ولم يرد في حديث المعراج أن الله فوق السماء أو فوق العرش حقيقة ولا كلمة واحدة واحدة من ذلك إعتراضهم على دليل الإسراء والمعراج في إثبات العلو: قال ابن جهبل: ((ولم يرد في حديث المعراج أن الله فوق السماء أو فوق العرش حقيقة ولا كلمة واحدة واحدة من ذلك)). ومثل ذلك ذكره السقاف واحتج بحديث نقله عن الزبيدي وهو((( لا تفضلوني على يونس بن متى )) وادعى أن قرب النبي صلى الله وسلم في المعراج لا يختلف عن قرب يونس في بطن الحوت.
والجواب عليهما من أوجه: الوجه الأول: لقد أقام السقاف الحجة على نفسه بنفسه حيث قال في ص62((وفي صحيح مسلم (1 / 161) عن أبي ذر قال : سألت رسول الله هل رأيت ربك ، قال : " نور أنى أراه " . وفي البخاري (8 / 606) ومسلم (1 / 159) عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه هل رأى محمد ربه ؟ فقالمت : لقد قف شعري مما قلت ! ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب . ثم قرأت * (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) * . * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب)) ومن هنا تأتي حجتنا فلم يسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم (( هل رأيت ربك )) بعدما علموا أنه عرج به إلى السماء ؟ الجواب : أنهم يعتقدون أن الله في السماء فلما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء فكروا في احتمال رؤيته لربه فتأمل . الوجه الثاني: إن ألفاظ الحديث تهدم تأويلاتكما وإنكاركما للعلو مثل قوله(( ودنى الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أوأدنى)) ومنها قوله((ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال إن أمتك لا تستسطع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره فأشار إليه جبريل أي نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يارب خفف عنا) الحديث . فياليت شعري ماذا يقولان في تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وربه صعودا وهبوطا؟. الوجه الثالث: أما الإستدلال بحديث(لا تفضلوني على يونس بن متى) فلا دلالة فيه على إنكار العلو كما حاول أن يفعل السقاف وهنا نقول: لا ذكر في الحديث للعرش ولا للعلو ولا للسماء لا نفيا ولا إثباتا! و هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح {لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وفي رواية {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، فبعض العلماء فهم من هذا أنه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لا أحد يقول: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من يونس. والبعض الآخر قالوا: إن المقصود من قوله: إني -أي المتكلم- خير من يونس بن متى، فقد كذب، ويقول الحافظ ابن حجر : الرواية الأخرى {من قَالَ: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب} هي في صحيح البُخَارِيّ وتدل عَلَى أن المقصود من قوله "إني" أي المتكلم، لأنه يقول: من قال "أنا"، فأي أحد من النَّاس يقول: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب، لكن يُقال له: وعَلَى فرض أنها ثبتت، فإن هذا المعنى الذي فهمه بعض العلماء، ليس عَلَى إطلاقه، لكن عَلَى فرض ذلك فلا يكون تفسيره بأن قرب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه ليلة الإسراء والمعراج مثل قرب يونس، وهو في بطن الحوت، هذا المعنى باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما اختص الملائكة قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ[الأنبياء:19] وقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب [فاطر:10]. فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به إِلَى السماء كَانَ في موضع التكريم، وهناك ما يدل عَلَى أن العلو كلما كَانَ أكثر، كلما كَانَ فيه تكريم، وقرب من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنده، ولهذا سمى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الملأ الأعلى بهذا الإسم، لأنهم أعلى من أهل الدنيا لقربهم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما جَاءَ في الحديث الآخر {وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} . فالشاهد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل إِلَى ذلك المقام الأعلى الذي لم يصل ولن يصل إليه مخلوق قط، كَانَ هذا تكريماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو في هذه الحالة وبهذا العمل أفضل من كل النَّاس الذين لم يصلوا إليه وكذلك الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يحظوا بأن يصلوا إِلَى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فهذا تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أفضل من يونس بن متى عليهما الصلاة والسلام. فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يقل أحد: إني خير من يونس بن متى} ليس فيه منع تفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، وإنما الذي فيه النهي بأن أحداً لايجوز له أن يفضل نفسه عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، بأن يقول: إن يونس فعل ما يلام عليه، وأنا لم أفعل ما ألام عليه، ومع ذلك فإن يونس عَلَيْهِ السَّلام قد استغفر وتاب، وقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وفي قوله هذا دليل عَلَى أنه فعل ما يلام عليه، كما خاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]. فالرد على هذا التأويل أن الحديث عام وتخصيصه بهذا الأمر تحكم مكشوف والمعنى الصحيح أن منع التفضيل من حيث النبوة والرسالة قال تعالى (( لا نفرق بين أحد من رسله )) ويدخل في ذلك غير الأنبياء من باب أولى فمنع التفضيل -عليه الصلاة والسلام- وهذا محمول على حالة واحدة وهي:إذا ما اقتضى المقام تنقص المفضل عليه، إذا اقتضى المقام تنقص المفضول، يقال: لا تفضلوا الأنبياء، وإلا فالتفضيل بين الأنبياء في منطوق الكتاب العزيز تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة] والمنع من تفضيل الأنبياء((لا تفضلوا بين الأنبياء)) معروف أنه حينما يقتضى هذا التفضيل التنقص للمفضول كما هو ظاهر في قوله: ((لا تفضلوني على يونس بن متى))، لأن ما حصل من يونس -عليه السلام- قد يتطاول عليه بعض السفهاء الذي لا يعرف منازل الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذي يقرأ عنه قد يقع في نفسه شيء من التنقص، لكن الله -جل وعلا- أنجاه {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [(143- 144) سورة الصافات] {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [(87) سورة الأنبياء] دعوة أخي ذو النون، وليست خاصة به بل له ولغيره ممن يقولها في هذه المضايق {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [(88) سورة الأنبياء] ليست خاصة بيونس، على كل حال إذا اقتضى التفضيل تنقص المفضول منع وحسمت مادته ((لا تفضلوا بين الأنبياء))، وإلا فالأصل أن التفضيل واقع وثابت في منطوق القرآن. الوجه الرابع: أن يقال :ما الذي يمنع من أن يكون الله فوق العرش عال على خلقه ويكون أقرب إلى عباده ؟ فلا تعارض بين علو الله تعالى على خلقه وبين قربه إلى عباده كما يشاء لأننا لا نعلم لا كيفية العلو ولا كيفية القرب فالأولى إثباتهما معا بدلا من ضرب بعضهما ببعض ف(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) جمال البليدي المصدر: الألوكة
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video