آخر تحديث للموقع :

الأحد 22 ذو القعدة 1444هـ الموافق:11 يونيو 2023م 12:06:10 بتوقيت مكة

جديد الموقع

ابن تيمية الحنبلي يقول : لقد خري أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء ..
ابن تيمية الحنبلي يقول : لقد خري أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء
بسم الله الرحمن الرحيم
تبادل أهل الحديث والأشاعرة الذم والاتهامات والتشنيعات، تعبيرا عن النزاع العقيدي الحاد القائم بينهما - خلال القرنين: 5 - 6 الهجريين - وقد قدح كل منهما في الآخر بألفاظ شنيعة لايجوز لمسلم أن يصف بها أخاه المسلم.
فالأشاعرة وصفوا أهل الحديث بأوصاف ذميمة كثيرة، منها أولاً، إنهم وصفوهم بالتشبيه والتجسيم، بمعنى إنهم جسّموا الله تعالى وشبّهوه بمخلوقاته [1]. وفي فتنة ابن القشيري اتهم علماء الأشاعرة - في رسالتهم لنظام الملك - الحنابلة بالتشبيه والتجسيم دون تمييز، وجعلوهم كلهم في سلة واحدة [2].
وعندما جاء الوزير نظام الملك إلى بغداد، قال إنه يريد استدعاء الحنابلة ليسألهم عن مذهبهم، لأنه قيل له إنهم مجسّمة، فلما سمع به أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي (ت 513 هـ) أعد له جوابا للرد على أسئلة الوزير [3]. وقوله هذا دليل على أنه - أي الوزير- وجد من قال له ذلك عن الحنابلة، وهو يُريد التأكد منه بنفسه، وواضح إن الذين قالوا له ذلك عن الحنابلة هم الأشاعرة في رسالتهم إليه في فتنة ابن القشيري سنة 469 هـ.
وعندما أظهر ابن تومرت (ت 524 هـ) دعوته بالمغرب الإسلامي، اتهم المغاربة المخالفين له بالتشبيه والتجسيم، ودعاهم إلى الأشعرية كبديل عن مذهب السلف، فلما انتصر خلفاؤه على المرابطين، فرضوا الأشعرية على المغاربة وأبعدوهم عن مذهب السلف في الصفات [4].
وذكر القاضي أبو بكر بن العربي الأشعري (ت 543 هـ)، إن الحنابلة انتهى بهم الأمر إلى أن قالوا: (إن أراد أحد يعلم الله، فلينظر إلى نفسه، فإنه الله بعينه، إلا أن الله منزه عن الآفات، قديم لا أول له، دائم لا يفنى)، وقالوا ذلك (لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية أخرى (على صورة الرحمن)، وهي رواية صحيحة، فلله الوجه بعينه، لا ننفيه ولا نتأوله إلى محالات) [5].
وقوله هذا غريب جدا، فإنني لم أعثر على قول ثابت لعالم حنبلي من علماء الحنابلة المعتبرين، قال إن من أراد أن يعلم الله فلينظر إلى نفسه، لكن المعروف عنهم أنهم أثبتوا حديث الصورة، ولم يُؤولوه وفوّضوا كيفيته لله تعالى، مع اعتقادهم إن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته. والغريب أيضا إنه قال أن الحنابلة قالت بذلك، مما يعني إنه اتهم الحنابلة كلهم دون تحديد لشخص معين، أو لطائفة منهم.
وأما بالنسبة لحديث الصورة، فيجب علينا أن لا ننظر إليه نظرة جزئية، وإنما علينا أن ننظر إليه نظرة شاملة في إطار كل النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بصفات الله تعالى، فهو سبحانه (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) - سورة الشورى/11 - و (لم يكن له كفواً أحد) سورة الإخلاص/4 - و (وسع كرسيه السموات و الأرض) - سورة البقرة/68 - .
فالله تعالى لا يمكن أن يُشبه الإنسان، مما يعني أن لحديث الصورة معنى آخر غير الذي ذكره ابن العربي عن الحنابلة، ولا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وهو ليس تأويلا للحديث، وإنما هو تفسير وفهم له في إطار النصوص الشرعية المحكمة، لا كما يفهمه المؤولون للصفات على طريقة المتكلمين.
وثانياً إن الأشاعرة أطلقوا على الحنابلة وأهل الحديث، اسم الحشوية، بمعنى إنه لا فهم لهم ولا معرفة، ويحشون الكلام حشوا كالعوام [6]. فمن ذلك إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد وصفوا الحنابلة - في رسالتهم لنظام الملك- بأنهم: (جماعة من الحشوية الأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية) [7].
وعندما نبش المتكلم نجم الدين الخبوشاني الصوفي (ت 587 ه) قبر المقريء ابن الكيزاني (ت 562 ه)، بمدينة مصر، علل فعله هذا بقوله: هذا حشوي لا يكون بجانب الشافعي، ثم أخرج رفاته ودفنها في موضع آخر، ولم يبال بمعارضة الحنابلة الشديدة له، ولا راعى حرمة الميت [8].
وثالثا إن الأشاعرة اتهموا القاضي أبا يعلى الفراء (ت 458 هـ) بالتشبيه والتجسيم، واحتجوا عليه عندما صنف كتابه التأويلات، لما ذكر فيه من أحاديث موهمة للتشبيه، قال عنه المؤرخ ابن الأثير (ت 630 هـ): إنه أتى فيه - أي الكتاب - بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض [9].
وذكر القاضي ابن العربي (ت 543 هـ) إنه لما كان ببغداد سنة 490 هـ، أخبره من يثق فيه من مشيخته، إن القاضي أبا يعلى الفراء رئيس الحنابلة، كان يقول في مسألة الصفات: إذا ذُكر الله تعالى، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته، ألزموني ما شئتم فأني ألتزمه إلا اللحية والعورة) [10].
ويُروى أنه لما شاع خبر القاضي أبي يعلى بما أتهم به من التشبيه والتجسيم في الصفات، قال عنه أبو محمد التميمي الحنبلي: (لا رحمه الله، فقد خرى على الحنابلة خرية لا تنغسل إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (لا يغسلها الماء)، وفي أخرى إنه قال: (لا رحمه الله، فقد بال في الحنابلة البولة الكبيرة التي لا تُغسل إلى يوم القيامة) [11].
وقد تصدى القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى (ت 526 هـ) للرد على الذين اتهموا والده بالتجسيم والتشبيه، وذكر إن والده سار على منهج السلف الصالح في أخبار الصفات، وهو التصديق بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، مع التسليم وترك البحث والتنقير في ذلك، من دون تعطيل ولا تشبيه ولا تفسير ولا تأويل، وإن تلك الصفات تُمر كما جاءت، من غير زيادة ولا نقصان، مع الإقرار بالعجز عن إدراك حقيقتها، لأن ذلك الإثبات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد، وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى؛ والكلام في الصفات هو فرع عن الكلام في الذات) [12].
وذكر إن والده المُتهم بالتجسيم، هو نفسه رد على المجسمة في كتاب خصصه للرد عليهم، وفي مصنفات أخرى، وقال إنه لايجوز أن يُسمى الله جسماً، فمن (اعتقد إن الله سبحانه جسم من الأجسام، وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال فهو كافر، لأنه غير عارف بالله عز وجل، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات) [13].
ومما قاله أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات، ما نقله عنه الحافظ الذهبي من إنه قال فيه: (لا يجوز رد هذه الأخبار - أي الأحاديث - ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وإنها صفات الله تعالى لا تُشبه سائر صفات الموصوفين بها من الخلق) [14].
ويرى الشيخ تقي الدين بن تيمية إن الذين تكلموا في القاضي أبي يعلى الفراء شنّعوا عليه بأشياء هو منها بريء، وما ذكره أبو بكر بن العربي عنه، هو كذب عليه، رواه عن مجهول لم يُسمه، لكن مع ذلك فإن في كلام القاضي أبي يعلى، ما هو مردود نقلا و عقلا، وفيه من التناقض من جنس ما يُوجد في كلام الأشعري والباقلاني وأمثالهما، ممن يُوافق النفاة على نفيهم، ويُشارك أهل الإثبات على وجه مما قالوه.
كما إنه أورد في كتابه إبطال التأويلات أحاديث موضوعة، كحديث رؤية الله عياناً ليلة المعراج، وحديث إقعاد الرسول -عليه الصلاة و السلام- يوم القيامة على العرش [15].
تلك الأحاديث الموضوعة والصريحة في التشبيه والتجسيم، هي التي كانت سببا في اتهام أبي يعلى بالتشبيه والتجسيم، وإن كان هو في الحقيقة لا يعتقد التشبيه ولا التجسيم، لأن آثاره شاهدة على ذلك [16]؛ لكن الخلل دخله من روايته للأحاديث الضعيفة والموضوعة، الصريحة في التشبيه والتجسيم، فحملها على ظاهرها من دون تأويل ولا تشبيه، وقد رواها لأنه كان قليل الخبرة بعلم الحديث، وبضاعته فيه مُزجاة، لا يُميز بين صحيح الأحاديث من سقيمها، فروى أحاديث غير صحيحة متعلقة بالصفات، جعلت العلماء يُنكرون عليه ذلك، ويتهمونه بالتشبيه كان الأشاعرة في مقدمتهم.
وواضح أيضا إن خطأه لم يكن بسبب المنهج الذي يتبناه، فمنهجه صحيح يقوم على أسس منهج السلف في الصفات، وقد ذكره ابنه أبو الحسين في دفاعه عنه، وإنما كان بسبب عدم الالتزام به في الأحاديث النبوية، فتسرّبت إليه أحاديث ضعيفة وموضوعة، جعلت خطأه هذا خطأ في تطبيق المنهج وعدم الالتزام به، لا في المنهج ذاته.
ورابعاً إن علماء الأشاعرة - في رسالتهم لنظام الملك - اتهموا الحنابلة بسب الإمام الشافعي ولعنه، وألحقوا به أئمة أصحابه [17]. وهذا في اعتقادي اتهام غير صحيح للشواهد الآتية، أولها إن الحنابلة يتولون الشافعي، ويعدونه من أصحاب إمامهم أحمد بن حنبل، وقد ترجموا له في طبقاتهم وأثنوا عليه كثيرا [18].
وثانيها إن الحافظ أبا بكر بن أبي داود السجستاني الحنبلي (ت قرن: 3 هـ) مدح الشافعي وأحمد بن حنبل، في قصيدة له، وصفهما بأنهما إماما هدى على طريق الحق و النصيحة [19].
وثالثها أن المؤرخ أبا علي بن البناء الحنبلي البغدادي (ت 471 هـ) صنف كتابين في فضل الشافعي، هما: فضائل الشافعي، وكتاب ثناء أحمد على الشافعي و ثناء الشافعي على أحمد [20].
وأما قولهم إنهم سبوا أئمة أصحاب الشافعي، فليس المقصود بهم أصحاب الشافعي الأوائل، وإنما المقصود أعيان الشافعية الأشاعرة الذين انتسبوا إلى الشافعي، وهذا ممكن الحدوث، بحكم الخصومة الشديدة القائمة بينهم وبين الأشاعرة، في ظل الأزمة العقيدية الحادة التي عصفت بالسنيين كلهم.
وخامساً إن أبا بكر بن العربي (ت 543 هـ) قال في الحنابلة وأهل الحديث كلاماً غليظاً، ووصفهم بأوصاف شنيعة، فجعلهم ممن كاد للإسلام، ولا فهم لهم، وليس لهم قلوب يعقلون بها، ولا آذان يسمعون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل. وعدّهم من الغافلين الجاهلين في موقفهم من الصفات، وشبههم باليهود، وقال أنه لا يُقال عنهم: بنوا قصراً و هدّموا مصراً، بل يُقال: هدموا الكعبة، واستوطنوا البيعة [21]- أي كنيسة اليهود.
وسادساً إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد ذموا - في رسالتهم لنظام الملك - خُصومهم الحنابلة ذماً شنيعاً، ووصفوهم له بأنهم رعاع أوباش، مجسمة مبتدعة، شرذمة أغبياء من أراذل الحشوية، رفضوا الحق لما جاءهم على يد ابن القشيري [22].
وسابعاً إن بعض الأشاعرة كان يتعمد رواية الأكاذيب المفضوحة على الحنابلة، طعناً فيهم وتشنيعا عليهم، وتحقيقا لمكاسب مذهبية، فمن ذلك ما رواه ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل، من أن الواعظ أبا بكر البكري (ت 476 ه) لما جاء إلى بغداد حكى عن الحنابلة ما لا يصح أن يُذكر، فقال إنهم يقولون: إن لله ذكراً، فرماه الله تعالى بالخبث في ذلك العضو فمات [23]. وقوله هذا - إن صح - هو افتراء مفضوح، وزندقة مكشوفة، لا يقوله إنسان عاقل، فضلاً عن مسلم.
ومنها أيضا ما ذكرناه سابقا من إن القاضي ابن العربي قال إنه لما كان ببغداد أخبره بعض شيوخه بأن أبا يعلى الفراء كان يقول: إذا ذُكر الله، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته، فألزموني ما شئتم، فإني ألتزمه، إلا اللحية و العورة [24].
وروايته هذه غير صحيحة للمعطيات الآتية، أولها إن قوله هذا لم أعثر عليه في المصادر الحنبلية من إنه - أي أبو يعلى - قال ذلك، وإنما رواه ابن العربي عن مجهول هو من خُصوم القاضي أبي يعلى، وخبر هذا حاله لا يُقبل في أمر خطير كهذا.
وثانيها إن ذلك القول القبيح من المستبعد جدا أن يقوله القاضي أبو يعلى، وهو عالم فقيه زاهد، متبحر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولأنه أيضا كان على منهاج السلف في الصفات لا يُثبت صفة إلا إذا وردت في الشرع، ولا شك إن ذلك القول المذموم لا يوجد في الشرع ما يُؤيده، وإنما هو منسوب للمجسم الضال داود الجويباري، الذي كان يقول: (اعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك) [25].
وثالثها إن الحنابلة قالوا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد الكذب عليهم، نكاية فيهم انتصارا لمذهبه، فقالوا إن أعيان الأشاعرة عندما أرسلوا كتابهم إلى نظام الملك، كذبوا عليهم فيه، وذكروا له عنهم أشياء زوراً و بهتاناً [26]. وذكر المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة في نزاعهم مع أصحاب الحديث كانوا يكذبون عليهم [27].
وثامناً إن الأشاعرة كثيرا ما يُشنّعون على الحنابلة وأهل الحديث، بإثباتهم لصفات وردت في القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، فيقولون إن هؤلاء يُثبتون صفة النزول، والاستواء على العرش، والضحك، وتكليم الله لموسى، فينسبون إليهم كلام الله الذي وصف به نفسه، وهم - أي الحنابلة وأهل الحديث - لا يصلحون لذلك ولا يبلغونه [28]. حتى إن بعضهم قال عن الحنابلة - في إثباتهم لتلك الصفات - إنه (ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة)، فردّ عليه الحافظ أبو نصر السجزي (ت 444 هـ) بقوله: (ولعمري إن بين الطائفتين خصلة واحدة، لكنها بخلاف ما تصوّره الساقط، وتلك الخصلة إن الحنابلة على الإسلام والسنة، و اليهود على الكفر و الضلالة) [29].
وواضح إن تشنيع الأشاعرة على أهل الحديث بذلك الطريق الملتوي، هو في حقيقته رد للشرع، وقدح فيه، وتحايل على المسلمين، بإلقاء التهمة على أصحاب الحديث، بدلا من الإعلان صراحة رفضهم لتلك الصفات التي وردت في الكتاب و السنة الصحيحة، وهو في النهاية رفض للقرآن و السنة، فالمفروض إنه كان عليهم أن يُعلنوا موقفهم صراحة من تلك الصفات ليعرف الناس حقيقة موقفهم منها.
وأخيراً - أي تاسعاً - هناك أوصاف أخرى أطلقها بعض الأشاعرة على الحنابلة وأهل الحدث، هي من صميم مبحثنا هذا، منها إن القاضي أبا المعالي عزيزي بن عبد الملك الشافعي الأشعري (ت 494 ه)، كان قاضياً على حي باب الأزج ببغداد، الذي غالبية سكانه حنابلة، فكان بينه و بينهم خصام ومهاترات، فيُروى إنه في أحد الأيام سمع رجلا يُنادي على حمار له ضاع منه، فقال القاضي: (يدخل باب الأزج، و يأخذ بيد من شاء). وقال يوما لأحد أصحابه عن الحنابلة: (لو حلف إنسان إنه لا يرى إنسانا، فرأى أهل باب الأزج لم يحنث، فقال له صاحبه: من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم)، لذا فإنه - أي القاضي - عندما مات فرح الحنابلة بموته كثيرا [30].
ففي قوله الأول ألحقهم بالحمير صراحة، و في الثاني نفى عنهم صفة الأدمية، وألحقهم بالحيوانات ضمنياً، ثم ألحقه صاحبه هو أيضا بهم، بحكم إنه معاشر لهم.
ومنها أيضا إن النجم الخبوشاني (ت 587 ه)، لما نبش قبر ابن الكيزاني الذي كان بجانب ضريح الشافعي، وصفه بالزندقة، وقال: (لا يكون صدّيق و زنديق في موضع واحد) [31]. اتهمه بذلك لمجرد إنه كان على مذهب أهل الحديث، ولم يكن مثله أشعريأ، ولم يشفع له عنده مذهبه الشافعي في الفروع.
واتهم بعضهم الحافظ عبد الله بن عطاء الإبراهيمي الهروي الحنبلي (ت 476 هـ) بالكذب ووضع الأحاديث، وقالوا إنه كان يجتمع بالحنابلة وأهل الحديث، ويروي لهم أحاديث مكذوبة تتعلق بالصفات هي من وضعه، لكن الذين يعرفون أحواله من ثقات المحدثين عدّلوه، فوثّقه المؤتمن الساجي، وقال عنه خميس الجوزي: (ما علمتُ فيه ذلك، وكان يعرفه) [32].
وأما الحنابلة وأهل الحديث، فهم أيضا ذموا الأشاعرة بمختلف ألفاظ الذم والتشنيع والقدح، في إطار النزاع العقيدي القائم بينهم، فمن ذلك أولاً: أنهم اتهموهم بالتمويه على الناس، وإخفاء عنهم مقالتهم في صفات الله وكلامه، فذكر أبو نصر السجزي (ت 444 هـ)، إن الأشاعرة يستخدمون التمويه والمصانعة، ولا يُظهرون حقيقة مذهبهم للناس، الذي ينتهي إلى دعوتهم إلى مخالفة السنة، وترك الحديث؛ ثم قال إنه إذا خاطبهم من له هيبة وحشمة من أهل الأثر، قالوا له: (الاعتقاد ما تقولونه، وإنما نتعلّم الكلام لمناظرة الخصوم)، ثم قال أيضا: (والذي يقولونه كذب، وإنما يتسترون بهذا، لئلا يُشنع عليهم أصحاب الحديث) [33].
ثم ذكر السجزي إنه كان بمكة رجل كثير الاشتغال بالحديث، ويُعلن إنه ليس أشعريا، لكنه يمدحهم، ويقول: رأيت منهم فاضلا، التراب من تحت رجله أفضل من أناس. وإذا قدم منهم رجل إلى البلد قصده ليقضي له حاجته، لكن إذا دخل عليه رجل من أصحاب الحديث، جانبه وحذّر منه، وإذا ذُكر عنده شيخ من شيوخ وقع فيه، وقال: (أحمد نبيل، لكنه بُلي بمن يكذب عليه)، ثم عقّب السجزي على كلامه بقوله: وهذا مكر منه، لا يحيق إلا بأهله، وقول جاهل رقيق الدين وقليل الحياء [34].
وقال أيضا إن بعض الأشاعرة يتظاهر إنه ليس أشعريا، ويرد عليهم و يُظهر مخالفته لهم، فيُتابع في ذلك ظنا إنه مخالف لهم -أي للأشاعرة -، وكثيراً ما انطلى مثل هذا السلوك على أهل السنة على حد قول السجزي [35]؛ ويعني بهم الحنابلة و أهل الحديث.
وقال أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي (ت 513 هـ) إن الأشاعرة يردون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه [36]. وقال عنهم الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) إنهم يُخفون مقالتهم في القرآن الكريم، من إنه ليس كلام الله حقيقة، وإنما هو عبارة عنه، فإنهم لا يتجاسرون على إظهارها و (لا التصريح بها إلا في الخلوات، ولو إنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة، وإذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها، كرهوا ذلك وأنكروه وكابروه، ولا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن، وتبجيل المصاحف، والقيام لها عند رؤيتها، وفي الخلوات يقولون: ما فيها إلا الورق والمداد، وأي شيء فيها؟!) [37].
وثانياً إن أهل الحديث شبّهوا الأشاعرة بالزنادقة فيما اختصوا به في مسألة الصفات وكلام الله تعالى، فشبّههم الحافظ أبو نصر السجزي بالزنادقة في إنهم يُخفون مذهبهم عن قوم، ويُظهرونه لآخرين، مما مكّنهم من جذب كثير من العوام إلى مذهبهم، لأنهم يُظهرون للعامي الموافقة بداية، ويُكذّبون بما يُنسب إليهم حتى يصطادوه، ثم يجروه قليلا قليلا، حتى ينسلخ من السنة [38].
وقال السجزي إن القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري، كان أكثر الأشاعرة استخداما لتلك الطريقة، فقد وشّح كتبه بمدح أهل الحديث، واستدل على أقاويله بالأحاديث في الظاهر، وأكثر الثناء على أحمد بن حنبل، وقال إنه - أي أ حمد - كان يعرف الكلام، ولا فرق بينه وبين الأشعري في ذلك، وقوله - أي الباقلاني - هذا هو عند السجزي من قلة الدين و الحياء [39].
وأقول: نعم كان الإمام أحمد بن حنبل على علم بمقالات المتكلمين المعاصرين له، وهو رغم ذمه لعلم الكلام وأهله، فقد ردّ على مقالاتهم في مصنفاته، كما في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية، لكنه لم يكن يقول بمقالة الأشعري في مسألة الإيمان، والسببية، والأفعال الاختيارية، وكلام الله تعالى، وهو من أوائل الذين ردوا على الكلابية، التي هي سلف الأشعرية [40].
وشبّه الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) الأشاعرة بالزنادقة - في موقفهم من كلام الله - بقوله: (ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم، ولا يتجاسرون على إظهارها، إلا الزنادقة و الأشعرية، رغم إنهم هم ولاة الأمر وأرباب الدولة، ومع ذلك لا يُظهرون مقالتهم لعامة الناس) [41].
وثالثاً إن بعض علماء الحديث اتهموا الأشاعرة بالكذب على أصحاب الحديث، فذكر أبو نصر السجزي، إن الأشاعرة يتعمدون الكذب على أهل الحديث، تسترا وتمويها، ويُنسبون كل من يخالفهم إلى سب العلماء، ليُنفّروا قلوب الناس منه، وتكلموا فيه ونسبوا إليه أقاويل لا يعتقدها، كذبا وبهتانا عليه، لأنهم يعتقدون إن الكذب والبهتان لا قبح لهما في العقل، وإنما الشرع هو الذي حكم بقبحهما، والمخالفون لهم ضالون لا حرمة لهم [42]. بمعنى إنه لا حرمة لهم نقلا ولا عقلا.
وقال المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة يزدرون على أصحاب الحديث بالكذب والتمويه [43]. وذكر القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى (ت 526 هـ) إن علماء الأشاعرة الذين أرسلوا الخطاب إلى الوزير نظام الملك، - في فتنة ابن القشيري - كذبوا فيه على الحنابلة، وذكروا له فيه أشياء عن معتقدهم زورا وبهتانا [44].
ورابعاً إن بعض علماء الحديث والمنتسبين إليهم، حذّروا من مقالة الأشاعرة، وشهّروا بهم و ببعض أفكارهم التي رأوها شنيعة، منهم أبو الوفاء بن عقيل، فإنه بعدما أشار إلى إن الأشاعرة - في موقفهم من كلام الله - قد خالفوا الكتاب والسنة، والإجماع واللغة، قال عنهم محذرا: (واجتنبوا مقالتهم، واحذروا بدعتهم و ضلالتهم، تسلموا من بِدعهم، و اخبروا المسلمين مقالتهم و اعتقادهم الفاسد) [45].
ومنهم أيضا الفقيه أبو محمد بن حزم الظاهري (ت 456 هـ)، فقد شهّر بالأشاعرة أيما تشهير، فذكر إنهم يقولون إن محمدا -عليه الصلاة و السلام - ليس رسولا بعد وفاته، بدعوى إن الروح عرض، والعرض يفنى أبداً ولا يبقى وقتين بعد الوفاة، ومقالتهم هذه مخالفة للشرع والإجماع. وذكر أيضا إنهم ينكرون السببية و طبائع الأشياء، ويقولون لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكاً في الله ونبوة رسوله، ولا يصح إيمان إلا بكفر، ولا تصديق إلا بجحود، ثم توسع في شرح مقالتهم والرد عليهم [46].
وخامساً هناك أوصاف أخرى مذمومة، وصف بها بعض أهل الحديث الأشاعرة، كوصفهم بأنهم مبتدعة، وأهل بدع، وقد وصفهم بذلك أبو الحسين بن أبي يعلى، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، والموفق بن قدامة المقدسي [47]. ووصف الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الصوفي الحنبلي (ت قرن: 5 هـ) الأشاعرة بأنهم مخانيث المعتزلة. وقال عنهم يحيى بن عمار: الأشعرية الجهمية الإناث، والمعتزلة الجهمية الذكور [48].
ومرُاد هؤلاء مما قالوه، هو الطعن في الأشعرية، مما يُفيد بأنها ليست مذهبا مستقلا صافياً، وإنما هي بدعة و خليط من عدة مذاهب في مقدمتها الاعتزال.
وختاماً لهذا المبحث، يتبين أولاً إن كل طرف - من الطرفين المتنازعين - يتهم الآخر ويذمه ويشنع عليه، وينفي عن نفسه التهم الموجهة إليه جملة و تفصيلا، ويدعي إنه هو الذي على صواب، وإن خصمه على ضلال.
وثانياً إن ما استعمله الطرفان من ذم واتهامات وتشنيعات، هو دليل قاطع على ما وصلت إليه الأزمة العقيدية، من حدة وقسوة وضراوة، حتى قسّمت المجتمع السني إلى طائفتين متناحرتين، كل طائفة تتربص بالأخرى الدوائر، وتكن لها الحقد والكراهية والبغضاء، فتحوّلت الأزمة إلى محنة عامة اكتوى بها السنيون كلهم.
وثالثاً إن ما ذكرناه من مظاهر الذم والاتهامات والتشنيعات، التي تبادلها فيما بينهم أهل الحديث والأشاعرة، هي دليل دامغ على إن الأزمة العقيدية -التي عصفت بالسنيين- كانت منذ بدايتها في اتساع وتصعيد وتكريس وتعميق، ولم تجد الحل الشرعي الصحيح الذي يضع لها حدا نهائيا، و يُرضي الطرفين المتنازعين.
------------------------
[1] انظر: ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208. و فتوى و جوابها ص: 33. والذهبي: تذكرة الحفاظ، ج 3 صث: 1167، 1188، 1189.
[2] ابن عساكر: تبيين كذب المفتري، ص: 311 وما بعدها.
[3] انظر: ابن الجوزي: المنتظم، ج 9 ص: 58.
[4] الناصري:: الإستقصاء، ج 1 ص: 196، 197.
[5] العواصم من القواصم، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، 1981، ج 2 ص: 283.
[6] هو مصطلح يثقصد به الحشو في الكلام، و قله الفهم و المعرفة، أطلقه المعتزلة على كل من خالفهم، ثم أطلقه الأشاعرة أيضا على من خالفهم. ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 23 - 24. وبيان تلبيس الجهمية، ج 1 ص: 242، 245.
[7] ابن عساكر: تبيين، ص: 310.
[8] الذهبي: السيّر، ج 20 ص: 454.
[9] الكامل في التاريخ، ج 8 ص: 378.
[10] العواصم من القواصم، ج 2 ص: 283.
[11] انظر: ابن الأثير: الكامل، ج 8 ص: 378. وابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 52 ص: 356.والصفدي: الوافي، ج 3 ص: 864.
[12] طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208.
[13] نفس المصدر، ج 2 ص: 212.
[14] الذهبي: ط 1، الرياض، مكتبة أضواء السلف، 1995، للعلي الغفار، ص: 251.
[15] ابن تيمية: درء التعارض، ج 5 ص: 237، 238.
[16] أنظر مثلا، ما كتبه عنه ابنه في طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208.
[17] ابن عساكر: تبين كذب، ص: 315 و ما بعدها.
[18] نظر طبقات الحنابلة، ج 1 ص: 315، وما بعدها.
[19] أبو بكر بن أبي داود: قصيدة ابن أبي داود، ص: 59.
[20] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة، ج 1 ص: 46.
[21] العواصم من القواصم، ج 2 ص: 282، 288، 303.
[22] ابن عساكر: تبيين، ص: 310 وما بعدها.
[23] المنتظم، ج 9 ص: 4.
[24] العواصم، ج 2 ص: 283.
[25] الشهرستاني: الملل والنحل، حققه علي مهنا، بيروت، دار المعرفة، 1998، ج 1 ص: 1057. وأبو المظفر الاسفراييني: التبصير في الدين، ط 1، بيروت، دار عالم الكتب، 1983، ص: 120.
[26] ابن أبي يعلى الفراء: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 239.
[27] ابن عقيل: الرد على الأشاعرة، ص: 91.
[28] الموفق المقدسي: نشره جورج مقدسي، النظر في كتب أهل الكلام، لندن، مطبعة لوزاك، ص: 58.وابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 186.
[29] السجزي: رسالة السجزي، ص: 45.
[30] ابن كثير: البداية، ج 12 ص: 160.
[31] السبكي: طبقات الشافعية، ج 7 ص: 15.
[32] ابن رجب: الذيل، ج 1 ص: 58. وابن حجر: لسان الميزان، ج 3 ص: 316.
[33] السجزي: المصدر السابق، ج 57. و ابن تيمة: درء التعارض، ج 2 ص: 91.
[34] السجزي: نفس المصدر، ص: 60.
[35] نفسه، ص: 60.
[36] ابن عقيل: الرد على الأشاعرة، ص: 91.
[37] الموفق بن قدامة: مناظرة في القرآن، ط 1، الكويت، مكتبة ابن تيمية، 1990، ص: 58.
[38] السجزي: رسالة السجزي، ص: 51.
[39] نفسه، ص: 51.
[40] راجع التمهيد.
[41] ابن قدامة: مناظرة في القرآن، ص: 58.
[42] السجزي: رسالة السجزي، ص: 51، 57.
[43] ابن عقيل: الرد على الأشاعرة، ص: 91.
[44] ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 239.
[45] ابن عقيل: المصدر السابق، ص: 86.
[46] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة، مكتبة الخانجي، د ت، ج 1 ص: 34، 75.
[47] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن، ص: 35. وابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 239.وابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية، ص: 106.
[48] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 6 ص: 359، ج 14، 349.
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث - خلال القرنين: 5 - 6 الهجريين - مظاهرها، آثارها، أسبابها، والحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31 - 42

مجموع فتاوى ابن تيمية
مجمع الملك فهد
سنة النشر: 1416 هـ/1995 م
رقم الطبعة: ---
عدد الأجزاء: سبعة وثلاثون جزءا
مسألة: الجزء الرابع…التحليل الموضوعي
[ص: 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؟ ما الصواب منهما؟ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين؟ وفي أهل الحديث: هل هم أولى بالصواب من غيرهم؟ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟.
الحاشية رقم: 30
[ص: 165] فصل ثم قال المعترض: قال أبو الفرج بن الجوزي في الرد على الحنابلة: " إنهم أثبتوا لله سبحانه عينا وصورة ويمينا وشمالا ووجها زائدا على الذات وجبهة وصدرا ويدين ورجلين وأصابع وخنصرا وفخذا وساقا وقدما وجنبا وحقوا وخلفا وأماما وصعودا ونزولا وهرولة وعجبا ; لقد كملوا هيئة البدن وقالوا: يحمل على ظاهره وليست بجوارح ومثل هؤلاء لا يحدثون فإنهم يكابرون العقول وكأنهم يحدثون الأطفال ". قلت: الكلام على هذا فيه أنواع: - (الأول: بيان ما فيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية.
(الثاني: بيان أنه رد بلا حجة ولا دليل أصلا. (الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل. أما " أولا ": فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلام أبي الفرج لم يصنفه [ص: 166] في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا وإنما رد به - فيما ادعاه - على بعضهم.
وقصد أبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وشيخه أبي الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم ; وإلا فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم ولا حكى عنهم ما أنكره ; بل هو يحتج في مخالفته لهؤلاء بكلام كثير من الحنبلية كما يذكره من كلام التميميين. مثل رزق الله التميمي وأبي الوفا بن عقيل. ورزق الله كان يميل إلى طريقة سلفه كجده أبي الحسن التميمي وعمه أبي الفضل التميمي والشريف أبي علي بن أبي موسى هو صاحب أبي الحسن التميمي وقد ذكر عنه أنه قال: " لقد خري القاضي أبو يعلى على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء " وسنتكلم على هذا بما ييسره الله متحرين للكلام بعلم وعدل.
ولا حول ولا قوة إلا بالله: فما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف لكن نزاعهم في مسائل الدق ; وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعا وافتراقا لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة لما تنازع فيه الناس ما ليس لغيره.
وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب. ولهذا كان جميع من ينتحل السنة من طوائف الأمة - فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها - ينتحلونه. [ص: 167]
ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل. فإن هذا أمر لا بد منه في العالم والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن هذا لا بد من وقوعه وأنه لما سأل ربه أن لا يلقي بأسهم بينهم منع ذلك. فلا بد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع لكن لا بد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة كما أنه لا بد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة: كان منتحلا للإمام أحمد ذاكرا أنه مقتد به متبع سبيله.
وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه. وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون: أبو الحسن التميمي وابنه وابن ابنه ونحوهم ; وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور.
ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد - لما ذكر اعتقاده - اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي. وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه ; ولم يذكر فيه ألفاظه وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه وجعل يقول: " وكان أبو عبد الله ".
وهو بمنزلة من يصنف [ص: 168] كتابا في الفقه على رأي بعض الأئمة ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده ; فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة. ومن المعلوم: أن أحدهم يقول: حكم الله كذا أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة ; بحسب ما بلغه وفهمه وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده.
فهذا أيضا من الأمور التي يكثر وجودها في بني آدم. ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الأئمة كما يختلف بعض [أهل] الحديث في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم. فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة. ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم.
فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين. وأمرين متناقضين ولم يشعر بالتناقض. لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة - وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير - لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره ; بل هو أولى بذلك. لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره. لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي جاء من عند الله وبه يعرف سبيله وهو حجته على عباده ; [ص: 169] فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك وذهب هداه وعميت سبيله ; إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه ; بل هذا الرسول آخر الرسل. وأمته خير الأمم.
ولهذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله. لا يضرها من خالفها ولا من خذلها. حتى تقوم الساعة. الوجه الثاني أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب: لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات ; بل له من الكلام في الإثبات نظما ونثرا ما أثبت به كثيرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات كما هو حال أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي.
الوجه الثالث أن باب الإثبات ليس مختصا بالحنبلية ولا فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم ; بل من استقرأ مذاهب الناس وجد في كل طائفة من الغلاة في النفي والإثبات ما لا يوجد مثله في الحنبلية ووجد من مال منهم إلى نفي باطل أو إثبات باطل [ص: 170] فإنه لا يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والإثبات ; بل تجد في الطوائف من زيادة النفي الباطل والإثبات الباطل ما لا يوجد مثله في الحنبلية. وإنما وقع الاعتداء في النفي والإثبات فيهم مما دب إليهم من غيرهم الذين اعتدوا حدود الله بزيادة في النفي والإثبات إذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء.
وكان علم " الإمام أحمد وأتباعه " له من الكمال والتمام على الوجه المشهور بين الخاص والعام ممن له بالسنة وأهلها نوع إلمام وأما أهل الجهل والضلال: الذين لا يعرفون ما بعث الله به الرسول ولا يميزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة: فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الأولين منالمهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن فهم بمقادير الأئمة المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين إذ كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقرب منهم للإيمان: تجد أحدهم يتكلم في " أصول الدين وفروعه " بكلام من كأنه لم ينشأ في دار الإسلام ولا سمع ما عليه أهل العلم والإيمان ولا عرف حال سلف هذه الأمة وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والأعمال الصالحة ولا عرف مما بعث الله به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلال والغي والرشاد. [ص: 171] وتجد وقيعة هؤلاء في " أئمة السنة وهداة الأمة " من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر وعمر ; وأعيان المهاجرين والأنصار ; ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه الأمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم في الأنبياء والمرسلين وقد ذكر الله في كتابه من كلام الكفار والمنافقين في الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والإيمان ما فيه عبرة للمعتبر ; وبينة للمستبصر ; وموعظة للمتهوك المتحير.
وتجد عامة أهل الكلام ومن أعرض عن جادة السلف - إلا من عصم الله - يعظمون أئمة الاتحاد بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه. ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشهادة بالإمامة والولاية لهم وأنهم أهل الحقائق: ما الله به عليم. هذا ابن عربي يصرح في فصوصه: أن الولاية أعظم من النبوة ; بل أكمل من الرسالة ومن كلامه: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولاية النبي أفضل من نبوته وكذلك ولاية الرسول أفضل من رسالته أو يجعلون ولايته حاله مع الله ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل.
فإن الرسول إذا خاطب الخلق وبلغهم الرسالة لم يفارق الولاية بل هو ولي [ص: 172] الله في تلك الحال كما هو ولي الله في سائر أحواله فإنه ولي الله ليس عدوا له في شيء من أحواله. وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا الله وناجاه. وأيضا: فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبنة من فضة وهو لبنتان من ذهب وفضة ويزعم أن لبنة محمد صلى الله عليه وسلم هي العلم الظاهر ولبنتاه: الذهب علم الباطن والفضة علم الظاهر وأنه يتلقى ذلك بلا واسطة ; ويصرح في فصوصه. أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة لأن الولي يأخذ بلا واسطة والنبي بواسطة فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه فيه.
وبالجملة: فهو لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو متابعه فيه في الظاهر كما يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أصلا لا في الحقائق الخبرية ولا في الحقائق الشرعية. وأيضا: فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه بل ادعى أنه يأخذ ما أقره عليه من الشرع من الله في الباطن فيكون أخذه للشرع عن الله أعظم من أخذ الرسول. [ص: 173]
وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه - وهو موضع اللبنة الذهبية - فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. فهذا كما ترى في حال هذا الرجل وتعظيم بعض المتأخرين له.
وصرح الغزالي بأن قتل من ادعى أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة أحب إليه من قتل مائة كافر لأن ضرر هذا في الدين أعظم. ولا نطيل الكلام في هذا المقام لأنه ليس المقصود هنا. وأيضا فأسماء الله وأسماء صفاته عندهم شرعية سمعية لا تطلق بمجرد الرأي فهم في الامتناع من هذه الأسماء أحق بالعذر ممن امتنع من تسمية صفاته أعراضا.
وذلك أن الصفات التي لنا: منها ما هو عرض كالعلم والقدرة ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه كالوجه واليد وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجساما لما في ذلك من معنى الاكتساب والانتفاع والتصرف وجواز التفريق والبعضية. [ص: 174] الوجه الرابع أن هذا السؤال لا يختص بهؤلاء بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية كل هؤلاء يثبتون لله صفة الوجه واليد ونحو ذلك.
وقد ذكر الأشعري في كتاب المقالات أن هذا مذهب أهل الحديث وقال: إنه به يقول. فقال في (جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: " جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: الإقرار بكذا وكذا وأن الله على عرشه استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خلقت بيدي} وكما قال: {بل يداه مبسوطتان} وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} وأن له وجها كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الإثبات وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود في الحنبلية - سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي أو كان فيه تفصيل - إلا وذلك موجود فيما شاء الله [ص: 175] من أهل الحديث والصوفية والمالكية والشافعية والحنفية ونحوهم ; بل هو موجود في الطوائف التي لا تنتحل السنة والجماعة والحديث ولا مذهب السلف مثل الشيعة وغيرهم ففيهم في طرفي الإثبات والنفي ما لا يوجد في هذه الطوائف.
وكذلك في أهل الكتابين - أهل التوراة والإنجيل - توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والإثبات وكذلك الصابئة من الفلاسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والإثبات حتى إن منهم من يثبت ما لا يثبته كثير من متكلمة الصفاتية ولكن جنس الإثبات على المتبعين للرسل أغلب: من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين وجنس النفي على غير المتبعين للرسل أغلب: من المشركين والصابئة المبتدعة.
وقد ذكرنا في غير هذا الجواب مذهب سلف الأمة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف: بحيث لا يبقى لأحد من الطوائف اختصاص بالإثبات. ومن ذلك: ما ذكره شيخ الحرمين: أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه " الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول " وكان من أئمة الشافعية - ذكر فيه من كلام الشافعي ومالك والثوري وأحمد بن حنبل والبخاري - صاحب الصحيح -[ص: 176] وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم.
وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام وذكر " أنه اقتصر في النقل عنهم - دون غيرهم - لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقا وغربا إلى مذاهبهم ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها: من جودة الحفظ والبصيرة والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة والإجماع والسند والرجال والأحوال ولغات العرب ومواضعها والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمنقول والمعقول والصحيح والمدخول في الصدق والصلابة وظهور الأمانة والديانة: ممن سواهم ". قال: " وإن قصر واحد منهم في سبب منها جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم فإن غيرهم من الأئمة - وإن كانوا في منصب الإمامة - لكن أخلوا ببعض ما أشرت إليه مجملا من شرائطها إذ ليس هذا موضعا لبيانها ".
قال: " ووجه ثالث لا بد من أن نبين فيه فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزاما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه أو يبدعه أو يكفره فانتحال مذهبه - مع مخالفته [ص: 177] له في العقيدة - مستنكر والله شرعا وطبعا فمن قال: أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبلي في الفروع معتزلي في الأصول قلنا: قد ضللت إذا عن سواء السبيل فيما تزعمه إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد ".
قال: " وقد افتتن أيضا خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية وهذه والله سبة وعار وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار فإن مذهبهم ما رويناه: من تكفيرهم: الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية ". وبسط الكلام في مسألة اللفظ إلى أن قال -: " فأما غير ما ذكرناه من الأئمة: فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم ".
قال: " فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث وهم الأئمة: الشافعي ومالك والثوري وأحمد إذ لا نرى أحدا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم؟. - قلنا: لأن من ذكرناه من الأئمة - سوى هؤلاء - أرباب المذاهب في الجملة إذ كانوا قدوة في عصرهم ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة.
وذلك أن ابن عيينة كان قدوة ولكن لم يصنف في [ص: 178] الذي كان يختاره من الأحكام وإنما صنف أصحابه وهم الشافعي وأحمد وإسحاق فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم. وأما الليث بن سعد فلم يقم أصحابه بمذهبه قال الشافعي: " لم يرزق الأصحاب " إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما ; فاندرج مذهبه تحت مذهبهما.
وأما الأوزاعي فلا نرى له في أعم المسائل قولا إلا ويوافق قول مالك أو قول الثوري أو قول الشافعي: فاندرج اختياره أيضا تحت اختيار هؤلاء. وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما.
قال: " فإن قيل: فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني التي هي ديوان الشرائع وأم البدائع: في بيان الأحكام ومذاهب العلماء الأعلام وأصول الحجج العظام ; في المختلف والمؤتلف. قال: " وأما اختيار أبي زرعة وأبي حاتم في الصلاة والأحكام - مما قرأته وسمعته من مجموعيهما - فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور. وأما البخاري فلم أر له اختيارا ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق.
فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم دون غيرهم إذ هم أرباب [ص: 179] المذاهب في الجملة ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة وليس من سواهم في درجتهم وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم.

لقد خرى أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء 

فيتعلق بكتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي البغدادي(ت 458هجرية)، و مفاده أن ابن الأثير ذكر أنه في سنة 429 هجرية أنكر ( العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله، سبحانه وتعالى، المشعرة بأنه يعتقد التجسم، وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع المنصور، وتكلم في ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً). و قال أيضا -عن المؤلف و كتابه - : (وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن التميمي الحنبلي يقول: لقد خرى أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء) .
   واضح من ذلك أن ابن الأثير اتخذ موقفا مُتشددا من القاضي ابي يعلى-شيخ الحنابلة في زمانه-، و اتهمه باعتقاد التشبيه في صفات الله تعالى، بناء على ما دونه في كتابه إبطال التأويلات،و على ما نقله عن أبي محمد رزق الله بن التميمي الحنبلي البغدادي(ت 488 هجرية)، فيما قاله عن القاضي ابي يعلى . فهل أصاب فيما ذهب إليه ؟ .
   أولا إنه-أي ابن الأثير- ذكر أن العلماء أنكروا على أبي يعلى، و هذا تعميم لا يصخ، لأن الذين أنكروا عليه ذلك هم الأشاعرة، و هم من بعض علماء بغداد و ليسوا هم علمائها . و كان القاضي أبو يعلى قد صنف كتابه إبطال التأويلات ردا على المتكلم الأشعري ابن فورك الأصفهاني (ت 406هجرية) ن في تأويله للصفات على طريقة المؤولين و المعطلين لها، فرد عليه أبو يعلى بكتابه إبطال التأويلات لأخبار الصفات ؛ فأنكر عليه علماء من الأشاعرة ببغداد، و اتهموه بالتشبيه و التجسيم .  لذا فإن قول ابن الأثير : (و فيها أنكر العلماء على أبي يعلى)، هو قول مبالغ فيه،و لا يُعبر عن الحقيقة،و لا يصح تعميمه .
    و ثانيا إن ابن الأثير ذكر الخبر موجزا،و جمع فيه بين حادثتين منفصلتين متعلقتين بكتاب أبي يعلى، أنكر فيهما الأشاعرة على الرجل ما دوّنه في كتابه . و ذلك أن الإنكار الأول حدث سنة 429 هجرية، ثم تكرر ثانية في سنة 432 هجرية، فتدخل الخليفة القائم بأمر الله العباسي(422-467 للهجرة)، و طلب الكتاب من أبي يعلى، فنظر فيه ثم رده إلى صاحبه ، و كتب في ذلك محضرا وقّع فيه جمع من علماء بغداد من الأشاعرة و الحنابلة و أهل الحديث، و قعوا على المحضر بالموافقة على ما في كتاب أبي يعلى، منهم القاضي الأشعري أبو بكر الطيب الطبري . و كان الزاهد أبو الحسن القزويني (ت 442هجرية) أول الموقعين، فكتب (هذا قول أهل السنة،و هو اعتقادي،و عليه اعتمادي) . ثم أخرج الخليفة القائم الاعتقاد القادري –الذي كان والده القادر بالله قد كتبه-  أخرجه تأييدا و موافقة لمذهب أبي يعلى الفراء .
    فالمؤرخ ابن الأثير أغفل أمورا هامة تتعلق بحادثة إنكار علماء من الأشعرية على أبي يعلى الفراء، كان عليه أن يذكرها و لا يغفلها، لأنها هامة جدا، و تتعلق مباشرة بالموضوع . فهو قد عمم الإنكار و جعله يشمل علماء بغداد من دون تمييز لهم و لا تحديد، ثم اغفل موقفهم الأخير الذي وافقوا فيه على المحضر، على اختلاف مذاهبهم . فكان عليه أن يذكر ذلك،و يُعلّق عليه إن كان لديه تعليق أو اعتراض . و هو قد فعل بعض ذلك –دون توسع- عندما أشار إلى ما قاله الزاهد القزويني، فأورد نصه،و عقّب عليه بقوله (تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا) .
 
    و ثالثا إنه من أسباب إنكار ابن الأثير-و غيره من أهل العلم- على القاضي أبي يعلى و اتهامه بالتجسيم، هو أنه  قد بالغ في إثبات الصفات معتمدا على أحاديث تُوهم التشبيه،و بعضها صريح في ذلك، و هي من الأحاديث الضعيفة و الموضوعة، كحديث الإسراء و المعراج الذي فيه إن الرسول –عليه الصلاة و السلام- رأى ربه عيانا، و هو حديث موضوع باتفاق أهل العم .
    و مع ذلك فإنه –أي أبو يعلى- لم يكن يعتقد التشبيه و لا التجسيم –وفق مفهوم أهل الحديث- و له مصنفات في الرد على المجسمة و المشبّهة، و قد دافع عنه ولده أبو الحسين، -صاحب الطبقات- و بيّن عقيدة والده في مسألة صفات الله تعالى،و برّأه مما اُتهم به . من ذلك أنه ذكر أن والده كان يعتقد في الله تعالى بأنه ( فرد الذات متعدد الصفات لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا نظير ولا ثاني)،و الحنابلة سمعوا قوله عز وجل: آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب-سورة البقرة/1-3- فآمنوا بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً للقدرة وتصديقاً للرسل وإيماناً بالغيب ... واعتقدوا: أن الباري سبحانه استأثر بعلم حقائق صفاته ومعانيها عن العالمين وفارق بها سائر الموصوفين،  فهم بها مؤمنون و بحقائقها موقنون وبمعرفة كيفيتها جاهلون، لا يجوز عندهم ردها كرد الجهمية و لا حملها على التشبيه كما حملته المشبهة الذي أثبتوا الكيفية، و لا تأولوها على اللغات والمجازات كما تأولتها الأشعرية . فالحنبلية لا يقولون في أخبار الصفات بتعطيل المعطلين ولا بتشبيه المشبهين ولا تأويل المتأولين مذهبهم: حق بين باطلين وهدى بين ضلالتين: إثبات الأسماء والصفات مع نفي التشبيه والأدوات) .
  فهذا نص صريح ينفي عن القاضي أبي يعلى الفراء ما اتهمه به خصومه، لكن الخلل دخله من أنه كان ضعيفا في علم الحديث، لا يُميّز بين صحيح الأحاديث من سقيمها، فروى الضعيف و الواهي و الموضوع دون تمييز، و بنى عليه كتابه. لذا فإن كتابه هذا يجب الحذر منه عند الاستفادة منه ، و لا يُؤخذ بأحاديثه و نصوصه إلا بعد تحقيقها  . علما بأن الانتقادات التي وُجهت لأبي يعلى الفراء، سببها الخطأ في تطبيق المنهج،و ليس سببها فساد المنهج و خطئه، فمنهجه صحيح شرعا و عقلا، و قد أشار إلى ذلك القاضي أبو يعلى فيما نقله عنه ولده أبو الحسين .
    و أُشير هنا إلى أمر هام جدا مفاده أن السبب الرئيسي الذي جعل ابن الأثير يتخذ موقفا متشددا من أبي يعلى و كتابه، هو الاختلاف في تحديد مفهوم التشبيه بين الأشاعرة،و الحنابلة- و أهل الحديث عامة-، فالتشبيه عند الحنابلة و أصحاب الحديث هو أن يُقال:  يد الله كيد الإنسان، و سمعه كسمعه، و أما إذا قيل : لله يد ليست كيد الإنسان، و بصره ليس كبصره، فهذا ليس تشبيها . و أما الأشاعرة فالتشبيه عندهم هو إثبات الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب و السنة، كالاستواء على العرش، و النزول، و لا يعدون الصفات السبع التي أثبتوها تشبيها .
المصدر موقع الفسطاط .. 

عدد مرات القراءة:
7730
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :