعة بتغيير إسم شارع الرشيد ظنا منهم ان التسمية بالرشيد تعني الخليفة الرشيد مع ان الإسم يتعلق بسلطان عثماني، والبعض طالب بردم نصب ابو جعفر المنصور مؤسس بغداد وبعدة محاولات، ويقف رجال الدين والساسيون الطائفيون مثل نوري المالكي ومقتدى الصدر وجلال الصغير وعمار الحكيم وبهاء الأعرجي وحازم الأعرجي وغيرهم وراء تأجيج هذه الكراهية، بل ان قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق برأ أهل الكوفة من جريمة قتل الحسين بن علي ولصقها بأهل الموصل، وبهاء الأعرجي اعتبر المؤامرة على الشيعة مستمرة من زمن أبي بكر ولغاية عهد احمد حسن البكر، وهام جرا. مستلزمات نجاح السياسة الشرعية اولا. صلاح الحاكم من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر الجبرتي" يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية". (عجائب الآثار1/22). قال الثّوريّ: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، وفتنة القائد الجاهل". ( الامتاع والمؤانسه1/242).. قال عمرو بن العاص" لأن يسقط ألف من العلْيةِ، خير من أن يرتفع واحدُ من السفلة". (درر الحكم /42). حكى الطرطوشي" روي أن المأمون أرق ذات ليلة، فاستدعى سميراً فحدثه بحديث. فقال السمير: يا أمير المؤمنين كان بالبصرة بومة، وبالموصل بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها. فقالت بومة البصرة: لا أنكحك ابنتي إلا أن تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراباً. فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن، ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة، فعلت لك ذلك! قال: فاستيقظ لها المأمون وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور الولاة". ( سراج الملوك/123). ثانيا. تحقيق الأمن وحماية الرعايا بلا إستثناء التعامل مع الناس بمساواة دون تغليب الأهواء والميول الشخصية والعنصر والدين والمذهب والجنس. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا". (الكامل للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا". (الكامل للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى. ثالثا. منع الظلم ومحاسبة الظالمين بقسوة ذكر الصابي" قال لنا أبو الحسن بن الفرات، وقد جرى بحضرته ذكر رجل قد أسرف في الظّلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه". (الوزراء/238). ومما يحكى: نظر سقراط إِلَى امْرَأَة حِين أُرِيد قَتله، وَهِي تبْكي، فَقَالَ لَهَا: مَا يبكيك؟ قَالَت: وَكَيف لَا أبْكِي وَأَنت تقتل ظلما؟ فَقَالَ لَهَا: فكأنك أردْت أَن أقتل بِحَق". (نثر الدر في المحاضرات7/14). ذكر ابو الفداء" كثرت الحرامية في زمن الملك الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين". (المختصر في أخبار البشر3/212) رابعا. دعم القضاء وابعاد تأثير القوى الحاكمة على أحكامه قال التنوخي" إذا اختلّ أمر القضاء في دولة، اختلّ حالها". (نشوار المحاضرة 1/231). ومحاسبة الفاسدين. ذكر ابو الفداء" كثرت الحرامية في زمن الملك الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين". (المختصر في أخبار البشر3/212) خامسا. الصدق في القول وتجسيده بالفعل قال الأوزاعيّ" المؤمن يقلّ الكلام ويكثر العمل. والمنافق يكثر الكلام ويقلّ العمل". ( الامتاع والمؤانسه1/242). وقيل: سَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: فَعَلْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ". (أدب الدنيا والدين/204). قال أبو جعفر بن سنانك ((جمال الرجل فى حسن مقاله؛ وكماله فى صدق فعاله". (طبقات الصوفية/96) سادسا. التقرب من الناس وتفقد أحوالهم سرا وعلنا العمل على متابعة أحوالهم والإستماع الى مشاكلهم وحلها ما أمكن ذلك. ذكر الجبرتي" يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية". (عجائب الآثار1/22). ويمكن للراعي ان يتنكر بالزي ويخرج ليلا لإستطلاع أحوالهم، والنظر في ظلاماتهم. سابعا. تقريب الحكماء وجعلهم مستشارين بمعنى العمل على إبعاد المنافقين والمتزلفين والمداحين والإهتمام بالأفعال وليس الأقوال، فالحكيم يعطي الإستشارة الصحيحة وينور عقل الحاكم ويصوب قراراته، ويحذره من الوقوع بالخطأ. وتجنب الجهلة ومدعين العلم، وتحديد مهام رجال الدين في مجال الشرع فقط، قال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ". (أدب الدنيا والدين/81). كما قال