( هذا الحديث من أحاديث الصفات، و فيها مذهبات تقدم ذكرهما مرات فى كتاب الإيمان :
أحدهما: الإيمان به من غير خوض فى معناه : مع اعقاد أن الله - تعالى - ليس كمثله شىء، و تنزيهه عن سمات المخلوقات. هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله و حده، و هو الذي إذا دعاهُ الداعي استقبل السماء، كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة و ليس ذلك لأنه منحصر فى السماء كما أنه ليس منحصراً فى جهة الكعبة : بل ذلك لأنَّ السَّماي قبلة الدَّاعين، كما أنَّ الكعبة قبلة المصلِّين، أو هيَ من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بيم أيديهم ؟ فلمَّا قالت : في السماء، أنَّها موحَّّدة , و ليست عابدة للأوثان (2).
قال القاضي عياض : لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم و محدِّثهم و متكلِّمهم و نظَّارهم و مقلِّدهم أن الظَّواهر الواردة بذكر الله فى السماء , كقوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أني يخسف بكم الأرض ) ( 3) و نحوه، ليست على ظاهرها , لا متأوَّولة عند جميعهم , فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدِّثين و الفقهاء و المتكلِّمين و أصحاب التنزيه بنفي الحج و استحالة الجهة فى حقه سبحانه و تعالى، تأولها تأويلات بحسب مقتضاها و ذكر نحو ما سبق.
قال : و يا ليت شعري ! ما الذي جمع أهل السنة و الحق كلهم على وجوب الامساك عن الفكر فى الذات كما أمروا، و سكتوا لحيرة العقلو و اتفقوا على تحريم التكييف و التشكيل ؟، و أن ذلك من وقوفهم و إمساكهم غير شاك في الوجود و الموجود، و غير قادح فى التوحيد , بل هو حقيقته ثم تسامح بعضهم بإثبات الجهة حاشياً من مثل هذا التسامح
و هل بين التكييف و إثبات الجهات فرق ؟ لكن إطلاق ما أطلقه الشرع من أنه ( القاهر فوق عباده ) (4) و أنه استوى على العرش، مع التمسك بالآية الجامعة للتَّنزيه الكُلي الذي لا يصح فى المعقول غيره و هو قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) عصمة لمن وفقه الله - تعالى - و هذا كلام القاضي - رحمه الله تعالى - ).
التعقيب:
تصرف النووي - رحمه الله - فى كلام القاضي عياض، و هذا نص كلام القاضي عياض بحروفه :
( و المسألة بالجملية، و إن كان تساهل في الكلام فيه بعض الأشياخ المقتدى بهم من الطائفتين، فيه من معوصات مسائل التوحيد، ويا ليت شعري ما الذي جمع أراء كافة أهل السنة و الحق على تصويب القول بوجوب الوقوف عن. لتفكر فى الذات كما أمروا، و سكتوا لحيرة العقول و هناك , و سلموا , و أطبقوا على تحريم التكييف و التخييل و التشكيل , و أن ذلك من وقوفهم و حيرتهم غر شك فى الوجود أو جهل بالموجود , و غير قادح فى التوحيد , بل هو حقيقة عندهم ,ثم تسانح بعضهم فى فصل منه بالكلام في إثبات جهة تخصه أو يشار إليه بحيز يحاذيه، و هل بين التكييف من فرق , أو بين التحديد فى الذات و الجهات من بون، لكن إطلاق ما أطلقه الشرع من أنه ( القاهر فوق عباده ) و أنه استوى على عرشه، مع التمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح فى معقول سواه ( لأيس كمثله شىء و هو السميع البصير ) عصمة لمن وفقه الله - تعالى - و هداه ) (5)
و قد و قع فى كلام النووي ما يستحق أن يقف عنده، و أن يُنبه إله الطلبة،فهذه مسألة من المسائل المهمة التي ينبغي أن تكون واضحة وضوح الشمس من غير أدنى لبس أو عموض، و الكلام المذكور آنفا لا يفي بشىء من ذكل، بل عليه مؤاخذات، و لما كان هذا الشرح سار فى الاقطار، فى سائر الاعصار , لا بد من الوقوف على ما في هذا الكلا لمناصرة الحق، و الوقوف على العقيدة السلفية فنقول :
أولاً : قول النووي ( من غير خوض فى معناه ) ليس مذهب السلف و إنما السلف يعلمون المعنى و يمسكون عن الخوض فى الكيفية، و ما رآه النووي من أن مذهب السلف هو تفويض المعني ليس بصحيح كما بيناه فى الباب الأول.
ثانياً : قوله نقلاً عن القاضي عياض : ( إن الظواهر الواردة بذكر الله - تعالى - فى السماء.... ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحيد ولا تكييف من المحدثين و الفقهاء و المتكلمين تأول ( فى السماء ) أي : على السماء ) فما ينبغي أن يذكر هنا :
الفرق الكبير بين تفسير السلف الذي هو عين مقتضى اللفظ و تأويل الخلف المخالف لمقتضى اللفظ، فالتفصير المذكور، أعني ( على السماء ) هو التفسير السلفي للآية، و ليس فيه إخراج للفظ عن ظاهره , و هو المراد من قوله صلى الله عليه و سلم ( ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء ) (6) فكما هو مقرر في الأذهان، و مشاهد في العيان أن الناس على الأرض، و هو المراد من قوله صلى الله عليه و سلم : ( ارحمو من في الأرض ) فكذلك المراد من قوله ( يرحمكم من في السماء ) فتأمل ولا تكن من الغافلين.
ثالثاً : تفرقة النووي بين قبلة الداعي و قبلة المصلي مما لا دليل عليه، فلا قبلة للمسلم إلا واحدة و حمله جواب الجارية لرسول الله صلى الله عليه و سلم و قولها : ( في السماء ) على قبلة الداعين بعيد، يعوزه الدليل(وقد تقدم الرد على هذا التفريق).
رابعاً : عقيدة السلفة القائمة على الكتاب و السنة : أن الله - عز و جل - مستو على عرشه، بائن من خلقه، أخبر الله - عز و جل - بذلك فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم , منها :
قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً ) (7). فان هذه الآية تدل دلالة واصحة أن الله وصف نفسه بالاستواء، خبير بما وصف به نفسه، لا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها، و يفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير، نعم، و اله هو ليس بخبير (8).
