معاوية قتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد
وللإجابة عن هذه الفرية أقول : روى الطبري في تاريخه (3/202) من طريق عمر بن شبه عن علي بن محمد المدائني عن مسلمة بن محارب أن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، ومال إليه أهلها ، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ، حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه ، لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله ، وضمن له أن هو من فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص ، فلما قدم عبدالرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض ممالكيه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية ما ضمن له ، وولاه خراج حمص ، ووضع عنه خراجه.وهذا الخبر لا يصح ! فيه مسلمة بن محارب وهو الزيادي فيه جهالة روى عن أبيه وابن جريج وروى عنه المدائني لم يوثقه غير ابن حبان في الثقات (7/490). ذكره البخاري في التاريخ الكبير (7/387) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/266) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. ثم أن مسلمة بن محارب لم يدرك القصة وهو لا يروي عن معاوية رضي الله عنه إلا بواسطة مما يدل على أن القصة منقطعة السند. وأيضاً علي بن محمد وأبو سيف المدائني الأنباري مُتكلم فيه. فوثقه ابن معين , وقال الذهبي في السير (10/401) : كان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب مصدقاً فيما ينقله. وقال ابن عدي في الكامل (5/213) : ليس بالقوي في الحديث , وهو صاحب أخبار , قل ماله من الروايات المسندة. لذا رواها الطبري في تاريخه (3/202) بصيغة التمريض قال : فيما قيل ! وقال ابن كثير في البداية والنهاية (8/24) : وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح. وروى هذه القصة بنحوها البلاذري في أنساب الأشراف (5/118) قال : حدثني محمد بن سعد عن الواقدي قال : توفي خالد بن الوليد بن المغيرة بحمص سنة عشرين وأوصى إلى عمر بن الخطاب وكان عبدالرحمن بن خالد يلي الصوائف فيبلى ويحسن أثره , فعظم أمره بالشام , فدس إليه معاوية متطببا يقال له ابن أثال ليقتله وجعل له خراج حمص فسقاه شربة فمات فاعترض خالد بن المهاجر بن خالد ويقال خالد بن عبدالرحمن بن خالد ابن أثال فضربه بالسيف فقتله , فرفع أمره إلى معاوية , فحبسه أياماً وأغرمه ديته ولم يقده به. وفي سند هذه القصة الواقدي متروك الحديث. جواب أخر تفصيلي : شبهة اتهام معاوية رضي الله عنه بقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد.. وقد أثيرت هذه الشبهة في الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه بالتفكير بأخذ البيعة لابنه يزيد ، فحاول الإخباريون أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية ، فذكروا أن معاوية خاف من مكانة عبد الرحمن عند أهل الشام ، فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم. انظر تاريخ الطبري (5/227 ). فهذه المسألة و هذه تهمة لا تستقيم ولا تصح.. خاصة وأنها تخص خليفة المسلمين شخصياً ، فإن الاتهام لا يمكن أن يثبت إلا ببينة أو شاهدين كما هو معلوم في قضاء المسلمين.. وخبر الطبري هذا من طريق المدائني عن سلمة بن محارب الزيادي ، وبينه وبين الحدث انقطاع واضح.. هذا فيما يخص سند الطبري.. في حين يرجع ابن ال***ي سبب القتل إلى أمر آخر وهو : أن معاوية لما عرض أمر ولاية العهد من بعده على أهل الشام ، أشاروا عليه بعبدالرحمن بن خالد ، فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ، ثم أن عبدالرحمن اشتكى فدعا معاوية طبيبه ابن أثال وأمره بدس السم إلى عبدالرحمن. كتاب الأمثال لابن سلام ( ص 192 ) من طريق ال***ي. والبلاذري في أنساب الأشراف (4 /109 ) من طريق الواقدي وأبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني ( 16 / 197 – 198 ) من طريق المدائني وسنده كله مجاهيل. وهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها ، يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس في ذلك الحين ، فمن المعروف أن معاوية رضي الله عنه خليفة المسلمين وأحد الصحابة الفضلاء ، ومعروف من سيرته حرصه الشديد على الإسلام والمسلمين ، وكان أعظم خلفاء المسلمين - بعد الراشدين - حلماً وعدلاً وفضلاً وسياسة وديانة ، فكيف يعقل أن يقوم بقتل أحد المسلمين خوفاً من أن يتبعه أهل الشام ؟؟!! ولاشك أن ذلك التعليل فاسد ؛ لأن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد في هذه الفترة التي توفي فها عبدالرحمن بن خالد ،لم يكن مطروحاً أصلاً ؛ وذلك لوجود الحسن بن علي رضي الله عنهما.. وأمر آخر أذكره للطاعنين ، في اعتمادهم على رواية الطبري في إلصاق هذه التهمة بمعاوية رضي الله عنه.. قلت : الطبري رحمه الله لما أورد هذه الحادثة ، أوردها بصيغة التمريض ، فقال : وفيها انصرف عبدالرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص ، فدس ابن أثال النصراني إليه شربة مسمومة – فيما قيل – فشربها فمات. تاريخ الطبري ( 5 / 227 ). وقول الطبري رحمه الله : ( فيما قيل ) يدل على ضعف الرواية في ذلك عنده.. بالإضافة إلى ما تقدم من ضعف سندها وتناقض متنها.. ثم إن معاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف ، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف عل الثغر الرومي ، ومن ثم يهمله ولا يكون له أي مكانة يخشى منها. وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي على إحدى الصوائف ، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية ، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد.. ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ( 5/ 231 ) ذكر غزوة البحر سنة 48هـ ، وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني ، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير وعلى جميعهم ( خالد بن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد ) ، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده – أي ولد عبدالرحمن بن خالد – قائداً كبيراً بعد أبيه ؟!! هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده – أي خالد بن عبد الرحن بن خالد – بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه ؟؟ !! وهل يمكن أن يخفى على ولده - خالد بن عبدالرحمن - هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه ؟؟!! وخلاصة ما سبق : أنها إشاعة واضحة حاولت أن تربط بين موت عبدالرحن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد ، ومثلها مثل الإشاعة التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد بن معاوية والتي سبق أن بيينا عوارها وفسادها في حلقة مضت.. وللفائدة : فإن ابن عساكر رحمه الله ذكر أن ابن أثال هو الذي دس السم إلى عبدالرحن بن خالد بواسطة أحد خدمه ، فقام خالد بن عبدالرحمن بقتله فرفع إلى معاوية فحبسه أياماً فأغرمه ديته وأطلق سراحه. انظر تاريخ دمشق ( 9/928 ) والإصابة لابن حجر ( 5 / 35 ).. وهذا إجراء طبيعي من معاوية رضي الله عنه.. ثم إن ابن أثال مات سنة 46هـ ، وذكر الواقدي في كتاب الصوائف أنه مات سنة 47هـ. تاريخ دمشق ( 9 / 931 ).. وبذلك تكون وفاة عبدالرحمن بن خالد على الراجح أنها قبل أن يفكر معاوية في تولية يزيد من بعده.. ومن الملاحظ أن ابن عساكر لم يذكر شيئاً عن تورط معاوية في قتل عبدالرحمن بن خالد ، وكذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة ( 5 / 33 – 35 ) ، وكذلك مصعب ال***ري في نسب قريش ( ص 364 ) ، وكذلك خليفة بن خياط في تاريخه.. أما ابن كثير فقد عقب على الرواية التي تتهم معاوية بقتل عبدالرحمن بن خالد بقوله : وهذا لا يصح. البداية والنهاية ( 8 / 31 (.. وكذلك الذهبي في تاريخ الإسلام لم يشر لأي شيء. انظر ( حوادث سنة ( 41 – 60 هـ ) ص 76 – 77 ). عموماً فإن خبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح ، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الجليل.. ثم إن هناك احتمالات أخرى للحادثة.. فلعل ابن أثال غاظه أثر عبدالرحمن بن خالد في بلاد الروم وجهاده الكبير لهم ، وهم بنوا قومه وأهل دينه ، فأراد أن ينتقم لنفسه وللروم فدس لعبدالرحمن السم !! ولماذا لا يكون إمبراطور الروم هو الذي دس إلى ابن أثال عيناً ورغبه في قتل عبدالرحمن بن خالد ؟!! عموماً هي احتمالات كثيرة ولعل أحدها يكون صحيحاً.. قلت : وقد وقع أكثر الناس في معاوية رضي الله ، ولعل الحكمة فيه أنه صدر عنه شيء ، فأراد الله سبحانه أن يجلب له الأعمال الصالحة ما دامت الدنيا ، وصدق الله حين قال { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم }. ( البقرة / 216 ).
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video