( رَزِيّةُ الخميس ) تحليل ومناقشة ؟!!
الطعن في الصحابة -رضوان الله عليهم- هو طعن في الدين، فإن الدين إنما وصلنا بحملهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والسنة، ونقلهم لهما إلينا، وفضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مشهورة معلومة، وأفضلهم هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، ثم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقد انعقد إجماع أهل السنة على ذلك ([1]) وما فتئ كثير من الشيعة يطعنون في الصحابة عامة وفي الخليفتين خاصة، فاختلقوا الأحاديث المكذوبة، وأفسدوا معاني الأحاديث الصحيحة؛ انتصارًا لأباطيلهم وضلالاتهم...وفي هذا المبحث نعرض لأحد الأحاديث الصحيحة التي أفسدوا معناها انتصارًا لباطلهم... نص الحديث: روى البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما حُضِر (أي حضره الموت ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ) : - هلمُّوا أَكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده( ، فقال بعضهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللَّغو والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قوموا( . قال عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: ( إنَّ الرزية كلَّ الرزيةِ ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب؛ لاختلافهم ولغطهم ( ( صحيح البخاري : 4432 ) ، ورواه مسلم بلفظ آخر عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بلَّ دمعه الحصى، فقلت: يا ابن عباس، وما يوم الخميس؟! قال: اشتدَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه، فقال :( ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعدي (، ( الرسول - صلى الله عليه وسلم - أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وإنما قال إتوني بكتاب أكتب لكم .. أي آمر بمن يكتب لكم ، كما نقول بنى الأمير المدينة وهو لم يضع حجرا واحدا في بنائها ) فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه؟ أهجر(أي: قال: هُجْرًا، وهو استفهام استنكاري. ينظر: فتح الباري لابن حجر : 8/ 133) ؟؟ استفهَموه، قال: ( دعوني، فالّذي أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفدَ بنحو ما كنت أجيزهم ( ، قال: وسكتّ عن الثالثة، أو قالها : فأنسيته ( صحيح مسلم : 1637( . توضيح موقف عمر- رضي الله عنه -: العلماء مجمعون على أن فعل عمر هذا معدود في محاسنه(انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 90( ، وأن الصواب كان معه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استصوب رأيه بإقراره له عليه. ولو كان الصواب أن يكتب لهم لما عدل عن ذلك، خاصة وأنه عاش بعد ذلك أيَّامًا؛ إذ كانت هذه الحادثة يوم الخميس، ووفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت يوم الاثنين. فحاصل الأمر إذن : أنَّ الصحابة اختلفوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يَكتُب أم لا، وكان رأي عمر بن الخطاب أن لا يكتب، ورأي غيره من الصحابة أن يكتب، فمال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رأي عمر، بأن أقره عليه، وذلك بتركه الكتابة لهم، أما أمره لهم بالقيام فلتنازعهم وإكثارهم الاختلاف، ولو كان الصواب أن يكتب لهم لما عدل - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهو معصوم عن الخطأ فيما يتعلق بأمور الرسالة. شبهات الشيعة: الشيعة يطعنون في عمر- رضي الله عنه - ويقولون: إنه ردَّ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( إنَّ رسول الله هجَر ) ، وأن الذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابته هو أن يعهد بالخلافة من بعده لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه-( انظر: كشف الأسرار للخميني (ص: 125-126، 152) . ونقول : ربما تكون الرواية السابقة قد أبهمت نوع الوصية ، وقد أحكمتها رواية أخرى هذا نصها: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو معاوية قال: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : ( لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ : " ائْتِنِي بِكَتِفٍ أَوْ لَوْحٍ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ " فَلَمَّا ذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَقُومَ ، قَالَ : " أَبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُخْتَلَفَ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ) (رواه احمد في المسند وصححه الألباني ، رقم الحديث: 188 ) فزعم الرافضة أن عمر– رضي الله عنه - منع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كتابة الوصية ، وهذا مردود بقوله تعالى ؛ (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)( المائدة : 67 ) هذه الآية أمر من الله لنبيه بتبليغ جميع ما أنزل الله إليه، قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ...الآية)( هود : 12) ( عند كتابتي لهذه الفقرة لفت انتباهي قول الدكتور الفاضل : فاضل السامرائي وهو يبين اللمسات البيانية في هذه الآية من سورة هود ، فقال : فلعل هنا تفيد التحذير من ترك أي شيء من أمور الدين ... إياك أن تترك شيئا مما يوحى إليك ...ولو كانت الوصية واجبة لما تركها ) وأن لا يخاف أذى قومه لأن الله عاصمه من أذاهم. وهذه الآية ترد على من زعموا أن عمر منع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كتابة الوصية لأنه قال : ( إن رسول الله قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ) . والآية نص على أنه لا أحد يستطيع أن يمنع رسول الله من تبليغ ما يريد. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو أراد أن يكتب الكتاب ما استطاع أحد أن يمنعه، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك أياماً باتفاق المسلمين فلم يكتب شيئاً. وأما القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الكتاب أن ينص على خلافة علي - رضي الله عنه - فمردود من وجوه : فالإمامية يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نص على خلافة علي، ونصَّبه وصياً من بعده بأمر الله له قبل حادثة الكتاب.؟؟!! وقد نقل إجماعهم على هذه العقيدة الشيخ المفيد حيث قال: (واتفقت الإمامية على أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - استخلف أمير المؤمنين - عليه السلام - في حياته، ونص عليه بالإمامة بعد وفاته، وأن من دفع ذلك دفع فرضاً من الدين ).( أوائل المقالات: 44. ) ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافةِ علي فهو ضال باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب ) منهاج السنة 6/ 25.) . فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أراد من ذلك الكتاب النَّصَ على خلافة علي في ذلك الوقت المتأخر من حياته، دل هذا على عدم نصه عليها قبل ذلك، إذ لا معنى للنص عليها مرتين، وإذا ثبت باتفاق المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يكتب ذلك الكتاب، فبطلت دعوى الوصية من أصلها. وإذا تقرر هذا: فليعلم أن العلماء اختلفوا في مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الكتاب، فذهب بعضهم إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب كتاباً ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف (شرح صحيح مسلم للنووي 11/90، وفتح الباري لابن حجر 1/209.) .وقيل: إن مراده - صلى الله عليه وسلم -من الكتاب: بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن) المُفهم 4/558 ) وقيل: إن المراد بيان كيفية تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم، وتجهيز جيش أسامة (مختصر التحفة الإثني عشرية، 251. ) . والذي عليه أكثر العلماء المحققين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينص على استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه - ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى (شرح صحيح مسلم للنووي 11/90، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/890 ) . وقد استدل من قال بهذا القول بما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها : ( قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلاأبا بكر)( رواه مسلم برقم 2387، والبخاري برقم 7217 . ) ثم لم يثبت أن عمر- رضي الله عنه - قال : إنه يهجر، وإنما قالها بعض من حضر الحادثة من غير أن تعين الروايات الواردة في الصحيحين ، وإنما الثابت فيها (فقالوا: ما شأنه أهجر)، هكذا بصيغة الجمع دون الإفراد. ولهذا أنكر بعض العلماء أن تكون هذه اللفظة من كلام عمر. قال ابن حجر : (ويظهر لي أن قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع، قد يشتغل به عن تحرير ما يريد ( (فتح الباري 8/133. ) . ثم أن هذه اللفظة لا مطعن فيها على عمر إن ثبتت عنه، ولا الصحابة. وأما الادعاء من معارضة عمر- رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقوله: (عندكم كتاب الله، حسبنا كتاب الله) وأنه لم يمتثل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أراد من كتابة الكتاب: فالرد عليه من وجوه ، منها : الوجه الأول: أنه ظهر لعمر - رضي الله عنه - ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح (الشفا 2/887، وشرح صحيح مسلم 11/91، وفتح الباري 1/209. ) . ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر- رضي الله عنه- ، وذلك بترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتابة الكتاب، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف. ولهذا عد هذا من موافقات عمر (فتح الباري لابن حجر 1/209. ) الوجه الثاني: أن قول عمر- رضي الله عنه - : (حسبنا كتاب الله) رد على من نازعه ، لا على أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- (نص عليه النووي في شرح صحيح مسلم 11/93. ) وهذا ظاهر من قوله: (عندكم كتاب الله) فإن المخاطب جمع ، وهم المخالفون لعمر - صلى الله عليه وسلم - في رأيه. كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالتبليغ سواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا، قال تعالى:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ... ) [الشورى : 48]، وقال تعالى: ( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) [النحل : 82] فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لعدم استجابة أصحابه، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلَّغ ما أُمر به، وما ثناه ذلك عن دعوته، ( .... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... ) ( الأنفال / 42) . فظهر بهذا أن كتابة الكتاب لم تكن واجبة عليه، وإلا ما تركها(منهاج السنة 6/315، 316، وفتح الباري 1/209. ) .. ثم إن علياً - رضي الله عنه - كان حاضراً في هذه الحادثة؟ فلماذا لم يكتب؟ لماذا لم يذهب ويأت بالدواة والقلم ويكتب؟ وهل كان عليّ - رضي الله عنه - مع الذين منعوا أو مع الذين لم يمنعوا؟!. أما غمزه ولمزه بقوله : والسقيفة ، ومهاجمة دار الزهراء..؟! وبقصد بيوم السقيفة ماجرى من إجماع أهل الحل والعقد على انتخاب أبي بكر – رضي الله عنه - للخلافة ، وعارض في البداية من عارض مثل علي ، وأبي سفيان – رضي الله عنهما – ثم بايعا فيما بعد ، وانتهى الإشكال . أما مهاجمة دار الزهراء ، وكسر ضلعها ، وإسقاط جنينها محسن – رضي الله عنها وأرضاها – فقد نسج حولهاالشيخ حسين المياحي ( انظر كتابه : النظرية السبئية في منظار ابن تيمية ، ص 399.وما بعدها ) ، ومن نقل عنهم ، قصصا لا تليق بآل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – وأثاروا حولها شبهات كثيرة ناقشتها عند حديثي عن دور اليهود في اغتيال عمر – رضي الله عنه وأرضاه - : مع أن الثابت أن عمر لم يكسر ضلع الزهراء ، ولم يسقط جنينها ؟! إنما كسر أضلاع المجوس ؟ ثم لو سلمنا جدلًا أن هنالك جنين (سقط) اسمه (محسن) ، فهو حفيد النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن أهل بيته. والسؤل التالي لهذا الافتراض هو: هل تحققت نبوءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بأنها أول أهله لحوقًا به كما أخبرها في مرض موته؟. هل ستكون هذه النبوءة صحيحة؟. الجواب ببساطة: و بكل تأكيد .... لا. فموت محسن بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعارض مع هذه النبوءة لأن - محسن - سيكون هو أول من لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وليست ابنته فاطمة - رضي الله عنها - . وعليه وبكل اطمئنان يمكن الجزم أن - محسنًا - لم يمت لأنه في الحقيقة لا وجود له في الواقع . ثم إن كان علي -رضي الله عنه - عاجزا يوم أن ضُربت زوجه!!، لماذا لم يعلن هذا الاعتداء ويتحدث عنه في خطبه، أو يثأر لكرامته وعرضه حين تولى الخلافة ، وأصبحت مقاليد السلطة بيده؟. والخلاصة: إنها قصة وهمية لا أصل لها، تسيء للبيت الهاشمي بقدر ما تسيء لبقية الصحابة وتتهمهم باتهامات باطلة - حاشاهم - ، فابحث عن المستفيد من تشويه عظماء ديننا وتأريخنا لتعلم السبب وراء نشرها؟. إنها قصة واحدة من كثير غيرها مبثوثة في الكتب وعلى ألسنة خطباء الحسينيات ، قصة لا تستقيم ، لا عقلا ، ولا نقلا ، ولا تأريخا. التاريخ الصحيح المحقق لا يشير إلى أن هنالك جنين سقط، وضلع كسر، وبيت حرق، وليس هنالك دور لعمر أو غيره ، لا تخطيطًا ولا أمرًا ولا تنفيذًا، فهي خرافة نمت وانتشرت في القرن الرابع الهجري وما تلاه إلى يومنا الحاضر. وإن كنت لا أنفي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كسر أضلاع أعدائه من المجوس لا ضلع فاطمة – رضي الله عنها وأرضاها - . (انظر د. سليمان الحلبي طائفة النصيرية ، ص 22-28 ) ومصداق ذلك : أن عمر- رضي الله عنه - - كان ذا كفاية حربية ممتازة.. اكتسبها من حضور المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن تدبيره قتال المرتدين مع أبي بكر -رضي الله عنه-. وقد أدرك أبو بكر تلك الكفاية، وودَّ لو أنه انتفع بها انتفاعاً مباشراً.. فيروى أنه قال وهو على فراش الموت: "وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام، كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق.. فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله". فقد عده أبو بكر… عِدْلَ سيف الله خالد.. وضريعه، وكفى بذلك دليلاً على رسوخ قدمه في فن الحرب، وكفايته في شئون القتال. فلما ولى عمر الخلافة.. ظهرت تلك الكفاية أيما ظهور. وأثمرت أيما ثمر.. كانت كفاية عمر -رضي الله عنه-من ذلك الطراز العالي الذي يقوم على قوة التصور، وسلامة الإدراك، والإحاطة بطبائع البشر أفراداً كانوا أم جماعات. ينتخب الرجال، ويعبىء الجنود، ويرسم المواقع، ويختط الخطط، ويبعث رجلاً بعينه إلى العراق، وآخر إلى الشام، وثالثاً إلى مصر… ويأمر بالإقدام تارة ، وبالإحجام أخرى.. وينقل الأمداد من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فإذا ما أحكم الخطة، واستكمل إعداد العدة، قال لأصحابه في هدوء الواثق بنجح مسعاه: "قد رمينا ملوك العجم بملوك العرب، فانظروا عَمَّ تنجلي" (انظر ص 43 في مجلة الهلال، عدد نوفمبر سنة 1937.وهذه العبارة قالها عمر – رضي الله عنه – عندما وجه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – لفتح مصر ، ومحاربة الروم ). فإذا ما أفلح سعيه، وأثمر غرسه، وجاءه نبأ الفتح والظفر تلقاه في خشوع وإخبات وتواضع.. يزيده روعة وعظمة. ويطول بنا القول لو ذهبنا نقيم البينة على صحة تلك الدعوى في جميع ميادين القتال الذي نشب في أيام عمر- رضي الله عنه-، بين العرب والفرس والروم.. حيث نكتفي بالتدليل على صحتها في مقام واحد هو وقعة القادسية سنة 14 هجرية.. المعدودة من أعظم وقائع العرب مع الفرس. لما اشتد الأمر على العرب بالعراق بعد وقعة الجسر عام13 هجرية التي أودت بقائدين عربيين هما: أبو عبيد ، والمثنى ابن حارثة، وصمم الفرس على طرد العرب من بلادهم.. قام عمر للأمر وقعد.. واهتم له غاية الاهتمام. فكتب إلى عماله على قبائل العرب وكُورهم قائلاً: "ولا تدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي… والعجل العجل..!"( الطبري ج4، ص82. ). فلما توافت إليه النجدات حار فيمن يؤمره عليها.. وهَمَّ أول الأمر أن يسير فيها بنفسه إلى العراق!! ولكن ذوي مشورته ثَنوه عن ذلك، ثم وُفِّقَ إلى رجل لَحظَ فيه أصالة الرأي وتمام الشجاعة، ويُمن النقيبة فأمره عليها. روى الطبري في تاريخه قال: "وكان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن، فبعث إلى عمر بألف فارس، وكتب إليه كتاباً بذلك، فوافى كتابه مشورته، فقالوا: قد وجدته.. قال: من؟ قالوا: الأسد عادياً. قال: من؟ قالوا: سعد!. فانتهى إلى قولهم. فأرسل إليه.. فأمَّره على حرب العراق.. وعقد له على أربعة آلاف معهم ذراريهم ونساؤهم، وأتاهم عمر-رضي الله عنه- في عسكرهم فأرادهم جميعاً إلى العراق، فأبوا إلا الشام، وأبى إلا العراق، فسمح نصفهم فأمضاهم نحو العراق، وأمضى النصف الآخر نحو الشام "( الطبري ج4، ص85.) . وتحركوا صوب العراق. "فلما نزل سعد بشِراف، كتب إلى عمر بمنزله وبمنازل الناس فيما بين غضى إلى الجبانة.. فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا.. أَمِّر على أجنادهم وعبِّهم، وواعدهم القادسية، واضمم إليك المغيرة بن شعبة في خيله، واكتب إليَّ بالذي يستقر عليه رأيهم"( الطبري ج4، ص87. ) .ثم يكتب عمر إلى سعد بالمنازل التي ينزلها ، وبخطة الحرب وبميعاد تحركه قائلاً: "أما بعد: فَسِر من شِراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ، فإذا انتهيت إلى القادسية وهو منزل رغيب خصيب حصين، دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك (أي استحكاماتك.) على أنقابها، ويكون الناس بين الحَجَر والمَدَر، ثم الزم مكانك لا تبرحه ، فإنهم إذا أحسوك أنغصتهم، رموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورَجِلِهم وحَدِّهم وجِدِّهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتسبتم لقتاله، ونويتم الأمانة ، رجوتُ أن تُنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً..!!؟؟ إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى، كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة في أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليهم أجرأ.. وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن، وبها أجهل، حتى يأتي الله بالفتح.. فإذا كان يوم (كذا وكذا) فارتحل بالناس، حتى تنزل فيما بين (عذيب الهجانات) و(عذيب القوادس) وشَرِّق بالناس وغَرِّب بهم (الطبري ج4، ص89 ) . ثم كتب عمر إلى سعد يستوصفه المنازل والبقاع ،ويستخبره عن أحوال العدو: "واكتب إليَّ أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه منعني من بعض ما أردت الكتاب به.. قلة علمي بما هجمتم عليه.. والذي استقر عليه أمر عدوكم.. فصف لي منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن. صفة كأني أنظر إليها.. واجعلني من أمركم على الجلية..؟!!"" (الطبري ج4، ص89-90. ) فكتب إليه سعد -رضي الله عنه- يقول: "القادسية بين الخندق والعتيق.. إلى أن يقول: وإن الذي أعدوا لمصادمتنا.. ( رُستم ) في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاصنا وإقحامنا.. ونحن نحاول إنغاصهم وإبرازهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مُسَلَّم.. إلى ما قُدِّرَ لنا…" (الطبري ج4، ص91-100. ) فكتب إليه عمر-رضي الله عنه-: "قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك، حتى ينغص الله لك عدوك.. واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم، فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن.."( الطبري ج4، ص91-100 ) وبعث سعد عيوناً ليعلموا له خبر أهل فارس، فرجعوا إليه بالخبر.. بأن الملك قد ولى –رستم بن الفرخذاذ الأرمني- قيادة جيش الفرس، فكتب بذلك إلى عمر.. فكتب إليه عمر بقوله: "لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به.. وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والرأي والجلد.. يدعونه فإن الله جاعلٌ دعاءَهم توهيناً لهم، وفلجاً عليهم ، واكتب إلي في كل يوم" (الطبري ج4، ص99.) وحين وصل كتاب عمر إلى سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهما - (جمع نفراً عليهم نِجار، ولهم آراء، ونفراً لهم مَنظر، وعليهم مَهابة، فبعثهم إلى الملك…!) (الطبري ج4، ص99-100، والكامل في التاريخ ج7 ص ،41 ) . وكان من أمر هذا الوفد ما رواه الطبري وابن الأثير من مفاوضتهم لرستم أولا، وليزدجرد أخيراً، وهي مفاوضة صورية.. انتهت بأن زحف رستم من ساباط إلى القادسية للقاء سعد في شهر المحرم عام 14 للهجرة. كانت كفة الفرس هي الراجحة في اليومين الأولين من أيام القادسية، ثم كان من صنع الله ولطف تدبير عمر -رضي الله عنه-، أن قَدِمَ المدد من الشام في اليوم الثاني، وقد زُلزل العرب زلزالا شديداً.. فقويت عزائمهم، وانتصفوا من الفرس في اليوم الثالث وهو المعروف بيوم عماس. قال الطبري: "وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديداً.. العرب والعجم فيه على السواء…" (الطبري ج4، ص126.) .واتصل القتال ليلة اليوم الرابع.. وهي المعروفة بليلة الهرير.. فلم يتنفس صبح ذلك اليوم إلا وقد انتصر العرب المسلمون على عدوهم انتصاراً عظيما. قال الطبري: "وكتب سعد بالفتح إلى عمر بقوله: أما بعد.. فإن الله نصرنا على فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يرَ الراءون مثل زهائها، فلم ينفعهم الله بذلك.. بل سلبهموه، ونقله منهم إلى المسلمين ، واتبعهم المسلمون على الأنهار ، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ!! ورجال من المسلمين لا نعلمهم.. الله بهم عالم.. كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دويّ النحل!!؟ وهم آساد الناس، لا يشبههم الأسود!؟ ولم يفضل من مضى منهم من بقي.. إلا بفضل الشهادة!؟ إذ لم تكتب لهم" (الطبري ج4، ص144. ) وقال الطبري: "ولما أتى عمر بن الخطاب نزول رستم القادسية.. كان يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حيث يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله، فلما أتى البشير سأله: من أين؟ فأخبره. قال عمر: يا عبدالله حدثني.. قال البشير: هزم الله العدو؟! وعمر يَخِبُّ معه ويستخبره.. والآخر يسير على ناقته.. ولا يعرفه، حتى وصل إلى المدينة.. فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين.. فقال الرجل: فهلا أخبرتني- رحمك الله -أنك أمير المؤمنين؟!!!.وجعل عمر يقول: لا عليك يا أخي…" (الطبري ج4، ص144. ) .ويمكن للقارئ أن يدرك الدور العظيم الذي قام به عمر -رضي الله عنه-في تلك الوقعة الفاصلة.. فهو مُدير رحاها وبطلها على الحقيقة. وقد أدرك الفرس ذلك من فورهم ، فيروُون أن رستم لما ضرسته الحرب بنابها، ووطئته بِمَنسِمِيها ، نادى فقال ما تعريبه: "أتاني صوت عند الغداة.. وأنه هو عمر.. الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل.. أكل عمر كبدي أحرق الله كبده.." ( الطبري ج4، ص114-115.) . ولما همَّ الأعاجم المقيمون بالمدينة أن ينتقموا ممن فتح بلادهم ، لم يعمدوا إلى خالد، ولا إلى سعد -رضي الله عنهما-.. وإنما عمدوا إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ، فتآمروا عليه واغتالوه. ولقد ساق المؤرخون من الروايات ما ينهض دليلاً على أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- ، راح ضحية مؤامرة حاكها أعداء الإسلام هؤلاء..من يهود ، ونصارى ، ومجوس ؟! فهل عرفت يا شيخ حسين المياحي ضلعَ مَنْ كَسَر عمر – رضي الله عنه وأرضاه - . إنه كسر أضلاع أسلافك من المجوس ؟؟!! والطريف أنه رغم كل ذلك يدعي المياحي أنه يتبع منهجا علميا في البحث، ويهاجم الآخرين على عدم اتباعهم للمنهج العلمي ، وأينما تصفَّحتَ في كتابِه فَإِنَّكَ تجدُ نفسَ الطريقةِ الَّتي لا تمتُ إلى البحثِ العلمي بأيَّةِ صلةٍ تُذكرُ ".ولو أن هناك هيئات علمية تُحاسب كل كاتب على ما يكتبه ، لحَجَرت عليه ، ولمنعته من مُزاولة الكتابة ، ولقالت له بصوتٍ مسموع - : فَخَلِّ عن الكِتابَةِ لَستَ مِنها ............. ولو لَطَّختَ ثوبك بالمِدادِ .
[1] - انظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 16- 17)
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video