و الادلة النقلية العقلية على هذه المسألة كثيرة و شهيرة، و نقول السلف حافلةبها، و هذه الأدلة و النقول مسطرة في كتب التوحيد (9)، و أخص منها :
ما كتب مفرداً في هذا الباب(10)، من مثل كتاب الامام الذهبي ( العلو للعلي الغفار ) وكتاب ابن قدامة المقدسي ( إثبات صفة العلو ) و كتاب ابن القيم ( اجتماع الجيوش الاسلامية ) فإنه ألفه للرد على من أول الاستواء بمعني يخالف ما عليه سلف الأمة، من مثل المعتزل و الجهمية، و من سار على منهجهم فى التأويل
خامساً : و من بين الأمور التي وقعت في كلام الإمام النووي السابق و تحتاج إلى توضيح نسبة الجهة و المكان لله - عز و جل- ولإزالة الغموض في هذه المسألة، أحب أن أبين ما يلي :
أن لفظ الجهو فيه إجمال و تفصيل، فنحن نوافق على نفيه عن الله - تبارك و تعالى - و من وجه آخر، ذلك أنه قد يراد بنفي الجهة أن الله - سبحانه و تعالى - منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته، و إن كان المقصود بنفي الجهة العدمية التي هي عبد عن أن اله - سبحانه و تعالى - فوق خلقه فهذا الامر مرفوض تماماً لأنه لا يجوز أن يقال أن - سبحان و تعالى - ليس فى جهة قصد نفي علوه و فوقيته على خلقه، و بناء على ما تقدم فإن الجهة قسمنا :
الأول : جهة يجب أن ينز الله - تبارك و تعالى - عنها و هي هذا العالم
الوجودي فأن الله - تبارك و تعالى - ليس حالاً في شىء من مخلوقاته، و على هذا مضى سلف الأمة
الثاني : جهة ثانية و هي عدم محض، و هي ما فوق العالم، فإثبات جهة لله تبارك و تعالى بمعنى أنه فوق العالم مستو على عرشه بائن من خلقه فهذا واجب شرعاً، مع مراعاة عدم التشبيه و التكييف، لأن هذه الجهة ثابتة لله تبارك و تعالى بما تواتر من نصوص القرآن الكريم و السنة المطهرة و إجماع سلف الأمة، بل جميع الاديات السمواي و الكتب المنزل، فمن قال أن الله تبارك و تعالى فوق العالم لم يقل بجهة وجودية بل بجهة عدمية أثبتها الشرع , و أثبتتها الفطرة , و أثبتها العقل كذلك.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية موضحاً هذا المعنى :
( فإذا كان سبحان فوق الموجودات كلها، و هو غني لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلاً عن أن يحتاج إليها، و إن أريد بالجهة ما فوق العالم ليس بشىء ولا هو أمر وجودي، و هؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك، و توهموا و أوهموا إذا كان فى جهة كان في شىء غيره، كما يكون الأنسان في بيته، ثم رتبوا على ذلم أن يكون الله محتاجاً إل غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه ) (11)
وجملة القوة في الجهة إن أريد بها أمر وجودي فهذا ينبغي نفيه لأن الله تبارك و تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من خلقه، فهو سبحانه و تعالى فوق عرشه بائن من خلقه و هو معهم بعلمه، و إن أريد بالجهة أمر عدمي و هو ما فوق العالم فهذا ينبغي اثباته لأنهي ليس هنالك فوق العالم إلا الله و حده.
-----------------
(أ) التعقيب على النووي نقلته عن كتاب (الردود والتعقيبات على ما وقع للإمام النووي في شرح صحيح مسلم من التأويل في الصفات وغيرها من المسائل المهمات ) للشيخ مشهور حسن آل سلمان.
(1) خرجته و بينت طرقه فى تعليقي على رسالة ابن رشد ( الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط ) ( 23 - 30 )
(2) هذا معنى كلام المازري فى ( المعلم ) ( 1/ 275- 276)
(3) الملك : 16
(4) الأنعام 18، 61
(5) ( إكمال العلم ) ( ق 206 /ب).
(6) الحديث صحيح راجع ( السلسلة الصحيحة ) رقم ( 920)
(7) الفرقان : (59)
(8) ( منهج و دراسات لآيات الصفات ) (26).
(9) من مثل : ( إبطال التأويلات ) ( 1/232) لأبي يعلي الفراء، و ( التوحيد ) (101) لبن خزيمة و ( الرد على الجهمية ) (18 ) لعثمان بن سعيد الدرامي، و ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة ) ( 3 / 387و ما بعدها ) للالكائي و ( الابانة ) (36) لأبي الحسن الأشعري، و ( مختصر الصواعق المرسلة ) (2/126 ) لابن القيم , و ( درء تعارض العقل و النقل ) ( 6 / 258 ) لابن تيمية و كتبه حافلة في بيان هذه المسألة و ( التمهيد ) ( 7 /128) لابن عبد البر القرطبي و ( عقيدة عبد الغني المقدسي ) (40) و ( شرح العقيدة الطحاوية )
325)، و غيره كثير
(10) و قد صنف فيها كثير من المحدثين مثل : أسامة القصاص - رحمه الله تعالى - و عبد الله السبت، و الأخ سليم الهلالي و عوض منصور
(11) انظر ( نقض تأسيس الجهمية ) ( 1/ 520 ) و ( التدمرية ) ( ص 45 )،و ( مختصر العلو ) ( 286 - 287 )
، و ( منهاج الأدلة ) ( 178 ) , و ( البيهقي و موقفه من الألهيات ) ( 353 ) و ( ابن جرير و دفاعه عن عقيدة السلف ) ( 475 - 476 )
تعقيبات على الحافظ ابن حجر:
1 - قال الحافظ في المقدمة ص 136 :
قـــوله " استوى على العرش " هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى، ووقع تفسيره في الأصل .اهـ
التعقيب:
قال الشيخ البراك : قولــه : " هو من المتشابه... الخ " إن أراد ما يشتبه معناه على بعض الناس فهذا حق ؛ فإن نصوص الصفات ومنها الاستواء قد خفي معناها على كثير من الناس، فوقعوا في الاضطراب فيها وعلِم العلماء من السلف وأتباعهم معانيها المرادة منها، فأثبتوها، وفوضوا علم حقائقها وكيفياتها إلى الله تعالى؛ كما قال الإمام مالك وشيخه ربيعة لما سـئل عن الاستواء: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب" وهذه قاعدة يجب اتباعها في جميع صفات الله تعالى، وقد فسر السلف الاستواء: بالعلو والارتفاع والاستقرار.
وإن أراد بالمتشابه: (ما لا يفهم معناه أحد، فيجب تفويض علم معناه إلى الله تعالى) فهذا قول أهل التفويض من النفاة المعطلة، وهو باطل؛ لأنه يقتضي أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمه أحد، وهذا خلاف ما وصف الله به كتابه من البيان والهدى والشفاء.
وهذا الاحتمال الثاني هو الذي يقتضيه سياق الحافظ عفا الله عنه.
2-قال الحافظ ابن حجر 1/508: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته "
[أي:حديث : إن ربه بينه وبين القبلة]
التعقيب:
قال الشيخ البراك : وقوله: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته...الخ": هذا صريح في أن الحافظ ـ عفا الله عنه ـ ينفي حقيقة استواء الله على عرشه ؛ وهو علوه وارتفاعه بذاته فوق عرشه العظيم.
وهذا مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب كل من ينفي علو الله على خلقه؛ ومنهم الماتريدية ومتأخرو الأشاعرة ؛ وهو مذهب باطل مناقض لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة.
ومذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وجميع أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه؛ أي ليس حالاً في مخلوقاته، ولا ينافي ذلك أنه مع عباده أينما كانوا، وأنه تعالى يقرب مما شاء متى شاء كيف شاء. وكذلك لا ينافي علوه واستواؤه على عرشه ما جاء في هذا الحديث من أنه سبحانه قِِبل وجه المصلي، أو بينه وبين القبلة؛ فالقول فيه كالقول في القرب والمعية؛ كل ذلك لا ينافي علوه ولا يوجب حلوله تعالى في شيء من المخلوقات؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
"ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة; مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }، وقوله صلى الله عليه وسلم: { إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه }، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بماتعملون بصير }؛ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: { والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه }؛ وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك; وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.... وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
{ إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه } الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماءوالشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى - ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به} فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر: كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". [مجموع الفتاوى 5 / 102 – 107 باختصار].
3-قال الحافظ 6 / 291 على حديث رقم ( 3194) قوله: ( فهو عنده فوق العرش )، قيل: معناه دون العرش، وهو كقوله تعالى: " بعوضة فما فوقها " والحامل على هذا التأويل استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأن العرش خلق من خلق الله. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " فهو عنده " أي ذكره أو علمه، فلا تكون العندية مكانية، بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيًا عن الخلق مرفوعًا عن حيز إدراكهم ".
التعقيب:
قال الشيخ البراك : ما نقله الحافظ في شرح هذا الحديث تخبط الحامل عليه نفي علو الله بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فإن من ذهب إلى ذلك من الأشاعرة وغيرهم ينفون عن الله عز وجل عندية المكان، فليس بعض المخلوقات عنده دون بعض لأنه تعالى بزعمهم في كل مكان فلا اختصاص لشيء بالقرب منه، فلذا يتأولون كل ما ورد مما يدل ظاهره على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: "إن الذين عند ربك"، وكقوله في هذا الحديث: " فهو عنده فوق العرش"، فجرهم الأصل الفاسد إلى مثل هذه التأويلات المستهجنة التي ذكرها الحافظ وتعقب بعضها، وأهل السنة المثبتون للعلو والاستواء يجرون هذا الحديث وأمثاله على ظاهره، وليس عندهم بمشكل، فهذا الكتاب عنده فوق العرش، والله فوق العرش كما أخبر به سبحانه عن نفسه، وأخبر به أعلم الخلق به.)).
قال ابن خزيمة :(فالخبر دال على ربنا جلا وعلا فوق عرشه الذي كتابه-أن رحمته غلبت غضبه-عنده) كتاب التوحيد ص105
وقال صديق حسن خان رحمه الله : وهذا يدل على العندية والعلو والفوقية.ونحن نؤمن به,بلا كيف ولا تمثيل,ولا ننكره,ولا نؤوله كأهل الكلام.وهذا هو سبيل السلف في مسائل الصفات.
والحديث : دليل على سبق لرحمة وغلبتها على الغضب والسخط.وهذا هو اللائق بشأن أرحم الراحمين.ولولا ذلك لكنا جميعا خاسرين هالكين.نعوذ بالله من غضب الله ونتوب إليه من سخطه ونرجوا رحمته وكرمه وفضله ولطفه.وما أحقه بذلك)السراج الوهاج(11/22-23).
قال ابن القيم رحمه الله :
واذكر حديثا في الصحيح تضمنت***كلماته تكذيب ذي البهتان
لما قضى الله الخليقة ربنا***كتبت يداه كتاب ذي إحسان
وكتابه هو عنده وضع***على العرش المجيد الثابت الأركان
إني أنا الرحمان تسبق***رحمتي غضبي وذاك لرأفتي وحنان
4-قال الحافظ 7 / 124 على حديث رقم ( 3803) قال : " وليس العرش بموضع استقرار الله.. ".
التعقيب:
قال الشيخ البراك: لا وجه لهذا النفي؛ فإن الله عز وجل مستو على عرشه كما أخبر سبحانه في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش. ومن عبارات السلف في تفسير ( استوى ): استقر. ولكن نفي أن يكون العرش موضع استقرار الله مبني على نفي حقيقة الاستواء، وهو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة؛ فعندهم أن الله في كل مكان، أو يقال: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ثم الواجب عندهم في نصوص الاستواء إما التفويض وإما التأويل؛ مثل أن يقال في معنى ( استوى ): استولى. وهذا هو الغالب عليهم، فيجمعون بين التعطيل والتحريف. وكل هذا بلا حجة من عقل ولا سمع.
ومذهب أهل السنة إثبات الاستواء بمعناه المعلوم في اللغة مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول".
ومعلوم أن استواء الله عز وجل على عرشه لا يستلزم حاجته سبحانه إليه؛ لأنه الغني عن كل ما سواه، وهو سبحانه الممسك للعرش وما دون العرش.
5-قال الحافظ 7 / 156 على حديث رقم ( 3803) قال: " ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء... ".
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قوله: " أن الله منزه عن الحركة والتحول.... ": لفظ الحركة والتحول مما لم يرد في كتاب ولا سنة، فلا يجوز الجزم بنفيه، ونسبة نفيه إلى السلف والأئمة من أهل السنة والجماعة لا تصح. بل منهم من يجوز ذلك ويثبت معناه ويمسك عن إطلاق لفظه، ومنهم من يثبت لفظ الحركة، ولا منافاة بين القولين؛ فإن أهل السنة متفقون على إثبات ما هو من جنس الحركة كالمجيء، والنزول، والدنو، والصعود، مما جاء في الكتاب والسنة. والأولى: الوقوف مع ألفاظ النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " وكذلك لفظ الحركة: أثبته طوائف من أهل السنة... وقال: والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك، ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة، وإن أثبت أنواعًا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة" الاستقامة: 1 / 71 – 72.
ثم ذكر قول الفضيل بن عياض: " إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل : أنا أومن برب يفعل ما يشاء " الاستقامة: 1 / 77.
ونفي الحركة يتفق مع مذهب نفاة الأفعال الاختيارية من الأشاعرة وغيرهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحافظ رحمه الله، وأما لفظ التحول فالقول فيه يشبه القول في لفظ الحركة. )
وقد تقدم الكلام عن شبهة الحركة والإنتقال في الرد على الإعتراض الثامن.
6-قال الحافظ 7 / 412 على حديث رقم ( 4121) قال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة" وأرقعة بالقاف جمع رقيع، وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عن الكرماني ( بحكم الملك ) بفتح اللام وفسّره بجبريل ؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام.
قال السهيلي: قوله: "من فوق سبع سماوات" معناه أن الحكم نزل من فوق، قال: ومثله قول زينب بنت جحش: "زوجني الله من نبيه من فوق سبع سماوات" أي نزل تزويجها من فوق، قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه ... ".
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قول السهيلي: "ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق..... ": هذا يتضمن أن الفوقية منها ما يستحيل على الرب سبحانه فيجب نفيه، ومنها ما لا يستحيل عليه فلا مانع من إثباته، وعليه يحمل ما جاء من وصف الله تعالى بالفوقية. وهذا التفصيل مبني على نفي علو الله تعالى بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فالفوقية ثلاثة أنواع: فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر؛ فنفاة العلو من الجهمية ومن تبعهم يثبتون فوقية القدر والقهر دون فوقية الذات، وأهل السنة والجماعة يثبتون له سبحانه الفوقية بكل معانيها؛ كما قال تعالى: "وهو القاهر فوق عباده"، كما يقولون مثل ذلك في العلو؛ فعندهم أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه.
7-قال الحافظ (10 / 488) على حديث رقم 6070
"ويدنو المؤمن من ربه أي يقرب منه قرب كرامة، وعلو منزلة".
التعقيب:
قال الشيخ البراك: يريد بقوله: "قرب كرامة وعلو منزلة" أن دنو المؤمن من ربه المذكور في الحديث دنو معنوي، لا أنه دنو بقرب المكان، بحيث يكون في مكان هو فيه أقرب إلى ربه. والأصل في القرب والدنو قرب المكان، وهذا هو المعنى المتبادر من لفظ الحديث وسياقه.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله سبحانه بذاته في العلو فوق كل شيء، وأنه سبحانه يقرب من بعض خلقه إذا شاء، كيف شاء، ويدني ويقرب من عباده من شاء، وأن من الملائكة ملائكة مقربين، فهم عنده.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله لا يتأولون شيئا منه على خلاف ظاهره. وأما نفاة العلو القائلون بالحلول من الجهمية ومن وافقهم - ومنهم الأشاعرة - فعندهم أنه تعالى لا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، وأن نسبة جميع المخلوقات إليه نسبة واحدة. لذلك يلجأون إلى تأويل النصوص المخالفة لأصولهم، ومن ذلك دنو المؤمن من ربه أو إدناؤه له؛ فيؤولونه بقرب المكانة والمنزلة. وهذا هو الذي ذكره الحافظ، ومشى عليه في هذا الحديث ونحوه.
8-قال الحافظ: "وقال الكرماني:...النزول محال على الله؛ لأن حقيقة الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك، فليتـأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه، أو يفوض مع اعتقاد التنزيه....".
على حديث رقم 6321
التعقيب:
قال الشيخ البراك : "وقال الكرماني :... النزول محال على الله....": هذا قول منكر، وردٌّ لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بربه، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم الخبر بنزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة؛ فقد نقل ذلك الجم الغفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقى ذلك أهل السنة والجماعة بالقبول فأثبتوا أنه سبحانه ينزل حقيقة كيف شاء، كما قالوا: إنه استوى على العرش وإنه يجيء يوم القيامة كما أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى، فقول أهل السنة في النزول كقولهم في سائر أفعاله وصفاته سبحانه؛ وهو إثباتها مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الكرماني: (النزول محال على الله) هو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشاعرة، ومن مذهبهم نفي علوه سبحانه بذاته واستوائه على عرشه، ونفي قيام الأفعال الاختيارية به.
ومن لا يثبت العلو يمتنع عليه أن يثبت النزول، والحامل لهم على هذا الباطل هو توهم التشبيه وقياس الخالق على المخلوق. وهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، وما يثبت له من الصفات هو على ما يليق به لا يماثل صفات المخلوقين؛ فنزوله ليس كنزول المخلوق، كما أن علمه وسمعه وبصره ليس كعلم المخلوق وسمعه وبصره. وتأويل النفاة لنزوله سبحانه بنزول ملك، أو نزول الرحمة هو من تحريف الكلم عن مواضعه؛ فهل يجوز أن يقول الملك: "من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه"، فلفظ الحديث نص بأن الذي ينزل هو الله نفسه، وهو الذي يقول ذلك، فالذين تأولوا النزول بنزول ملك قد جمعوا بين التحريف والتعطيل فضلوا عن سواء السبيل.
9-قال الحافظ : "ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود: لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميًا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفى منه بذلك، كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مؤمنة؟" قالت: نعم، قال: "فأين الله؟" قالت: في السماء، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة"، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم.... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7377، كتاب التوحيد، باب 2.
التعقيب:
قال الشيخ البراك : معناه أن اليهود يقرون بأن الله في السماء - يعني في العلو- وهذا عند المعطلة نفاة العلو تجسيم؛ أي أن الله لو كان في السماء لزم أن يكون جسمًا، ومن مذهبهم أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب نفي ما يستلزم الجسمية، ومن ذلك العلو على المخلوقات؛ فلذلك نسبوا اليهود إلى التجسيم والتشبيه. ونسبوا كذلك إلى التجسيم أهل السنة المثبتين للعلو وسائر الصفات، لذلك هم يشَبِّهون أهل السنة باليهود.
وإثبات اليهود للعلو هو من الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام، كما جاءت به سائر الرسل، وجاء به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتنوعت أدلته في الكتاب والسنة، ودلت عليه الفطر والعقول السليمة. وكفر اليهود لا يقدح فيما يقرون به من الحق، وأما إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى نفيًا أو إثباتًا فقد تقدم قريبًا القول فيه، وبينَّا هناك مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك.
10- قال الحافظ: "وليس المراد قرب المسافة؛ لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى، ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7386، كتاب التوحيد، باب 9.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: القرب في هذا الحديث هو القرب الخاص؛ وهو قربه سبحانه من عابديه وداعيه، ولا يلزم من هذا القرب حلول الرب سبحانه في شيء من المخلوقات، كما لا يلزم من نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة علو سائر السماوات عليه؛ بل هو العلي الأعلى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء؛ فعلوه سبحانه فوق المخلوقات من لوازم ذاته، فنزوله وقربه لا ينافي علوه، بل هو سبحانه عال في دنوه قريب في علوه، فلا يقاس بخلقه، ولا يلزم من صفاته سبحانه ما يلزم في صفات المخلوقين، وعلى هذا فقوله: "وليس المراد قرب المسافة" احتراز لا حاجة إليه، وتقييد لا موجب له؛ لأنه مبني على أن قربه يستلزم الحلول، وهو ممنوع كما تقدم.