السيوطي" من الأمثال القديمة: كاد الحكيم ان يكون نبيا". (الكنز المدفون/27). قال أبو بكر الوراق" قرأت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وأربعين صحيفة في الحكمة، فمحصول جميعها خلتان أحداهما اجلال أوامر الله تعالى ونواهيه والثانية الشفقة على خلق الله". (مفيد العلوم/390). ثامنا. الحث على طلب العلم وانهاء مظاهر الجهل والأمية قال تعالى في سورة الاعراف/179((لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)). تاسعا. دعم الفقراء والتخفيف عنهم من خلال مساعدتهم قال سفيان الثوري للمهدي في وجهه" احذر من هؤلاء الأعوان، والمترددين إليك من الفقراء، فإن هلاكك على أيديهم يأكلون طعامك، ويأخذون دراهمك، ويغشونك ويمدحونك بما ليس فيك". وقال أبو سعد الآبي" قَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز: مَا ضرب الْعباد بِسَوْط أوجع من الْفقر". (نثر الدر في المحاضرات4/135). قال المبرد" قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا". (الكامل2/125) عاشرا. غلق باب الحاكم عن رجال الدين من المخاطر التي تهدد الدول تعاظم دور فقهاء السلطان، لذا لابد من منعهم من دس إنوفهم في سياسة الرعية إلا في مجال النصح والوعظ. قال سفيان الثوري" إذا رأيتم العالم يلوذ بباب السلطان، فاعلموا أنه لص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء، فاعلموا أنه مراء". وقال علي بن أبي طالب" قصم ظهري عالمُ متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغش الناس، والعالم يغريهم بتهتك". ( إحياء علوم الدين للغزالي1/ 58). احد عشر. وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ذكر وكيع" قال إياس بْن معاوية: كل بنيان بني على أساس أعوج لم يستقم بنيانه". (أخبار القضاة2/356). اثنى عشر: تنشئة الأجيال على حب الوطن، ومعالجة أوضاع المهجرين والمغتربين وذلك من خلال الإهتمام بها وتهيئة مستلزمات الحياة الكريمة لهم. قال ابو عبد اللّه الصبيحى" الغريب هو البعيد عن وطنه، وهو مقيم فيه". (طبقات الصوفية/85). الخاتمة مسؤولية الحاكم تجاه رعيته قال الإتليدي" لما رجع عمر (رض) من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها. فقالت: ما فعل عمر (رض)؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً. فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! قال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر (رض)، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر! ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله. فقال عمر: لست أهزأ بك. ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب (رض)، وعبد الله بن مسعود (رض)، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟ فقال لها عمر (رض): لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي". ( إعلام الناس/10). علي الكاش مصادر المبحث ـ السياسة. الحسين بن علي بن الحسين، ابو القاسم المغربي (المتوفى:418هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1 ـ السياسة. الحسين بن عبد الله بن سينا (المتوفى:428هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1 ـ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك. ابو الحسن علي بن محمد البغدادي المعروف بالماوردي (المتوفى:450هـ). تحقيق: محي هلال وحسن الساعاتي. دار النهضة العربية. بيروت 1986 ـ المنهج المسلوك في سياسة الملوك. عبد الرحمن بن نصر، جلال الدين العدوي الشيزري (المتوفى:590هـ). تحقيق: علي عبد الله الموسى. مكتبة المنار. الزرقاء ـ تحرير الأحكام في تدبير الإسلام. ابو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني (المتوفي:733هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الثقافة. الدوحة 1988 ـ بدائع السلك في طبائع الملك. محمد بن علي الأندلسي، شمس الدين إبن الأزرق. (المتوفي: 965 هـ). تحقيق: د. علي سالم النجار. وزارة الاعلام. بغداد (2) مجلد. ـ العقد الفريد. شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الاتدلسي (المتوفي:329 هـ). تحقيق: د. مفيد محمد قبيحة. دار الكتب العلمية. بيروت. 1403 هـ. ـ عجائب الآثار في التراجم والأخبار. عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (المتوفي:123هـ). دار الجيل. بيروت.
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video