جوانب من سيرة عمر رضي الله عنه عثمان الخميس
و الصلاةُ و السَّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين و حبيب ربِّ العالمين محمَّد بنِ عبدِ الله و على آله و صحابته أجمعين ، أمَّا بعد: ففي السَّنةِ السَّادسةِ منْ مبعثِ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم خرجَ رجلٌ منْ قريش إلى جماعةٍ منْ أصحابهِ ليشربَ معهمُ الخمرَ ، و لكنه لما جاءَهم أو لما جاءَ إلى المكانِ الذي كانوا يجتمعون فيه لم يجدْ أحداً منهم ، فقالَ هذا الرَّجلُ في نفسهِ لعلِّي أذهبُ إلى البيتِ فأطوف سُبعاً أو سُبعين ، يعني سبعة أشواط أو أربعة عشرة شوطاً . يقولُ : فجئتُ البيتَ فإذا رسولُ الله صلَّى الله عليه و سلَّم يُصلِّي بين الرُّكنِ و المقامِ ، الكعبة بين يديه و هو مستقبل الشَّامَ ، يقولُ : فجئتُ و قلتُ أستمعُ قراءَته ، فاختبأتُ خلفَ الأستارِ ، فاستمعتُ قراءَته فرقَّ قلبي لما سمعتُ ، فجئتُه و بايعتُه على الإسلامِ ، بعد ذلك ذهبَ هذا الرَّجلُ إلى رجلٍ آخرَ يُقالُ له جميل بن دراج الجُمحي ، و كانَ أنقلَ الحديثِ في قريش ، أي هو الذي ينقل الحديثَ للناسِ ، فذهبَ إليه فقالَ له : يا جميلُ أ تدري ما وقعَ ؟ قالَ : و ما وقعَ ؟ قالَ : اتَّبعتُ محمَّداً . قالَ : صبأتَ ؟ فخرجَ يجري إلى نوادي قريش يصيحُ فيها : صَبَأَ عمرُ ، صَبَأَ عمرُ و عمرُ خلفَه يقولُ : كذبَ عدوُّ الله بل أسلمتُ . فاجتمعَ إليه كُفَّارُ مَكَّةَ فصاروا يكلِّمونه و يكلِّمهم و يجادلونه و يجادلُهم حتى وقعَ العِرَاكُ بينهم ، فصاروا يضربونه و يضربُهم ، حتى ارتفعتِ الشمسُ إلى كبدِ السَّماءِ ، بعد ذلك تعب ، فصاروا يضربونه فما أنقذَه منْ بين أيديهم إلا رجلٌ جاءَ إليهم و قالَ : ابتعدوا عنه أتظنُّون أنَّ بني عديّ يسلمونه لكم ، دعوه فإني جارٌ له ، فإذا هو العاص بن وائل والد عمرو بن العاص . ذلكم الرَّجلُ هو الذي استجابَ الله تبارك و تعالى فيه دعوةَ نبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم حين قالَ : " اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بعمرَ بنِ الخطَّابِ " . ذلكم عمرُ الفاروقُ ، و تلك قِصَّةُ إسلامهِ رضيَ الله عنه و أرضاه . قالَ ابنُ مسعودٍ : ما زلنا أعزَّة منذ أسلمَ عمرُ ، منذ أسلمَ هذا الرَّجلُ و صارتْ للمسلمين كلمةٌ ، و صارتْ قريش تقولُ : عادلونا الآن بعد أنْ كنا نغلبُهم ، بعد أنْ كنا نتهضَّهم الآن عادلونا عندما أسلمَ هذا الرَّجلُ . و لذلك قالَ عنه رسولُ الله صلَّى الله عليه و سلَّم : " إيهاً يا بن الخطاب ما لقيك الشيطانُ سالكاً فَجّاً إلا سلكَ فَجّاً غيرَ فَجِّكَ " ، أي طريقاً غير طريقك ، فالشيطانُ يفرُّ منه . و قد جاءَ عن عبدِ الله بنِ مسعود رضيَ الله عنه أنه قالَ :خرجَ رجلٌ منَ الإنس فلقيَه رجلٌ منَ الجِنِّ فقالَ له : أ تُصارعُني ؟؟ قالَ الإنسيُّ : مَنْ أنتَ ؟ قالَ : أنا منَ الجِنِّ ، أ تُصارعُني ؟؟ قالَ : أصارعُك . فصارعَه ، فصرعَ الإنسيُّ الجنيُّ ، فعجبَ الجنيُّ و قالَ له : غلبتَني ؟؟!!! لقد علمتِ الجنُّ أني منْ أشدِّها فصارعْني الثانيةَ ، فصارعَه الثانيةَ فصرعَه ، فقيلَ لابنِ مسعود : مَنْ هذا الرَّجلُ ؟؟ أ هوَ عمرُ ؟ قالَ : و مَنْ غيرُ عمرَ ؟ و قد جاءَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم أنه قالَ : " قد كانَ فيمَنْ سبقَكم محدثون ، فإنْ يكنْ في أُمتي فعمر " . و قد جاءَ عنه رضيَ الله عنه أنه قالَ : " وافقتُ ربي في ثلاثٍ : 1- في مقام إبراهيم 2- و في الحجاب 3- و في أسارى بدر 1- مقام إبراهيم كانَ قريباً جداً منَ الكعبةِ ، بل كانَ ملتصقاً بها ، فقالَ عمرُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم لو أخَّرتَه قليلاً ، فأخَّره صلواتُ الله و سلامُه عليه لأمرِ الله له ، ثم قالَ عمرُ لوِ اتَّخذتَ منْ مقامِ إبراهيمَ مُصَلَّى ، فأنزلَ الله تباركَ و تعالى : " وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى " . 2- و لما أُسِرَ أسرى بدر استشارَ النبيُّ صلَّى الله عليه و سلَّم أصحابَه ماذا يصنعُ بهم ، فأشارَ عليه أبو بكر أنْ يخلِّي سبيلَهم بمقابل أو بدون مقابل ، و قالَ له : إنهم أهلُك و بنو عمِّك ، فاستشارَ عمرَ فأشارَ عمرُ على النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم بقتلِهم و قال : حتى يعلمَ الكُفَّارُ أنْ ليسَ في قلوبنا لهم رحمة ، فاختارَ رسولُ الله صلَّى الله عليه و سلَّم رأيَ أبي بكر ، و بيَّن الله تباركَ و تعالى له رأيَ عمرَ و قالَ : " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ " ، أي لأجلِ أنْ يُثخنَ في الأرضِ . 3- و قالَ لرسولِ الله صلَّى الله عليه و على آله و سلَّم : " إنَّ نساءَك يدخلُ عليهنَّ البَرُّ و الفاجرُ فلو أمرتهنَّ بالحجابِ ، فأنزلَ الله تباركَ و تعالى آياتِ الحجابِ . هذا الرَّجلُ موفَّق وافقَ ربَّه تباركَ و تعالى في هذه الأمور و في غيرها . و قد جاءَ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم أنه قالَ : " بينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنةِ فإذا امرأةٌ تتوضَّأ إلى جانب قصر ، فقلتُ : لمنْ هذا القصرُ ؟ قالوا لعمرَ ، قالَ : فتذكَّرتُ غيرتَك يا عمرُ فولَّيتُ مُدبراً " . فبكى عمرُ رضيَ الله عنه و قالَ : أعليكَ أغارُ يا رسولَ الله ؟؟! - صلَّى الله عليه و سلَّم – و قد سُئِلَ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عن أفضلِ الناسِ بعد رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم فقالَ : أبو بكر . قيلَ : ثم أنتَ . قالَ : ثم عمر . و قد جاءَ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم أنه قالَ : " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " . و كانَ عمرُ رضيَ الله عنه منْ أعلم أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، بل هو أعلمُهم على الإطلاقِ بعد أبي بكر الصِّدِّيق رضيَ الله عنهم أجمعين " . فقد جاءَ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم أنه قالَ : " بينما أنا نائمٌ أتيت بقدحٍ منْ لبنٍ فشربتُ منه حتى أني لأرى الرّيَّ يجري في أظفاري ثم أعطيتُ فضلي عمر " . قالوا : و ما أوَّلتَ ذلك يا رسولَ الله ؟ قالَ : " العلم " ، متفق عليه ، و جميعُ الأحاديثِ التي مرَّت في الصحيحين أو في أحدهما ، ما عدا أثر عبد الله بن مسعود الذي فيه مصارعة عمر للجنيّ فهذا أخرجَه أحمدُ . و قالَ رسولُ الله صلَّى عليه و سلَّم كذلك : " بينما أنا نائم رأيتُ الناسَ يُعرَضون عليَّ و عليهم قُمُصٌ - أي قمصان - يقولُ : " منها ما يبلغُ الثدي ، و منها ما يبلغُ دون ذلك ، و مَرَّ عليَّ عمرُ عليه قميصٌ يجرُّه " ، قالوا : يا رسولَ الله و ما أوَّلتَ ذلك ؟ قالَ : " الدين " ، متفق عليه . و قالَ ابنُ مسعود رضيَ الله عنه : إذا ذُكِرَ الصالحون فحيَّا هلا بعمرَ ، إنْ كانَ عمرُ أعلمنا بكتابِ الله و أفقهنا في دين الله . و كانَ علماً علي الزُّهد ، و إذا ذَكَرَ الناسُ الزُّهدَ ذكروا عمرَ بنَ الخطاب ؛ حتى صارَ الزُّهدُ يُعْرَفُ بعمرَ . قالَ معاويةُ رضيَ الله عنه : أمَّا أبو بكر فلم يُرِدِ الدُّنيا و لم تُرِدْهُ الدُّنيا ، و أمَّا عمرُ فأرادته الدُّنيا فلم يُرِدْهَا . و في عام الرّمادة سنةَ سبعَ عشرةَ منْ هجرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم لما أصابَ الناسَ القحطُ و الجوعُ امتنعَ عن أكلِ الطَّيِّبِ منَ الطعامِ ، و كانَ لا يأكلُ إلا الخبزَ و الزيتَ . و لذلك ذكرَ أهلُ العلم سببَ الاختلافِ في وصفِ عمرَ أنَّ بعضَ الرُّواةِ عندما يذكرون عمرَ يقولون كان مُشرباً بحمرةٍ ، أبيض مشرب بحمرة ، و آخرون يقولون كانَ آدمَ . ذكرَ أهلُ العلم إنما صارَ آدمَ بعد عام الرّمادة ، و ذلك أنه كانَ لا يأكلُ إلا الخبزَ و الزَّيتَ حتى أثَّر في جسدهِ و في لونِ جسمهِ رضيَ الله عنه . قالَ : لا و الله لا آكلُ إلا الخبزَ و الزيتَ حتى يشبعَ آخرُ رجلٍ منْ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه و سلَّم ، و يقولُ : بئسَ الوالي إنْ أنا شبعتُ و رجلٌ منْ أُمة محمَّدٍ جائعٌ . و ذُكِرَ أنه رأى ابنَه عاصم في السوق يمشي فقال : إلى أين ؟ قالَ : أريدُ أنْ أشتريَ لحماً . فسكتَ و تركَه . ثم رآهُ مرَّةً ثانيةً ، قالَ : إلى أين ؟ قالَ : أريدُ أنْ أشتريَ لحماً . قالَ : أمَا اشتريتَ بالأمسِ ؟!! قالَ : اشتهيت ، بالأمس اشتريتَ و أكلتَ ، و اليوم اشتهيتُ فأريدُ أنْ أشتريَ حتى آكل . قالَ : اشتهيت !! قالَ عمرُ : أ كُلَّما اشتهيتَ اشتريتَ ؟! أ كلَّما اشتهيتَ اشتريتَ ؟! و ذلك أنَّ هذه النفسَ تبطشُ كما قيلَ . إنْ تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم . و هكذا هذه النفسُ إذا أعطاها الإنسانُ ما تريدُ سلكتْ به أوعرَ السُّبُلِ ، و هي أمَّارةٌ بالسُّوءِ ، و الإنسانُ هو الذي يُكفيها كما قالَ الله تباركَ و تعالى : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ( 9 ) وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ( 10 ) " - سورة الشمس . و قالَ ابنُ عمرَ : وُضِعَ عمرُ بين القبر و المنبر ، أي لما ماتَ حتى يُدفن ، يقولُ : فجاءَ عليٌّ حتى قامَ بين الصُّفوفِ ، صفوفِ الناسِ فقالَ : رحمةُ الله عليكَ ، ما مْن خلقٍ أحبُّ إليَّ منْ أنْ ألقى الله بصحيفتهِ بعد صحيفةِ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم منْ هذا المُسجَّى عليه ثوبه ، يعني عمرَ رضيَ الله عنه . و قالَ طلحةُ : ما كانَ عمرُ بأوَّلنا إسلاماً ، و لا أقدمنا هجرةً ، و لكنه كانَ أزهدَنا في الدُّنيا و أرغبَنا في الآخرة . أمَّا عبادتُه رضيَ الله عنه فذُكِرَ أنه كانَ يصلِّي مع الناسِ العشاءَ ثم يدخلُ إلى بيتهِ فيُصلِّي حتى يطلُع عليه الفجرُ رضيَ الله عنه و أرضاه . و ذَكَرَ مَنْ رآه أنه رأى في وجههِ خطَّين أسودين ، قالوا كانَ هذا الخطان منْ أثرِ البكاءِ . و كانَ يسمعُ الآيةَ منَ القرآن فيُغشى عليه ، فيُحملُ صريعاً إلى منزلهِ ، فيُعادُ أياماً ليسَ به مرضٌ إلا الخوف . و قد جاءَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم أنه مَرَّ على أبي بكر الصديق و هو يصلِّي الليلَ يخفضُ صوتَه بالقراءةِ ، و مَرَّ على عمرَ يصلِّي بالليل يرفعُ صوتَه بالقراءة . فسألَ أبا بكر : " مررتُ عليكَ بالليلِ و أنتَ تقرأ تخفضُ صوتَك فلمَ ؟؟ " قالَ : قد أسمعتُ مَنْ ناجيتُ . و قالَ لعمرَ : " قد مررتُ عليكَ بالليل ترفعُ صوتَك بالقراءة فلمَ ؟؟ " قالَ : أطرد الشيطانَ و أُوقظ الوسنان . فقالَ لأبي بكر : " ارفعْ منْ صوتِك قليلاً " . و قالَ لعمرَ : " اخفضْ منْ صوتِك قليلاً " . فكانَ قيامُ الليل ديدنهم رضيَ الله عنهم أجمعين . و كانَ قويّاً في دينِ الله تباركَ و تعالى ، وَقَّافاً مع شرع الله جلَّ و علا . كانَ جُلساءُ عمرَ القُرَّاءُ ، هم خاصَّته و جلساؤه و المقربونَ إليه ، و كان عُيينةُ بنُ حصن يتمنى أنْ لو جاءَ إلى عمرَ و دخلَ عليه ، فطلبَ منِ ابنِ أخيهِ الحُرّ بن قيس قالَ له : استأذِنْ لي على عمرَ . قالَ : أفعلُ . فاستأذنَ له على عمرَ ، فأذنَ له عمرُ . فدخلَ فقالَ : يا عمرُ ، و في روايةٍ أنه قالَ : إيهٍ يا ابن الخطاب ، إنك لا تعدلُ في القضيةِ و لا تُعطينا الجزلة ، أي منَ المال . فهمَّ به عمرُ . فقامَ الحرُّ بنُ قيسٍ فقالَ له : يا أميرَ المؤمنين ، إنَّ الله تباركَ و تعالى قالَ لنبيِّه : " خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 ) " – الأعراف . يقولُ ::فوَ الله ما جاوزَها عمرُ رضيَ الله عنه و أرضاه . أ هكذا حالُ المسلمين اليومَ ؟؟ أ هكذا حالُنا إذا غضبْنا و ذُكِّرنا بكتابِ الله تباركَ و تعالى أو بسُنَّة نبيِّنا صلَّى الله عليه و سلَّم أم نكونُ كذلك الرَّجلِ الذي رُؤِيَ عليه الغضبُ ، فقالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه و سلَّم : " و الله إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجدُ ، أعوذُ بالله منَ الشيطان الرجيم " . فلما أُخبرَ الرَّجلُ قالَ : أبي جنونٌ ؟؟ أ مجنونٌ أنا حتى أقول هذه الكلمة ؟ لماذا أستعيذُ منَ الشيطان ؟؟ ذلك موقفُ الرَّجلِ و هذا موقفُ عمرَ رضيَ الله عنه و أرضاه . و كانَ شديداً في دينِ الله تباركَ و تعالى ، و قد مرَّ بنا موقفُه منْ أسرى بدر و أنه قالَ : يا رسولَ الله بل أعطني فلاناً منْ بني الخطاب فأضربُ عنقَه ، و أعطِ عليّاً عقيلاً فيضربُ عنقَه ، و أعطِ فلاناً فلاناً فيضربُ عنقَه ؛ حتى يعلمَ الكفارُ أنْ ليسَ في قلوبنا لهم رحمة " . و كذا لما جاءَ أبو سفيان مع العباس بن عبد المطلب قُبيل فتح مكةَ رآه عمرُ ، رأى أبا سفيان مع العباس ، و أبو سفيان في ذلك الوقت رأسُ الكفر و زعيمُ قريش ، فأسرعَ عمرُ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم يطلبُ منه الإذنَ ليقتُلَ أبا سفيان ، و العباسُ مع أبي سفيان يجري معه على حماره ليصلَ قبل عمرَ ليأخذَ له الأمانَ منْ رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم ، فسبقَ العباسُ عمرَ و دخلَ على النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم معه أبو سفيان ، فدخلَ بعدَهم عمرُ فقالَ : يا رسولَ الله ، هذا أبو سفيان رأسُ الكفر قد مكَّننا الله منه أُؤمرْ فلنضربْ عُنقَه . فقالَ العباسُ له : يا عمرُ ، و الله لو كانَ منْ بني الخطاب ما أسرعتَ إليه هكذا ، لأنَّ أبا سفيان ابن عمِّ العباس عمِّ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم و ابن عمِّ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم ، فقالَ العباسُ : لو كانَ منْ قومِك يا عمرُ ما حرصتَ على قتلهِ هكذا ، لماذا تحرصُ على قتلهِ ؟؟! أ لأنه منْ بني عبد مناف ؟؟؟ فوقفَ عمرُ و قالَ له : يا عباسُ ، و الله لإسلامُ العباسِ كانَ أحبّ إليَّ منْ إسلام الخطاب لو كانَ أسلمَ ؛ لما أرى أنَّ في ذلك رضىً لرسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم ، ما حرصتُ عليه لأنه منْ بني عبد مناف . كيفَ و عمرُ هو الذي قالَ في بدرٍ مكِّني يا رسولَ الله منْ فلانٍ منْ بني الخطاب لأضربَ عُنقَه ، إنما هو غضبٌ لدين الله تباركَ و تعالى منْ عدوٍّ منْ أعداءِ الله في ذلك الوقت ، و لكنْ مَنَّ الله عليه فأسلمَ . و كذا لما وقعتِ الخطيئةُ منْ حاطب بن أبي بلتعة و راسلَ قريشاً مع سارة ، أرسلَ معها الكتابَ يحذِّر قريشاً منْ خروج النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم إليهم ، فعلمَ النبيُّ صلَّى الله عليه و سلَّم بالوحي ، فأرسلَ الزبير بن العوام و علي بن أبي طالب خلفَ المرأة سارة ، فأتيا بالكتابِ ، فرآه النبيُّ صلَّى الله عليه و سلَّم فقالَ : " ما هذا يا حاطبُ ؟ " فقامَ عمرُ فقالَ : يا رسولَ الله ، دعني أضرب عنقَه فقد نافقَ ، فمنعَه النبيُّ صلَّى الله عليه و سلَّم و قالَ : " ما يُدريك يا عمرُ لعلَّ الله اطَّلعَ على أهلِ بدرٍ فقالَ افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم " . و كانَ عمرُ ذا رعايةٍ لرعيَّته حتى قيلَ قد أتعبتَ مَنْ جاءَ بعدَك . مَرَّ على مجموعةٍ منَ التجار هو و أبو عبيدة و هم قادمون إلى مكة يريدون دخولها فقالَ لأبي عبيدة : ما تقولُ يا أبا عبيدة لعلنا نحرسهم منَ اللصوص ، فقالَ أبو عبيدة : أنت و ما ترى ، فقامَ عمرُ يصلِّي الليل ينتظر الصُّبح ، فسمعَ صبيّاً يبكي و يرفعُ صوتَه بالبكاء ، فجاءَ عمرُ إلى أُمِّه فقالَ : أسكتيه ، ثم رجعَ يصلِّي فإذا بالصبيِّ يرفعُ صوتَه بالبكاءِ ، فقضى بعضَ صلاتهِ و جاءَ إلى أمِّه و قالَ : أسكتيه ، ثم رجعَ يصلِّي فإذا الصبيُّ يبكي و يرفعُ صوتَه بالبكاءِ ، فجاءَها عمرُ و قالَ : و الله إنكِ لأمُّ سُوءٍ _أُمّ سيئة _ كيفَ تدعينه يبكي كلَّ هذا الوقتِ ؟ فقالتْ أمُّه : إنَّ عمرَ لا يفرضُ إلا للمفطوم ، و أنا أُريدُ أنْ أفطمَه _أي قبل أوان الفطام _فقالَ عمرُ : بؤساً لعمرَ ، كم قتلَ منْ أولادِ المسلمين . ثم لما أصبحَ أمرَ مناديه فنادى : لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرضُ لكلِّ مولودٍ في الإسلام ، فُطم أو لم يُفطم . و كذا مَرَّ عمرُ يَعُسُّ المدينةِ فوجدَ رجلاً عند امرأته و هي تمخُض - أي تطلق – و ليس عندها مَنْ يساعدُها منَ النساء ، فذهبَ مسرعاً إلى بيته ، فكلَّم زوجتَه أمَّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، فقالَ لها : يا أمَّ كلثوم ، هل لكِ في أجرٍ ساقَه الله إليكِ ؟ قالتْ : نعم ، قالَ : امرأة تمخض ، ليس عندها أحدٌ ، فهلمِّي بنا إليها ، فذهبَ هو و زوجته أمير المؤمنين ، فدخلتْ زوجتُه أمُّ كلثوم على المرأة ، و جلسَ هو عند الرَّجلِ يُطيِّب خاطرَه و يهوِّن الأمرَ عليه حتى ولدتِ المرأةُ و أنجبتْ غلاماً ، فخرجتْ أمُّ كلثوم تنادي فتقولُ : يا أميرَ المؤمنين ، بشِّر صاحبَك بغلام ، فبُهِتَ الرَّجلُ فقالَ : أنتَ أميرُ المؤمنين ؟! أمير المؤمنين و تأتي بزوجتك لِتُنَفِّسَ امرأتي ؟ قالَ : لا عليكَ يا أخي . خُذْ غلامَك باركَ الله لكَ فيه ، ثم خرجَ منْ عندهِ رضيَ الله عنه و أرضاه . و اشتُهر عند أهلِ العلمِ قولُ رسولِ كسرى عندما جاءَ برسالةٍ إلى عمرَ فقالَ: أين قصرُ عمر ؟ قالَ : ليس له قصر . قالَ : فأين أجدُه ؟ قالَ : لعلَّه في بيتهِ . فذهبوا إلى بيتهِ فلم يجدوه . قالَ : لم أجده . قالَ : لعلَّه ينامُ في المسجدِ . فذهبوا إلى المسجدِ فلم يجدوه . قالَ : لم أجده . قالَ : لعلَّه نائمٌ في الطريقِ . فذهبوا يبحثون عنه في الطريق فإذا هو نائمٌ تحت شجرةٍ ، فجاءَ رسولُ كسرى عند رأسهِ و قالَ كلمتَه المشهورةَ : حكمتَ ، فعدلتَ ، فأمِنتَ ، فنمتَ . هكذا كانَ عمرُ رضيَ الله عنه و أرضاه . و لما خرجَ إلى بيتِ المقدسِ عندما حاصرَها أبو عبيدةَ و قالوا له : لا تسلم مفاتيحها إلا لأمير المؤمنين فليأتنا ، فاستشارَ أصحابَه ، هل أذهبُ إليهم أو لا ؟ فأشارَ إليه عليٌّ و قالَ : بل تذهبُ إليهم ، فذهبَ إليهم و ولَّى عليّاً على المدينةِ ، فخرجَ هو و غلامٌ له على بعيرٍ يتناوبان عليه ، يركبُ عمرُ مرَّة و يركبُ غلامُه مرَّة ، فلمَّا وصلُوا إلى بيتِ المقدسِ فإذا الغلامُ راكبٌ و عمرُ يسوقُ الدَّابَّةَ له ، فلما رآه أبو عبيدةَ أقبلَ إليه يريدُ أنْ يقبِّل يدَه ، فلمَّا رأى عمرُ ذلك الوضعَ منْ أبي عبيدةَ و هو أنه يريدُ تقبيلَ يدِ عمرَ ، نزلَ عمرُ ليقبِّل رِجْلَ أبي عبيدةَ ، فامتنعَ أبو عبيدةَ فامتنعَ عمرُ . كانَ متواضعاً رضيَ الله عنه و أرضاه و هو خليفةُ المسلمين في ذلك الوقت . لما استخلفَه أبو بكر الصديق قيلَ له مَنْ تستخلفُ علينا ؟؟ و ماذا تقولُ لله و قد استخلفتَ علينا عمرَ شديداً في دين الله ؟؟؟ قالَ : أقولُ لربي استخلفتُ خيرَ أهلي . و لذلك قالَ عبدُ الله بنُ مسعود : أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ - يعني الذين رزقَهمُ الله الفراسةَ – : صاحب يوسف الذي قالِ لامرأتهِ : " أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً " ، و المرأة التي قالتْ لأبيها : " يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ - يعني موسى صلوات الله و سلامه عليه - إِنََّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأَمِينُ " ، و أبو بكر حينما استخلف عمرَ على الناسِ . و قد نُقِلَتْ عنه دُرَرٌ ، دُرَرٌ منَ الكلامِ التي يقولُ عنها الناسُ لو كُتبتْ بماءِ الذَّهبِ على صفائح الفِضَّةِ لكانَ لائِقاً بها ذلك الموضع . فمِنْ ذلكَ أنه قالَ : ( مَنِ اتَّقى الله وقاهُ ، و مَنْ توكَّل عليه كفاه ، و مَنْ أقرضَه جزاه ، و مَنْ شكرَه زادَه " . و نُقِلَ عنه أنه قالَ : ( حاسِبوا أنفسَكم قبل أنْ تُحاسَبوا ، فإنه أهونُ لكتابكم ، وَ زِنوا أنفسَكم قبل أنْ تُوزَنوا ) . و نُِقلَ عنه أنه قالَ : ( إنَّ الشجاعةَ و الجُبنَ غرائزُ في الرِّجال ، يقاتل الشُجاعُ عمَّن لا يعرفُ ، و يفرُّ الجبانُ عن أبيهِ و أخيهِ ) . و نُقِلَ عنه أنه قالَ : ( ثلاثٌ يُبقينَ لك وُدَّ أخيك : تبدؤه بالسلام إذا لقيتَه ، و تُوسعُ له في المجلس ، و تدعوه بأحبِّ الأسماءِ إليه ) . و نُقِلَ عنه أنه قالَ : ( مَنْ كتم سِرَّهُ كانتِ الخيرةُ في يدهِ ، و مَنْ عرَّض نفسَه للتهمةِ فلا يلومنَّ مَنْ أساءَ الظَّنَّ ، و لا تظننّ بكلمةٍ خرجتْ منْ أخيك سوءاً و أنتَ تجدُ لها في الخير محملاً ) . و نُقِلَ عنه أنه قالَ : ( ما كافأت مَنْ عصى الله فيك بمثلِ أنْ تطيعَ الله فيه ) و نُقِلَ عنه أنه قالَ : ( مَنْ كَثُرَ كلامُه كَثُرَ سَقَطُهُ ، و مَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حياؤه ، و مَنْ قَلَّ حياؤه قَلَّ ورعُه ، و مَنْ قَلَّ ورعُه ماتَ قلبُه ) . و نُقِلَ عنه أنه قالَ : " مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هيبتُه ، و مَنْ مزحَ استُخِفَّ به ، و مَنْ أكثرَ منْ شيءٍ عُرِفَ به ". قالَ حذيفةُ بنُ اليمانِ رضيَ الله عنه و عن أبيه : بينما نحن جلوسٌ عند عمرَ فقالَ : أيُّكم يحفظُ حديثَ رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم في الفتنةِ التي تموجُ كموجِ البحرِ ، قالَ حذيفةُ : ليسَ عليكَ منها بأسٌ ، ليسَ عليكَ منها بأسٌ ، إنَّ بينكَ و بينها باباً مُغلقاً ، قالَ عمرُ : أ يُكسرُ أم يُفتحُ ؟؟ قالَ : بل يُكسرُ ، قالَ: إذاً لا يُغلقُ أبداً . قيلَ لحذيفةَ : ( أ كانَ عمرُ يعلمُ مَنِ البابُ ؟؟ قالَ : نعم ، كما يعلمُ أنَّ دون غدٍ الليلة ، إني حدَّثتُه حديثاً ليس بالأغاليط ، قيلَ لحذيفةَ : فمَنِ البابُ ؟ قالَ : عمرُ ) ، أخرجَه البخاريُّ . و قد جاءَ عنه رضيَ الله عنه أنه قالَ : ( اللهم إني أسألُك شهادةً في سبيلك ، و موتاً في بلدِ رسولكِ ) ، فاستجابَ الله له ، فقتلَه أبو لؤلؤةَ المجوسيّ لأربعٍ بقين منْ ذي الحجة سنة ثلاثٍ و عشرينَ منَ الهجرة . فلما أُخبرَ عمرُ بقاتلهِ و قد كانَ قُتِلَ و هو يصلِّي الفجرَ يقرأ سورةَ يوسف صلواتُ الله و سلامُه عليه ، فقامَ أبو لؤلؤة و طعنه في ظهره بخنجرٍ سبعَ طعناتٍ ، بخنجرٍ قد سمَّه أُسبوعاً كاملاً . فلما قيلَ لعمرَ إنَّ الذي طعنَك غُلامُ المغيرة ذلك الرجل المجوسيّ ، فقالَ عمرُ : الحمدُ لله الذي لم يجعلْ منيَّتي على يدي رجلٍ يدَّعي الإيمانَ و لم يسجدْ لله سجدةً . فأرسلَ ولدَه عبد الله و قالَ : استأذنْ أمَّ المؤمنين عائشةَ في أنْ أُدفنَ مع صاحبيَّ ، مع رسولِ الله و أبي بكر ، فاستأذنها عبد الله فقالتْ : قد كنتُ و الله قد عزمتُ على أنْ يكونَ هذا قبري ، و لكنْ و الله لأُوثِرنَّ عمرَ فأذنتْ له . فدُفنَ رضيَ الله عنه مع صاحبيهِ ، فهو ضجيع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هو صاحبُه و وزيرُه و صهرُه ، فقد تزوَّج النبيُّ صلى الله عليه و سلم بنتَه حفصةَ . عمرُ بنُ الخطاب هو عمرُ بنُ الخطاب بنِ نفيل بنِ عبد العزَّى بنِ رياح ، أبو حفص العدوي ، يلتقي مع النبيِّ صلى الله عليه و سلم في سعد بن لؤي ، كان طويلاً جسيماً ، شديدَ الحمرة ، في عارضيه خِفَّةٌ - أي خفيف اللحية منْ جهة العارضين - و له سبلة كبيرة - أي في شاربه - ، و كانَ أعسرَ أيسرَ - أي يستخدم يديه - ، و إنْ كانتْ يدُه الشمال أكثر ، أُمُّه هي حيثمة أُختُ أبي جهل ، حيثمة بنت هشام . تزوَّج زينب بنت مطعون فأنجبت له عبد الله و عبد الرحمن و حفصة ، و تزوَّج مُليكة بنت زرون فأنجبت له عبيد الله و زيداً الأصغر ، و تزوَّج أُمَّ حكيم بنت الحارث فأنجبت له فاطمة ، و تزوَّج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب فأنجبت له زيداً و رقية ، وتزوَّج جميلة بنت ثابت فأنجبت له عاصماً ، و تزوَّج عاتكة بنت زيد فأنجبت له عياضاً ، فهذه هي ذُرِّيةُ عمرَ بنِ الخطاب رضيَ الله تباركَ و تعالى عنه ، و هذه هي سيرتُه . تم تفريغ الدروس بواسطة الأخوات فاعلة خير و نازك و عبق شبكة المنهج تحت إشراف الشيخ //: عثمان بن محمَّد الخميس حفظه الله
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video