11-قال الحافظ: "والله منزه عن الحلول في المواضع؛ لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث، والحادث لا يليق بالله....".
وقال ابن التين: "معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7405، كتاب التوحيد، باب 15.
التعقيب:
قال الشيخ البراك:
قوله صلى الله عليه وسلم "وهو وَضْعٌ عنده على العرش": هذا عند أهل السنة المثبتين لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه ليس بمشكل، بل هذا من أدلتهم على أن الله عز وجل بذاته فوق العرش، وأن هذا الكتاب عنده سبحانه فوق العرش، ولا يلزم من ذلك محذور في حقه سبحانه؛ لا حلول ولا حصر في شيء من مخلوقاته.
وإنما يُشْكِل هذا الحديث وأمثاله مِنْ وصْفِ بعض المخلوقات بأنها عنده على نفاة العلو والاستواء كالأشاعرة؛ فمن قال منهم بأنه سبحانه في كل مكان فقد تناقض أعظم تناقض، ومن قال منهم إنه لا داخل العالم ولا خارجه فقد وصف الله بالعدم؛ فإنه لا يوصف بذلك إلا المعدوم.
وقول ابن بطال وابن التين في تفسير الكتاب والعندية بالعلم في هذا الحديث هو من التأويل المذموم الذي حقيقته صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة؛ فقد جريا في ذلك على مذهب أهل التعطيل من نفاة العلو، وهو مذهب باطل تضمن التعطيل والتحريف؛ تعطيل الله عز وجل عن ما يجب إثباته له من علوه على خلقه، وتحريف النصوص الدالة على ذلك. ومذهب أهل السنة بريء من هذا وهذا.
12- قال الحافظ: قال ابن بطال.. وقالت الجسمية: معناه الاستقرار وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع وبعضهم معناه علا..
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 22.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: مقصود البخاري رحمه الله بترجمة الباب تقرير علو الله بذاته على مخلوقاته واستوائه على عرشه، واكتفى بالإشارة إلى الاستواء بذكر العرش في الآية والأحاديث التي أوردها في الباب، لأن العرش متعلَّق الاستواء، وإن كان قد جاء التصريح بالاستواء على العرش في سبع آيات، وأشار إليها في نقل تفسير السلف للاستواء كأبي العالية، ومجاهد، واكتفى من أدلة العلو خاصة بحديث أنس رضي الله عنه في شأن زينب رضي الله عنها، وقولها: "وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات" مع أن أدلة العلو في الكتاب والسنة لا تحصى كثرة، وأهل السنة يثبتون ما دلت عليه هذه النصوص ويمرونها كما جاءت بلا كيف، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب".
وأما المعطلة والجهمية ومن وافقهم، فإنهم ينفون علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، ثم منهم من يقول بالحلول العام، أو أنه - تعالى الله عن قولهم - لا داخل العالم ولا خارجه، وفي هذا غاية التنقص لله تعالى، أو ما يتضمن وصفه بالعدم. ثم يضطربون في جوابهم عن هذه النصوص؛ فأكثرهم يذهب إلى التأويل المخالف لظاهر اللفظ كتأويل الاستواء بالاستيلاء، أو الملك والقدرة، أو التمام كما ذكر ذلك الحافظ فيما حكاه عن ابن بطال. وهؤلاء يجمعون بين التعطيل والتحريف. ومن نفاة العلو والاستواء من الأشاعرة من يذهب إلى التفويض؛ وهو الإمساك عن تدبر هذه النصوص لأنه لا سبيل إلى فهم معناها، مع نفي أن يكون ظاهرها مرادًا، ويزعم بعض أولئك أن هذا هو مذهب السلف في نصوص الصفات كالعلو والاستواء كما نقله الحـافظ عن إمام الحرمين بعد ذلك، وهو خطأ ظاهر وجهل بحقيـقة مذهب السلف.
ومما يدل على فساد مذهب المفوضة أن الله عز وجل أمر بتدبر الكتاب كله، وما لا يفهم معناه لا يؤمر بتدبره ولا معنى لتدبره.
وقد وصف الله كتابه بأنه هدى وشفاء وبيان، وما لا يفهم معناه لا يوصف بشيء من ذلك. فالمخرج من هذا الاضطراب هو الاعتصام بما دل عليه كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان، والله الهادي إلى الصواب.
13-قال الحافظ: "قوله: ( كان الله ولم يكن شيء قبله) تقدم في بدء الخلق بلفظ: "ولم يكن شيء غيره" وفي رواية أبي معاوية: "كان الله قبل كل شيء" وهو بمعنى: "كان الله ولا شيء معه"، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت على كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7418، كتاب التوحيد، باب 22.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قوله: "وفي رواية أبي معاوية: ( كان الله قبل كل شيء) وهو بمعنى: ( كان الله ولا شيء معه)... إلخ": يرجح الحافظ هاتين الروايتين على رواية الباب: (كان الله ولم يكن شيء قبله)؛ وذلك من جهة المعنى الذي يرى أنهما تدلان عليه؛ وهو أن الله تعالى كان منفردًا لم يخلق شيئًا في الأزل ثم ابتدأ الخلق، وعليه فجنس المخلوقات له بداية لم يكن قبلها شيء من المخلوقات. وهذا قول من يقول بامتناع حوادث لا أول لها، وهم أكثر المتكلمين، وهو الذي يختاره المؤلف، ولهذا رجح الروايتين المشار إليهما آنفًا بناء على أنهما تدلان على مطلوبه، ولهذا قال: "وفي رواية أبي معاوية... وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها" واستشنع من ابن تيمية القول بذلك، ولهذا ضعف ترجيح ابن تيمية لرواية: "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وزعم أن الجمع بين هذه الروايات مقدم على الترجيح. وهذا ممنوع في الحديث الواحد الذي قصته واحدة كما في هذا الحديث؛ فإنه جاء بأربع روايات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا أحد هذه الألفاظ، والأخريات رويت بالمعنى، فتعيَّن الترجيح. وكل هذه الروايات لا تدل على مطلوب المتكلمين وهو امتناع حوادث لا أول لها. ولكن بعض هذه الروايات فيه شبهة لهم مثل رواية: "ولم يكن شيء معه"، ولهذا رجحها الحافظ على رواية الباب، ورواية الباب أرجح منها؛ لأن لها شاهدًا عند مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "أنت الأول فليس قبلك شيء" كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع وجوه أخرى من الترجيح.
ومسألة تسلسل الحوادث - أي المخلوقات في الماضي وهو معنى حوادث لا أول لها - فيها للناس قولان:
أحدهما: أن دوام الحوادث ممتنع؛ وهو قول أكثر المتكلمين. وشبهه هذا القول هي اعتقاد أن ذلك يستلزم قدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، وهو باطل عقلاً وشرعًا. وهذا الاعتقاد خطأ؛ فإن معنى تسلسل الحوادث في الماضي أنه ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق إلى ما لا نهاية، ومعنى ذلك أن كل مخلوق فهو محدث بعد أن لم يكن، فهو مسبوق بعدم نفسه، والله تعالى مقدم على كل مخلوق تقدم لا أول له، وليس هذا بقول الفلاسفة؛ فإن حقيقة قولهم أن هذا العالم قديم بقدم علته الأولى لأنه صادر عنها صدور المعلول عن علته التامة، لا صدور المفعول عن فاعله؛ فإن المفعول لا بد أن يتأخر عن الفاعل.
القول الثاني: أن تسلسل الحوادث في الماضي ممكن، وهو موجب دوام قدرة الرب تعالى وفاعليته؛ فكل من يثبت أن الله لم يزل فعالاً لما يريد وهو على كل شيء قدير، لا بد أن يقول بأن الخلق لم يزل ممكنًا. وهذا الحد لا يمكن النزول عنه؛ فإن من قال بامتناع حوادث لا أول لها منهم من يقول: إن الله لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا، ومن قال منهم: إن الله لم يزل قادرًا كان متناقضًا؛ فإن المقدور لا يكون ممتنعًا لذاته.
أما كون تسلسل المخلوقات واقعًا أو غير واقع فهذا يُبنى على الدليل؛ فمن قام عنده الدليل على أحدها فعليه القول بموجبه. فالقول المنكر الذي لا شك في بطلانه هو القول بامتناع حوادث لا أول لها؛ لما يستلزمه من تعجيز الرب سبحانه في الأزل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة فأجاد وأفاد، فأتى بالفرقان بين الحق والباطل في هذا المقام، وقد رماه خصومه والغالطون عليه بأنه يقول بقول الفلاسفة، وهو الذي يفند قول الفلاسفة بما لم يستطعه المنازعون له. ومن رد قول الفلاسفة بالقول بامتناع حوادث لا أول لها فقد رد باطلاً بباطل، والحق في خلافهما، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
انظر: مجموع الفتاوى 18/210- 244، ودرء تعارض العقل والنقل 1/121-127، 303-305، 2/344-399.
14-قال الحافظ: "قال الكرماني: قوله: "في السماء" ظاهره غير مراد؛ إذ الله منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7420، كتاب التوحيد، باب 22 .
التعقيب:
قال الشيخ البراك: وصفُ اللهِ تعالى بأنه في السماء جاء في القرآن في قوله: "أأمنتم من في السماء"، وفي السنة: قال صلى الله عليه وسلم : "وأنا أمين من في السماء"، ومن هذا قول زينب رضي الله عنها: "إن الله أنكحني في السماء". ومعنى هذا كله أن الله تعالى في السماء أي في العلو فوق جميع المخلوقات، وليس ظاهره أن الله تعالى في داخل السماوات كما ظنه الكرماني، ولهذا قال: "ظاهره غير مراد".
وقوله: "إذ الله منزه عن الحلول في المكان": إن أراد أنه تعالى لا يحويه شيء من مخلوقاته ويحيط به فهو حق؛ فإن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
وإن أراد أنه ليس في العلو الذي وراء العالم، ولا هو فوق العرش بذاته فهذا باطل؛ فإن هذا هو قول الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من نفاة العلو، وأكثرهم يقول بالحلول العام؛ أي أن - الله تعالى عن قولهم - في كل مكان.
وقول الكرماني: "لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها...": هذا يقتضي أن الله تعالى ليس بذاته في العلو، وإنما وصف بذلك للتشريف؛ لأن السماء أشرف الجهات وفي ذلك إشارة إلى علو قدره في ذاته وصفاته. وليس هذا محل النزاع مع المبتدعة نفاة العلو، وإنما النزاع معهم في علوه سبحانه بذاته فوق مخلوقاته، وهو سبحانه العلي بكل معاني العلو، وله الفوقية بكل معانيها ذاتًا وقدرًا وقهرًا. وما ذكره الحافظ عن الراغب في مفردات القرآن إنما هو استعراض لمعاني الفوقية بحسب ما أضيفت إليه في القرآن، ولم يذكر من معاني الفوقية المضافة إلى الله تعالى إلا فوقية القهر، وأهمل الإشارة إلى فوقية ذاته سبحانه كما يدل عليها نصًا قوله تعالى:"يخافون ربهم من فوقهم".
والحافظ عفا الله عنه يكثر من النقول في هذه المسائل ولا يحررها.
15-قال الحافظ: "ويكون معنى: "فهو عنده فوق العرش" أي ذكره وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج.... "الرحمن على العرش استوى" أي ما شاءه من قدرته، وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7422، كتاب التوحيد، باب 22.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: هذا الحديث من أدلة أهل السنة على علو الله فوق خلقه واستوائه على عرشه، وهو يدل كذلك على أن الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه عنده فوق العرش، وهذه العندية عندية مكان لقوله: "فوق العرش"، وهذا الكتاب يحتمل أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب - وهو كتاب المقادير- ويحتمل أنه غيره فهو كتاب خاص، والله أعلم.
وعلى كل فلا يمتنع أن يكون الكتاب المذكور عند الله تعالى فوق العرش كما هو ظاهر الحديث، ولا موجب لتأويله بصرفه عن ظاهره كما صنع ذلك الخطابي عندما قال: "المراد بالكتاب أحد الشيئين... إلخ"، فنفى على كل من التقديرين أن يكون فوق العرش كتاب؛ إذ تأول الكتاب بعلم الله تعالى بما كتب على نفسه، أو أن الذي عنده ذكر الكتاب وعلمه، والحامل له على هذا التأويل إما اعتقاد أن الله ليس بذاته فوق العرش، فلا يكون شيء من المخلوقات عنده فوق العرش، وإما اعتقاد امتناع أن يكون شيء غير الله فوق العرش. والأول باطل بأدلة العلو والاستواء، والثاني لا دليل عليه. بل هذا الحديث بمجموع ألفاظه يدل على بطلانه؛ فقد دلّ الحديث على أن هذا الكتاب عند الله فوق العرش، والله تعالى أعلم بنفسه، والرسول الذي أخبر بذلك أعلم بربه، فليس لأحد أن يعارض خبره صلى الله عليه وسلم. وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطابي؛ فإنه يثبت أن فوق العرش كتابًا وهو مما اقتضته حكمته وقدرته، ولكن من المنكر في كلامه قوله: "وقد يكون تفسيرًا لقوله: "الرحمن على العرش استوى"... إلخ"؛ فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى الله عز وجل مجاز، وأن المراد به كون ذلك الكتاب فوق العرش، فيؤول معنى قوله: "الرحمن على العرش استوى" إلى معنى: " كتابه على العرش استوى" وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه تحريف للكلم عن مواضعه.
16-قال الحافظ:" قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله: "إلى الله" فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل، وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 23.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: فيما نقله الحافظ ابن حجر في شرح هذا الباب عن البيهقي وابن بطال تخبط وحيرة في فهم النصوص والآثار الدالة على علو الله تعالى على خلقه؛ فإن كلامهما يقتضي نفي علو الله على خلقه، فعلى هذا يجب عندهم في هذه النصوص: إما التفويض؛ وهو الإعراض عن فهمها مع اعتقاد بأن الأمر بخلاف ظاهرها، وإما التأويل. ويزعمون أن التفويض هو طريقة السلف. وهذا باطل؛ فالسلف من الصحابة والتابعين يتدبرون القرآن كله ويفهمونه كما أمرهم الله، ويؤمنون بما دلت عليه الآيات والأحاديث من صفاته تعالى.
وحقيقة التأويل - وهو طريقة أكثر النفاة - صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف، ومن ذلك قول البيهقي: "صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول"، ومعنى ذلك أنه لا يصعد إلى الله شيء، وكذا قوله: "وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء"، ومعنى ذلك أنهم لا يعرجون إلى الله.
وكذا قول ابن بطال: "وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف"، ومعناه أن الملائكة لا تعرج إليه حقيقة؛ لأن الله – عنده – ليس في السماء، وعبر عن ذلك بقوله: "وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه؛ فقد كان ولا مكان"، وهو يريد بذلك نفي أن يكون الله بذاته فوق المخلوقات ومستويًا على العرش، ولكن هذه الألفاظ الواردة في عبارته ألفاظ مبتدعة مجملة لا بد فيها من التفصيل والاستفصال؛ لأنها تحتمل حقًا وباطلاً. نعم الله سبحانه لا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته: لا مكان ولا غيره. وإذا كان سبحانه فوق مخلوقاته على عرشه فلا يلزم من ذلك أن يكون مفتقرًا إلى العرش، ولا أنه يحيط به شيء من الموجودات، بل هو سبحانه فوق جميع الموجودات، وهو الممسك بالعرش وما دون العرش.
وقول ابن بطال: "ومعنى الارتفاع إليه: اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان" كلام فيه قلق؛ فإنه فسر ارتفاع بعض المخلوقات إليه باعتلائه فأضاف إليه ما هو مضاف إلى المخلوق.
وقوله: "مع تنزيهه عن المكان" فيه ما تقدم من الإجمال، وإرادة نفي علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، وهذا هو المعنى الباطل المنافي لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة، والله أعلم. ).
وقد تكلمنا عن هذا التفصيل كما في الرد على الإعتراض الخامس.
17-قال الحافظ: " قال ابن المنير: جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس" إلى أن قال: "وقِدَمُه يحيل وصفه بالتحيز فيها، والله أعلم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7433، كتاب التوحيد، باب 23.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قول ابن المنير في حديث ابن عباس: "ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة....إلخ": يريد مطابقة الحديث للترجمة ومناسبته لها، ويزعم أن البخاري قصد بإيراد الحديث التنبيه على بطلان قول من أثبت الجهة. ويريد بمن أثبت الجهة من أثبت علو الله تعالى بذاته فوق عرشه وجميع مخلوقاته، وفي هذا غلط قبيح على البخاري؛ فإن البخاري من أئمة السنة المثبتين لعلو الله تعالى واستوائه على عرشه، وقد عقد عددًا من التراجم لتقرير هذا الأصل، فزعم ابن المنير أن قصد البخاري الرد على من أثبت العلو والاستواء على العرش قلبٌ لمقصود البخاري، بل أراد البخاري بذكر هذا الحديث إثبات علو الله تعالى واستوائه على العرش استنباطًا من ذكر العرش حيث إنه متعلق الاستواء.
وقول ابن المنير: "فبين – أي البخاري – أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء، والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث": فيه دعوى باطلة على البخاري أنه أراد ما ذكر، وفيه دعوى أن الجهة سواء أريد بها السماء أو العرش فإنها مخلوقة، وهذه الدعوى لا تصح في السماء على الإطلاق؛ فإن السماء يراد بها السماء المبنية - وهي السماوات السبع، وهذه مخلوقة - ويراد بها العلو مطلقًا، فتتناول ما فوق المخلوقات؛ وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى. فلا يلزم من كونه في السماء الذي وراء العالم أن يكون في ظرف وجودي يحيط به تعالى؛ لأنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى. بل المخلوق إذا قيل إنه في السماء بمعنى العلو لا يلزم أن يكون في ظرف وجودي؛ كما إذا قيل العرش في السماء، ومن المعلوم أن العرش فوق السماوات فالله تعالى أولى أن لا يلزم فيه ذلك. وعلى هذا فلفظ الجهة لفظ مجمل قد يراد به شيء موجود مخلوق كما إذا أريد به نفس العرش، وقد يراد به ما ليس بموجود كما إذا أريد به ما وراء العالم؛ فإنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى.
وقول ابن المنير: "وقِدَمُه سبحانه وتعالى يحيل وصفه بالتحيز فيها": إن أراد أنه مستغن عن هذه المخلوقات من العرش وغيره فهذا حق، وإن أراد أن قدمه يحيل كونه بذاته فوق مخلوقاته مستو على عرشه فهذا باطل. بل هذا عين الكمال؛ فإن له سبحانه العلو بكل معانيه ذاتًا وقدرًا وقهرًا.
ولفظ التحيز لفظ مجمل مبتدع لا يجوز إطلاقه نفيًا ولا إثباتًا، ولا يجوز الحكم على قائله إلا بعد معرفة مراده، فإن أراد حقًا قُبِل، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن أراد حقًا وباطلاً لم يقبل مطلقًا، ولم يرد جميع معناه. ).
وقد تقدم الرد على شبهة الحد والحيز والمكان والجهة.
18-قال الحافظ: "ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية، متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده؛ فهو راء لا من جهة، واختلف من أثبت الرؤية في معناها؛ فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما ترون القمر" إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 24.
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": هي أصرح آية في الدلالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم؛ فإن النظر إذا عدي بإلى اختص بنظر العين، وقد اختلف الناس في مسألة الرؤية: فذهب أهل السنة إلى أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم عيانًا من فوقهم من غير إحاطة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة كهذه الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب. وذهبت المعتزلة إلى نفي الرؤية وتأولوا الآيات والأحاديث بصرفها عن ظاهرها، وردّ ما أمكنهم ردّه من السنة على أصولهم. وذهب الأشاعرة إلى إثبات الرؤية بالأبصار، لكن قالوا: إن الله تعالى يُرى لا في جهة بناء على مذهبهم في نفي العلو؛ فأثبتوا رؤية غير معقولة، فخالفوا بذلك العقل والشرع، وكانوا بذلك متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل كانوا أقرب إلى مذهب النفاة كالمعتزلة وغيرهم.
وكل ما ذكر الحافظ في هذا المقام ونقله عن الشراح يدور حول مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، وفيه من الحق ردّ مذهب المعتزلة، ومن الباطل نفي علو الله تعالى، ونفي أن يرى في جهة العلو بل يرى لا في جهة؛ مما أوجب لهم الحيرة والاضطراب، وظهور حجة المعتزلة عليهم. وليس لمذهب أهل السنة المحضة ذكر صريح.
وقول ابن بطال: "وذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة...إلخ" كلام مجمل، والظاهر أن مراده بأهل السنة: الأشاعرة. ).
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته :
فسل المعطلة هل يرى من تحتنا***أم عن شمائلنا أم عن أيمان
أم خلفنا وأمامنا سبحانه ***أم هل يرى من فوقنا ببيان
يا قوم ما في الأمر شيء غير ذا***أو أن رؤيته بلا إمكان
إذ رؤية لا في مقابلة من الر***ائي محال ليس في الإمكان
ومن ادعى شيئا سوى ذا كان دعو***اه مكابرة على الأذهان
19- قال: "وقال البيهقي: سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: "لا تضامون في رؤيته" بالضم والتشديد، معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا يضم بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك، والأصل: لا تتضامون في رؤيته باجتماع في جهة. وبالتخفيف من الضيم، ومعناه: لا تظلمون فيه برؤيتكم بعضكم دون بعض؛ فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7436، كتاب التوحيد، باب 24 .
التعقيب:
قال الشيخ البراك: قول الصعلوكي الذي نقله البيهقي ونقله عنه الحافظ جارٍ على مذهب الأشاعرة؛ وهو إثبات الرؤية مع نفي الجهة أي نفي العلو، ومعنى ذلك أن المؤمنين يرونه سبحانه لا من فوق ولا من أسفل، ولا من أمام ولا من خلف، ولا من يمين ولا من شمال، وتقدم قريبًا أن هذه الرؤية لا حقيقة لها في الواقع[انظر التعليق السابق]؛ فهي مع مخالفتها لنص السنة المتواترة مخالفة للعقل. وبناء على نفي الصعلوكي لعلو الله تعالى نفى أن يكون في جهة من العباد، ونفى أن يكونوا في جهة منه سبحانه حيث قال في: "تضامون" معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة. وأما قوله: "فإنكم ترونه في جهاتكم كلها" فيقتضي أنهم يرونه من فوقهم ومن تحتهم ومن الجهات الأربع، وهذا يتناقض مع نفيه الجهة عن الله بقوله بعده: "وهو متعال عن الجهة"، بل يناقض المعروف من قول الأشاعرة: إن الله تعالى يرى لا في جهة؛ فإنهم ينفون الجهة عن الله مطلقًا، وما يرى من جميع الجهات هو موجود في جميع الجهات، وتقدم في التعليق قريبًا[ص314،هامش1] ما في لفظ الجهة من الإجمال، وما يجب فيه من الاستفصال.).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- : (ومعلوم أنا نرى الشمس والقمر عيانا مواجهة,فيجب أن نراه كذلك,وأما رؤية مالا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل ,فضلا على أن تكون كرؤية الشمس والقمر.
وأما قوله(لا تضامون) يروى بالتخفيف.أي : لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يحلق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال.فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يرى,وهو سبحانه يتجلى تجليا ظاهرا فيرونه كما ترى الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته.
وقيل :(لا تضامون) بالتشديد : أي لا ينضم بعضكم إلى بعضكما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال,وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور بحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم كما يلحقه عند رؤية الشيء الخفي والبعيد والمحجوب ونحو ذلك)( مجموع الفتاوى (16/85-86).
20-قال الحافظ: "وقوله: فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، قال الخطابي: هذا يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل: بيت الله وحرم الله".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7440، كتاب التوحيد، باب 24.
التعقيب:
قال الشيخ البراك : قول الخطابي: "هذا يوهم المكان والله منزه عن ذلك": يقال في لفظ المكان ما يقال في لفظ الجهة بأنه لفظ مجمل؛ فإن أريد به أن الله تعالى في مكان موجود من المخلوقات يحيط به فالله منزه عن ذلك،
وإن أريد به ما فوق جميع المخلوقات - وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى - فلا يلزم بإثبات المكان بهذا المعنى محذور.
وقوله في الحديث: "في داره": لا ريب أن إضافة الدار إليه إضافة تشريف، ولا يلزم من ذلك أن يكون حالاً في هذه الدار؛ فإنه تعالى منزه عن الحلول في شيء من مخلوقاته. وأما المراد بهذه الدار فالله أعلم به، وإن كان المتبادر أنها الجنة.
21-قال الحافظ: "وتأول ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35.
التعقيب:
قال الشيخ البراك : قول ابن حزم بأن: "النزول فعل يفعله الله في سماء الدنيا...إلخ": معناه أن النزول ليس فعلاً قائمًا بالرب، وهذا جار على مذهب نفاة الصفات، ونفاة قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، وهو باطل.
وتنظير النزول في الحديث بقول القائل: نزل لي فلان عن حقه غفلة أو مغالطة؛ لأن الذي في الحديث معدّى ( بإلى ) ونوع المتعلق مختلف.
21-قال الحافظ: "فكما قَبِلَ النزولُ التأويلَ لا يمنع قَبولُ الصعودِ التأويلَ، والتسليم أسلم كما تقدم، والله أعلم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35.
التعقيب:
قال الشيخ البراك : الحق إمرار نصوص النزول والصعود وسائر الصفات على ظاهرها اللائق به سبحانه، ولا موجب لعقل ولا شرع لصرفها عن ذلك.