أن عثمان رضي الله عنه منع المراعي من الجبال والأودية وحمى الحمى
ومن الأمور التي نقمتها الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون: إنه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها[665]. والرد على هذا الهراء: أن الحمى لم يكن ذو النورين ابتدأه، فقد كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد كان الرئيس منهم إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عالٍ فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه[666]، فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واختص الحمى ببهائم الصدقة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حمى إلا لله ولرسوله»[667]، وورد أنه صلى الله عليه وسلم حمى مكاناً يسمى النقيع[668]، ومما هو معلوم أن الحال استمر في خلافة الصديق على ما كان عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصديق لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في عهده صلى الله عليه وسلم على الرغم أن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل، وفي زمن الفاروق اتسع الحمى فشمل الشرف[669] والربذة وكان لـ عمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع نعم الأثرياء كـ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما[670]، وكما اتسع عمر رضي الله عنه في الحمى عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع دولة الإسلام، وازدياد الفتوح. قال العلامة ابن العربي في صدد رده على الطاعنين عليه بمسألة الحمى، قال: وأما الحمى فكان قديماً فيقال: إن عثمان زاد فيه لما زادت الراعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت لزيادة الحاجة. اهـ[671]. فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى عليه الشيخان يجوز مثله لبيت المال في زمن ذي النورين، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحّوا منها أحداً، وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاءً، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة: أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.[672]. ناصر الشيخ ..
[665] كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 1/50، حق اليقين لعبد الله شبر: 1/191. [666] فتح الباري: 5/44. [667] صحيح البخاري: 2/53. [668] المصدر السابق: 2/53، والنقيع في المدينة على عشرين فرسخاً منها. انظر: معجم البلدان: 5/299، فتح الباري: 5/45. [669] قال ياقوت: وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن فما كان مشرقاً فهو الشريف وما كان مغرباً فهو الشرف. معجم البلدان: 3/236. [670] انظر صحيح البخاري: 2/180. [671] العواصم من القواصم، ص:72-73. [672] انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4/347
أن عثمان رضي الله عنه قد ارتكب مخالفة كبيرة لما حمى الحمى[1001] عن المسلمين[1002]. ويقال لهم: إن ما فعله عثمان رضي الله عنه من حمى الحمى قد فعله قبله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن قبلهما رسول الله صلى الله عله وسلم[1003] فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى لخيل المسلمين»[1004]. فقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المسلمين المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت المال. ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن أبا بكر لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا سيما وأن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل[1005]. وقد استمر الحال على ذلك في خلافة الفاروق رضي الله عنه، وكان قد استعمل على الحمى مولى له يسمّى هنياً، فقال له: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، ثم قال رضي الله عنه يبرر سبب حميه للحمى: والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شبراً[1006]، فحميه رضي الله عنه للحمى أمر ثابت[1007]؛ قال الإمام البخاري: [بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى السرف والربذة][1008]. أما عثمان رضي الله عنه فإنه كان متبعاً في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، وقد أجاب الغوغاء لما اعترضوا على حميه الحمى بقوله: إني والله ما حميت حمي قبلي، والله ما حموا شيئاً لأحد، ما حموا إلا ما غلب عليه أهل المدينة... وما لي من بعير غير راحلتي، وما لي ثاغية، ولا راغية[1009]، وإني قد وليت وأنا أكثر العرب بعيراً وشاء، فما لي اليوم شاة ولا بعير، غير بعيرين لحجي، ثم التفت إلى الصحابة وقال لهم: أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم[1010]. فلم يحم لنفسه شيئاً رضي الله عنه، بل حماه لإبل الصدقة، وخيل المسلمين. وقد بين علي رضي الله عنه أن عثمان رضي الله عنه كان في حميه للحمى متبعاً لا مبتدعاً، فقال: أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسن[1011]، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه، وقد حماه عمر من قبله[1012]. أما زيادته لمواضع الحمى، فقد زاد من قبله، وهو أمر جائز، فإن عثمان رضي الله عنه زاد فيه لما زادت الرعية. وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة[1013]. وخلاصة القول: أن عثمان رضي الله عنه كان في حميه للحمى متبعاً لا مبتدعاً، ولا يسلّم للشيعة، ولا للغوغاء من قبلهم طعنهم فيه رضي الله عنه بسبب ذلك. عبدالقادر صوفي ..
[1001] أي منع من استصلاح بعض الأراضي وزراعتها لتبقى منبتاً للعشب والكلأ، وذلك لرعي المواشي، وغير ذلك. الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص:222. [1002] تلخيص الشافي للطوسي ص:445، وكشف المراد للحلي ص:405-406. [1003] راجع الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص:222-223، والأحكام السلطانية للماوردي ص:164-165. [1004] مسند أحمد 2-91، 155، 157، وقد صححه أحمد شاكر. المسند بتحقيقه 8/52. [1005] حاشية العواصم من القواصم لمحب الدين الخطيب ص:85. [1006] صحيح البخاري 4/165، ك. الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: أسلموا تسلموا. [1007] فتح الباري لابن حجر 6/177. [1008] صحيح البخاري 3/227، ك. المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. [1009] يريد الإبل والشياه. [1010] تاريخ الطبري 5/102. [1011] أي: لـيُحسن رعيها. الصحاح للجوهري 5/2139. [1012] البداية والنهاية لابن كثير 7/187. [1013] العواصم من القواصم لابن العربي ص:84-85.
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video