النصيحة الذهبية (رسالة الذهبي لإبن تيمية)
قال المخالف: رسالة الذهبي لإبن تيمية ثابتة لا يُنكرها إلا مُعاند ...
] ثم ساق كلام د. بشار عواد فقال:
"يقول الدكتور المُحقق السلفي بشّار عواد معروف، في كتابه (الذهبي و منهجه في كتابه تاريخ الإسلام ) وهو يتحدّث عن إنفراد السخاوي بذكر بعض آثار الذهبي: "وهو الوحيد الذي أشار إلى رسالة الذهبي إلى ابن تيمية, مما وثّق نسبتها إليه لا سيما وقد شك فيها غير واحد" ثم أوردها في عدد آثاره, ونقل كلام السخاوي وقال: "وذهب بعضهم إلى القول بأنها مزورة, و لا عبرة بذلك" و كرر ذلك في مقدمته على سير أعلام النبلاء قائلاً : "وأرسل إليه نصيحته الذهبيه التي يلومه وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها".
وكذلك ألحق الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد النصيحة بكتابه (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) , قال مُعلّقاً عليها : "شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي, ولا شك عندنا أنها له, فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي, و لم يُنكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شبهة و غيره، ثم إن هذا أُسلوب الذهبي عندما يُهاجم, ويبدو أنه كتبها في آخر عمره، ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه, لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حباً له, وإشفاقاً عليه".
ثم قال المخالف: بعد أن وضّحنا بما لا يدع مجالاً للشك نسبة الرسالة للذهبي نسرد هذه الرسالة ثم نناقش ما ذُكر فيها بإنصاف[.
نص الرسالة
(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ذلتي، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ عليَّ إيماني، واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات، آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس. طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتَبًّا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"، بلى أعرفُ إنك تقول لي لتنصُرَ نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد، بلى والله عرفوا خيرًا مما إذا عمل به العبد فقد فاز، وجهلوا شيئًا كثيرًا مما لا يعنيهم و: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". يا رجل بالله عليك كفَّ عنَّا فإنك مِحجاجٌ عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام، إياكم والأغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"، وكثرة الكلام بغير دليل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب؟ والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبشُ دقائق الكفريات الفلسفية لنردَّ عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعتَ سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يُدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن. واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر، وصمت بتفكر، واهًا لمجلس يُذكرُ فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يُذكرون بالازدراء واللعنة، كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخَيتَهما، بالله خلُّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها رأسًا من الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفّر فهو أكفر من فرعون، وتعد النصارى مثلنا، والله في القلوب شكوك إن سَلِمَ لكَ إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد. يا خيبة من اتبعك فإنه مُعَرَّضٌ للزندقة والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليًّا شهوانيًّا لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلا قعيدٌ مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل. يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم تصدقها وتزدري بالأبرار، إلى كم تعظمها وتصغر العباد، إلى متى تُخاللها وتمقت الزهاد، إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها والله أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تُغيرُ عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار. أما ءان لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب، أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى والله ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تُصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول لكَ: والبتة سكتت. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحبُّ الواد، فكيف يكون حالك عند أعدائك، وأعداؤك والله فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر. قد رضيتُ منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرًّا :"رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي"، فإني كثير العيوب غزير الذنوب، الويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علاّم الغيوب، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى ءاله وصحبه أجمعين).
ثم قال المخالف : بعد أن سردنا هذه الرسالة سوف نُحاول أن نخُوض في بحار هذه النُصوص حتى نعرف كيف أصبح تلميذ الأمس هو خصم اليوم.
رد الشبهة
هذه الرسالة طار بها فرحا خصوم ابن تيمية رحمه الله من الخلف والسلف، دون تدبر أو تحقيق، وهي في الحقيقة غير صحيحة النسبة للذهبي لأمور عدة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، عجبت كيف فاتت الدكتور المحقق بشار عواد الذي أصر على موقفه الباهت في صحة نسبتها له[1]، ومضمونها وعباراتها تتنافى تماما وأسلوب الحافظ الذهبي الواضح في كتبه وخصوصا عند تطرقه للكلام على ابن تيمية.
والذهبي انتقد ابن تيمية بوضوح، لكن لم يكن بهذه الصورة الممجوجة التي لا تصدر عن عالم مرموق له مكانته، ولو قلنا بها واعتقدنا ما فيها لحكمنا على الذهبي بالجهالة بابن تيمية لما فيها من عبارات تدل على جهل قائلها بابن تيمية ومنهجه العلمي، والذهبي من ألصق الناس به وأعلم أهل عصره بمنهجه العلمي.
وهناك عدة أمور تجعلك ترد نسبة هذه الرسالة للذهبي فضلا عن أن تشك فيها، وهذه الأمور هي:
أولا: انتقد الذهبي ابن تيمية صراحة انتقاد الناصح البصير، وأقواله فيه تُنبيك عن كذب عبارات هذه الرسالة المنحولة الموسومة بالنصيحة، من ذلك قوله فيه: "ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده".[2]
ومما يثبت معرفة الذهبي الدقيقة به وبعلمه قوله: "كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يحافظ عى الوضوء إلا مؤمن)، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم".[3] والرسالة المنحولة زعموا أن الذهبي كتبها في آخر عمره، ومما قاله الذهبي فيه: "وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين بشرا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس، وإلا لو لاطَف خصومه لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشنوفه مقرون بندور خطائه، وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له ولكن ينقمون عليه أخلاقا وأفعالا، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك".[4]
ثانيا: تفرد السخاوي بذكرها، على الرغم من تقصيه في التاريخ والتراجم، وابن حجر وهو أعلم منه والذي استفاض في ترجمة ابن تيمية في الدرر، ناقلا أغلبه من وصف الذهبي لم يشر إلى هذه الرسالة البتة، كما ترجم للذهبي ولم يذكرها، كما لم تُفهم من أقوال الذهبي في ابن تيمية أنه ناصحه برسالة، على رغم انتقاده له في مواطن.
ثالثا: بعض العبارات الركيكة التي وردت في الرسالة تقدح في صحة نسبتها للذهبي لما فيها من قدح في مكانته العلمية العالية.
رابعا: خلو الرسالة من اسم ابن تيمية أو حتى الإشارة إلى ما يفهم منها أنها له وأنه المعني بما فيها، كما هو معروف من أسلوب الذهبي في وصف ابن تيمية؟
خامسا: وجود عبارة مركبة من حديثين في الرسالة على أنها حديث نبوي، يطعن في مكانة الذهبي وأنه من حفاظ الحديث ونقاده.
سادسا: عبارات وردت في الرسالة تطعن في علم الذهبي، ومكانته العلمية ومعرفته الوثيقة بابن تيمية ومنهجه العلمي كما سيأتي بيانه، إن أصر مخالفنا على نسبتها له دون دليل مادي واضح ملموس، وعلم الذهبي وأسلوبه في تراجمه ومؤلفاته يرفض هذه الرسالة، وهذه العبارات هي:
قال مقيده عفا الله عنه: تحسر الذهبي على ذهاب السنة وأهلها، وكأن ابن تيمية ليس منهم، بسبب ما صدر منه مما لم يرضه الذهبي – افتراضا -.
وأقول: إن لم يكن ابن تيمية من أهل السنة الأقحاح في نظر الذهبي وغيره فمن يكون؟
ألم يقل الذهبي فيه: "وبرع في علوم الآثار والسنن" وذكر عن أبي الفتح اليعمري قوله: "وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا.... إلى أن قال:.... أو ذكر الحديث فهو صاحب علمه وذو رايته".[5]
وقال ابن حجر عن ابن تيمية: "وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل".[6]
فهل يعقل اخراج الذهبي لابن تيمية من أهل السنة؟
قال مقيده عفا الله عنه: وهنا أمران:
الأول: هذا تعريض من الذهبي – افتراضا - بابن تيمية وردوده على المخالفين، وهي في نظره عيوب يجب أن لا يشغل ابن تيمية نفسه بها، ولو صح هذا من الذهبي لكان من أكبر القوادح في ديانته، وانعدام غيرته على شعائر الله وحرماته، وإنكاره على منكري المنكر وبيان أهله والتحذير منهم، حاشاه رحمه الله أن يقف هذا الموقف المشين، ويستقبح من ابن تيمية ما فعله هو، فكم ذكر أناسا مخالفين في العقيدة وبين فساد طريقتهم في كتبه كالميزان وغيره، من باب بيان الحق والنصيحة لدين الله؟
ومما وصف الذهبي ابن تيمية به قوله: "كان موصوفا بفرط الشجاعة والكرم، فارغا عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه".[7]
فهل مثل هذا العالم الإمام مشتغل بتتبع عورات الناس؟؟
الثاني: وهو أقبح من الأول، ذِكر الذهبي – افتراضا - عبارة : (لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، على أنها حديث نبوي، مما ينبيء عن جهله بالحديث ومتونه، وحاشاه وهو الحافظ للحديث وطرقه وعلله، والمميز لصحيحه من ضعيفه وموضوعه، والناقد البصير برجاله جرحا وتعديلا، إذا هذا لايصدر إلا عن مُخَلّط في الأحاديث، لا يصل علمه عشر معشار علم الذهبي رحمه الله، وهذه العبارة ليست حديثا بل مركبة من حديثين:
الأول: حديث: (لا تذكروا موتاكم إلا بخير).[8]
الثاني: حديث (فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، وهو حديث ناقص من أوله وتتمته: (لا تسبوا الأموات ...).[9]
فياترى هل وصل الحال بالذهبي إلى حد عدم التميز بين النصوص الحديثية وتركيبها؟.
يذكر الذهبي - افتراضا - على لسان ابن تيمية تبرريه الوقيعة في العلماء، والتي هي في نظر الذهبي – افتراضا - كما سبق خوض في عورات الناس.
فيا ترى من هم الذين اتهم الذهبي ابن تيمية الوقيعة بهم ... وهل يعقل أن يقول الذهبي في بعضهم ما عابه على ابن تيمية، ألم يقل الذهبي عن أبي هاشم الجبائي: "وأما أبو هاشم الجبائي وأبوه أبو علي فمن رؤوس المعتزلة، ومن الجهلة بآثار النبوة برعوا في الفلسفة والكلام، وما شموا رائحة الإسلام، ولو تغرغر أبو سعيد بحلاوة الإسلام لانتفع بالحديث، فنسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا وتوحيدنا".[10]
فهذا وأمثاله كابن سينا وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين من ملاحدة المسلمين ممن بين عوارهم ابن تيمية، وللذهبي فيهم كلام على نمط ما قاله ابن تيمية.
ذكر الذهبي عن نصر بن زكريا بإسبيجاب أنه قال: "سمعت محمد بن يحيى الذهلي سمعت يحيى بن معين يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله! فقلت ليحيى: الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد فهذا أفضل منه؟ قال: نعم، بكثير".[11]
فهل يتناقض الحافظ الذهبي إلى هذا الحد، وحاشاه رحمه الله؟ فهذا يدل على أن الرسالة كتبت لشخص وقع في أعراض العلماء الصالحين غير ابن تيمية، من غير الذهبي.
ومما يكشف زيف هذه الرسالة إتهام الذهبي – افتراضا - لابن تيمية بالأغلوطات في الدين ثم يصفه بقوله: "فريد العصر علما ومعرفة وذكاء وحفظا وكرما، وزهدا وفرط شجاعة وكثرة تأليف، والله يصلحه ويسدده فلسنا بحمد الله ممن نغلو فيه ولا نجفو عنه، ما رُئي كاملا مثل أئمة التابعين وتابعيهم فما رأيته إلا ببطن كتاب".[12]
وقال أيضا: "وهو بشر له ذنوب وخطأ، ومع هذا فوالله ما مَقَلا عيني مثله ولا رأى هو مثل نفسه، كان إماما متبحرا في علوم الديانة صحيح الذهن سريع الإدراك سيال الفهم".[13]
فهل من هذا وصفه يتهم بالأغلوطات.
وهذا من الكذب الصراح، ومن أكبر المطاعن في صحت نسبة الرسالة للحافظ الذهبي، إذ لا تكاد تجد تحليلا علميا لمسألة شرعية، ذكرها ابن تيمية دون استدلا من الكتاب والسنة، وكم امتدحه الذهبي في ذلك مما يدل على معرفته الوثيقة بعلمه، فمما قاله عنه ما نقله الحافظ ابن حجر: "ولا كان متلاعبا بالدين ولا ينفرد بمسائله بالتَشهّي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطائه وأجران على إصابته".[14]
كما ينقل الحافظ ابن حجر عن الذهبي قوله: "كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسالة من مسائل الخلاف، واستدل ورجع وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة".[15]
كما ذكر الذهبي عن أبي الفتح اليعمري قوله: "وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا".[16]
فهل بعد هذا نعتقد نسبة هذه الرسالة المنحولة للذهبي رحمه الله، وهل يعقل أن يتهم الذهبي ابن تيمية بذلك؟
لقد انتقد الذهبي نفسه اليونسية فتكلم على أحد شيوخها فقال: "يونس بن يوسف ابن مساعد الشيباني، المخارقي الجزري القنيي الزاهد أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح والخواثة وخفة العقل،كان ذا كشف وحال ولم يكن عنده كبير علم، وله شطح وشعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب والله أعلم بسره، فلا يغتر المسلم بكشف ولا بحال ولا بإخبار عن مغيب، فابن صائد وإخوانه الكهنة لهم خوارق والرهبان، فيهم من قد تمزق جوعا وخلوة ومراقبة على غير أساس ولا توحيد، فصفت كدورات أنفسهم وكاشفوا وفشروا ولا قدوة إلا في أهل الصفوة وأرباب الولاية المنوطة بالعلم والسنن فنسأل الله إيمان المتقين وتأله المخلصين فكثير من المشايخ نتوقف في أمرهم حتى يتبرهن لنا أمرهم وبالله الاستعانة".[17]
فهل يعقل أن يعيب الذهبي على ابن تيمية ما فعله هو؟
نبش الذهبي بعض ما عابه على ابن تيمية – افتراضا – نبشه من دقائق الكفريات، فقد وصف أبا حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس، نزيل نواحي فارس بأنه صاحب زندقة وانحلال.[18]
وقال عن تأئية ابن الفارض: "فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الإتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين إلا تغضبون لله فلا حول ولا قوة إلا بالله".[19]
وقال عن أبي عبدالرحمن السلمي: "وفي الجملة ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة، وفي حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلا عدها بعض الائمة من زندقة الباطنية، وعدها بعضهم عرفانا وحقيقة، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى فإن الخير كل الخير في متابعة السنة والتمسك بهدي الصحابة والتابعين y".[20]
وقال أيضا: " والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره علم الأوائل وإلهيات الفلاسفة وبعض رياضتهم بل أكثره".[21]
وغيره كثير في ثنايا كتبه، فهل يحل الذهبي لنفسه ما حرمه على ابن تيمية، أم أن الرسالة منحولة مكذوبة على الحافظ الذهبي؟؟
أما الذي ابتلع علوم الفلاسفة فالمشهور بذلك هو أبو حامد الغزالي، كما نقله الذهبي عن أبي بكر بن العربي أنه قال: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع".[22]
وذكر أيضا: "قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق".[23]
قال مقيده عفا الله عنه: فأين هذا من هذا، خلط الغزالي كتبه بالفلسفة، فهل فعل هذا ابن تيمية أم العكس هو الصحيح؟
عبارة الذهبي – افتراضا - في سياق الإستنكار على مجلس ابن تيمية، وكأنه خال مما ذكره.
أما مجلس ابن تيمية فالذهبي من أعرف الناس به، ينقل ابن حجر وصف الذهبي له بقوله: "ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه".[24]
كما نقل عنه أيضا: "وكان دائم الابتهال كثير الإستعانة قوي التوكل رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها قلبية وجمعية".[25]
فهل بعد هذا نصدق أن هذه رسالة الذهبي نصيحةً لمن هذا حاله؟
وهذا من القوادح العِظام في صحة هذه النصيحة المزعومة. فأما أتباع ابن تيمية فالذهبي من كبار كبارهم ، فهل تعرض للزندقة والإنحلال، وأسوق ما قاله السبكي في أتباع ابن تيمية ومنهم الذهبي، فقال: "واعلم أن هذه الرفقة أعني المزي والذهبي والبرزال،ي وكثيرا من أتباعهم أضر بهم أبو العباس ابن تيمية إضرارا بينا، وحملهم على عظائم الأمور أمرا ليس هينا، وجرهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم، وأوقفهم في دكادك من نار المرجو من الله أن يتجاوزها لهم ولأصحابهم. وكان للمزي ديانة متينة وعبادة وسكون وخير".[26]
ومما يقدح في هذه النصيحة المفضوحة دفاع الذهبي نفسه عن ابن تيمية ورده على السبكي، كما نقله ابن حجر عنه فقال: "وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية، فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين، فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائما وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل فيما مضى من أزمان".[27]
وقال أيضا عن أصحابه الحنابلة: "وأما الحنابلة فعندهم علوم نافعة وفيهم دين في الجملة، ولهم قلة حظ في الدنيا، والجهال يتكلمون في عقيدتهم ويرمونهم بالتجسيم وبأنه يلزمهم وهم بريئون من ذلك إلا النادر والله يغفر لهم".[28]
فهل ما زلنا نعتقد صحة هذه النصيحة المزعومة.
وهذا من الطوام التي لا تصدق لمن خَبَر كلام ابن تيمية في الصحيحين، ومن أقواله فيهما:
قوله: "جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علما قطعيا أن النبى قالها".[29] وقوله: "أكثر متون الصحيحين معلومة متقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق، واجمعوا على صحتها وإجماعهم معصوم من الخطأ".[30] وقوله: "أهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين، ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك".[31]
وقوله: "كتاب البخارى أجل ما صنف فى هذا الباب والبخارى من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه".[32] وقوله: "فى البخارى نفسه ثلاثة أحاديث نازعه بعض الناس فى صحتها، مثل حديث أبى بكرة عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال عن الحسن: (إن إبنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فقد نازعه طائفة منهم أبوالوليد الباجى، وزعموا أن الحسن لم يسمعه من أبى بكرة، لكن الصواب مع البخارى وأن الحسن سمعه من أبى بكرة، كما قد بين ذلك فى غير هذا الموضع، وقد ثبت ذلك فى غير هذا الموضع، والبخارى أحذق وأخبر الفن من مسلم، ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحا لا ريب فيه، قد إتفق أهل العلم على صحته، ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخارى، ويقول بعض أهل الحديث إنها ضعيفة، ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها، كمثل صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع، وقد يكون الصواب مع مسلم وهذا أكثر".[33]
وقوله: "جمهور ما أنكر على البخارى مما صححه، يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع فى عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى فى حديث الكسوف).[34]
فهل هذه الأقوال تصدر ممن يُغِير على الصحيحين بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار.
ختاما لقد أثبتنا بفضل الله ومَنّه بما لا يدع مجالا لشاك ولا قولا لمرتاب، عدم صحة نسبة هذه الرسالة الركيكة المعاني الضعيفة المباني للحافظ الذهبي، ومن أصر على موقفه فهو أضل من ضَبّ.
كلمة ذهبية أخيرة في حق الإمام ابن تيمية
وإمعانا منا في نسف القول بصحة هذه الرسالة المنحولة للحافظ الذهبي، نسوق له كلمة ذهبية في حق أخيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى لما تكلم في زغل العلم على (علم أصول الدين):
"أصول الدين هو اسم عظيم وهو منطبق على حفظ الكتاب والسنة، فهما أصول دين الإسلام ليس إلا، وأما العرف في هذا الإسم فهو مختلف باختلاف النحل.
فأصول دين السلف الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته وبصفاته وبالقدر، وبأن القرآن المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق، والترضي عن كل الصحابة إلى غير ذلك من أصول السنة.
وأصول دين الخلف هو ما صنفوا فيه وبنوه على العقل والمنطق.
فما كان السلف يحطون على سالكله ويبدعونه، وبينهم اختلاف شديد في مسائل مزمنة، تركها من حسن اسلام العبد فإنه يورث أمراضا في القلوب، ومن لم يصدقني يجرب فإن الأصولية بينهم السيف يكفر هذا هذا، ويضلل هذا هذا، فالأصولي الواقف مع الظواهر الآثار عند خصومه يجعلونه مجسما وحشويا ومبتدعا، والأصولي الذي طرد التأويل عند الآخرين جهميا ومعتزليا وضالا، والأصولي الذي أثبت بعض الصفات ونفى بعضها وتأول في أماكن يقولون: متناقضا والسلامة والعافية أولى بك.
فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وأراء الأوائل ومجازات العقول واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقربها، وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما السلف، ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق الناس، ودجالا أفاكا كافرا عند أعدائه، ومبتدعا فاضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء، وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عوام أصحابه هو ما أقول لك".[35]
فبعد هذا البيان فليس لأهل البهتان حجة أو برهان في كذب الرسالة الذهبية في حق شيخ الإسلام ابن تيمية، والله أعلم.
[1]) الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام (ص 146).
[2]) الدرر الكامنة (1/176).
[3]) السير (15/88).
[4]) الدرر الكامنة (1/151).
[5]) المعجم المختص (ص 25).
[6]) الدرر الكامنة (1/168).
[7]) المعجم المختص (ص 25).
[8]) أخرجه الطيالسي (ح 1494 ص 209)، وعبدالرزاق في مصنفه(3/385 ح 6042)، و ابن أبي شيبة في مصنفه (3/46 ح 11989) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[9]) أخرجه البخاري (الجنائز ح 1393) وغيره من حديثها أيضا.
[10]) السير (18/59).
[11]) السير (10/518 ).
[12]) معجم الشيوخ (1/56).
[13]) المعجم المختص (ص 25).
[14]) الدرر الكامنة (1/177).
[15]) الدرر الكامنة (1/175).
[16]) المعجم المختص (ص 25 ترجمة 22).
[17]) السير (22/178).
[18]) ميزان الاعتدال (4/518).
[19]) السير (22/368).
[20]) السير (17/252).
[21]) السير (10/604).
[22]) السير (19/327).
[23]) السير (19ص334).
[24]) الدرر الكامنة (1/176).
[25]) الدرر الكامنة (1/186).
[26]) طبقات الشافعية الكبرى (10/400).
[27]) الدرر الكامنة (1/186).
[28]) زغل العلم (ص 39).
[29]) مجموع الفتاوى (1/257).
[30]) مجموع الفتاوى (18/49).
[31]) منهاج السنة النبوية (7/422).
[32]) مجموع الفتاوى (1/256).
[33]) مجموع الفتاوى (18/19).
[34]) مجموع الفتاوى (1/256).
[35]) زغل العلم (ص 43).
لِمَ وَصَفَ الذهبيُّ ابنَ تيمية في رسالتِهِ "بيانُ زَغَلِ العلمِ والطَّلبِ" بأنّهُ أهلَكَهُ فَرْطُ الغرامِ في رئاسةِ المشيخةِ والازدراءُ بالأكابرِ؟
وَصَفَ الذهبيُّ ابنَ تيمية في رسالتِهِ بيانُ زَغَلِ العلمِ والطَّلبِ بأنّهُ أهلَكَهُ فَرْطُ الغرامِ في رئاسةِ المشيخةِ والازدراءُ بالأكابرِ وما قالَهُ الذهبيُّ صحيحٌ لأنَّ ابنَ تيميةَ انتقصَ سَيّدَنَا عليًّا بقولِهِ إنّ حروبَهُ ما نفعَتِ المسلمينَ بل ضَرَّتْهُم في دينِهم ودنياهُم، وبقولِهِ إن القتالَ مَعَهُ ليسَ بواجبٍ ولا مستحب، وابنُ تيميةَ يعلمُ أن الله تَعالى قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} وعليٌّ داخلٌ في هذِهِ الآيةِ بلْ هو أولُ من امتَثَلَ الأمرَ الذي في هذِهِ الآيةِ فقاتَلَ من بَغَى عَليه، وقد أجمعَ أهلُ السنةِ على أن عَليًّا مصيبٌ في حروبِهِ الثلاثةِ وقعةِ الجملِ ووقعةِ صِفّينَ ووقعةِ النَّهْروان، ويؤيدُ ذلك حديثُ رسول الله: "إن منكمْ من يقاتِلُ على تأويلِهِ كما قاتلتُ على تَنْزِيله"، فقيلَ: مَنْ هُوَ؟ فقالَ: "خَاصِفُ النعل"، وكانَ عليٌّ يخصِفُ نَعْلَهُ. ففي هذا الحديثِ تصويبُ قتالِ عليّ وهذا الحديثُ صحيحٌ ثابتٌ أخْرَجَهُ ابنُ حبانَ وغيرُه،وحديثُ أبي يعلى والبزار عن عليّ رضي الله عنه عَهِدَ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين اهـ. ورسالةُ الذهبيّ بيانُ زَغَلِ العلمِ والطلبِ صحيحةُ النسبةِ إليه لأنَّ الحافِظَ السَّخَاويَّ نَسَبَهَا للذهبيّ في كتابِهِ "الإعلانُ بالتوبيخِ لِمنْ ذَمَّ التاريخَ" وَنَقَلَ فيه بعضَ ما مَرَّ ذكرُهُ مِنْ وَصْفِهِ لابنِ تيميةَ بأنَّ فرطَ الغَرامِ في رئاسةِ المشيخةِ والازدراءَ بالأكابرِ أهلكهُ، فلا التفاتَ إلى مَنْ يَنفي صحتَهَا ونسبَتَهَا إلى الذهبيّ بلا دليلٍ بل ليرضيَ أتباعَ ابنِ تيميةَ الوهابيةَ لأجلِ المَالِ.
الرد المفـصـل:
هذا كذب. ولو كان الأحباش صادقون لأتوا بالنص ولكن هيهات. فليس في كلام الذهبي شيء مما يزعمون.
هذا ولا يخلو كتاب من كتب الذهبي إلا وتضمن أبلغ الثناء على ابن تيمية لا سيما بعد موته.
قال الذهبي في كتاب (دول الأسلام ص237)
" وفي ذي القعدة توفي بالقلعة شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيميه الحراني ، عن سبع وستين سنة وأشهر ، وشيعه خلق أقل ما حزروا بستين ألفاً ، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل "
وقال " كان بحور العلم ومن الاذكياء المعدودين ، والزهاد والافراد الشجعان الكبار والكرماء الاجواد : أثني عليه الموافق والمخالف.. " نصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين ، واوذي في ذات الله من المخالفين ، واخيف في نصر السنة المحضة حتي أعلي الله منارة وجمع قلوب أهل التقوي علي محبته والدعاء له وكبت أعداءه وأحيا به الشام : بل والاسلام ، وهو أبر من أن ينبه علي سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله
(تذكرة الحفاظ4/1497).
وهذا نص كلام الذهبي في الكتاب الذي ذكروه:
قال الذهبي " فوالله ما رمقت عيني أوسع علماً ولا اقوي ذكاء من رجل يقال له ابن تيميه مع الزهد في المأكل والملبس والنساء مع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن... مقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا للكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة ومحبة الظهور نسأل الله تعالي المسامحة ، فقد قام عليه أناس ليسوا بأروع منه ولا بأعلم منه ولا أزهد منه ، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وأثام أصدقائهم . وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه ، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر وما جري عليهم إلا بعض ما يستحقون
(كتاب زغل العلم 38 ).
أترك الحكم والتعليق للقارئ وهو مسئول عند الله يوم القيامة على ما يحكم اليوم.
التعليقات الجلية على النصائح الذهبية
علق عليها وبينها ـ العبد الفقير إلى مولاه ـ
غيث بن عبدالله الغالبي
تعليق على رسالتي الإمام الذهبي زغل العلم ،والنصيحةالذهبية
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،الرحمن الرحيم ،مالك يوم الدين،وبه نستعين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد:
فالفرق عظيم جداً بين الولاء لزلات الأشخاص والولاء للحق الذي يحملوه ،فلا شك أن علماء الأمة ورثة الأنبياء وهم حملة الحق ،وسبيل الوصل بين أول الأمر وآخره ، لكن حين تتحول هذه الخصلة المحمودة إلى ولاء للشخص بحقه وباطله فهنا يتجلى الإنحراف عن منهج أهل الحق .وحين يتحول طالب العلم من طلب الحق إلى طلب الشهرة والدنيا فهنا يتجلى الإنحراف عن منهج الحق . أخي الحبيب : إن العلم من أعظم الأبواب المقربة إلى الله تعالى ،فتعلمه والعمل به يورث الخشية كما قال الله تعالى { انما يخشى الله من عباده العلماء } و قال صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ) حسنه الحافظ ابن حجر ,والمزي,والسيوطي,وغيرهم. وللعلم فضائل كثيرة تدل على شرفه ورفعة مكانته ،وهو يرفع المسلم إذا ابتغى به الآخرة كما قال عز وجل :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }
والعلماء ورثة الأنبياء من جهات عديدة ،أهمها العلم الذي يُعمل به ،ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((العلماء ورثة الأنبياء ))وهذا عبيد الله بن كثير يروي عن أبيه أنه قال: " ميراث العلم خير من ميراث الذهب والفضة والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ ولا يستطاع العلم براحة الجسم ".
ولكن العلم الشرعي وبال على من يطلبه لغير وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، فعن عبد الله بن مسعود قال :(كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم الكبير، وتتخذ سنة مبتدعة يجري عليها الناس منها شيء ،قيل قد غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟قال إذا كثر قراؤكم ،وقل فقهاؤكم ،وكثر أمراؤكم ،وقل أمناؤكم ،والتمست الدنيا بعمل الآخرة ،وتفقه لغير الدين)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَال:(( أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ ))
عَنْ أَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ :مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْك)) ولأهمية هذا الأمر وخطره ألف الأئمة الأعلام في التحذير من طلب العلم لغير مرضاة الله عز وجل ،ومن هذه المؤلفات رأيت رسالتين عظيمتين للإمام الذهبي رحمه الله تعالى ،بيّن في الرسالة الأولى : آفات العلم ،لأن العلم وإن كان أشرف وأعظم العبادات إلا أن صاحبه إما أن يكون في الدرجات العالية، أو يكون من أول من تسعر به النار والعياذ بالله ،فإن الشيطان لا يفتر عن صد الإنسان عن العلم لما يعلم ما فيه من خير لحامله ، فالعلم ميراث ورّثه الأنبياء للعلماء ،والتسابق إليه تسابق إلى معالي الأمور ،فكم الفرق بين عالم عابد ،وبين عابد بلا علم . فإن عجزالشيطان عن صده عن العلم عكر صفو تلك العبادة العظيمة فيدخل عليه من الباب الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل ،ألا وهو الرياء .
ولا يزال به الشيطان حتى يعجب بنفسه ويقول على الله بغير علم ولا أسوة حسنة ، فلا يزال ينظر إلى نفسه بعين التعظيم وإلى الأئمة بعين التحقير ،فيسفه المذاهب المتبوعة ويدعي فهماً للكتاب والسنة هو عين ما أراد الله ورسوله ،فيأزه الشيطان إلى الباطل أزاً ،والمسكين يزيد إعجابه بنفسه ورأيه. يصدق عليه قول الشاعر الناقد:
رأيناك في أثناء قولك معجباً ـــ بكونك أوفى الناس فهماً وأعلما
وفي الرسالة الثانية بين عملياً فقه النصيحة لخاصة المسلمين فهي نصيحة من إمام إلى إمام أخر ناصحه فيها بما علم من حاله عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة )) ويتجلى في الرسالتين الفرق الكبير بين تقديس العلم وتقديس هفوات العلماء .ويتجلى لكل عاقل أهمية معرفة سبل العلم المقربة إلى الله وآفاته المانعة من رضا الله .
ولا أطيل عليكم فدونكم درر من درر الوعظ والبيان للإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ تتمثل في رسالتين جليلتين:
الرسالة الأولى : رسالة :زغل العلم.
والرسالة الثانية : رسالة النصيحة الذهبية . التي ناصح بها شيخه الإمام تقي الدين بن تيمية رحم الله الجميع.
وقد علقت على الرسالتين بما يسر الله تعالى ،ووضعت عليها إيضاحات يسيرة عند مواضع تحتاج إلى بيان أو تقييد أونحو ذلك. كما كتبت في مقدمة الرسالة الثانية رداً وافياً بإذن الله ـ تعالى ـ على بعض المعاصرين الذين جحدوا رسالة النصيحة الذهبية وبينت بما يسر الله تعالى الفرق العظيم بين زلة العالم وفضله ،لأن فضائل العلماء لا تعني اتباع زلاتهم ولا تعني تعصيمهم من الأخطاء.
وفي الرسالتين يتبين للعاقل الفرق العظيم بين السكوت على الباطل وحقوق الشيخ على تلميذه .وأرجو من الله تعالى أن يتقبل هذا العمل ،وأن يجعله خالصاً له وحده .
وليعلم كل طالب علم أن الإنسان لا يأمن على نفسه زلات العقول ،وأهواء النفوس ،ودواء ذلك كله بالقرب من الله تعالى ،واللجأ الصادق إليه فهو ملاذ الخائفين ،ومجير المستجيرين ،وليكن في ذلك عبرة لمن اعتبر .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة الأولى : رسالة زغل العلم
ثبوت الرسالة :هذا الكتاب ثابت عن الإمام الذهبي رحمه الله تعالى ،وقد حقق الشيخ محمد بن ناصر العجمي الكتاب المذكور وبين ثبوته ضمن سلسلة ذخائر التراث [ - مكتبة الصحوة الإسلامية]وتسمى رسالة الذهبي هذه رسالة
( فيما يذم ويعاب في كل طائفة) وأما مخطوطات الرسالة فقد ذكر محقق كتاب التمسك بالسنن للذهبي - ( ص 9- بيان زغل العلم.(ذكره د. بشار عواد برقم (119) وذكر له نسخة برلين.
و عُثر له على نسختين أخريين:
أولاهما: في مكتبة الأحقاف بتريم، وعنها صورة في معهد المخطوطات في الكويت تحت رقم (181).
والأخرى: في إحدى مكتبات اليمن، وعنها صورة في قسم المخطوطات في عمادة شئون المكتبات في الجامعة الإسلامية تحت رقم (254).وقد ذكرها عدد م من ترجم للإمام الذهبي رحمه الله كالحافظ السخاوي والحافظ ابن حجر في انباء الغمر - عند ترجمته لبهاء الدين العسقلاني :فقال ابن حجر :وقد بالغ الذهبي في الثناء عليه في كتابه بيان زغل العلم، وفي غيره قال: وكان شيئاً عجيباً في الزهد والانجماع وقول الحق " ج 1 / ص 168-169 هندية) وغيره ،ولينظر مقدمة السير للذهبي(1/83) .وإليكم تفاصيل رسالة الإمام الذهبي رحمه الله تعالى للعظة والاعتبار:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين والحمد لله رب العالمين .
اعلم أن في كل طائفة من علماء هذه الأمة ما يذم ويعاب فتجنبه.[1]
علم القراءة والتجويد
فالقراء المجودة فيهم تنطع وتحرير زائد يؤدي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف ،والتنطع في تجويدها ،بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة لله ،ويخليه قوي النفس مزدريا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت ،وأن المسلمين يلحنون ،وبأن القراء لا يحفظون إلا شواذ القراءة.
فليت شعري أنت ماذا عرفت وما علمك؟ وأما عملك فغير صالح !وأما تلاوتك فثقيلة عريّة عن الخشية ،والحزن، والخوف ،فالله يوفقك ،ويبصرك رشدك ،ويوقظك من رقدة الجهل والرياء.
وضدهم قراء النغم والتمطيط ،وهؤلاء في الجملة من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة ،فقد رأيت من يقرأ صحيحاً ويطرب ويبكي .
نعم، ورأيت من إذا قرأ قسى القلوب ،وأبرم النفوس ،وبدل كلام الله تعالى.[2]
وأسوأهم حالاً الجنائزية ،والقراء بالروايات وبالجمع ،فأبعد شيء عن الخشوع وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج عن القصد ،وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراآت.
اقرأ يا رجل واعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة فإلى كم هذا.
وآخر منهم إن حضر في ختمة، أو تلا في محراب ،جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت ،والتهوع بالتسهيل ،وأتى بكل خلاف ،ونادى على نفسه أنا أبو فلان فاعرفوني! فإني عارف بالسبع!!
إيش يُعمل بك لا صبحك الله بخير ؟ إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة!! [3]
علم الحديث
والمحدثون فغالبهم لا يفقهون، ولاهمة لهم في معرفة الحديث ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة.
إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا يتأدبون بآداب الحديث ولا يستفيقون من سكرة السماع،الآن يسمع الجزء ونفسه تحدثه متى يرويه أبعد الخمسين سنة،ويحك ما أطول أملك وأسوأ عملك.
معذور سفيان الثوري إذ يقول فيما رواه أحمد بن يوسف التغلبي ثنا خالد بن خداش ثنا حماد بن زيد قال قال سفيان الثوري رحمه الله: لو كان الحديث خيرا لذهب كما ذهب الخير .
صدق والله وأي خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه! وأنت لا تفليه ولا تبحث عن ناقليه ولا تدين الله به
أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدث الطلب والسماع مقصود الحديث من التدين به بل فائدة السماع ليروي فهذا والله لغير الله. خطابي معك يا محدث لا مع من يسمع ولا يعقل ولا يحافظ على الصلوات ولا يجتنب الفواحش ولا قرش الحشائش ولا يحسن أن يصدق فيها.
فيا هذا لا تكن محروما ًمثلي فأنا نحس أبغض المناحيس ،
وطالب الحديث اليوم ينبغي له أن ينسخ أولاً:الجمع بين الصحيحين ،وأحكام عبد الحق ،والضياء ويدمن النظر فيهم، ويكثر من تحصيل تواليف البيهقي فإنها نافعة[4] ولا أقل من مختصر كالإلمام ودرسه .
فإيش السماع على جهلة المشيخة الذين ينامون والصبيان يلعبون ،والشبيبة يتحدثون ويمزحون، وكثير منهم ينعسون ويكابرون ،والقارئ يصحف وإتقانه في تكثير أو كما قال والرضع يتصاعقون!
بالله خلونا !فقد بقينا ضحكة لأولي المعقولات يطنزون! بنا هؤلاء هم أهل الحديث؟!!
نعم ماذا يضر ولو لم يبق إلا تكرار الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم لكان خيراً من تلك الأقوايل التي تضاد الدين وتطرد الإيمان واليقين وتردي في أسفل السافلين.لكنك معذور فما شممت للإسلام رائحة[5] ،ولا رأيت أهل الحديث فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد بينه وبين الله واحد معصوم عن معصوم [6]،سيد البشر عن جبريل عن الله عز وجل.
فطلبه مثل أبي بكر ،وعمر ،وابن مسعود، وأبي هريرة الحافظ ،وابن عباس ،وسادة الناس الذين طالت أعمارهم وعلا سندهم وانتصبوا للرواية الرفيعة.
فحمل عنهم مثل مسروق، وابن المسيب ،والحسن البصري ،والشعبي ،وعروة، وأشباهم من أصحاب الحديث وأرباب الرواية والدراية والصدق ،والعبادة ،والإتقان، والزهادة.
الذين من طلبتهم مثل الزهري ،وقتادة ،والأعمش ،وابن جحادة ،وأيوب ،وابن عون ،وأولئك السادة الذين أخذ عنهم الأوزاعي ،والثوري ،ومعمر ،والحمادان ،وزائدة ،ومالك ،والليث ،وخلق سواهم من أشياخ ابن المبارك ويحيى القطان وابن مهدي ويحيى بن آدم والشافعي والقعنبي ،وعدة من أعلام الحديث ،الذين خلفهم مثل أحمد بن حنبل ،وإسحاق ،وابن المديني ،ويحيى بن معين ،وأبي خثيمة ،وابن نمير ،وأبي كريب ،وبندار ،وما يليهم من مشيخة البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن نصر ،وصالح جزرة، وابن خزيمة ،وخلائق ممن كان في الزمن الواحد ،منهم ألوف من الحفاظ ونقلة العلم الشريف. ثم تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة ولم يزل ينقص إلى اليوم.فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم ،وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم ،أفضل في الحديث من المتأخرين .
وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من سنية زماننا.[7]
فما أدركنا من أصحاب الحديث إلا طائفة ،كقاضي ديار مصر وعالمها تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ الحجة شرف الدين الدمياطي ،والحافظ جمال الدين بن الظاهري، والشيخ شهاب الدين بن فرح، ونحوهم ،وأدركنا من عكر الطلبة شهاب الدين ابن الدقوقي ،ونجم الدين ابن الخباز ،والشيخ عبد الحافظ.
ونحمد الله في الوقت أناس يفهمون هذا الشأن ويعتنون بالأثر ،كالمزي ،وابن تيمية ،والبرزالي، وابن سيد الناس وقطب الدين الحلبي ،وتقي الدين السبكي ،والقاضي شمس الدين الحنبلي ،وابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وصلاح الدين العلائي ،وفخر الدين بن الفخر ،وأمين الدين بن الواني، وابن إمام الصالح ،ومحب الدين المقدسي ،وسيدي عبد الله بن خليل .وجماعة سواهم فيهم العكر والغثاء الله يستر!
والمرء مع من أحب والسعيد من نهض وأهب وعلى الطاعة أكب والله الموفق والهادي .
المالكية
الفقهاء المالكية على خير واتباع وفضل ،إن سلم قضاتهم ومفتوهم من التسرع في الدماء والتكفير.
فإن الحاكم والمفتي يتعين عليه أن يراقب الله تعالى ويتأنى في الحكم بالتقليد ولا سيما في إراقة الدماء .[8]
فالله ما أوجب عليهم تقليد إمامهم فلهم أن يأخذوا منه ويتركوا كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.
فيا هذا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك لم أبحت دم فلان فما حجتك؟
إن قلت قلدت إمامي! يقول لك فأنا أوجبت عليك تقليد إمامك.[9]
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((أول ما يقضى بين الناس في الدماء ))وفي الحديث ((لايزال المرء في فسحة من دينه ما لم يتند بدم حرام)).[10]
نعم من رأيته زنديقاً عدوا لله فاتق الله وأرق دمه ابتغاء وجه الله بعد أن تستفتي قلبك وتستخير الله فيه .
الحنفية
الفقهاء الحنفية أولو التدقيق ،والرأي ،والذكاء والخير ،من مثلهم إن سلمو من التحيل والحيل على الربا !!وإبطال الزكاة! ونقر الصلاة!! والعمل بالمسائل التي يسمعون النصوص النبوية بخلافها.[11]
فيا رجل دع ما يريبك إلى مالا يريبك ،واحتط لدينك ،ولا يكن همك الحكم بمذهبك ،فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،فإذا عملت بمذهبك في المياه والطهارة والوتر والأضحية فأنت أنت.
وإن كانت همتك في طلب الفقه الجدال ،والمراء ،والإنتصار لمذهبك على كل حال ،وتحصيل المدارس [12]،والعلو ،فماذا فقها أخرويا بل ذا فقه الدنيا .
فما ظنك تقول غدا بين يدي الله تعالى تعلمت العلم لوجهك وعلمته فيك فاحذر أن تغلط وتقولها فيقول لك كذبت إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل ثم يؤمر بك مسحوبا إلى النار كما رواه مسلم في الصحيح.
فلا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب وأحبها إلى الله تعالى فإنك لا دليل لك على ذلك ولا لمخالفك أيضا بل الأئمة رضي الله عنهم على خير كثير ولهم في صوابهم أجران على كل مسألة وفي خطئهم أجر على كل مسألة.
الشافعية
الفقهاء الشافعية أكيس الناس وأعلم من غيرهم بالدين.[13]
فأس مذهبهم مبني على اتباع الأحاديث المتصلة ،وإمامهم من رؤوس أصحاب الحديث ،ومناقبه جمة،فإن حصلت يا فلان مذهبه لتدين الله به ،وتدفع عن نفسك الجهل فأنت بخير.
وإن كانت همتك كهمة إخوانك من الفقهاء البطالين الذين قصدهم المناصب ،والمدارس ،والدنيا ،والرفاهية ،والثياب الفاخرة ،فماهذا من بركة العلم ،ولا هذه نية خالصة ،بل ذا بيع للعلم! بحسن عبارة وتعجل للأجر وتحمل للوزر وغفلة عن الله ،فلو كنت ذا صنعة لكنت بخير تأكل من كسب يمينك ،وعرق جبينك ،وتزدري نفسك ،ولا تتكبر بالعلم. أو كنت ذا تجارة لكنت تشبه علماء السلف الذين ما أبصروا المدارس ،ولا سمعوا بالجهات ،وهربوا لما للقضاء طلبوا ،وتعبدوا بعلمهم ،وبذلوه للناس ،ورضوا بثوب خام ،وبكسرة ،كما كان من قريب الإمام أبو إسحاق صاحب التنبيه، وكما كان بالأمس الشيخ محيي الدين صاحب المنهاج، وكما ترى اليوم سيدي عبد الله بن خليل .وعلى كل تقدير احذر المراء في البحث وإن كنت محقاً ،ولا تنازع في مسألة لا تعتقدها[14] ،واحذر التكبر والعجب بعملك. فيا سعادتك إن نجوت منه كفافاً لا عليك ولا لك ،فوالله ما رمقت عيني أوسع علماً ولا أقوى ذكاءً من رجل يقال له ابن تيمية ،مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ،ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم ،وازدروا به، وكذبوه ،وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة. والازدراء بالكبار فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور نسأل الله تعالى المسامحة فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه وما دفعه الله عنه وعن أتباعه أكثر وما جرى عليهم إلا بعض ،ما يستحقون فلا تكن في ريب من ذلك .[15]
الحنابلة
وأما الحنابلة فعندهم علوم نافعة ،وفيهم دين في الجملة ،ولهم قلة حظ في الدنيا ،والجهال يتكلمون في عقيدتهم ويرمونهم بالتجسيم ،وبأنه يلزمهم ،وهم بريئون من ذلك إلا النادر والله يغفر لهم .[16]
علم النحو
النحويون لا بأس بهم وعلمهم حسن محتاج اليه ،لكن النحوي إذا أمعن في العربية ،وعري عن علم الكتاب والسنة ،بقي فارغاً ،بطالاً لعاباً، ولا يسأله الله والحالة هذه عن علمه في الآخرة ،بل هو كصنعة من الصنائع كالطب ،والحساب والهندسة ،لا يثاب عليها ،ولا يعاقب إذا لم يتكبر على الناس ،ولا يتحامق عليهم ،واتقى الله تعالى وتواضع وصان نفسه.
علم اللغة
اللغويون قد عدموا في زماننا [17]،فتجد الفقيه لا يدري لغة الفقه ،والمقرئ لا يدري لغة القرآن ،والمحدث لا يعتني بلغة الحديث ،فهذا تفريط وجهل ،وينبغي الاعتناء بلغة الكتاب والسنة ليفهم الخطاب.
علم التفسير
المفسرون قل من يعتني اليوم بالتفسير ،بل يطالع المدرسون تفسير الفخر الرازي[18] وفيه إشكالات ،وتشكيكات لا ينبغي سماعها ،فإنها تحير ،وتمرض ،وتردي ،ولا تشفي عليلاً[19] نسأل الله العافية وأقوال السلف في التفسير مليحة لكنها ثلاثة أقوال وأربعة أقوال فصاعداً ،فيضيع الحق بين ذلك فإن الحق لا يكون في جهتين وربما احتمل اللفظ معنيين.[20]
علم أصول الفقه
الأصوليون أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد! ويامن يزعم أن الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد
ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهداً به.
فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل
وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف وليقال فهذا من الوبال وهو ضرب من الخبال .[21]
علم أصول الدين ـ العقيدة ـ
أصول الدين هو اسم عظيم ،وهو منطبق على حفظ الكتاب ،والسنة فهما أصول دين الإسلام ،ليس إلا وأما العرف في هذا الإسم فهو مختلف باختلاف النحل .
فأصول دين السلف الإيمان بالله ،وكتبه ،ورسله ،وملائكته ،وبصفاته ،وبالقدر ،وبأن القرآن المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق ،والترضي عن كل الصحابة ،إلى غير ذلك من أصول السنة.
وأصول دين الخلف هو ما صنفوا فيه وبنوه على العقل والمنطق فما كان السلف يحطون على سالكه ويبدعونه ،وبينهم اختلاف شديد في مسائل مزمنة تركها من حسن إسلام العبد ،فإنه يورث أمراضاً في القلوب ،ومن لم يصدقني يجرب!
فإن الأصولية بينهم السيف يكفر هذا هذا ،ويضلل هذا هذا ،فالأصولي الواقف مع الظواهر والآثار عند خصومه يجعلونه مجسماً وحشوياً ومبتدعاً ،والأصولي الذي طرد التأويل عند الآخرين جهمياً ومعتزلياً وضالاً.
والأصولي الذي أثبت بعض الصفات ونفى بعضها وتأول في أماكن يقولون متناقضاً
والسلامة والعافية أولى بك.[22]
فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وآراء الأوائل ،ومجازات العقول ،واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة، وأصول السلف ،ولفقت بين العقل والنقل ،فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ،ولا والله تقربها ،وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر ،والتضليل ،والتكفير ،والتكذيب بحق وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوراً مضيئاً على محياه سيما السلف ثم صار مظلماً مكسوفاً عليه قتمة عند خلائق من الناس ،ودجالاً أفاكاً كافراً عند أعدائه ،ومبتدعاً فاضلاً محققاً بارعاً عند طوائف من عقلاء الفضلاء، وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عوام أصحابه هو ما أقول لك[23] .
علم المنطق
والمنطق نفعه قليل ،وضرره وبيل ،وما هو من علوم الإسلام ،والحق منه فكامن في النفوس الزكية بعبارات غريبة ،والباطل فاهرب منه ،فإنك تنقطع مع خصمك وتعرف أنك المحق ،وتقطع خصمك وتعرف أنك على الخطأ ،فهي عبارات دهاشة ومقدمات دكاكة ،نسأل الله السلامة.
وإن قرأته للفرجة لا للحجة ،وللدنيا لا للآخرة ،فقد عذبت الحيوان ،وضيعت الزمان ،والله المستعان ،وأما الثواب فأيس منه ولا تأمن العقاب إلا بمثاب[24] .
علم الحكمة
والحكمة الفلسفية الإلهية ما ينظر فيها من يرجي فلاحه ،ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه ،فإن هذا العلم في شق وما جاءت به الرسل في شق ،ولكن ضلال من لم يدر ما جاءت به الرسل كما ينبغي بالحكمة شر ممن يدري ،واغوثاه بالله إذا كان الذين قد انتدبوا للرد على الفلاسفة قد حاروا ولحقتهم كسفة ،فما الظن بالمردود عليهم ؟!وما دواء هذه العلوم وعلمائها ،والعاملين بها علماً وعقداً ،إلا الحريق ،والإعدام من الوجود ،إذ الدين ما زال كاملاً حتى عربت هذه الكتب ونظر فيها المسلمون ،فلو أعدمت لكان فتحاً مبيناً .
والحكمة الرياضية فيها حق من طبائع هندسية ،وحساب ،ونحو ذلك ،وفيها أباطيل ،وتنجيم وما أشبه .
فباطلها يؤذي المرء في دينه ،ويضلله .وحقها صنعة ،وإتقان ،وتحرير مما لا أجر فيه ولا وزر .
والحكمة الطبيعية لا بأس بها لكنها ليست من علوم الدين ،ولا مما يتقرب به إلى الله ،ولا من زاد المعاد ،بل هي صنعة بلا ثواب ولا عقاب إذا كان صاحبها سليم الاعتقاد ،عادلاً خيراً كما رأينا جماعة منهم ،وقد يثاب الرجل على تعليمها بالنية إن شاء الله تعالى .
علم الفرائض
الفرضيون داخلون في الفقهاء إذ هو كتاب من كتب الفقه ،وهو علم مليح ،والإمعان فيه يفوت الوقت ،والتوسط في ذلك جيد ،فكم من مسألة في الفرائض ما وقعت ولا تقع أبداً.
علم الإنشاء
الإنشاء فن أبناء الدنيا ليس من علم الآخرة في شيء ،والكامل فيه محتاج إلى مشاركة قوية في العلوم الإسلامية ،ويريد عقلاً تاماً ورزانة ،وسرعة فهم ،وقوة تخيل ،وبصراً باللغة والنحو ،وخبرة بالمعاني ،والبيان ،والسير ،وأيام الناس ،وفنون الأدب ،وحسن كتابة ،ولكن ليكن رأس مال المنشىء تقوى الله ومراقبته فربما وضع لفظة تعجبه يهوي بها إلى النار وهو لا يدري ،وربما أبدع في سطر ترتب عليه خراب مصر ،وربما أعان على تعلمه على سفك الدماء الحرام ،فانظر أين أنت يا بليغ ،قد ذم نبيك البلاغة فقال ((إن من البيان لسحرا)) ً[25]وقال ((العي من الإيمان))[26] .فكمل براعة البلاغة بإرضاء ربك الأعلى ،وبنصح رب الأمر ،فهنا كمال البلاغة إن كنت من المتقين ،وإن تعذر ذلك فدينك ما منه عوض ،فمن اتقى الله كفاه الناس ،ومن أرضى الناس بسخط الله سلط الله عليه من أرضاه ،وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
علم الشعر
الشعر هو من فنون المنشىء ،وهو كلام فحسنه حسن وهو قليل ،وقبيحه قبيح وهو الأغلب .وبيت ماله الكذب والإسراف في المدح ،والهجو ،والتشبيه ،والنعوت ،والحماسة ،وأملحه أكذبه .فإن كان الشاعر بليغاً مفوهاً مقداماً على الكذب في لهجته ،مصراً على الاكتساب بالشعر ،رقيق الدين ،فقد قرأ مقت الشعراء في سورة الشعراء ويندر على الشعراء المجودين من يتصون من الهجو ،وربما أدى الأمر بالشاعر إلى التجاوز إلى الكفر نسأل الله العفو ،والشاعر المحسن كحسان ،والمقتصد كابن المبارك ،والظالم كالمتنبي ،والسفيه الفاجر كابن الحجاج ،والكافر كذوي الإتحاد ،فاختر لنفسك أي وادٍ تسلك.
علم الحساب
الحساب ،وشرع الديوان هذا من علوم القبط والفرس ليس من علوم الإسلام .وهو صنعة ومعيشة ينال بها الرجل السعادة والدنيا ،وكلما كان أمهر كان أسرق ،ومن اتقى الله فيها وكتب لقضاة العدل ،وباشر الأيتام ،والصدقات ،ومال الأوقاف ،والمدارس ،ولزم الأمانة ،واتقى فيه ،فهذا محمود ومأجور بنيته فقد رأينا جماعة يسيرة على نحو ذلك .
نعم ورأينا ذئاباً عليهم الثياب ،وفاسق الكتبة إليه المنتهى في السرق ،وعاقبة أمرهم وبيلة من الضرب ،والمصادرة والفقر .
علم الشروط
الشروط علم حسن شرعي ،من برع فيه ولزم العدالة والورع عاش حميداً ،ومات فقيداً ،ومن عاش فيه بالحيل والمكر والدهاء فلا بد له من خزي في الدنيا ،ومقت في الأخرى وإن تسود هذا {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } النساء 77.
علم الوعظ
الوعظ فن بذاته يحتاج إلى مشاركة جيدة في العلم ،ويستدعي معرفة حسنة بالتفسير ،وإكثاراً من حكايات الفقراء والزهاد. وعدته التقوى ،والزهادة ،فإذا رأيت الواعظ راغباً في الدنيا قليل الدين فاعلم أن وعظه لا يتجاوز الأسماع ،وكم من واعظ مفوه قد أبكى وأثر في الحاضرين تلك الساعة ثم قاموا كما قعدوا[27] .
ومتى كان الواعظ مثل الحسين ،والشيخ عبد القادر الجيلاني ـ رحمهما الله تعالى ـ انتفع به الناس.
تم كتاب زغل العلم للإمام الذهبي .
النصيحة الذهبية
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
لتمام الفائدة أنقل لكم نصيحة أخرى للإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ فإن كانت الرسالة الأولى هي نصح عام لأهل العلم، فهذه نصيحة خاصة أرسلها لشيخه الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ ،وهي النصيحة الذهبية لابن تيمية كما تسمى ،وطالب العلم يستفيد منها أشياء فمن أهم الفوائد مايلي:
أولاً: أن الإنسان مهما بلغ فلا يأمن على نفسه دخائل الشيطان .
ثانياً: أن العالم يحتاج إلى ناصح له من أقرب الناس إليه ،وأقرب الناس إلى الشيخ طلابه،فإذا كان الطالب تقياً ورعاً فإنه ينصح لشيخه إذا رآه حاد عن الجادة ويكون نصحه بالأسلوب المناسب الذي يناسب المقام ،والحال ،وهذا في غير المسائل الاجتهادية لأن مسائل الاجتهاد التي لم تخالف نصاً صريحاً ولا قياساً جلياً ،فإنها لا تنكر بالإجماع .
ثالثاً: أن الإمام الذهبي ألف هذه الرسالة وغيرها نصحاً للإمام ابن تيمية ـ رحمهما الله تعالى ـ لما بدر منه من أخطاء ومخالفة للحق في مسائل عقدية وفقهية ،وهو قد أشار إلي مخالفته له في بعض أخطاءه عند ثناءه على شيخه في ترجمته في السير وفي تاريخ الإسلام . قال الإمام الذهبي :ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ،ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه ، وقد أُذيتُ من الفريقين من أصحابه وأضداده وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية. كما في سير أعلام النبلاء (الجزء الخامس ) وذكره عنه الحافظ ابن حجر في الدرر : ( [ 1/ 176]
رابعاً ثبوت الرسالة :شكك بعض طلبة العلم في صحة نسبة النصيحة الذهبية للإمام الذهبي وأجلب بكل ما استطاع للتشكيك في ذلك ،وماهو إلا دفع للحق بالصدر ،فإن هذه الرسالة في غاية الثبوت ،ولكن العواطف تغلب على بعض الناس فلا يضع الأمور في نصابها الصحيح ،وإليكم اعتراضاته والرد عليه بميزان العلم والعدل بعيداً عن العواطف والتعصبات .
فأقول ـ والله حسبي ونعم الوكيل ـ بداية فهذه الرسالة اشتهرت باسم " النصيحة الذهبية لابن تيمية " ألفها الحافظ أبي عبدالله الذهبي (ت 748) رحمه الله تعالى ، وطبعت قبل سبعين سنة تقريباً.وحاول بعض المتعصبين للإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله الطعن فيها بكل ما يستطيعون ولم أجد مبرراً لذلك إلا الغلو الذي لا ينفع صاحبه ،بل إن منهم من زاد الأمر سوءً فنسب الرسالة إلى غير صاحبها بتخرصات عجيبة غريبة لو طاوعه أهل العصر لكان باباً من الشر عظيم ولنسب إلى الناس مالم يقولوه ،ونزع من أناس ما سطروه ،فأي ظلم فوق هذا .
وبالمقابل فإن من المتعصبين ضد ابن تيمية من مشايخ العصر من جعلها ورقة لسقوطه النهائي .
وكلا المنهجين فيها شطط وغلط وبعد عن الحق، فالرسالة ثابتة بلا ريب ،ولا تقدح في إمامة الشيخ تقي الدين بن تيمية وخصوصاً عند الحنابلة ،بل وغيرهم من علماء الأمة ،ولكن فيها إثبات أن الإمام رحمه الله تعالى أكثر من التشنيع على مخالفيه بحق ،وبغير حق ،ووقع في أخطاء عقدية وفرعية قال الإمام الذهبي وهو يمدح شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى كما
في ذيل تاريخ الإسلام ما نصه ((مع أني مخالف له في مسائل أصلية وفرعية ،وقد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور ..))أ ـ هـ [28] فكانت هذه الرسالة في طبعها إقاد للفكر المعتدل ليثبت على الجادة ولا يدعي المعصومية لأحد من المشايخ لا بلسان المقال ،ولا بلسان الحال .
وهذه الرسالة مخطوطة وطبعت من زمن بعيد،فقد ذكر الدكتور بشار عواد معروف البغدادي : أن النسخة التي هي بخط الحافظ ابن قاضي شهبة (ت851 هـ) مخطوطة في دار الكتب المصرية ورقمها (18823 ب) وقال إن منها نسخة بدار الكتب الظاهرية، ورقمها (1347). وقد ذكر ابن قاضي شهبة في صدر الرسالة: أنه نقلها من خط البرهان بن جماعة، المنقول من خط الحافظ أبي سعيد صلاح الدين بن العلائي، المكتوب من خط مرسلها الشيخ شمس الدين الذهبي، وهذا سند عظيم حافل بالعلماء الأثبات الثقات .فأثبتها عدد من أهل العلم ولم يُعرِّجوا على أقوال المشككين بها لضعف التشكيك وركاكته .
وقد ذكر الحافظ السخاوى تلك الرسالة فى كتابه الإعلان بالتوبيخ(ص 77) وقال عنها:
" وقد رأيت له- أي للذهبي- عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة " أهـ
ولا يمكن أن يقصد بها رسالة زغل العلم لأن رسالة زغل العلم غير موجهة لابن تيمية بخلاف النصيحة الذهبية فهي صريحة في المناصحة لشيخه رحمهما الله تعالى .
وممن أثبتها الدكتور المحقق :صلاح الدين المنجد الذي ألحق «النصيحة» بكتابه: (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) ثم قال معلقاً عليها: «شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي، ولا شك عندنا أنها له، فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي، ولم ينكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شهبة وغيره. ثم إن هذا هو أسلوب الذهبي عندما يُهاجم، ويبدو أنه كتبها في آخر عمره. ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه، لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حباً له، وإشفاقاً عليه» .أنتهى كلامه .
ومنهم : الدكتور المحقق بشار عواد معروف ،الذي قال في كتابه: (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) وهو يتحدث عن انفراد السخاوي بذكر بعض آثار الذهبي: [... وهو الوحيد الذي أشار إلى رسالة الذهبي إلى ابن تيمية، مما وثق نسبتها إليه لا سيما وقد شك فيها غير واحد].أ ـ هـ ثم أوردها في عداد آثاره، وقال: «وذهب بعضهم إلى القول بأنها مزورة، ولا عبرة بذلك» وكرر ذلك في مقدمته على (سير أعلام النبلاء) قائلاً: «.. وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها..». وكذلك قطع بنسبتها عدد من العلماء الذين تجردوا عن اتباع الهوى .
خامساً: ذكر اعتراضات بعض المشايخ وطلبة العلم :
حاول عدد من المغالين في الإمام ابن تيمية رحمه الله التشكيك في صحة نسبة هذه الرسالة للإمام الذهبي ،ولم أرى فيما ذكروه ما يعول عليه وفق مقياس البحث العلمي المنصف ،ولذا فرأيت لزاماً ذكر محاولاتهم المستميتة في التشكيك في الرسالة مع البيان التام بإذن الله تعالى وإليكم ما ذكروه مع تفنيده:
دعاوى المشككين وتفنيدها :
===================================
الاعتراض الأول: قالوا أن الذهبي ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من كتاب يثني فيها جميعاً عليه ثناء عظيماً لو جاء من غيره لوصف بالغلو، مثل قوله: "علم الزهاد نادرة العصر.. كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد والأفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف" (تذكرة الحفاظ 4/1497).
الجواب: أن الإمام الذهبي رحمه الله تعالى أثنى على الإمام ابن تيمية في عدد من كتبه ككتاب السير، وزغل العلم وغيرها وبالغ في ذلك إلا أنه أشار إلى أن له أخطاء أصلية ،وفرعية أي عقدية ،وفقهية لا يوافقه عليها ،بل أثنى عليه في رسالة زغل العلم وحذر مما آل إليه أمره فقال : ما رمقت عيني أوسع علماً ولا أقوى ذكاءً من رجل يقال له ابن تيمية ،مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ،ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم ،وازدروا به، وكذبوه ،وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة، والازدراء بالكبار ،فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور نسأل الله تعالى المسامحة. انتهى كلام الإمام الذهبي ويقول أيضاً: ونحمد الله في الوقت أناس يفهمون هذا الشأن ويعتنون بالأثر ،كالمزي ،وابن تيمية ،والبرزالي، وابن سيد الناس وقطب الدين الحلبي ،وتقي الدين السبكي .انتهى .فأنت تراه وقد أثنى عليه ثم حذر من أغلاط وطباع رآها فيه في موطن واحد ،إذن فلا شك ولا ريب في أنه أثنى عليه وبالغ في ذلك ،ولكن لا يعني أنه كان غاش له ولم يناصحه ،فأهل الحق نصحة للناس ،وأهل النفاق غششة ،ولا تعارض بين مدح الإنسان بما هو فيه من خير ،وعلم ،وصلاح ،والتحذير مما أنحرف فيه عن جادة الصواب .
الاعتراض الثاني: قالوا أن الذهبي صاحب أسلوب معروف، لايعرف له طعن في أحد فكيف يكتب بهذا الأسلوب والألفاظ التي طالما نزه الذهبي قلمه عنها مثل البليد والكذاب، فهذا الأسلوب لم يعهد للإمام الذهبي ولو مع أناس أوغلوا في البدعة والإلحاد أو الفسوق والعصيان.
الجواب :أما الذهبي فهذا أسلوبه إذا ترجم لمن خالف الحق في نظره يعمله من قرأ كتبه كميزان الاعتدال ، والسير وغيرها!وأما أن أسلوبه مليء بالحمير كما يقول الناقد فباطل لا يصح فلم يقلها إلا في موضع فقال (أقدم حمار شهوتك) وهذا كناية عن النفس المصابرة على الخطأ ، وليس فيه رمي للشيخ ولا غيره من أهل العلم بما يحوم حوله بعض النقدة .ثم إن رمي الشخص بالحمار ونحوها صحيح في الآداب إذا كان مستحقاً ولذا ذكره الله تعالى فقال ((كمثل الحمار يحمل أسفارا)) وهذا مثال للشخص المعاند الذي لا ينتفع بعلمه .ولم أرى أن الإمام الذهبي ذكر شيخه بذلك أبداً فلا تذهب بكم الظنون والتهويل فالإمام الذهبي لم يخرج عن حدود الأدب كما يغمز بعضهم هداهم الله .
وأما الغلظة في الأسلوب : فليس بصحيح أن الإمام الذهبي لا يأت بألفاظ التقريع لمن يرى أنه واقع في باب ضلالة وخصوصاً كالفلسفة الكفرية ونحوها ،فكيف بمن بلعها كما يقول ،ولعله يشير إلى مسألة القول بتسلسل الحوادث وقدم العالم ،وفناء النار ،وحلول الحوادث بالله سبحانه وتعالى ونحوها من المسائل التي وقع فيها الإمام ابن تيمية رحمه الله .وإليك نماذج من الغلظة في كتاباته رحمه الله:
يقول في ذم فقهاء الحنفية : الفقهاء الحنفية أولو التدقيق والرأي والذكاء والخير ،من مثلهم إن سلموا من التحيل والحيل على الربا !!وإبطال الزكاة! ونقر الصلاة!! والعمل بالمسائل التي يسمعون النصوص النبوية بخلافها. انتهى من كتاب زغل العلم .
ويقول في ذم علماء الفلاسفة بل ومن رد على الفلاسفة : والحكمة الفلسفية الإلهية ما ينظر فيها من يرجي فلاحه ،ولا يركن الى اعتقادها من يلوح نجاحه ،فإن هذا العلم في شق وما جاءت به الرسل في شق ،ولكن ضلال من لم يدر ما جاءت به الرسل كما ينبغي بالحكمة شر ممن يدري ،واغوثاه بالله إذا كان الذين قد انتدبوا للرد على الفلاسفة قد حاروا ولحقتهم كسفة ،فما الظن بالمردود عليهم وما دواء هذه العلوم وعلمائها والعاملين بها علماً وعقداً إلا الحريق والإعدام من الوجود. انتهى .ويقول في كتابه تشبيه الخسيس: ومن أقْبح القبائح, وأعظم المصائب؛ إنك ترى أخاك الجاهل يشتري البخُّور, والورق المصبغ لزوجته الحمقى الجاهلة فتضعه تحت السماء!! تزعم أن مريم تجر ذيلها عليه!.أ ـ هـ
وقال أيضاً: وقد زَيَّن الشيطانُ ذلك لكثير من الجهلة, والعلماء الغافلين – ولو كان منسوبًا للعلم, فإنَّ علمهُ وبالُ عليه.
ويقول أيضاً: إلى أين تذهبين يا عجوز السوء؟ إلى القبور؟؟!
فتأمل الأسلوب تجد أنه لكاتب واحد .
الاعتراض الثالث: على فرض أن الرسالة صحيحة، فإن آخر الآراء من الذهبي هو الثناء المطلق على شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر إلى ترجمته في كتاب طبقات الحفاظ وهو من آخر ما ألف.
الجواب : لا تعارض أصلاً بين مدح الذهبي لشيخه ابن تيمية وبين مناصحته له حتى نقول :أنه أثنى عليه أخر الأمر لأن الذهبي يثني عليه من قبل الرسالة الذهبية وبعدها ،وإنما الشأن في أن الثناء لا يمنع المناصحة ،وهؤلاء المشايخ عفى الله عنا وعنهم يتصورن التعارض بين الثناء على الرجل بما هو فيه والرد عليه في أخطاءه والحق أنه لا تعارض أصلاً ،بل هذا هو منهج أهل السنة والجماعة فالإنصاف لابد منه .مع أنه في تاريخ الإسلام وغيره من كتبه يصرح بأن لشيخه أخطاء في العقيدة والفقه كما ذكرت آنفاً.فأين التعارض أصلاً؟!إنما المتتبع لصنع الذهبي يجد أنه أجمل في نقد شيخه في مواضع كقوله في السير له أخطاء أصلية وفرعية ،وفصل النقد والنصح في مواطن كرسالة زغل العلم والنصيحة الذهبية.
الاعتراض الرابع: سند هذه الرسالة يعود إلى ابن قاضي شهبة، وهو من أعداء شيخ الإسلام، فكيف يجعل الخصم حكماً؟الجواب: هذا نقد باطل من وجوه :
الوجه الأول: أن الحافظ ابن قاضي شهبة رحمه الله تعالى ناقل وليس منشأ للرسالة وقد نقلها عن الحفاظ قبله بالسند المتصل ،ولم يشكك في صدق ابن قاضي شهبة أحد من الحفاظ والنقاد .ولتكن على ذكر من كلام الإمام السخاوي عنها.
الوجه الثاني: أن ابن قاضي شهبة لم يكن معاصر لابن تيمية ، فكيف يصح هذا و بين وفاتيهما( مائة وثلاثة وعشرون سنة)؟ ولا يعني مخالفته له في المعتقد أن يكذب عليه فهاهو ابن ناصر الدين الدمشقي على غير عقيدة ابن تيمة وهاهو ابن حجر والسيوطي وغيرهم ممن سبقه ولحقه على غير عقيدته، وهم من أئمة المسلمين الثقات فلا وجه للتشغيب بهذا النقد الظلوم فخلافهم في مسائل عقدية لا يعني أنهم ظلمة أو جهلة أو كذبة ، فكيف وهم الحفاظ الثقات.
الاعتراض الخامس: لو صحت النسبة إلى الذهبي فالرسالة ليس عليها اسم ولا نعرف لمن كتبها الذهبي، غير أننا نجزم أنها إن كانت له –وهو بعيد- فيستحيل أن تكون من طالب لأستاذه، وخاصة إذا كان الطالب هو الإمام الذهبي صاحب الأدب والخلق المعروف.
الجواب عن هذه الشبهة: أقول: إن الذي ذكر أنها من الحافظ الذهبي إلى شيخه هم أئمة حفاظ من أهل نقل السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولم يتهموا في دينهم وعدلهم ولله الحمد وأولهم ذكر لذلك تلميذه الحافظ العلائي رحمه الله ،فلا شك في نسبتها للذهبي والتشكيك في ذلك بهذه الشبهة ضعيف جداً .
أما استحالة كونها من تلميذ لأستاذه ؟فأقول يا أخي الكريم إذا كان الطالب يرد على شيخه في رسالة خاصة كما هو حال الذهبي ،وفي مسائل طارت شرقاً وغرباً وسببت الحيرة لبعض التلاميذ كأقوال الفلاسفة التي نشرها الإمام ابن تيمية رحمه الله فلا بد لطالب هو في الحقيقة عند علماء الأمة عالم كالإمام الذهبي من النصيحة بالأسلوب الأمثل ،ولعل الأمثل في نظره كان هو التغليظ حتى ينفره وينبهه مما وقع فيه ،ولو كان رضا ابن تيمية عند الذهبي مهماً فرضا الله أهم ،ثم من أين للكاتب أن الذهبي لم يناصحه أكثر من مرة حتى وصل إلى التغليظ كما في هذه الرسالة؟! .فالذهبي ليس مجرد تلميذ بل هو عالم سيسأل عن علمه والدين النصيحة ،وأحق الناس بها أحب الناس وأقربهم إلى الناصح.
وليس الأدب في السكوت عن المنكر بل الأدب هو الإنكار ولو كان على الشيخ أو الحبيب المقرب.
فالتلاميذ للعالم كالحاشية للسلطان فإن نصحوا وبينوا فهم أهل خير وصلاح ،وإن داهنوا وتزلفوا فهم السم الزعاف.
الاعتراض السادس: بعض المحققين رمى بها محمد بن علي بن السراج .
الجواب: أما هذه الفرية فلم أرى مثلها وهي باب للشر عظيم ، ومرتع للإفك جسيم فما أهون مراقبة الله في صدور هؤلاء؟وسأذكر شبهاته التي اعتمد عليها في هذا الإفك :حيث قال مانصه:[29]
1ـ يحتمل أن تكون من وضع أحد أعداء ابن تيمية ـ وما أكثرهم ـ وأن واضعها قلد خط الذهبي تقليداً محكماً ثم جعلها حيث يقع نظر العلائي عليها.
الجواب: أقول ما أعجب هذا الوهم والجهل الذي لو استجر الأمة إليه لشككنا في كثير من كتب العلماء بهذه الاحتمالات ولقلنا لعل كتاب كذا كتبه بعض أصدقاء الشيخ محبة له ولم يفصح عن اسمه طلباً لأجر إخفاء العمل ،ولعل العالم فلان ليس له ذلك الكتاب لأن لفلان من العلماء كتاب بنفس الأسم ،فلعل العلماء خفي عليهم ذلك على مر السنين فنسبوه إلى هذا ..ولعل ولعل.!!!وما اضعف هذه العلل التي نسجها خيال القونوي أصلحه الله .!!
2ـ ويحتمل أن الذي زورها قلد خط العلائي، وأوقف البرهان بن جماعة عليها.
الجواب: مثل سابقه فتأمل وكأنك تقرأ في قصص مؤامرات جهاز الموساد اليهودي لا في تحقيق علمي يقوم على الحجة والبرهان فإنا لله وإنا إليه راجعون .!
3ـ ويحتمل أن الخط المزور هو خط ابن جماعة، وأن الواهم هو ابن قاضي شهبة.
الجواب:أقول ما شاء الله تبارك الله ما أعظم هذا الاكتشاف وكأن تحقيقات العلماء وبيانهم لثبوت الرسالة عن الذهبي كما صرح به من قدمت أقوالهم آنفاً محض لهو وتسلية ،وكأن كلام العلائي في كونها للذهبي بخط يده نسج من الوهم ،وليست خيالات القونوي السابقة بأفضع من نسبته الرسالة الذهبية إلى الشيخ محمد بن السراج بخيال مسرحي عجيب لا ينطلي إلا على البلهاء لا على طلبة للعلم.وإليكم الأسرار التي تخرص بسببها الكاتب بنسبة الكتاب إلى محمد بن السراج فقال هذا الرجل ـ هداه الله ـ ما نصه :
( لعله ـ أي ابن السراج ـ كتب (رسالة ذهبية إلى ابن تيمية) على أن مراده من لفظ (الذهبية) الذهب المعروف، أي أنها في قيمة هذا المعدن الثمين فلما وقعت هذه الرسالة إلى الحافظ العلائي، حسب أن نسبة الذهب فيها إلى شيخه الحافظ الذهبي، وأداه المتبادر إلى الذهن، من هذه اللفظة إلى الذهول عن أن الخط ليس لشيخه، فاستنسخ منها لنفسه ثم تابعه من نسخها عنهُ.(
الجواب على هذه التخرصات:أقول :تخرص الكاتب ـ عفى الله عنه ـ بعدة تكهنات :
أولها : أن الرسالة ليست الذهبية نسبة للذهبي المؤلف لها بل نسبة للذهب.!!
وأقول ـ والله المستعان ـ : لقد فهم الكاتب ـ هداه الله ـ ما لم يفهمه علماء الأمة من مئات السنين بطريقة التخمين الذي قابل جزم الفحول من الحفاظ الذين نقلوها بنسبتها إليه فأسأل الله أن يهديه وينير عقله من غفلة الأوهام .
الثاني: قال الكاتب محمد القونوي: (ويمكن أن يكون الذهبي قد نسخها حين رآها بخط ابن السَّرَّاج، لمقصد عنده، كما يفعل المؤرخ المجمّع لمادته العلمية على أن يقول فيها رأيه بعد، ثم لم يتيسر له ذلك، وبقيت بخطه حتى عثر عليها العلائي.(
الجواب: وهذا تخرص أخر وتكهن جديد كسابقه وقد فهم منه الكاتب ما لم يفهمه الحافظ العلائي تلميذ الحافظ الذهبي . مع التنبه إلى اعترافه صراحة بكتابة الذهبي للرسالة وإنما هو يتخيل أن الإمام الذهبي كتبها لنقدها ثم تركها وليت شعري ما بال الذهبي لم يكتب لنا اسم هذا الناصح المجهول ولم يترك الناقد في هذه الحيرة؟.!!
فالله المستعان على ما تصفون من تكهنات ومجازفات بلا خطم ولا أزمة .
قال الكاتب: وعلى هذا فما كُتِبَ بأول الرسالة من قبل أحد النساخ ـ وأظنه الحافظ العلائي ـ من قوله: «رسالة نصيحة من الذهبي لابن تيمية عفا الله عنهما» هو من اجتهاده وفهمه، إذ رأى في صدر الرسالة ما رأى.
الجواب:اما ناسخها هو الحافظ العلائي ليس هناك شك في ذلك كما صرح بذلك وكما نقل عنه الحفاظ الثقات بعده .
ولذا أقول لعلك يا أخي هداك الله أسرفت في قرآة قصص المؤمرات السياسية ،أو كتب المخابرات العالمية حتى وصلت إلى هذه الا ستنتاجات العجيبة ـ غفر الله لك ـ .
أوردها سعد وسعد مشتمل : ماهكذا تورد يا سعد الإبل
تحامل القونوي على الشيخ ابن السراج وإقحامه في الرسالة :
بعد أن انتهى القونوي ـ غفر الله له ـ من المسرحية التشكيكية السابقة ولج مولجاً آخر حاول فيه أن ينسب الرسالة لأي عالم من مخالفي الإمام ابن تيمية ؛فما كان منه إلا أن رمى بها الشيخ محمد بن السراج الرفاعي ،وفي الحقيقة أن الأمر فظيع جداً ،فلم أرى أبعد من هذا الخيال المسرحي أي ـ عند طالب علم ـ واعذروني فإن الإنسان من لحم ودم وله عقل أكرمه الله به ،ويؤسفني أن أرى استخفاف بعض الناس بعقول طلبة العلم إلى هذه الدرجة، وكأن الذي يقرأ لهم غبي أو أحمق حتى تنطلي عليه تلك الظنون والتخرصات ،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الظن أكذب الحديث)).
وإليكم أدلة أو قرائن استند عليها الكاتب لرمي الشيخ محمد بن السراج بهذه الرسالة ليصل إلى أن الإمام ابن تيمية لم يغلط ،ولم يخطأ ،ولم يناصحه تلميذه المشفق عليه ،وأن من رد عليه فهو حاسد أو حاقد أو مبتدع ،ولتعرف يا طالب الحق إلى أين وصل حال الكاتب مع خطوات الشيطان ،ولم ينتهي إلا بعين الظلم هداه الله ، فقال ما نصه ـ ليستدل به على ما يريد ـ :(وتأمل معي هذا:
1ـ صداقة ابن السَّرَّاج القديمة مع مخالفته العميقة لأبي العباس بن تيمية في العقيدة والمنهج... إلخ.
الجواب: أقول : ليست هذه قرينة للظن فضلاً عن القطع أو حتى غلبة الظن بنزع كتاب من إمام ونسبته إلى إمام أخر وإلا فكم من عالم له صديق قد عاداه ،ولا يعني ذلك نزع الكتب ممن ردوا عليه ونُسبت إليهم صراحة ثم رمي الآخرين بها.
2ـ قال الكاتب: شخصية ابن السَّرَّاج المتعصبة للرفاعيّة، الراغبة في منازلة ابن تيمية والغلبة عليه، أو كفّه عن الصوفية والفقراء.
الجواب : أكثر العلماء في عصر ابن تيمية ردوا عليه وبينوا له ونازلوه ولا يعني ذلك اتهامهم في نياتهم ،فكيف إذا اجتمع أثم اتهامهم في نياتهم وتسجيل أعمال غيرهم عليهم بمحض الظنون والتخرصات ،ثم سرقت جهد إمام كالذهبي ونسبته للشيخ محمد بن السراج الرفاعي فهل بعد هذا من تجاوزات ومجازفات ؟.!
3ـ مشابهة معاني «النصيحة» لمعاني كلماته التي نقلتها لك.
الجواب: أقول أولاً: ليست معاني النصيحة وأسلوب كتابتها بأشبه بكلام ابن السراج من كلام الذهبي بل هي ألصق بطريقة الإمام الذهبي وأسلوبه وعرضه ولذا قال الشيخ الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد الذي ألحق «النصيحة» بكتابه: (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) ثم إن هذا هو أسلوب الذهبي عندما يُهاجم، ويبدو أنه كتبها في آخر عمره. ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه، لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حباً له، وإشفاقاً عليه». انتهى كلام الدكتورصلاح الدين المنجد وفقه الله .
مقارنة
وقارن أخي طالب الحق بين أسلوب الذهبي في رسالة النصيحة الذهبية وأسلوبه السجعي في كثير من كتاباته كما في كتاب تشبيه الخسيس بأهل الخميس حيث قال في رسالة تشبيه الخسيس : فبئس المربي أنت!! ولكن كذا تربيت! يا أخي ما أقواك إن خالفت هواك! وما أغواك إن وافقت هواك! ولا يعني التوبيخ سواك، ما أسقمك وأنت لا تشرب دواك!ما أكرمك إن كانت الجنان مأواك! ما أفظع ديناً صاغ شرعهُ العامة والرهبان! ما أرقع جاهلًا يدرا عن داره السحر بصلبان القطران! ما أشدَّ خذلان من مكَّن من القمار الصبيان! ما أشنع رائحة اللاذن والأظفار وحصا اللبان! إلى أين تذهبين يا عجوز السوء؟ إلى القبور؟؟إلى كم تضرب نواقيسُ النُحاس، ويتلى عليها كلمات الباطل والفجور؟ذلك وَمن يعظمُ حُرُمات الخميس الحقير لا الكبير فإنها من أعظم الشُّرور. أنتهى [30]فتأمل ثم قارن ذلك بما جاء في النصيحة الذهبية حيث يقول الذهبي: واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر، وصمت بتفكر، واهًا لمجلس يُذكرُ فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يُذكرون بالازدراء واللعنة.أنتهى فقارن وتأمل هذا السجع الذي يجحده القونوي ـ غفر الله لنا وله ـ.
ثانياً: أن نسبة الكتاب إلى الإمام الذهبي نسبة صريحة ببراهين جلية ،أقل ما فيها غلبة الظن فكيف تعارض باستنتاجات توهمية ،وأراء تعسفية فنترك كلام الحفاظ الثقات لنتعلق بأوهام وخزعبلات .مع القرائن مؤكدة على أن الرسالة للذهبي من جهة الأسلوب ،والقرب من شيخه حيث يقول في النصيحة : فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحبُّ الواد، فكيف يكون حالك عند أعدائك.انتهى ،فتأمل .وابن السراج مجافي له فأين حال الود والمحبة من حال التجافي ؟!!
وأقول أيضاً لا أدري كيف استساغ القونوي نزع الرسالة من الذهبي ثم يجعلها لابن السراج تحديداً دون كل من ناصحوا الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ فما بقي إلا أن الأمر كله تخرصات غريبة لا مبرر لها ،وهي تدحض نفسها بنفسها عند من له أدنى مسكة عقل .
نقد حواشي القونوي على رسالة الإمام الذهبي:
انتقد محمد القونوي ـ هداه الله ـ كلام صاحب الرسالة وأتى بتعليقات على كثير من كلماتها القليلة وأغرب ما رأيته قوله :تعليقاً على قول الإمام الذهبي : (الحمد لله على ذلتي)
فقال القونوي في الحاشية ما نصه:(لايقول إمام كالذهبي هذه الكلمة وقد سمع ووعى قول الله تعالى :{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه )) أما الصوفي ابن السراج ،المتأثر بكلام الملامية فإنها كلمة تعبر عن بعض مذهبه) .انتهى كلام القونوي بحروفه .
الجواب: أقول : لا أدري هل هذا الرجل ـ هداه الله ـ لا يقرأ القرآن ،أم يقرأه بلا تدبر ،أم أن التعصب أعماه إلى هذه الدرجة ألم يقرأ قول الله تعالى {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }المائدة : 54 فالإمام الذهبي رحمه الله تعالى قد سمع ووعى كتاب الله وليس الكلام للملامية بل هو كلام الله تعالى كما في الآية السابقة لكن الشيطان أعمى عينيك وبصيرتك حتى تجرأت على التنظير والاستدلال وتحريف المعاني الشرعية الواضحة التي يعرفها صغار طلبة العلم قبل غيرهم ،فالمؤمن ذليل لله تعالى ذلة مطلقة ،وذليل لأخيه ذلة الرحمة كما قال تعالى {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}
قال الذهبي:واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى ،وكنوز الخيرات، آه على وجود درهم حلال، وأخ مؤنس
تعليق القونوي:( قال هذه كلمات من أمضَّه البعد عن دمشق ـ بلده ـ وعاش أكثر من أربعين سنة نائياً عنها، وتسامع بهُلك أمثاله في دمشق، ومدن الشام وغيرها، من صوفية وقلندرية ذكرهم في (التشويق) و(التفاح)، وإلا فهذا التحسُّر لا يصدر من إمام في السنة، كالذهبي يعيش في بلد فيه ابن تيمية والمزي وابن القيم وأمثالهم.)
الجواب:أما اتهامه لابن السراج فهو محض ظنون قد سبق بيانها ،وموعدهم عند الله عزوجل.
وأما قوله: وإلا فهذا التحسُّر لا يصدر من إمام في السنة، كالذهبي يعيش في بلد فيه ابن تيمية والمزي وابن القيم وأمثالهم.
فأقول :أولاً: أن الإمام الذهبي قد رأى وعايش مالم ترى فهو أعرف منا بحال شيخه وقرينه .
وأما التلوم فتأمل في كلامه السابق في رسالة زغل العلم وقارن : حيث قال الذهبي لطالب الحديث :ويحك ما أطول أملك وأسوأ عملك.معذور سفيان الثوري إذ يقول فيما رواه أحمد بن يوسف التغلبي ثنا خالد بن خداش ثنا حماد بن زيد قال قال سفيان الثوري رحمه الله: لو كان الحديث خيرا لذهب كما ذهب الخير.صدق والله وأي خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه! وأنت لا تفليه ولا تبحث عن ناقليه ولا تدين الله به أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدث الطلب والسماع مقصود الحديث من التدين به بل فائدة السماع ليروي فهذا والله لغير الله. خطابي معك يا محدث لا مع من يسمع ولا يعقل ولا يحافظ على الصلوات ولا يجتنب الفواحش ولا قرش الحشائش ولا يحسن أن يصدق فيها.فيا هذا لا تكن محروما ًمثلي فأنا نحس أبغض المناحيس !!!انتهى كلامه . فتذكر .مع أن لوم النفس وتأنيبها هو حال علماء السنة الزهاد
وتأمل في هذا النقل:فقد جاء في كتاب كشف الكربة لابن رجب (ص8) ما نصه:ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول : إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا ، يُحب التعظيم والرئاسة ، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس ، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها ؟ وسائر ذلك من الرعاع ، همج عوج وذئاب مختلسة ، وسباع ضارية وثعالب ضوار ، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة . خرجه أبو نعيم في " الحلية " .
فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله ؟. انتهى من رسالة ابن رجب.وهذا هو سر النصيحة الذهبية وكتاب زغل العلم فتفهم أخي وادع الله أن يحفظنا بحفظه وأن يبصرنا بعيبونا ويرزقنا اجتنابها.
ثانياً: أن ذم المؤمن لنفسه وتحقيرها هو ديدن المؤمن المعاتب لنفسه على أخطاءها وتفريطها وإليك بعض النقول في ذلك: قال خالد بن معدان : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أحقر حاقر.
وقال يونس بن عبيد : إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ، ما أعلم أن في نفسي منها واحدة .
وقال بكر بن عبد الله المزني : لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفر لهم ، لولا أنني كنت فيهم .وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نفسي ، مرة لي ومرة علي.
قال الإمام الذهبي: لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا
فقال القونوي:هذا ما يراه غلاة الصوفية والأشاعرة في جهاد شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته الإصلاحية يرون علماً جماً، وتحقيقاً نادراً، وعبقرية فيتهمونه بمدح نفسه، ويرونه محذراً من بدع المبتدعة، وخطأ العلماء فيعدونه متتبعاً لعورات الناس، وإنما هي النصيحة للمسلمين. ثم إن إماماً للجرح والتعديل كالذهبي لا يفهم فهم ابن السَّرَّاج من هذا الحديث الذي ساقه.
الجواب: أقول أولاً: الكلام له سياق وسباق وليس الذهبي مما ينتقد بهذا النقد في علم الجرح والتعديل وإن كان له أخطاء فقد بينها العلماء ،لكنك تبتر الكلام يا أخي فكلام الإمام الذهبي هذا تمامه بسياقه وسباقه حيث قال: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتَبًّا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"، بلى أعرفُ إنك تقول لي لتنصُرَ نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد، بلى والله عرفوا خيرًا مما إذا عمل به العبد فقد فاز، وجهلوا شيئًا كثيرًا مما لا يعنيهم و: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).انتهى فكلام الذهبي عن الجور والتطاول لا عن الجرح والتعديل الواجب شرعاً وهو في نصيحته يناصح إماماً قد زاد عن حد الجرح الشرعي إلى ظلم وبغي لا يسلم منه البشر عادة ،فهو ينتقد أمراً شاهده وعايشه ،وأنت تتكلم عن جزء مما عرفت في بعض كتب وضعت أمام عينيك .وكم لابن تيمية من كتب مطبوعة لم تطلع عليها ،وكتب مخطوطة لم ترى النور ،وكتب مفقودة إلى يومنا هذا فأي معرفة تدعي أنك تعرفها عن ابن تيمية حتى تغلّط علماء عصره وأهل مصره من خصومه ومحبيه وما منهم إلا مدحه في مواطن ونقده في مواطن ؟!
ثانياً: قارن بين كلامه هذا وقوله في زغل العلم وهو يتكلم عن شيخه ابن تيمية فقال ما نصه: وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم ،وازدروا به، وكذبوه ،وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة. والازدراء بالكبار فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور نسأل الله تعالى المسامحة. انتهى.فتأمل.
قال الإمام الذهبي كما في النقل السابق ما نصه : إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد
فعلق القونوي قائلاً: لا يمكن أن يصف شيخ الإسلام، العلماء بالشريعة، الذين خالفهم، بأنهم ما شَمُّوا رائحة الإسلام، ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما قصده بذاك الوصف الوجودية وأضراب القلندرية، الذين سُلط عليهم كما قال الصفدي، وهو الأمر الذي أغاظ ابن السَّرَّاج كما ترى.
الجواب: أظن الكاتب لم يقرأ كتب الإمام ابن تيمية كلها أو يتغافل عما فيها وإلا لما قال ماقال :وإليك بعض كلامه لتعرف تشدده على من خالفه :قال رحمه الله تعالى : وهويصف نقاشاً له مع بعض الفقهاء في مجلس أمير دمشق: قلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي، وهو أول اختلاف حدث في الملة.. فقال الشيخ الكبير: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام... قال الإمام ابن تيمية فغضبت عليه وقلت: أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع، وقلت له:لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب! (العقود الدرية في مناقب ابن تيمية: 235)فهذا هو حال الشيخ مع علماء الأمة : " أخطأت، هذا كذب، لا أدب، لا فضيلة، لا تأدبت، لا أصبت " كلها في جملة واحدة !. أفلا تريد الذهبي أن يناصحه ؟!! وقال ابن تيمية في مج الفتاوي ج8 ص 228مانصه :-فالمعتزلة فى الصفات مخانيث الجهمية و أما الكلابية في الصفات و كذلك الأشعرية و لكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصارى الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة و من الناس من يقول المعتزلة مخانيث الفلاسفة.
.و قال ابن تيمية : وهذا موجود في كلام متقدمي الجهمية ومتأخريهم ، مثل أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي الجهمي الجبري وإن كان قد يخرج إلى حقيقة الشرك وعبادة الأوثان في بعض الأوقات وصنـف في ذلك كتابه المعروف في السحر وعبادة الأوثان .!!مج الفتاوى 16/213إذا كان هذا رأي ابن تيمية في إمام المسلمين الرازي فماذا تتصور ؟!!
فتأمل ياصاحب العقل وقل لي أي عالم يتحمل هذا الكلام الذي لا يقوله إنسان إلا و يحتاج للنصيحة والساكت عن مناصحته شيطان أخرس، والناطق بتأييده شيطان ناطق ،ولذا قال الذهبي في شأن هؤلاء: فهل معظم أتباعك إلا قعيدٌ مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل.انتهى ولا شك أن الذهبي قد وصفهم بما رأى .
وأنا أتكلم عن نص صريح أظهره الذهبي في رسالته ولا جواب له إلا بأحد احتمالين :إما أنه موجود في بعض كتب ابن تيمية وقد نقلت لك بعضاً من ذلك .
وإما أن يكون الحافظ الذهبي قد سمعه من شيخه .فلا مجال للقول بأن الإمام ابن تيمية لا يكفر العلماء الذين خالفهم أو بعضهم على أقل تقدير .فنفي ذلك بعد كلام الذهبي لا يستقيم أبداً .
قال الإمام الذهبي: يا رجل بالله عليك كفَّ عنَّا فإنك مِحجاجٌ عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام
فعلق القونوي قائلاً: هنا طلبٌ من ابن السَّرَّاج إلى صديق قديم هو ابن تيمية، يناشده الكف عن جهاد الرفاعية البطائحية، الذين ينتسب إليهم ابن السَّرَّاج، وعن بقية الفقراء القلندرية. ولا مناسبة قطعاً بين هذا الكلام وبين الذهبي، فأي شيء كان ابن تيمية يفعله لم يرق الذهبي حتى يناشده الكف عنه؟ ثم إن الذهبي لا يسفل مهما خالف ابن تيمية فيصفه بأنه عليم اللسان.
الجواب: أما مسرحية ابن السراج فقد سبق بيان زيفها .
أما قوله: (ولا مناسبة قطعاً بين هذا الكلام وبين الذهبي، فأي شيء كان ابن تيمية يفعله لم يرق الذهبي حتى يناشده الكف عنه؟ ثم إن الذهبي لا يسفل مهما خالف ابن تيمية فيصفه بأنه عليم اللسان(.
أقول: ليس في كلام الذهبي سفالة ولله الحمد حتى تقول أن لا يسفل فيصفه بعليم اللسان ولكن هناك أشياء أخذها الذهبي على شيخه ، يدل على ذلك النقدات السابقة في رسالة زغل العلم وكذا كلامه كما في تاريخ الإسلام والسير حيث بين أنه مخالف له في أخطاء أصلية وفرعية. فهل تقول أن الصدق في النصيح يعتبر من سفالات الذهبي ؟!!
قال الذهبي في رسالة العلم : فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور نسأل الله تعالى المسامحة.
فهل تعتبر كلامه سفالة لأنه نصح لشيخه ؟!!
قال الذهبي : وكثرة الكلام بغير دليل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة.
فقال القونوي :قد تعجب لإيراده اليونسية، هنا وهم من أصحابه القلندرية، ولكن يذهب عنك ذلك العجب إن عرفت أنه يرى أن هناك دخلاء على الفقراء، ومتشبهين بهم، وقد صرح بوجودهم في اليونسية، وأنهم «كالجن والشياطين، فقد يخلط التبن والتبر، ويشترك الباع والشبر، ويتشبه الجني بالملك، ومن تعدى بغير عدة فقد هلك» انظر (التفاح) الورقة 102.
الجواب: بل أعجب كيف تحاول التعامي عن صريح القرائن والأدلة الدالة على أن الرسالة للذهبي كما هو ثابت ، لا للشيخ ابن السراج ،والذهبي لم يأت فيها بجديد بل هو يشنع على شيخه لكثرت جداله لليونسية ،وللفلاسفة حتى وقع في أحد أمرين : إما بلع فلسفة الفلاسفة وهذا واضح في بعض كتاباته ،أو الظلم في الرد على مخالفه وإن كام مخالفه مبتدعاً فإن الرد على الباطل يكون بشرط العلم مع العدل.وهو مشابه تماماً لقوله في رسالة زغل العلم : فقد كان ـ أي ابن تيمية ـ قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوراً مضيئاً على محياه سيما السلف ثم صار مظلماً مكسوفاً عليه قتمة عند خلائق من الناس....إلخ ما قال فانظره في الرسالة الأولى.
وهو كقوله أيضاً في تلك الرسالة : وعلى كل تقدير احذر المراء في البحث وإن كنت محقا ً،ولا تنازع في مسألة لا تعتقدها ،واحذر التكبر والعجب بعملك.انتهى فتأمل ودع المجازفات .
قال الإمام الذهبي: بالله خلُّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها رأسًا من الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفّر فهو أكفر من فرعون
فقال القونوي معلقاً: أنى يكون الذهبي قائل هذا؟ وهو الذي ألَّف كتاب (تشبيه الخسيس بأهل الخميس) وحذَّر من بدع النصارى فيه.
الجواب: أقول المنكر يجب إنكاره والذهبي رحمه الله تعالى لم يترك إنكار بدعة الخميس من باب قوله تعالى (وذكر إن نفعت الذكرى )) لكن الإمام الذهبي إنما أنكر التكاسل عن ذكر وبيان البدع الكفرية مقارنة بكثرة التشاغل عن مادونها من البدع العملية كبدعة الخميس التي كانوا يتشبهون بالنصارى فيها بالفرحة والاحتفال فيخبزون الخبز ويبخرون البخور وغير ذلك من خرافاتهم ،وقد رد الإمام الذهبي ولم يسكت ولكنها لا تقارن بالبدع الكفرية التي كان يراها في زمنه .فليس إنكار الذهبي على من ينكر بدعة الخميس وإنما الإنكار على من يتشاغل بها وبكثرة ذكرها عن ما هو أعظم منها فإن لكل شيء قدرا، ومثال ذلك في زماننا تشاغل الناس بإنكار المكروهات والصغائر وإقلالهم من ذكر الكبائر هذا إذا لم يسكتوا عنها مطلقاً . فكل عاقل سيقول خلونا من التلهي بصغائر الأمور عن عظائمها .
وكذلك كثرة الجدل بعد البيان يعد من المراء المذموم ولذا قال رحمه الله (وعلى كل تقدير احذر المراء في البحث وإن كنت محقاً ) انتهى .وهو من جنس ما جاء في الحديث ((أنا زعيم بيت بربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)
تنبيه أخير: وقد أكثرالكاتب من التقول على ابن السراج هذا وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} سورة المائدة- 8. قال الإمام ابن كثير: "(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) الآية، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال". انتهى .
وقال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) سورة النحل- 90. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب".
وأسأل الله أن يهدي كل ضال وأن يغفر لنا جميعاً ،وأنصح طلبة العلم بالهدوء وترك المجازفات وأنصحهم ونفسي بطلب العلم الذي يقود للتقوى لا علم يقود إلى الفجور في الخصومة ،ولا للكذب في النقول والتزوير ولا طلب الدنيا الرخصية بسفاسف الحظوظ من مدح وإطراء وشهرة، ومال . فإعطاء الأمر أكبر من قدره شطط وغلو ولذا فلن أزيد أكثر مما قلت وأترككم مع نصيحة الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بعد أن بينت الحق بما استطعت فإن أصبت فهو المؤمل والفضل لله وحده وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفر الله من كل ذنب وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
والله أعلى وأعلم
إليكم نص النصيحة الذهبية
وجد العلماء بخط الإمام ابن قاضي شهبة المتوفى سنة (851) في دار الكتب المصرية مخطوط برقم (18823ب)
ومنها نسخة بدار الكتب الظاهرية ورقمها (1347) ما نصه :رسالة كتب بها الشيخ شمس الدين أبو عبدالله الذهبي إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية ،كتبها من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه الله ،وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد العلائي ،وهو كتبها من خط مرسلها الشيخ شمس الدين ـ الذهبي ـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ذلتي[31]، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ عليَّ إيماني، واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى ،وكنوز الخيرات، آه على وجود درهم حلال، وأخ مؤنس.[32][33]
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتَبًّا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟[34] إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"، بلى أعرفُ إنك تقول لي لتنصُرَ نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد، بلى والله عرفوا خيرًا مما إذا عمل به العبد فقد فاز، وجهلوا شيئًا كثيرًا مما لا يعنيهم و: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".[35]
يا رجل بالله عليك كفَّ عنَّا فإنك مِحجاجٌ عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام، إياكم والأغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"، وكثرة الكلام بغير دليل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب؟ والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبشُ دقائق الكفريات الفلسفية لنردَّ عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعتَ سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يُدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن.[36] واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر، وصمت بتفكر، واهًا لمجلس يُذكرُ فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يُذكرون بالازدراء واللعنة، كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخَيتَهما، بالله خلُّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها رأسًا من الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفّر فهو أكفر من فرعون، وتعد النصارى مثلنا، والله في القلوب شكوك إن سَلِمَ لكَ إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد.
يا خيبة من اتبعك فإنه مُعَرَّضٌ للزندقة والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليًّا شهوانيًّا لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلا قعيدٌ مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل.
يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم تصدقها وتزدري بالأبرار، إلى كم تعظمها وتصغر العباد، إلى متى تُخاللها وتمقت الزهاد، إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها والله أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تُغيرُ عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار.
أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب، أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى والله ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تُصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول لكَ: والبتة سكتت.[37]
فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحبُّ الواد،[38] فكيف يكون حالك عند أعدائك، وأعداؤك والله فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.
قد رضيتُ منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرًّا :"رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي"، فإني كثير العيوب غزير الذنوب، الويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علاّم الغيوب، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. انته
الخاتمة
أسأل الله عزوجل أن ينفع بهذه الرسائل وأن يجعل فيها شفاء لمن أراد الدواء ، وأن يغفر للإمام تقي الدين بن تيمية والإمام الذهبي والأخ القونوي وسائر من طلب العلم لوجه الله ،وأن يجعلنا من أهل العلم العاملين به في أنفسهم ،وممن يبذلوه لغيرهم وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق الذي يرضيه ،وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين وصل وبارك على سيدنا محمد أشرف الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه .
كتبه :غيث بن عبدالله الغالبي
[1] الأصل في العلماء رحمهم الله تعالى أنهم مشاعل الهدى ومصابيح الدجى وإنما أراد رحمه الله تعالى بيان مايشذ عن الأصل ليجتنب وهذا هدفه من هذه الرسالة .
[2] أما عوام الطلبة في عصرنا فضلاً عن غيرهم فيحرفون معاني القرآن ،وفوق ذلك يفتيهم البعض بأن لهم أجرالقراءة وأجر التعتعة ،فأنزل حديث ومن يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق ...الحديث ،أقول :أنزله بفهمه على هؤلاء المحرفة الذين أحالوا معاني القرآن حتى أن بعضهم يسب الأنبياء والرسل ويقال له واصل في هذا العبث فإن لك أجر مضاعف لأن نيتك حسنة وأنت تتعتع !!واستمع لبعضهم وهويقرأ قول الله تعالى ((فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ)) وهم الكفار فيجعلها المُنذِرِينَ ، والمُنذِرِينَ بالخفض هم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ثم يقال له بعد هذا التحريف الخطير لك أجر ،وخصوصاً مع توفر حلق تعليم القرآن فالله المستعان . قال صاحب عون المعبود :عند تعليقه على الحديث رقم (1242) مانصه:(والذي يقرؤه وهو يشتد عليه فله أجران ) فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران أجر بالقراءة وأجر لتشدده وتردده . في تلاوته .قال القاضي وغيره من العلماء وليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به ، بل الماهر أفضل . أكثر أجرا لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة ، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره ، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودرايته كاعتنائه حتى مهر فيه . انتهى . والحاصل أن المضاعفة للماهر لا تحصى فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وأكثر ، والأجر شيء مقدر ، وهذا له أجران من تلك المضاعفات والله أعلم انتهى كلامه. وقال الإمام ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم – [الماهر بالقرآن مع الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم ] ما نصه:عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الذى يقرأ القرآن وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن وهو يشتد عليه فله أجران » .
وتأويل قوله: « أجران » والله أعلم تفسيره حديث ابن مسعود: « من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فيضاعف الأجر لمن يشتد عليه حفظ القرآن فيعطى بكل حرف عشرون حسنة، ولأجر الماهر أضعاف هذا إلى ما لا يعلم مقداره؛ لأنه مساو للسفرة الكرام البررة، وهم الملائكة » وفى هذا تفضيل الملائكة على بنى آدم، وقد تقدم.أنتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) وفي الرواية الأخرى : ( وهو يشتد عليه له أجران ) . السفرة جميع سافر ككاتب وكتبة ، والسافر : الرسول ........... . وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران : أجر بالقراءة ، وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته . قال القاضي وغيره من العلماء : وليس معناه الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به ، بل الماهر أفضل وأكثر أجرا ؛ لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة ، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره ، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه والله أعلم .انتهى. وقال الإمام المناوي في فيض القدير عند شرحه للحديث رقم (9165)ما نصه : (والذي يقرؤه ويتعتع) أي يتوقف في تلاوته والتعتعة في الكلام التردد فيه لحصر أو عي أو ضعف حفظ. انتهى . فحصر التعتة التي يعذر صاحبها ويؤجر في من هو محصور عن الكلام، أو في لسانه عي ،أو يتعتع لضعف حفظه . وتنبه أنهم لا يحرفون معناه عند التلاوة بل يبذلون غاية جهدهم حتى يخرجوه أو يتذكروه فيخرج المعنى خروجاً صحيحاً غير محرف . فها أنت ياطالب العلم ترى بيان العلماء رحمهم الله تعالى وفهمهم لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبه تعلم خطأ من أجاز للعوام القراءة وهم يحرفون القرآن ويحيلون معانيه . فتدبر ولا تقلد في الخطأ وفقك الله وتذكر أنني لا أقصد اللحن الخفي ولكن أردت اللحن الذي يحيل المعنى فهذا صاحبه يجب عليه تعلم القرآن على من يعلمه ،ولا يجوز له قراءة ما لايحسنه . ووقوع العوام في هذا الزلل هو نتيجة إفتاء بعض الشيوخ فاتقوا الله يا أهل العلم ولا تتبعوا المشايخ في زلاتهم .
[3] أراد الإمام الذهبي رحمه الله التحذير من علم بلا عمل ومن تنطع بعض القراء وعجبهم بعلمهم مع أنه قليل ،فكيف إذا لم يعمل به ؟!
والحال الصحيح أن يتنافسوا في الخير ويتسابقوا إلى هذا العلم الشريف تعلماً وتعليماً بقصد طلب الثواب من الله والقيام بالفرض الكفائي من التعليم ،وكذا القيام بالفرض العيني من التعلم فإن مدار صحة الصلاة في القراءة على القراءة الصحيحة السالمة من التحريف واللحن الجلي ولا يمكن ذلك إلا بعلماء يقومون به . وإذا حسنت النية في كل ذلك فهذا هو المطلوب. وما أعظم تحبير القرآن وترتيله فبذلك ترق القلوب وتذرف العيون ،ويستفيد السامعون ،وكم من مسلم قاسي القلب أنشرح صدره للحق بفضل الله عليه بقارىء ندي الصوت حسن القراءة كأنما أعطي مزمار من مزامير آل داود.
[4] للإمام البيهقي ـ رحمه الله تعالى ـ مؤلفات نافعة كسنن البيهقي ،والاعتقاد والهداية ،والأسماء والصفات ، وحياة الأنبياء وغيرها من كتبه النافعة رحمه الله تعالى .
[5] هذا الكلام حقيق بأهل الفلسفة الكفرية المخرجة من دين الإسلام.
[6] يقصد بالمعصوم الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن معصوم وهو جبريل عليه السلام عن من عصمهم وهو الله جل جلاله.
[7] تكلم كثير من العلماء في العقائد من أهل السنة والجماعة كالأئمة الأربعة والطحاوي ،ولإمام الأشعري والباقلاني والجويني وغيرهم ممن ذب عن العقيدة ورد كيد الفلاسفة والمعتزلة . ويسمون علم العقيدة بعلم الكلام ولم يرد تسمية العقيدة بهذا الأسم في الكتاب والسنة ولكنه مصطلح فيجوز أن تسميه علم العقيدة أو الكلام أو الفقه الأكبر وإنما العبرة بالحقائق فإن كانت صحيحة فهي مطلوبة ،وإن كانت باطلة فهي مردودة ،والمؤلف هنا يصفهم بأنهم خير ممن في زمانه وأعلم بعلم الحديث فكيف لورأى زماننا ؟!!.
[8] في زماننا أراقوا الدماء بلا قضاء بل بفتاوي رؤوس ضلالة أفتوى بغير علم فضلوا وأضلوا .فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[9] لا شك أن غير المجتهد لابد أن يقلد المجتهد ،وفي باب القضاء يتعين التزام مذهب من المذاهب لكيلا يكون القضاء بالأهواء والمحاباة فيشدد على أناس ويتساهل مع آخرين . فإذا كان القضاء على الناس سواء فإنه يحقق العدل والمساواة بخلاف التنقل بين المذاهب فإنه باب شر عظيم للتزلف والمداهنة والظلم ،فهذا سبب التزام مذهب في القضاء ، ولما ترك بعض قضاة عصرنا التزام المذهب تسلط علينا العلمانية وغيرهم وطعنوا في الشريعة بزعم تنافضها في الأحكام ،وأتوا بقصص أثبتوها في اختلاف الحكم في قضية واحدة ،رغم أن الخطأ ليس في الشرع معاذ الله وإنما في التفلت من تقليد أئمة الاجتهاد وإعجاب بعضهم برأيه واجتهاده فاختلف تنزيل ألأحكام على الجناة وشاع الظلم بين الأنام .
أما بالنسبة لحكم قضاة المالكية بالتكفير وإراقة الدماء فإنه لا يكون إلا بعد الاستتابة ولذا فلا تسرع في الأحكام كما يقول الإمام الذهبي إلا إذا أصر المذنب واستتابوه ولم يتب .ولعله يعني تشددهم ضد المجسمة والمشبهة .فأقول: حتى على هذا الافتراض فإنهم يستتيبونه من بدعته فإن تاب وإلا قتل كما فعل خالد القسري بالجعد بن درهم. فهذه بعض حججهم بين يدي الله حفظاً لدين الله.
[10] نعم هذا إذا كان الدم دماً حراماً، أما القصاص والتعزير فمشروع وليس بحرام ،لكن مع اجتناب الظلم ،ومع تطبيق الحكم بشروطه ومنها الاستتابة ،مع خلافهم في استتابة الزنديق.
[11] كلام الإمام الذهبي هنا فيه شيء من التعميم فإن فقهاء الحنفية وإن كانوا يرون أن الطمأنينة ليست بركن في الصلاة إلا أن هذا لا يعني أنهم ينقرون الصلاة ! لأن هذا ليس شأن العلماء بل هو شأن المتهاونين من العوام أو الفساق ،وأما عملهم بخلاف الأحاديث فليس بصحيح إنما قد يصح الحديث عند إمام من الأئمة ويضعف عند أخر ،وقد يكون غيره أصح منه عندهم ،وقد يكون الترجيح عندهم بالأفقه من الرواة لأنه أدرى بفهم معنى ، الحديث وانظر كلام إمام من أئمة الحنفية وهو الإمام الطحاوي وهو رأس من رؤوس أهل السنة والجماعة في كتابه الحافل شرح مشكل الآثار لتعرف أقوالهم وغزارة مذهبهم رحمهم الله تعالى .وللشيخ البرزنجي العراقي رحمه الله كتاب بعنوان التعارض والترجيح عند الأصوليين هو والله نافع في بابه فليراجع للنفع والفائدة وفهم أقوال المذاهب من أصولها .
[12] أي المنصب في المدارس فكيف بمن همه من العلم مجرد الشهادة التي يفني عمره فيها في مبحث قد فرغ منه من أعوام مديدة ثم يصدق بأنه عالم .
[13] شاع التحامل ضد المذهبية في عصرنا ،مع أن التمذهب حق والتعصب باطل ،والتعصب هو ما يقود إلى التشاحن والظلم والتدابر ،ولا صحة لتفسير التعصب بالتزام مذهب معين سواء قيل بوجوب ذلك أو بجوازه أو استحبابه . لأن المذاهب ثمرات فهم العلماء للكتاب والسنة فمن قال بالتزامها كما عليه جمهور العلماء فذلك لأن العبد مطالب باتباع أهل العلم لأنهم ورثة الأنبياء ولا يتسنى ذلك إلا بالمذاهب الفقهية.
[14] قد ينازع المرء في مسائل لا يعتقدها ولكن ليبين معناها عند أصحابها ،أو ليبين أنها اجتهادية لا قطعية وذلك لإيضاح أسباب نزاع قائم وتقريب وجهات النظر ووضع النقاط على الحروف بلا تعصبات ،أو نحو ذلك من المقاصد والأعمال الحسنة .
[15] الإمام الذهبي أثنى على الإمام ابن تيمية في تاريخ الإسلام وفي السير ،ولكن قد ذكر أنه يخالفه في مسائل عقدية وفرعية ،وفي كتابه هذا أظهر خلاصة تجربته مع شيخه فبين سبب الأمور التي وقعت لشيخه الإمام ابن تيمية ولم يكن هذا الحكم والقرار إلا بعد تفتش وعناء بل كان بعد مناصحات يتجلى ذلك في قول الذهبي: وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة . ولا شك أن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى لديه أغلاط في مسائل عقدية وفقهية بينّها العلماء رحمهم الله تعالى وقد وقف منه الناس على أصناف ثلاثة :
صنف يتعامل مع كلامه كأنه رجل معصوم فلا يقبل أن يتصور مجرد تصور أن الإمام ابن تيمية يخطىء ،فلسان حالهم تعصيمه من الإنحراف والخطأ وهذا انحراف عن الجادة بلا ريب . وصنف من الناس تحاملوا عليه وتعصبوا فلا يقبلوا منه أي مسألة وإن وافقت الحق وهذا جفاء . وصنف قبل منه الحق الذي وافق فيه علماء الأمة ونبذوا الباطل الذي أتى به ،وردوا عليه بعدل وعلم ،فكانوا على طريقة أهل الحق وسطاً بين طريقة أهل الغلو وأهل الجفاء .
[16] لا شك أن جمهور الحنابلة على الحق الذي عليه جمهور العلماء وأن التشبيه وقع من بعضهم فالتجسيم والتشبيه لا يعمم على سائر الحنابلة كما يفعل بعض المتعصبين ضدهم .
[17] فكيف لورأى زماننا ؟!
[18] أحمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي الإمام فخر الدين الرازي القرشي البكري. من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الشافعي المفسر المتكلم. ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وأشتغل على والده، وكان،من تلامذة محيي السنة البغوي.
قال ابن خلكان فيه: فريد عصره، ونسيج وحده، شهرته تغني عن إستقصاء فضائله، وتصانيفه في علم الكلام والمعقولات سائرة، وله " التفسير الكبير" و" المحصول " في أصول الفقه، و"شرح الأسماء الحسنى" و" شرح المفصل " للزمخشري، و" شرح وجيز الغزالي " و " شرح سقط الزند" لأبي العلاء )المعري ( وله "إعجاز القرآن "، و"مناقب الشافعي " وغير ذلك
[19] لاحظ أن الكلام هنا هو عن تفسير الإمام الرازي رحمه الله تعالى فهذا التفسير موسوعة عظيمة حوى درر من شتى العلوم كما أنه يذكر الحكم الشرعي في آيات الأحكام .والنقاش العقدي في مسائل العقيدة حتى يتم البحث في غاية الروعة والبيان . واهتمام الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره؛ فهو يهتم غاية الاهتمام بذكر المناسبات بين الآيات القرآنية بعضها مع بعض، وكذلك يهتم بذكر مناسبات السور بعضها مع بعض . ويناقش مسائل اللغة من جهة الإعراب والبلاغة وغيرها .
- والذي يظهر لقارئ هذا التفسير - فوق ما تقدم - أن مؤلِّفه - رحمه الله - كان مولعاً بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، إضافة إلى توسُّعه في ذكر مسائل الكون والطبيعة. فهو درة من درر التفسير وقد خدم في هذا الزمن وأعجز الباحثين عن استيفاء مباحثه وهناك رسائل جامعية تناولت الجانب اللغوي في تفسير الإمام الرازي:
-فمنها رسالة : التصور اللغوي عند الامام فخرالدين الرازي، تأليف أمان سليمان حمدان ابوصالح، رسالة ماجستير قدمت في الجامعة الأردنية، بإشراف د. إسماعيل العمايرة، سنة 1995.
- التفسير الكبير للفخر الرازي لغوياً ونحوياً، محمود احمد السويد، رسالة دكتوراة قدمت في جامعة دمشق، سنة 1996,
وذكر الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري في موقع أهل التفسير بعض الرسائل التي أهتمت بهذا التفسير فقال ما نصه : كتب الدكتور عارف مفضي المسعر رسالة علمية بعنوان (المنقول والمعقول في التفسير الكبير لفخر الدين الرازي) وقد نشرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عام 1426هـ. وكتب الدكتور (إيهاب النجمي رسالة علمية بعنوان ( تعدد المعنى في النص القرآني , دراسة دلالية في تفسير مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي ) . قال في مقدمتها :الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , وسيد الخلق أجمعين , سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..وبعد :
فلقد كان من عظيم توفيق الله سبحانه وتعالى إياي , وجليل إنعامه عليّ أن هداني إلي درس متصل بسبب كبير بالقرآن الكريم ، وبحث دائر في فلك تفسير من تفاسيره ذات القيمة العالية ،والفوائد العميمة الجليلة , وهو تفسير (مفاتيح الغيب) للإمام فخر الدين الرازي ( ت . 606 هـ ) .ولا يخفى على ذي لُبّ ما يحويه مفاتيح الغيب من كنوز ثمينة وعيون معرفية ثرة ، توزعت شتى مجالات المعرفة والثقافة , فكان حقيقا بما قيل فيه من أنه تفسير حوى كل شيء بين دفتيه . وكان على رأس تلك المعارف والعلوم علوم اللغة بمختلف مباحثها وقضاياها ومستوياتها , ابتداءً بالمستوى الصوتي ومرورا بقضايا البنية والاشتقاق , والمباحث التركيبية المختلفة . ولما كانت المهمة الأولى لتفسير أي نص أو لحاشيته هي الكشف عن معنى ذلك النص وتوضيح ما غمُض منه , وفتْح ما استُغلِق على أفهام متلقيه؛ نقول لما كانت تلك هي المهمة الأولى للتفاسير ، فقد كان للدلالة بقضاياها المتعددة وإشكالاتها المتنوعة منزلتها , وخصوصيتها في (مفاتيح الغيب) . (وكان من أهم تلك القضايا الدلالية وأبرزها في (مفاتيح الغيب) قضية ( تعدد المعنى) ؛ إذ ظهرت بكثرة في تفسير الإمام الرازي للعديد من الآيات القرآنية وتحليله لها , وكان لهذا الظهور الفِجّ والجلاء البين دوره في جذبي , واستنفار عزمي لأن أتتبع تلك الظاهرة بالدرس والتحليل , في محاولة للكشف عن مظاهرها المختلفة وأثرها في تفسير النص القرآني ، والسَّبْح في فضاءات معناه الرحيبة . وما كان منى ـــ لحبِّّ في القلب كبير لكتاب الله الكريم ـــ إلا الاستجابةُ لهذا الاستنفار , والاستسلامُ لذلك الجذب , فكان هذا البحث الذي وفقنى الله إليه :
)تعدد المعنى في النص القرآني , دراسة دلالية في تفسير مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي( .
الدراسات السابقة : وعلى الرغم من أهمية ظاهرة تعدد المعني وجلائها في (مفاتيح الغيب) خاصة ، وغيره من تفاسير القرآن عامة ؛ فإنها لم تأخذ كِفْلها من البحث والدرس المستقل ، اللهم إلا دراسة وحيدةً جاءت تحت عنوان (ثراء المعنى في القرآن الكريم) للباحث التركي / محمد خليل جيجك , الأستاذ المساعد بكلية الإلهيات بجامعة يوزنجويل بتركيا , وتلك الدراسة على الرغم من إخلاصها للظاهرة ، فإنها جاءت غير عميقة لغويا , وتعتمد في جانب كبير منها على عاطفة المؤلف الجياشة تجاه القرآن الكريم أكثر من اعتمادها على المعطيات اللغوية , والحقائق العلمية . هذا وقد حمل عمل علمي آخر عنوان بحثنا ذاته ، وهو (تعدد المعنى في القرآن .. دراسة دلالية) وهو رسالة دكتوراه للباحث / عبد الرحمن أمين رواش ، حصل عليها عام 1979 بكلية دار العلوم ، وعلى الرغم من أن عنوان الدراسة هو هو عنوان بحثنا ؛ فإنها بعيدة كل البعد عن ظاهرة تعدد المعنى ، ولم تمسها من قريب أو بعيد ، وإنما اهتمت بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم ، من خلال مؤلفات ذلك الفن ، ومن ثَمَّ فليس بينها وبين بحثنا مشابهة ، إلا في بعض ألفاظ العنوان.أـ هـ
[21] من أعظم التفاسير المختصرة التي ذكرت أقوال السلف تفسير الإمام ابن الجوزي المعروف بزاد المسير ،وتفسير الإمام البغوي .
[21] أقل فوائد علم الأصول أن تفهم سبب أختلاف العلماء وموارد أقوالهم وأقسام دلالات الألفاظ والفرق بين القطعيات والظنيات وكل هذا لا يصل إلا بهذا العلم فتعلمه لابد منه ولا يعني بالضرورة إما أن ترتكب الغرور فتجتهد ولست لذلك بأهل ، وإما أن أن تبقى على الجهالة فلا تفهم أقوال المجتهدين .بل العلم مطلوب ولو لم يكن منه إلا فهم المسائل وتفتق الذهن والإفتاء في النوازل إن اكتملت الأهلية، ولذا تجد علماء الأصول من أورع الناس عن الفتيا لأنهم فهموا أمر الإفتاء والاجتهاد على حقيقته ورحم الله من عرف قدر العلم وقدر أهله فوقف حيث وقف أهل التقوى والورع.
[22] كتب أصول الدين على أقسام فمنها مايرد به على الفلاسفة الملاحدة وهؤلاء بعضهم لا يؤمن بالله فلا ريب أن لدعوتهم للحق وبيان شبهاتهم بأسلوب مباح من فروض الكفايات ،ولم يكثر وجودهم في عهد السلف كما في عهد من أتى بعدهم . وأما أهل الإسلام وعامة الناس فيسعهم تيسير المسائل لهم بوجه من اللغة لائقاً بالله بعيداً عن التأويلات البعيدة المتكلفة ،وتشبيهات المشبهة .
[23] سترى مزيد من النصائح والانتقادات التي ذكرها الإمام الذهبي عن الإمام ابن تيمية في الرسالة الثانية الموسومة بالنصيحة الذهبية.
[24] لعل الإمام الذهبي يتكلم عن المنطق كما رآه في زمنه ،لأن علم المنطق كسائر علوم الآلة ليس بغاية في نفسه ،بل هو من العلوم التي بتعلمها يتحقق مطلب أخر ألا وهو منع الذهن عن الارتباك والخطأ في الفهم .وقد رتبه علماء الإسلام ونقحوه من الفلسفة المحرمة حتى يستفيد منه علماء الأمة ،وقد دخل هذا العلم في علوم كثيرة ومن مؤلفاته الرائعة في عصرنا كتاب ضوابط المعرفة لعبدالرحمن حبنكة الميداني .
[25] قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن من البيان لسحراً ))رواه البخاري ومسلم .وقداختلف العلماء هل هذا ذم للبيان أم ثناء عليه والصحيح أن البيان إن كان لبيان الحق فهو السحر الحلال ،الذي يقود إلى الإيمان والعمل بطاعة الرحمن وإن للبلاغة لذة لا يعلمها إلا الله وكم من فصيح هدى الله به جمعاً من الأمم ،وأما إن كان بالباطل فهو مذموم فالخلاصة أن البيان وسيلة فقط حكمها حكم ما تؤدي إليه إن كان حقاً أو باطلاً.
[26] جاء في المعجم الكبير للطبراني في أحاديث (إياس بن معاوية بن قرة عن أبيه عن جده )حدثنا عبد الله بن وهيب الغزي ثنا محمد بن أبي السري العسقلاني ثنا بكر بن بشر الترمذي - وكان أمامنا بعسقلان : مات سنة اثنتين وثمانين ومائة - حدثني عبد الحميد بن سوار حدثني إياس بن معاوية بن قرة حدثني أبي عن جدي قرة قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فذكر عنده الحياء فقالوا : يا رسول الله الحياء من الدين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( بل هو الدين كله ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الحياء والعفاف والعي - عي اللسان لا عي القلب - والعمل من الإيمان وانهن يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا ولما يزدن في الآخرة أكثر مما ينقصن في الدنيا فإن الشح والبذاء من النفاق وانهن يزدن في الدنيا وينقصن من الآخرة ولما ينقصن في الآخرة أكثر مما يزدن في الدنيا ) فهو ما أشار إليه الذهبي والله أعلم .
[27] صدق والله وما أكثر الوعاظ في عصرنا مع قل نفعهم وماهو والله إلا ماقال فإنهم ((يقولون مالا يفعلون ))مع قلة علم وتجاسر على الفتيا والأحكام فنسأل الله لنا ولجميع إخواننا الهداية .
[28] ذيل تاريخ الإسلام ص329 وقوله مسائل أصلية أي عقدية ،وفرعية أي عملية .
[29] قائل ذلك هو الأستاذ محمد القونوي ـ غفر الله له ـ وهو مدرس في مدرسة ابتدائية بالمملكة ،وهو من أصل تركي وأعطي الجنسية السعودية.
[30] تشبيه الخسيس بأهل الخميس تحقيق مشهور حسن.
[31] أي ذلته على المؤمنين ،ولا شك أن المسلمين رحماء بينهم ،وقد سبق بيان خطأ القونوي في فهم هذه العبارة .
[32] هذا كلام كل مؤمن يتشوق إلى مجالس الطاعة والإيمان ويبغض مجالس الفلسفة والجدل ،وكم يقول بهذا القول من رأى مجالس أهل .ماننا ومنتدياتهم وقلة خشية طلبة العلم لله فضلاً عن غيرهم .
[33] قارن هذا الكلام بكلام من نفس المشكاة قاله الذهبي في الرسالة السابقة حيث قال:إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا يتأدبون بآداب الحديث ولا يستفيقون من سكرة السماع،الآن يسمع الجزء ونفسه تحدثه متى يرويه أبعد الخمسين سنة،ويحك ما أطول أملك وأسوأ عملك.إلى أن قال : أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدث الطلب والسماع مقصود الحديث من التدين به بل فائدة السماع ليروي فهذا والله لغير الله.
[34] قارن بين هذا الأسلوب وبين قوله في رسالة زغل العلم :(اقرأ يا رجل واعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة فإلى كم هذا) تجد أنهما بأسلوب كاتب واحد لا يرتاب في ذلك عاقل.
[35] الذهبي هنا يبين الفرق بين علم يقرب إلى الله وعلم يراد لاتباع العثرات ومباهاة الخصوم ،وفلسفة الفلاسفة . فكيف لو رأى عصرنا ؟!!
[36] وكذا قال في زغل العلم عن شيخه ابن تيمية : فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوراً مضيئاً على محياه سيما السلف ثم صار مظلماً مكسوفاً عليه قتمة عند خلائق من الناس ،ودجالاً أفاكاً كافراً عند أعدائه ،ومبتدعاً فاضلاً محققاً بارعاً عند طوائف من عقلاء الفضلاء وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عوام أصحابه هو ما أقول لك
[37] كان الإمام ابن تيمية يطيل الجدل والرد في مجلدات على مسائل بعضها محض اجتهاد ،ومن قرأ كتبه عرف حبه للجدل والمراء .حتى تشرب طبعه كثير من قراء كتبه.
[38] وهذا والله محض النصح من أقرب التلاميذ إلى شيخ يجله ويحبه.فأين مثل هذا التلميذ الناصح الشفوق فهو عزيز في زماننا لكنه العلم إذا صاحبته الخشية .