آخر تحديث للموقع :

الأحد 22 ذو القعدة 1444هـ الموافق:11 يونيو 2023م 12:06:10 بتوقيت مكة

جديد الموقع

بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما ..

بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما

السؤاليدعي الكثير من الشيعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يبايع أبدا أبا بكر رضي الله عنه ، وهم يقولون بأن قبضة يده كانت مغلقة ، وبأنه لم يبايع مطلقا . وكنت أتساءل ما إذا كان بوسع الشيخ مساعدتي في فهم ما حدث بالفعل إن شاء الله . جزاكم الله خيرا .

الجواب

الحمد لله.

أولا :

بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثابتة في الصحيحين وإن وقعت متأخرة بضعة أشهر.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن أباها أبا بكر رضي الله عنه دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أن دعاه :

( فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ : إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصيبًا .

حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي ، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ : فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ .

فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا ، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَالُوا : أَصَبْتَ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ ) رواه البخاري (3998) ومسلم (1759)

وفي رواية أخرى لمسلم في صحيحه :

( ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ فَعَظَّمَ مِنْ حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ ، ثُمَّ مَضَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَهُ ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا : أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ فَكَانَ النَّاسُ قَرِيبًا إِلَى عَلِيٍّ حِينَ قَارَبَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ )

قال النووي رحمه الله :

" أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة : فقد ذكره علي في هذا الحديث ، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه .

ومع هذا : فتأخره ليس بقادح في البيعة ، ولا فيه :

أما البيعة : فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ، ولا كل أهل الحل والعقد ، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء ، والرؤساء ، ووجوه الناس .

وأما عدم القدح فيه : فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه ، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له ، وأن لا يظهر خلافاً ، ولا يشق لعصا .

وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته ، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً ، ولا شق العصا ، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث ، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره ، فلم يَجب عليه الحضور لذلك ، ولا لغيره ، فلما لم يجب : لم يحضر .

وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة ، ولا مخالفة ، ولكن بقي في نفسه عتب ، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب .

وكان سبب العتب : أنه مع وجاهته ، وفضيلته في نفسه في كل شيء ، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك : رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته ، وحضوره ، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً ؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة ؛ لكونها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه ، أو كفنه ، أو غسله ، أو الصلاة عليه ، أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء " انتهى.

" شرح مسلم " (12/77-78) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

" وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة ، لشغله بها وتمريضها ، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم ؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث : رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه " انتهى.

" فتح الباري " (7/494)

ثانيا :

قد ورد أيضا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع أبا بكر في بداية الأمر ، ولم يتأخر عن البيعة ، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد .

فقد رُوي الحديث من طريق وهيب بن خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد .

وأخذ الحديثَ عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه ، ثلاثة منهم يرويه بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر رضي الله عنهم في بداية خلافته ، وهم :

عفان بن مسلم : كما سيأتي تخريج الرواية عنه ، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ .

أبو داود الطيالسي في " المسند " (1/495، رقم/603) ، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (19/314)

زهير بن إسحاق : وهو راو ضعيف – كما في " ميزان الاعتدال " (2/82) - يرويه من طريقه ابن عدي في " الكامل " (3/223) ويقول : " وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب ، ولزهير أحاديث صالحة ، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي ، وأرجو أنه لا بأس به ، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته ، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة " انتهى.

وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر رضي الله عنهم جميعا .

وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي : ثقة ثبت – كما في " تهذيب التهذيب " (10/261) – يرويه عنه الإمام البيهقي في " السنن الكبرى " (8/143) فيقول :

" أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفرائيني ، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ ، أنبأ أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وإبراهيم بن أبي طالب ، قالا : ثنا بندار بن بشار ، ثنا أبو هشام المخزومي ، ثنا وهيب : فذكره بنحوه . 

قال أبو علي الحافظ : سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول :

جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث ، فكتبته له في رقعة ، وقرأت عليه ، فقال : هذا حديث يسوى بدنة . فقلت : يسوى بدنة !؟ بل هو يسوى بدرة – تامة كالبدر -" انتهى.

وقوله : ( فذكره بنحوه ) يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحا في رواية ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (30/277) من طريق الإمام البيهقي نفسه .

وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة :

" مع جودة سنده فيه أشياء تنكر ، فتدبره " انتهى.

" المهذب " (6/3239)

وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله :

اختلف على عفان بن مسلم على وجهين :

الوجه الأول : يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر ، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر رضي الله عنهم جميعا ، ولفظه :

( لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ خُطَبَاءُ الأَنْصَارِ ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا بَعَثَ رَجُلاً مِنْكُمْ قَرْنَهُ بِرَجُلٍ مِنَّا ، فَنَحْنُ نَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الأَمْرَ رَجُلاَنِ ، رَجُلٌ مِنْكُمْ وَرَجُلٌ مِنَّا .

فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَكُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الإِمَامُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، نَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : جَزَاكُمُ اللَّهُ مِنْ حَيٍّ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ ، وَاللَّهِ لَوْ قُلْتُمْ غَيْرَ هَذَا مَا صَالَحْنَاكُمْ )

رواه عنه ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/430).

والإمام أحمد في " المسند " (35/489) طبعة مؤسسة الرسالة .

وابن سعد في " الطبقات " (3/212) .

والبلاذري في " أنساب الأشراف " (3/318) ترقيم الشاملة .

أحمد بن القاسم بن المساور الجواهري : كما عند الطبراني في " المعجم الكبير " (5/114)

جعفر الصايغ : كما عند ابن عدي في " الكامل " (3/223) قال : ثناه علي بن أحمد بن مروان ثنا أبو الصقر الوراق وهو يحيى بن داود البغدادي وثنا محمد بن منير بن صغير ثنا جعفر الصايغ ثنا عفان .

وقال الذهبي في هذه الرواية :

" هذا إسناد صحيح " انتهى.

" سير أعلام النبلاء " (2/433)

وقال الهيثمي في هذه الرواية :

" رواه الطبراني وأحمد ورجاله رجال الصحيح " انتهى.

" مجمع الزوائد " (5/183)

الوجه الثاني : يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم ، بسياق مطول ، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعا ، وهذا لفظه :

( لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ خُطَبَاءُ الأَنْصَارِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلاً مِنَّا ، فَنُرَى أَنْ يَلِىَ هَذَا الأَمْرَ رَجُلاَنِ ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ ، وَالآخَرُ مِنَّا .

قَالَ : فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ .

فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَإِنَّ الإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ .

ثُمَّ قَالَ : أَمَّا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ .

ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ : هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايِعُوهُ ، ثُمَّ انْطَلَقُوا .

فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِى وُجُوهِ الْقَوْمِ ، فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَسَأَلَ عَنْهُ ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنَهُ ! أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ؟

فَقَالَ : لاَ تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ . فَبَايَعَهُ .

ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَسَأَلَ عَنْهُ حَتَّى جَاءُوا بِهِ ، فَقَالَ : ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَوَارِيَّهُ ! أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ : لاَ تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ . فَبَايَعَاهُ )

رواه جعفر بن محمد بن شاكر عن عفان على هذا الوجه المطول ، كذلك أخرجه الحاكم في " المستدرك " (3/80) ، وعنه وعن شيخه أبو محمد المقرئ رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (8/143) قال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه " انتهى. وسكت عليه الذهبي في التلخيص .

وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في " تهذيب التهذيب " (2/102) – إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه ، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث ، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر رضي الله عنه في ذلك الموقف .

هذا وقد تابع سعد بن إياس الجريري داود بن أبي هند في الرواية عن أبي نضرة ، وفي روايته ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر رضي الله عنهما ، كما في " تاريخ دمشق " (30/278) ، ولكن وفي سنده علي بن عاصم بن صهيب الواسطي ، وقد كان كثير الخطأ في الرواية ، قال فيه علي بن المديني : " كان على بن عاصم كثير الغلط ، وكان إذا غلط فرد عليه لم يرجع "، وهكذا كان حكم سائر النقاد فيه . انظر: " تهذيب التهذيب " (7/348)

ثالثا :

الحاصل أن بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم ، وأما البيعة الأولى الواردة في حديث أبي سعيد الخدري ففي ثبوتها بعض التردد .

أما الدعوى بأن بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت إكراها فهي دعوى زائفة باطلة ، صادرة عن مكابرة ظاهرة ، وعماية بالغة عن الحقائق المروية بالأسانيد الصحيحة .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته – يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه - إلا سعد بن عبادة ، وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس ، لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له ، لكن قيل : علي تأخرت بيعته ستة أشهر ، وقيل : بل بايعه ثاني يوم ، وبكل حال ، فقد بايعوه من غير إكراه " انتهى.

" منهاج السنة " (8/232)

والله أعلم . الإسلام سؤال وجواب ..

عدد مرات القراءة:
578
إرسال لصديق طباعة
الأربعاء 14 رمضان 1444هـ الموافق:5 أبريل 2023م 04:04:17 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين قائلاً: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذه الرواية في سندها محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وبهذا فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 50 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذه الرواية في سندها محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفي زياد بن كليب سنة 119 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "تاريخ الإسلام" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذه الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفي سليمان التيمي سنة 143 هـ كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (125/4)، إلا أنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب" لأبن حجر العسقلاني (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفي عبد الله بن عون سنة 151 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذه الرواية في سندها إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 21 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى، وبهذا فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ يَسْوِي بَدَنَةً، فَقُلْتُ: يَسْوِي بَدَنَةً؟ بَلْ هُوَ يَسْوِي بَدْرَةً" انتهى.
وقوله: "فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ" يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحاً في رواية ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (277/30) من طريق أبي بكر البيهقي نفسه .
وقد قال الإمام الذهبي - رحمه الله - بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة: "مع جودة سنده فيه أشياء تنكر، فتدبره" انتهى من "المهذب في اختصار السنن الكبير" للذهبي (3240/6).
وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله:
اختلف على عفان بن مسلم على وجهين:
الوجه الأول: يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْتُكُمْ".
رواه عنه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (430/7)، أحمد بن حنبل في "المسند" (رقم/21616) (489/35)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (159/3)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (84/10)، وأحمد بن القاسم بن المساور الجواهري: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/4785) (114/5).

الوجه الثاني: يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم، بسياق مطول، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه:
"لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فبايعه، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهُ فَبَايَعَاهُ".
أخرجه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8)، من طريق جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ...
وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني (102/2) - إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رض) لأبي بكر (رض) في ذلك الموقف.

ومن الجدير بالذكر أن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم.
فعَنْ عَائِشَةَ (رض): "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ: أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ".
أخرجه البخاري في"صحيحه" (رقم/4240)، ومسلم في "صحيحه" (رقم/1759)، من طريق اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ...
وهذه الرواية إسنادها صحيح.
قال النووي - رحمه الله - في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (77/12 - 78): "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه. ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه؛ أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس. وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا. وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر. وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب. وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك؛ رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (494/7): "وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه" انتهى.
فكما نرى، فإن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في صحيحي البخاري ومسلم قد وقعت متأخرة بضعة أشهر على عكس بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة والروايات المروية عن أبي سعيد الخدري (رض) والتي وقعت - كما بينا سابقاً - في بداية الأمر.

الحاصل: إن بيعة علي بن أبي طالب (رض) الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، وأما الروايات التي وردت فيها بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) في بداية الأمر سواء بعد حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة أو بدونها - فهي لم تثبت .

………………………………………………………..
الجمعة 24 شعبان 1444هـ الموافق:17 مارس 2023م 07:03:04 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين قائلاً: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذه الرواية في سندها محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وبهذا فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 50 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذه الرواية في سندها محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفي زياد بن كليب سنة 119 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "تاريخ الإسلام" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذه الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفي سليمان التيمي سنة 143 هـ كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (125/4)، إلا أنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب" لأبن حجر العسقلاني (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفي عبد الله بن عون سنة 151 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذه الرواية في سندها إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 21 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى، وبهذا فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ يَسْوِي بَدَنَةً، فَقُلْتُ: يَسْوِي بَدَنَةً؟ بَلْ هُوَ يَسْوِي بَدْرَةً" انتهى.
وقوله: "فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ" يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحاً في رواية ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (277/30) من طريق أبي بكر البيهقي نفسه .
وقد قال الإمام الذهبي - رحمه الله - بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة: "مع جودة سنده فيه أشياء تنكر، فتدبره" انتهى من "المهذب في اختصار السنن الكبير" للذهبي (3240/6).
وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله:
اختلف على عفان بن مسلم على وجهين:
الوجه الأول: يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْتُكُمْ".
رواه عنه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (430/7)، أحمد بن حنبل في "المسند" (رقم/21616) (489/35)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (159/3)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (84/10)، وأحمد بن القاسم بن المساور الجواهري: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/4785) (114/5).

الوجه الثاني: يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم، بسياق مطول، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه:
"لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فبايعه، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهُ فَبَايَعَاهُ".
أخرجه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8)، من طريق جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ...
وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني (102/2) - إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رض) لأبي بكر (رض) في ذلك الموقف.

ومن الجدير بالذكر أن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم.
فعَنْ عَائِشَةَ (رض): "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ: أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ".
أخرجه البخاري في"صحيحه" (رقم/4240)، ومسلم في "صحيحه" (رقم/1759)، من طريق اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ...
وهذه الرواية إسنادها صحيح.
قال النووي - رحمه الله - في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (77/12 - 78): "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه. ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه؛ أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس. وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا. وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر. وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب. وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك؛ رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (494/7): "وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه" انتهى.
فكما نرى، فإن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في صحيحي البخاري ومسلم قد وقعت متأخرة بضعة أشهر على عكس بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة والروايات المروية عن أبي سعيد الخدري (رض) والتي وقعت - كما بينا سابقاً - في بداية الأمر.
الحاصل أن بيعة علي بن أبي طالب (رض) الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، ولم تثبت - كما بينا سابقاً - الروايات التي وردت فيها بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) في بداية الأمر سواء بعد حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة أو بدونها.

………………………………………………………..
الثلاثاء 7 شعبان 1444هـ الموافق:28 فبراير 2023م 09:02:32 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين قائلاً: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذه الرواية في سندها محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وبهذا فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 50 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذه الرواية في سندها محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفي زياد بن كليب سنة 119 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "تاريخ الإسلام" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذه الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفي سليمان التيمي سنة 143 هـ كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (125/4)، إلا أنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب" لأبن حجر العسقلاني (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفي عبد الله بن عون سنة 151 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذه الرواية في سندها أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي الجرجاني (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذه الرواية في سندها إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 21 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك، انظر ترجمته عند الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى، وبهذا فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزي (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ يَسْوِي بَدَنَةً، فَقُلْتُ: يَسْوِي بَدَنَةً؟ بَلْ هُوَ يَسْوِي بَدْرَةً" انتهى.
وقوله: "فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ" يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحاً في رواية ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (277/30) من طريق أبي بكر البيهقي نفسه .
وقد قال الإمام الذهبي - رحمه الله - بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة: "مع جودة سنده فيه أشياء تنكر، فتدبره" انتهى من "المهذب في اختصار السنن الكبير" للذهبي (3240/6).
وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله:
اختلف على عفان بن مسلم على وجهين:
الوجه الأول: يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْتُكُمْ".
رواه عنه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (430/7)، أحمد بن حنبل في "المسند" (رقم/21616) (489/35)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (159/3)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (84/10)، وأحمد بن القاسم بن المساور الجواهري: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/4785) (114/5).

الوجه الثاني: يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم، بسياق مطول، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه:
"لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فبايعه، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهُ فَبَايَعَاهُ".
أخرجه أبو بكر البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8)، من طريق جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ...
وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني (102/2) - إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رض) لأبي بكر (رض) في ذلك الموقف.

ومن الجدير بالذكر أن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم.
فعَنْ عَائِشَةَ (رض): "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ: أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ".
أخرجه البخاري في"صحيحه" (رقم/4240)، ومسلم في "صحيحه" (رقم/1759)، من طريق اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ...
وهذه الرواية إسنادها صحيح.
قال النووي - رحمه الله - في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (77/12 - 78): "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه. ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه؛ أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس. وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا. وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر. وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب. وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك؛ رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (494/7): "وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه" انتهى.
فكما نرى، فإن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في صحيحي البخاري ومسلم قد وقعت متأخرة بضعة أشهر، على عكس بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة والروايات المروية عن أبي سعيد الخدري (رض) - ومن ضمنها رواية جعفر بن محمد بن شاكر من طريق عفان بن مسلم -؛ إذ وقعت - كما بينا سابقاً - هذه البيعة في بداية الأمر.
الحاصل أن بيعة علي بن أبي طالب (رض) الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، ولم تثبت - كما بينا سابقاً - الروايات التي وردت فيها بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) في بداية الأمر سواء بعد حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة أو بدونها.

………………………………………………………..
الخميس 2 شعبان 1444هـ الموافق:23 فبراير 2023م 06:02:02 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين وقال: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى من "طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني" (ص/26)، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذا الإسناد فيه محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وعليه فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 50 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد ابن شهاب الزهري، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذا الإسناد فيه محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفي زياد بن كليب سنة 119 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك. وللمزيد حول وفاة زياد بن كليب، راجع ترجمته في "تاريخ الإسلام للذهبي" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذا الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفي سليمان التيمي سنة 143 هـ كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (125/4)، إلا إنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب لأبن حجر العسقلاني" (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفي عبد الله بن عون سنة 151 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك. وللمزيد حول وفاة عبد الله بن عون، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذا الإسناد فيه إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 21 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد عامر الشعبي، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى. وعليه فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين" (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ يَسْوِي بَدَنَةً، فَقُلْتُ: يَسْوِي بَدَنَةً؟ بَلْ هُوَ يَسْوِي بَدْرَةً" انتهى.
وقوله: "فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ" يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحاً في رواية ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (277/30) من طريق الإمام البيهقي نفسه .
وقد قال الإمام الذهبي - رحمه الله - بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة: "مع جودة سنده فيه أشياء تنكر، فتدبره" انتهى من "المهذب في اختصار السنن الكبير" (3240/6).
وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله:
اختلف على عفان بن مسلم على وجهين:
الوجه الأول: يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْتُكُمْ".
رواه عنه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (430/7)، أحمد بن حنبل في "المسند" (رقم/21616) (489/35)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (159/3)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (84/10)، وأحمد بن القاسم بن المساور الجواهري: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/4785) (114/5).

الوجه الثاني: يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم، بسياق مطول، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه:
"لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فبايعه، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهُ فَبَايَعَاهُ".
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8)، من طريق جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ...
وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في "تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني" (102/2) - إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رض) لأبي بكر (رض) في ذلك الموقف.

ومن الجدير بالذكر أن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم.
فعَنْ عَائِشَةَ (رض): "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ: أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ".
أخرجه البخاري في"صحيحه" (رقم/4240)، ومسلم في "صحيحه" (رقم/1759)، من طريق اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ...
وإسناده صحيح.
قال النووي - رحمه الله - في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (77/12 - 78): "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه. ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه؛ أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس. وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا. وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر. وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب. وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك؛ رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (494/7): "وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه" انتهى.
فكما نرى، فإن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في صحيحي البخاري ومسلم قد وقعت متأخرة بضعة أشهر، على عكس بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة والروايات المروية عن أبي سعيد الخدري (رض) - ومن ضمنها رواية جعفر بن محمد بن شاكر من طريق عفان بن مسلم -؛ إذ وقعت - كما بينا سابقاً - هذه البيعة في بداية الأمر.
الحاصل أن بيعة علي بن أبي طالب (رض) الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، ولم تثبت - كما بينا سابقاً - الروايات التي وردت فيها بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) في بداية الأمر سواء بعد حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة أو بدونها.

………………………………………………………..
الثلاثاء 30 رجب 1444هـ الموافق:21 فبراير 2023م 12:02:04 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين وقال: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى من "طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني" (ص/26)، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذا الإسناد فيه محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وعليه فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 50 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد ابن شهاب الزهري، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذا الإسناد فيه محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفي زياد بن كليب سنة 119 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك. وللمزيد حول وفاة زياد بن كليب، راجع ترجمته في "تاريخ الإسلام للذهبي" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذا الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفي سليمان التيمي سنة 143 هـ كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (125/4)، إلا إنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب لأبن حجر العسقلاني" (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفي عبد الله بن عون سنة 151 هـ، وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك. وللمزيد حول وفاة عبد الله بن عون، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذا الإسناد فيه إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد سنة 21 هـ، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد عامر الشعبي، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى. وعليه فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين" (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ يَسْوِي بَدَنَةً، فَقُلْتُ: يَسْوِي بَدَنَةً؟ بَلْ هُوَ يَسْوِي بَدْرَةً" انتهى.
وقوله: "فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ" يريد به السياق الذي فيه ذكر البيعة كما وقع ذلك صريحاً في رواية ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (277/30) من طريق الإمام البيهقي نفسه .
وقد قال الإمام الذهبي - رحمه الله - بعد أن ساق الرواية التي فيها ذكر البيعة: "مع جودة سنده فيه أشياء تنكر، فتدبره" انتهى من "المهذب في اختصار السنن الكبير" (3240/6).
وأما بيان الاختلاف على عفان بن مسلم فهذا تفصيله:
اختلف على عفان بن مسلم على وجهين:
الوجه الأول: يرويه كبار الأئمة الذين أخذوا عن عفان بسياق مختصر، ليس فيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، ولفظه: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْتُكُمْ".
رواه عنه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (430/7)، أحمد بن حنبل في "المسند" (رقم/21616) (489/35)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (159/3)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (84/10)، وأحمد بن القاسم بن المساور الجواهري: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/4785) (114/5).

الوجه الثاني: يرويه واحد من أصحاب عفان بن مسلم، بسياق مطول، وفيه ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر الصديق (رضي الله عنهم جميعاً)، وهذا لفظه: "حَدَّثَنَا أبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُقْرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْكُمْ وَالْآخَرُ مِنَّا، قَالَ: فَتَتَابَعَتْ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَلَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فبايعه، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهُ فَبَايَعَاهُ".
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8)، من طريق جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ...
وجعفر بن محمد بن شاكر - وإن وثقه الخطيب البغدادي وابن المنادي ومسلمة بن قاسم كما في "تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني" (102/2) - إلا أنه خالف الأئمة الكبار الذين هم أحفظ لحديث عفان بن مسلم منه، فالوجه الصحيح عن عفان بن مسلم هو اختصار الحديث، وعدم ذكر بيعة علي بن أبي طالب (رض) لأبي بكر (رض) في ذلك الموقف.

ومن الجدير بالذكر أن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم.
فعَنْ عَائِشَةَ (رض): "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ: أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ".
أخرجه البخاري في"صحيحه" (رقم/4240)، ومسلم في "صحيحه" (رقم/1759)، من طريق اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ...
وإسناده صحيح.
قال النووي - رحمه الله - في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (77/12 - 78): "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه. ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه؛ أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس. وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا. وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر. وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب. وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك؛ رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (494/7): "وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه" انتهى.
فكما نرى، فإن بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في صحيحي البخاري ومسلم قد وقعت متأخرة بضعة أشهر، على عكس بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) الواردة في روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة والروايات المروية عن أبي سعيد الخدري (رض) - ومن ضمنها رواية جعفر بن محمد بن شاكر من طريق عفان بن مسلم -؛ إذ وقعت - كما بينا سابقاً - هذه البيعة في بداية الأمر.
الحاصل أن بيعة علي بن أبي طالب (رض) الثابتة هي الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، ولم تثبت - كما بينا سابقاً - الروايات التي وردت فيها بيعة علي (رض) لأبي بكر (رض) في بداية الأمر سواء بعد حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة أو بدونها.

………………………………………………………..
الأثنين 29 رجب 1444هـ الموافق:20 فبراير 2023م 03:02:55 بتوقيت مكة
محمد علي  
"أكذوبة هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)"

هناك روايات ورد فيها هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض)، وهذه الروايات في ثبوتها بعض التردد. ونحن سوف نعرض هذه الروايات ونبين أسانيدها كالآتي:
• رواية البيهقي:
قال البيهقي في "السنن الكبرى" (263/8): "وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صالحِ بْنِ هَانِئٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ طَاقَةٌ، وَلَا يُدَانُ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، ولَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي عَلَيْهَا الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ، وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَكُبْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، قال فيه يحيى بن معين: فليح بن سليمان ضعيف وابنه مثله" انتهى من "تاريخ ابن معين - رواية ابن محرز" (70/1 - 71)، وقال فيه أبو حاتم الرازي: "ما به بأس، ليس بذاك القوى" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (59/8).
2- موسى بن عقبة، وهو ثقة إلا إنه مُتهم بالتدليس، حيث ذكره ابن حجر العسقلاني في "طبقات المدلسين" (ص/26) ضمن المرتبة الأولى من المدلسين وقال: "موسى بن عقبة المدني: تابعي صغير، ثقة، متفق عليه، وصفه الدارقطني بالتدليس، أشار إلى ذلك الاسماعيلي" انتهى من "طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني" (ص/26)، وقد بيَّن ابن حجر العسقلاني هذه المرتبة من الموصوفين بالتدليس في كتابه "طبقات المدلسين" (ص/13) قائلاً: "الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، كيحيى بن سعيد الأنصاري" انتهى. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نعلم لموسى بن عقبة سماعاً من سعد بن إبراهيم، حيث قال البخاري في "التاريخ الكبير" (292/7): "مُوسَى بْن عقبة اخو ابراهيم المطر في المدنى، سمع ام خالد وكانت لها صحبة، وأدرك ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد. روى عنه الثوري، وشُعْبَة، ومالك، وابْن عيينة، وابْن المبارك، قَالَ علي: وقد سَمِعَ مُوسَى بْن عقبة من علقمة بْن وقاص" انتهى، وقال أبو نصر الكلاباذي في "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد" (697/2 - 698): "مُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش، أَبُو مُحَمَّد الْمَدِينِيّ مولَى الزبير بن الْعَوام الْقرشِي، أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى. سمع أم خَالِد بنت خَالِد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَسَالم بن أبي أُميَّة، ونافعا، وكريبا" انتهى ، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم منقطعة.

• رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (553/2): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمُسَيَّبِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «وَغَضِبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدَخَلَا بَيْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمَا السِّلَاحُ، فَجَاءَهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ: أُسَيْدُ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -، وَيُقَالُ: فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ سَيْفَ الزُّبَيْرِ فَضَرَبَ بِهِ الْحَجَرَ حَتَّى كَسَرَهُ»".
وهذا الإسناد فيه محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي وموسى بن عقبة أيضاً، وقد سبق بيان حالهما، كما أننا لو راجعنا ترجمة موسى بن عقبة فإننا لن نجد له سماعاً من ابن شهاب الزهري، وبالتالي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري منقطعة أيضاً.
وبخصوص رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، يقول يحيى بن معين: "كتاب مُوسَى بن عقبة، عَنِ الزُّهْرِيّ من أصح هَذِهِ الكتب" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (120/29)، فنجد أن يحيى بن معين يصحح رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ومع هذا يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1842/4): "ليس مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي ابْن شهاب حجة إذا خالفه غيره" انتهى، وعليه فإن رواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قد تكون غير صحيحة، والله أعلم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن شهاب الزهري لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد في السنة الخمسين من الهجرة، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد ابن شهاب الزهري، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (326/5).

• رواية الطبري:
قال الطبري في "تاريخه" (202/3): "حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه".
وهذا الإسناد فيه محمد بن حميد الرازي، قال فيه البخاري في "التاريخ الكبير" (69/1): "فِيهِ نظر" انتهى، وترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (60/3) وقال: "أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن نعيم الضبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي علي بن محمد الحبيبي، قَالَ: وسألته، يعني: صالح بن محمد جزرة، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: كان كلما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحليه على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء، وعلى عنبسة. قَالَ أبو علي: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن زياد بن كليب - والذي يُعرف أيضاً بأبي معشر التميمي الحنظليّ الْكُوفِيُّ - لم يدرك الحادثة، حيث توفى زياد بن كليب في سنة (ت: 119هـ)، وهناك أقوال تنص على أن وفاته بعد ذلك. وللمزيد حول وفاة زياد بن كليب، راجع ترجمته في "تاريخ الإسلام للذهبي" انتهى.

• رواية البلاذري:
قال البلاذري في "أنساب الأشراف" (586/1): "الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التيمى، وعن ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يُرِيدُ الْبَيْعَةَ، فَلَمْ يُبَايِعْ. فَجَاءَ عُمَرُ، ومعه فتيلة. فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الْخَطَّابِ، أَتُرَاكَ مُحَرِّقًا عَلَيَّ بَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَقْوَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَبُوكِ. وَجَاءَ عَلِيٌّ، فَبَايَعَ وَقَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ".
وهذا الرواية في سندها مسلمة بن محارب، ولم نعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً سوى ذكر ابن حبان البستي له في "الثقات" (490/7).
بالإضافة إلى ذلك، فإن سليمان التيمي لم يدرك الحادثة جزماً، حيث توفى سليمان التيمي سنة (ت: 143هـ) كما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (188/7)، وسليمان التيمي ثقة، حيث قال فيه أحمد بن حنبل: "سليمان التيمي ثقة" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (125/4)، إلا إنه لا يمكن الاعتماد على مرسلاته؛ قال يحيى بن سعيد القحطان: "مرسلاته شبة لا شيء" انتهى من "تهذيب التهذيب لأبن حجر العسقلاني" (202/4).
كما أن عبد الله بن عون لم يدرك الحادثة أيضاً، حيث توفى عبد الله بن عون سنة (ت: 151هـ) وهناك أقوال تنص على أن وفاته قبل ذلك. وللمزيد حول وفاة عبد الله بن عون، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (371/6).

• رواية إبن أبي الحديد نقلاً عن أبي بكر الجوهري صاحب كتاب "السقيفة وفدك":
قال إبن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (56/2): قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر. كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج الزبير مصلتا سيفه، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد، فدق به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر، اضرب به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير. ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم، قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص، كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة عليها السلام، تبكي وتصيح فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وإنما اجتمعنا لنولف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر، فاستمر الأمر واطمأن الناس".
وهذا الإسناد فيه أكثر من علة:
1- أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال فيه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (283/1): "حَدَّثَ عَنِ الثِّقَاتِ بالبواطيل، وَكان يَسْرِقُ الحديث" انتهى، وذكر له رواية عن النضر بن شميل في السير وقال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَهو حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّضْرِ غَيْرُ أَحْمَدَ هَذَا، وَالنَّضْرُ ثِقَةٌ" انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (283/1).
2- محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه علي بن المديني: "سألت يَحْيى بْنِ سَعِيد عَنْ مُحَمد بْنِ عَمْرو بن علقمة، كيف هُوَ؟ قَالَ: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قَالَ: فليس هُوَ ممن تريد" "انتهى من الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني" (457/7)، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/244) (ص/243): "ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه" انتهى، وقال فيه أحمد بن حنبل: "كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين" انتهى من "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري" (رقم/2320) (238/2)، وقال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (433/5): "كان كثير الحديث، يستضعف" انتهى.
3- مسلمة بن عبد الرحمن، ولم أجد له جرحاً ولا تعديلاً.
وقال ابن أبي حديد أيضاً في "شرح نهج البلاغة" (57/2): "قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي. قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، فقم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه، وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس فأخذ بيده، وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر أسرع ما أغرتم على أهل البيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله، قال: فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر وطلب إليها فرضيت عنه".
وهذا الإسناد فيه إسماعيل بن مجالد الهمداني (أبو عمر الكوفي)، قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/35): "لَيْسَ بِالْقَوِيّ" انتهى، وقال فيه الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم/92) (ص/114): "غير محمود" انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عامر الشعبي - والذي يُعرف أيضاً بأبي عمرو الكوفي - لم يدرك الحادثة، حيث إنه ولد في السنة الإحدى والعشرين من الهجرة، وهناك أقوال تنص على أن مولده بعد ذلك. وللمزيد حول مولد عامر الشعبي، راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء للذهبي" (295/4 - 296).

وقد روى الطبراني رواية ورد فيها نَدَمُ أبي بكر (رض) على كشف بيت فاطمة (رض)، حيث قال الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم/43) (62/1): "حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلًا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ لَكُمْ عَهْدًا مِنْ بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ، وَرَأَيْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلْ وَهِيَ جَائِيَةٌ، وَسَتُنَجِّدُونَ بُيُوتَكُمْ بِسُوَرِ الْحَرِيرِ، وَنَضَائِدِ الدِّيبَاجِ، وَتَأْلَمُونَ ضَجَائِعَ الصُّوفِ الْأَذْرِيِّ، كَأَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ، وَوَاللهِ لَأَنْ يَقْدَمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسِيحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا آسَى عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا عَلَى ثَلَاثٍ فَعَلْتُهُنَّ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلَاثٍ لَمْ أفْعَلْهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلَاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُنَّ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُنَّ: فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَتَرَكْتُهُ...»".
قال نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (203/5) معلّقاً على هذه الرواية: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ" انتهى.
فكما نرى أن رواية الطبراني مدارها على علوان بن داود البجلي (الكوفي)، قال فيه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (419/3): "عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ - وَيُقَالُ عُلْوَانُ بْنُ صَالِحٍ - مُنْكَرُ الْحَدِيثِ" انتهى. وعليه فإن رواية الطبراني من طريق علوان بن داود البجلي (الكوفي) فيما يخص كشف بيت فاطمة (رض) لا تصح.

كما روى ابن أبي شيبة رواية ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، حيث قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (432/7): "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ أَنَّهُ حِينَ بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُشَاوِرُونَهَا وَيَرْتَجِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ إِلَيْنَا بَعْدَ أَبِيكِ مِنْكِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ بِمَانِعِي إِنِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ عِنْدَكِ، أَنْ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِمِ الْبَيْتُ»، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ جَاءُوهَا فَقَالَتْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عُدْتُمْ لَيُحَرِّقَنَّ عَلَيْكُمُ الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَيَمْضِيَنَّ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَانْصَرِفُوا رَاشِدِينَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَيَّ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعُوا لِأَبِي بَكْرٍ".
وهذه الرواية في سندها محمد بن بشر العبدي (أبو عبد الله الكوفي)، وهو ثقة إذا حدث من كتابه، حيث قال فيه عثمان بن أبي شيبة: "مُحَمّد بن بشر الْعَبْدي ثِقَة ثَبت إِذا كَانَ يحدث من كِتَابه" انتهى من "تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين" (ص/210). وقد تفرد محمد بن بشر العبدي عن عبيد الله بن عمر بهذه الرواية التي فيها تهديد عمر (رض) بحرق دار فاطمة (رض)، فروى ما لم يروه الرواة عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي معلولة، وسبب العلة هو أن سماع الكوفيين من عبيد الله بن عمر العمري فيها شيء، حيث قال ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (772/2): "ومنهم عبيد الله بن عمر العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئاً" انتهى. كما أن أسلم مولى عمر لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: "بعث أبو بكر عُمَر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه" انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي" (530/2)، وبهذا تكون رواية ابن أبي شيبة من طريق محمد بن بشر العبدي مرسلة.

ومن الجدير بالذكر أنه لو راجعنا روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) لوجدنا في ألفاظ منها ورود بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً)، كما وردت هذه البيعة في رواية ابن أبي شيبة التي ورد فيها تهديد عمر بن الخطاب (رض) بحرق دار فاطمة (رض) بدون الهجوم على دارها، وقد سبق البيان أن في ثبوت روايات هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) ورواية ابن أبي شيبة بعض التردد.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد أيضاً أن علياً (رض) والزبير (رض) بايعا أبا بكر (رض) بدون حدوث هجوم عمر بن الخطاب (رض) على دار فاطمة (رض) أو تهديده (رض) بحرق دارها (رض) قبل البيعة، ولكن الرواية التي ورد فيها بيان ذلك في ثبوتها بعض التردد أيضاً، فقد رُويت الرواية من طريق وهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، وأخذها عن وهيب بن خالد أربعةٌ من أصحابه، ثلاثة منهم يرويها بسياق مختصر لا يشتمل على ذكر بيعة علي والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً) في بداية خلافته، وهم:
• عفان بن مسلم، كما سيأتي تخريج الرواية عنه، وبيان أنَّ مَن ذَكر عن عفان بن مسلم أمرَ البيعة فقد وَهِمَ وأخطأ.
• أبو داود الطيالسي في "المسند" (رقم/603) (495/1)، ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (314/19).
وابو داود الطيالسي ثقة، إلا إنه يغلط في أحاديث، حيث قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/2550): "ثقة حافظ، غلط في أحاديث" انتهى.
• زهير بن إسحاق السلولي، وهو راوٍ ضعيف، حيث قال فيه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (رقم/217): "زُهَيْر بن إِسْحَاق ضَعِيف" انتهى، وقال فيه يحيى بن معين: "ليس هو بشئ" انتهى من "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم" (590/3)، وقد روى الرواية من طريقه ابن عدي الجرجاني في "الكامل في ضعفاء الرجال" (189/4) وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن داود غير زهير بن إسحاق ووهيب، ولزهير أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه من البصريين محمد بن أبي بكر المقدمي، وأرجو أنه لا بأس به، فإن ابن معين إنما أنكر عليه حديثا مقطوعا كما ذكرته، فأما حديثه المسند فعامته مستقيمة" انتهى.
• وأما الراوي الرابع عن وهيب بن خالد فقد رواه بالسياق المطول المشتمل على ذكر بيعة علي بن أبي طالب والزبير لأبي بكر (رضي الله عنهم جميعاً). وهذا الراوي هو المغيرة بن سلمة أبو هشام المخزومي، قال فيه ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" (رقم/6838): "ثقة ثبت" انتهى، وقد روى الرواية من طريقه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (246/8) كالآتي:
" أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَا