آخر تحديث للموقع :

الثلاثاء 6 رمضان 1444هـ الموافق:28 مارس 2023م 12:03:36 بتوقيت مكة

جديد الموقع

إمامة الصديق - طه الدليمي ..
الكاتب : طه الدليمي ..

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 المقدمة
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (إنَّ أَمَنَّ الْنَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ. وَ
لَو كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيلاً غَيرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ. وَلكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ. لا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إلا سُدَّ إلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ)([1]). وعلى آله.. أصحابه وأتباعه أجمعين.
وبعـد..
 
قبل عدة سنوات جمعني في بيتي مجلس مع أحد الشباب الشيعة، ودار بيننا نقاش حول الإمامة، ومن هو أحق بها؟ قال لي هذا الشاب: أنا أعجب من تفضيلكم أبا بكر على علي! قلت: لم نفضله نحن، وإنما فضله الله في كتابه. فقال وقد اتسعت حدقتاه عجباً: القرآن فضّل أبا بكر على علي؟!! قلت: نعم، وسأثبت لك ذلك إن أردت. فقال وبلهجة المتحدي الذي لا يشك في موقفه قيد شعرة: إذا أثبتّ لي ذلك فسأتبرأ من علي ولن أعترف به بعد اليوم. قلت: لا.. هذا لا يصح. شيئاً من التوازن يا أخي، فلا تنتقل من النقيض إلى النقيض! لا أريد منك إلا أن تصحح موقفك من أبي بكر وتحبه مع علي رضي الله عنهما من دون غلو. والآن استمع وأجب:
(( يقول تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فهل هناك أفضل، وأعلى منزلة من الأتقى؟ ))
(( لا ))
(( من ترى المقصود  بـ(الأتقى)  في  قوله  تعالى:  (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)؟
 فأجاب بعد تردد:
(( الإمام علي ))
(( فما جوابك على أن هذا (الأتقى) يصفه الله بأنه: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)؟ والآية مكية من أول ما نزل على النبي e وعلي لا زال غلاماً يافعاً لا مال له، وإنما يعيش في كفالة النبي e. فهل كان علي رضي الله عنه عند نزول الآية ذا مال ينفق منه؟ حتى يصح وصفه بأنه (يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكى)! ))
حاول صاحبي أن يتملص من قبضة هذا الكلام دون طائل. فلم أشأ أن أحرجه. قلت له:
(( فما قولك عن تقييد الآيات وصف هذا المذكور بأنه ليس لأحد عليه من نعمة أو فضل سابق يحتاج لأن يجزى؟ (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) وعلي كان يعيش في نعمة رسول الله e منذ نعومة أظفاره.. حتى إذا كبر زوجه ابنته، فأي نعمة أعظم من هذا؟! ))
وهنا لم يجد صاحبي إلا أن يقول:
(( فلعله رجل آخر غير أبي بكر ، فإذا سلمت أنه ليس علياً ، فمن أين
لك أنه أبو بكر لا غير؟ ))
قلت له:
(( إذا وصلنا إلى هذه المرحلة فأنا لا أحتاج كثيراً إلـى أن أثبت أنه أبو بكر حصراً. ما يهمنا أنه ليس علياً، فيكون (الأتقـى) أي الأفضل رجلاً آخر غير علي. وهذا يعني بطلان ما تعتقدون في أفضلية علي على جميع الصحابة.. ومن القرآن! ))
فلم يجد صاحبي هنا ما يلوذ به غير السكوت!. فقلت:
(( والآن اسمع أدلتي على أن المقصود بالآية على وجه الخصوص هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وليس أحداً غيره )).
وبدأت أسرد له الأدلة على ما ستراه مفصلاً لاحقاً في هذا الكتاب. وأتممته بالحديث عن آية (الغار) وغيرها من الآيات في فضل الصديق فكانت القاضية بحمد الله.
وما أريد أن أقوله من خلال هذه الحكاية أن أبا بكر الصديق رجل ثبتت أفضليته المتفردة في القرآن. هذا هو الحق.
وأريد أن أقول أيضاً: إن آيات القرآن العظيم هي أقصر الطرق للوصول إلى الحق.
ليس هذا فحسب.. وإنما لا ينبغي للمسلم أن يجنح إلى غير القرآن في المسائل التي يقوم عليها الدين والتي تسمى بـ(الأصول)، ولا يقبل ذلك منه بأن (يلفلف) الموضوع برأي من هنا ورواية من هناك
وتفسير مرجوح أو راجح بين هذا وذاك.
وليس هذا فحسب!..
بل لا بد أن تكون الآيات المحتج بها صريحة الدلالة محكمة، وليست ظنية متشابهة.
وقد تأملت هذه النقطة كثيراً، ووقفت عندها ملياً فتوصلت إلى حقيقة هي من أعظم  حقائق  الوجود، ألا  وهي  أن الأدلة الأصولية – أي التي تستند عليها الأصول - لجميع الطوائف المنحرفة - على الدوام - من خارج صريح الكتاب المنزل.
وناقشت هذه الحقيقة أو القاعدة نقاشاً مستفيضاً في كتابي (المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل). وطبقتها على أصول الشيعة. وعندما ناقشت موضوع (الإمامة) عموماً و(إمامة) علي خصوصاً انقدحت في ذهني فكرة وهي: أن أبين للقارئ بالمثل الملموس أن (الإمامة) لو كانت تثبت بغير صريح القرآن لاستطعنا أن نثبت (أئمة) لا حصر لهم!. والواقع التاريخي شاهد: فقد أحصيت في كتابي (العصمة) أكثر من خمسين (إماماً) للشيعة! وأكثر من عشرين (مهدياً) خلال القرون الثلاثة الأولى فقط !! احتج لهم أصحابهم بمثل ما احتجت به الشيعة الاثني عشرية من حجج، ليست واحدة منها آيةً من الكتاب صريحةً قط !.  فقلت: لو أخذت أبا بكر كمثال، وبرهنت للقارئ خطوة خطوة كيف أننا لو اتبعنا طريق الإمامية - الذي يسلكونه في (التدليل) على (إمامة) علي - للتدليل على إمامة أبي بكر لتبين له جلياً أنه لا بد من القول بـ(إمامة) أبي بكر من باب أولى. وعندها سيتأكد لديه بطلان تلك الطريق، وأنها ليست أكثر من متاهة لا آخر لها ولا شكل، أو نفق لا يبدو في نهايته
بصيص من نور.
وحتى تتجلى هذه الحقيقة تماماً ضربت مثالاً آخر يبدو بعيداً للناظرين، وغريباً على المتأملين ألا وهو الحديث عن (إمامة) معاوية، وإثباتها بالطريقة نفسها حتى أقطع من نفس القارئ كل شك في بطلان هذه الطريقة التي أضلت جبلاً كثيراً من العالمين!. ولم أشأ أن أطيل في هذا لعدم الحاجة إلى الإطالة فيه، فاكتفيت بذكر بعض الشواهد الدالة. فكان هذا الكتاب الطريف الذي ستجد فيه كثيراً من الأفكار الأصيلة، والفوائد الجليلة، والالتفاتات اللطيفة ما قد لا تجدها في غيره من الكتب طالت أم قصرت.
قد يقال: إن الخوض في مثل هذه المسائل لا طائل تحته بعد هذه القرون المتطاولة، وقد اختفى أبطالها من مسرح الحياة: فلا أبو بكر حي.. ولا علي، كي نختار أولاهما بالأمر. وهذا صحيح في ذاته. ونحن نقول به وندعو اليه طبقاً لقوله تعالى:} تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون{ (البقرة:134و141). لكن موضوع (الإمامة) والخلافة يطرق يوميا وعلى مدار الساعة، ويثار باستمرار، وتبنى عليه مسائل في غاية الخطورة. فهو من هذه الناحية حي يتحرك لا يصح معه أن ندفن رؤوسنا في الرمال حلاً للإشكال.
إن الإمامية يعتبرونه أصل الاعتقاد ومبدأه ومنشأه.. فكيف يتركونه؟!
فمن أراد أن يلوم فليتوجه بلومه إلى البادئ؛ فإن المدافع لا تثريب
عليه. حتى يكفّ الأول ويرجع عما هو عليه، عند ذاك يصح أن يطالب الآخر بالكف والسكوت. وهذا هو الذي نريده ونتمناه. فلو كفّ الشيعة عن هذه المسائل الجدلية العاطلة التي لا أرضية ولا واقع ولا معنى لها وسكتوا لكففنا وسكتنا.. وانشغلنا بحمد الله رب العالمين.. والعمل بشرائع الدين المبين.
 
الأربعــاء
12 شوال 1425
 24/11/2004
  الأنبار
 
 
تمهيــــد
 
يعتقد الإمامية أن (الإمامة) منصب إلهي يتم بالتعيين من الله (بالنص أو الوصية من الإمام السابق)، وليس سياسياً ينعقد بالشورى من الأمة. ويجعلونها أصلاً من أصول الاعتقاد لا يصح الإيمان إلا به. ولا يتحصل ذلك بمجرد الإيمان بمبدأ (الإمامة) عموماً وإنما لا بد من الإيمان بعدد محدد من الأئمة تفصيلا.
وإذا كانت (الإمامة) بهذه المنزلة من الدين فلا بد لزوما أن ترد في الكتاب المبين مصرحا بها تصريحا لا يسع أحدا إنكاره أو تأويله أو صرفه إلى معنى آخر كما هو شأن القرآن مع الأصول كالنبوة عموما ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصا، فضلا عن (معرفة الله تبارك وتعالى)([2]) إذ جاءت الآيات في ذلك نصوصا صريحة صراحة لا تحتاج معها إلى تفسير يوضحها ولا رواية تعضدها.
إن أصول الدين لا يتسامح الشرع بعدم معرفتها؛ إن إنكارها يستلزم الكفر. ولأنها بهذا المستوى من المنزلة والخطورة فقد أقام عليها الحجة الكاملة من وجهيها: الثبوت والدلالة. فكانت أدلتها في أصح وثيقة ألا وهي القرآن الكتاب المحفوظ الذي (لا مبدل لكلماته) و (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). هذا من ناحية الثبوت. وأما من ناحية الدلالة فإن أدلة الأصول صريحة صراحة تامة وألفاظها لا تحتمل غير معنى واحد محدد هو ما دلت عليه من ذلك الأصل، فكانت أدلة الأصول قطعية الثبوت وقطعية الدلالة فلا يمكن أن يتطرق إليها الشك بأي حال من الأحوال؛ ولذلك يكفر منكرها بلا تردد.
إن الله تعالى لم يحوجنا لمعرفتها إلى تفسير مفسر ولا إلى رواية راوٍ لسبب مهم وخطير هو أن التفسير وكذلك الرواية - من حيث الإسناد والنقل وكذلك التفسير والشرح - فعل بشري لم يتعهد الله تعالى بصيانته وحفظه من تطرق الخطأ أو الهوى.
إن الرواية يمكن إن تصنع.. ويمكن إن يزاد عليها، وينقص منها لتكون حسب الطلب. وليس كذلك شأن الآية القرآنية.
والتفسير غير معصوم من الخطأ لأن العالم غير معصوم بل قد يتصرف فيه بالهوى. أما الآراء و(العقليات) فهي فعل بشري محض يقبل الخطأ والصواب. والدليل على ذلك اختلاف العقلاء في ما يعتقدون ويعقلون، فلا يمكن الاطمئنان إليها في المسائل التي لا تقبل الخطأ والصواب -كأُصول الدين- دون النص القرآني القطعي الدلالة.
أما الآية القرآنية القطعية الدلالة فلا يمكن تفسيرها بغير دلالتها. بل هي لا تحتاج إلى تفسير. ومن هنا كانت أصول الدين يقينية وكان الدين يقينياً، لثبوت أصوله جزماً ويقيناً، ثبوتاً ودلالة.
إن الدين أمر عظيم قائم على اليقين ؛ لذا فقد أرسى الله جـل وعلا
دعائمه وأصوله على أساس مكين من الأدلة اليقينية القطعية التي لا تقبل الشك أو اختلاف الأنظار لا في ثبوتها ولا دلالاتها، أودعها كتابه العظيم آيات محكمة ونصوصاً صريحة مفصلة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (البقرة:2).
وليست دعائم الدين وأصوله عرضة لأن توضع وتثبت بسوانـح الأفكار وشوارد الخواطر والأنظار. أو الاستنتاجات العقلية والترتيبات أو (الفذلكات) الفكرية، أو استنطاق النصوص وتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، أو اقتناص الشبهات والظنون، أو تركيب العبارات وتلصيقهـا، وإن اقتضى الأمر فتفكيكها وتمزيقها للخروج بمعاني جديدة، ومقاصد محدثة لم توضع لها تلك العبارات أساساً!
إن هذه الوسائل المعوجة، والطرق المتعرجة هي (السبل) التي سلكها الإمامية لإثبات (الإمامة) كأصل دون استناد إلى نصوص صريحة قطعية الدلالة من القرآن.
فإن كانت (الإمامة) تثبت لشخص بسلوك هذا السبيل، وتصير أصلاً شرعياً اعتقادياً يكفر جاحده، فنحن سنسلك السبيل نفسه لنثبت (إمامة) خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
فإذا ثبتت (إمامته)، وتبين بالمقارنة أنها أولى من (إمامة) غيره من الأمة، فهل يملك الإمامية الشجاعة الكافية لتطبيق حكمهم القاضي بتكفير جاحدها على أنفسهم بأنفسهم؟ أم تدفعهم هذه الشجاعة إلى الرجوع إلى الحق؟ والكفر بهذه الخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟‍‍‍
إننا لا نريد من الشيعة أن يؤمنوا بـ(إمامة) أبي بكر بمعناها الاصطلاحـي عندهم؛ لأننا لا نؤمن بإمامة كهذه: لا له ولا لغيره، وإنما نعتقد بأنه من الأئمة الصالحين والخلفاء الراشدين. إنما ندعوهم ونطالبهم بأن يتولوا أبا بكر رضي الله عنه ويحبوه ويتابعوه تأسياً في ذلك بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي بايع وشايع وتابع مخلصا محباً أميناً.
وقبل هذا وذاك تنفيذاً لأمر الله الثابت في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم    صلى الله عليه وآله وسلم .
 
 
أحقية الصديق بمنصب الإمامة
 
تستند أحقية أبي بكر الصديق بمنصب الإمامة وأولويته به إلى ثلاث قواعد عظيمة. كل واحدة تشد من الأخرى، وتؤيدها، وتظهر صحتها واستقامتها. وهي:
1-                إجماع المهاجرين والأنصار على بيعته.
2-                   خصائصه التي تفرد بها. وأهمها ثلاث:
أ‌.      أول الناس إسلاماً.
ب‌. الآيات التي نزلت بحقه.
ج. ما خصه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفضل.
3- سياسته وإنجازاته. وأعظمها أربعة:
    أ. القضاء على الفتن الداخلية.
ب. التصدي للأخطار الخارجية. والجهاد لنشر رسالة الإسلام.
ج. حفظ الدستور الإسلامي. وجمع القرآن العظيم.
د. حسم معضلة ولاية الأمر من بعده.
فإجماع الصحابة على بيعته قائم على معرفتهم العميقة بكون الصديق يتحلى بصفات خاصة متميزة، ومؤهلات متفردة. ولم يقم على عواطف هوائية، أو مجاملات ومزايدات سياسية.
 

 
                               

وسياسته وإنجازاته أثبتت - على الواقع

- الأمرين معاً: فهي قد دللت - من ناحية - على أن الرجل يمتلك مؤهلات خاصة متفردة. وأثبتت - من ناحية - صحة إجماع الصحابة، وسداد رأيهم في اختياره خليفة لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وأنه إجماع واختيار قائم على أساس ثابت، وقاعدة مكينة.

وبهذا يتبين أن خصائصه رضي الله عنه هي قاعدة القواعد: عليها استند ذلك الإجماع المبارك. ولأجلها نزلت تلك الآيات البينات، وتوالت الأحاديث والروايات تمدحه وتثني عليه. وما تلك السياسة الحكيمة، والإنجازات الرائعة إلا الثمرة الطيبة لتلك الخصائص العظيمة المتميزة التي كان يتمتع بها ذلك الإنسان الرباني العظيم.

 
وسأتناول كل واحدة من هذه القواعد بالتفصيل:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
القاعدة الأولى
 
إجماع المهاجرين والأنصار على بيعة الصديق
 
لقد أجمع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم على بيعة الصديق وإمامته.   وإجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية كاشفة عن مراد الله تعالى ورضاه: فقد أوجب الله تعالى على أجيال الأمة جميعاً اتباع المهاجرين والأنصار فقال: }والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه { (التوبة:100). وحذر من مخالفتهم فقال: }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع  غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً { (النساء:115). وما المؤمنون عند نزول الآية غير المهاجرين والأنصار.
إن إجماع الأمة في جيل من الأجيال حجة شرعية. فكيف بإجماع من نصَّ الله على وجوب اتباعهم وحرمة مخالفتهم، وشهد على صدق إيمانهم فقال: }والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم معفرة ورزق كريم { (الأنفال:74)؟!
وإذا كان الإمامية يشترطون للإجماع وجود (المعصوم) فإن
علياً رضي الله عنه - الذي يعتقدون بعصمته - كان من ضمن المجمعين على بيعة الصديق رضي الله عنه ، فبيعة الصديق إذن شرعية على جميع المذاهب. وتخلف واحد أو اثنين ليس حجة على المجموع. بل المجموع حجة على المخالف. ومخالفته شذوذ واتباع لغير سبيل المؤمنين.
والذي عليه المحققون أن بيعة الصديق رضي الله عنه لم يتخلف عنها أحد. وإن كان علي قد تأخر - هو والزبير - رضي الله عنهما بعض الوقت فإنما لكونهما قد وجدا في نفسيهما بسبب أنهما أُخرا عن الشورى[3]. وعذر أبي بكر  رضي الله عنه أن الظرف لم يسعفه لذلك، وإلا حسم الأمر لصالح الأنصار. ثم بايعا في اليوم الثاني وتابعا[4]. وقد قيل إن علياً بايع بعد ستة أشهر، والصحيح أن هذه البيعة تجديد وتأكيد للبيعة الأولى؛ فإن علياً رضي الله عنه لم يفارق أبا بكر في وقت من الأوقات قط ، وكان له في حروب المرتدين خير ظهير. ومهما كان فإنه بايع آخر الأمر، والأمور بخواتيمها. وأما سعد بن عبادة رضي الله عنه فقد بايع أيضاً. وهذا هو الصحيح الثابت عنه[5]. وما قيل بخلافه فإنه لم يثبت. وإنما هو من وضع الرواة[6]. ولو صح فالحجة على من لم يبايع - كائناً من يكون - وليست له. ولقد تخلف عن بيعة علي رضي الله عنه كثير من الصحابة رضي الله عنهم. وليس ذلـك–- عند الجمهور- بضائره؛ لأن الإجماع ليس شرطاً في البيعة. ولكن إذا حصل كان حجة واضحة ملزمة، ودلالة كاشفة عن رضاء الله تعالى - كما هي الحال في بيعة أبى بكر وعمر وعثمان - لأن الله لا يجمع أمة الإسلام على ضلالة. والإجماع حجة شرعية.
حتى مصادر الشيعة روت هذا الإجماع، وعلى لسان علي نفسه! كما جاء في كتاب (نهج البلاغة): (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد. وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى) [7].
وليس ذلك - كما يقول البعض – موضوعاً مجاراة لحجة الخصم من باب إبطال حجته بإلزامه بما يلزم به نفسه؛ لأن النص يقول: (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا). والقول بأن الله راض عمن أجمع عليه المهاجرون والأنصار لا يمكن أن يصدر مجاراةً وإلزاماً، وإنما اعتقاداً والتزاما.
فكيف  إذا  أكده  بذكر  ترتيب  العقوبة  الشديدة المغلظة (القتل) على الخارج الطاعن في بيعة من أجمعوا على بيعته: ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍(فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه الى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه)! قاتلوه على ماذا؟ (على اتباعه غير سبيل المؤمنين) أي المهاجرين والأنصار.
وفي هذا النص تتأكد جملة حقائق عظيمة هي:
1-                صحة خلافة أبى بكر وعمر وعثمان.
2-                   لأنها تمت بإجماع المهاجرين والأنصار.
3-                أن إجماع المهاجرين والأنصار دليل كاشف عن رضاء الله تعالى وإرادته الشرعية.
4-      أن من شذ ممن شهد أو غاب –في ذلك الجيل وكل جيل– فخالف، لا يعتد بخلافه. أي أن خلافه غير معتبر.
5-                أن الطاعن في خلافتهم متبع غير سبيل المؤمنين وخارج عن أمر المسلمين.
6-               أن الطاعن في خلافتهم يدعى ويرشد ويستتاب فهو متهم ومرتكب جريمة يجب أن يرجع عنها ولا يصح أن يتخذ قدوة ومرشدا.
7-                  أن من أصر على هذه الجريمة بعد البيان يقاتل.
8-               أن إرجاع هؤلاء الخارجين المارقين الى الحق واجب على
الأمة حتى لو استلزم القتال.
9-               أن الخلافة وتنصيب الإمام  بالشورى وليس بالنص الإلهي.
10-     أن الشورى للمهاجرين والأنصار.
11-     أن إجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية.
12-        عدم وجود نص إلهي في إمامة علي. وكل ما قيل من ذلك فهو من تلفيق الرواة وصنع البغاة.
13-  أن مصطلح (إمام) و(إمامة) الذي يردده الإمامية أمر محدث مخترع لم  يستعمله علي ولم يعرفه؛ فالإمام عند علي يُعيَّن بالاختيار البشري وليس بالوصية أو النص الإلهي: (فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا) وهذا مخالف لما عند الإمامية تماماً.
14-     أن طعن الإمامية بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان باطل. بل جريمة عظيمة تستحق أقسى العقوبات.
15-     أن هذا الطعن مخالف لحكم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ([8]).
لقد انعقد الاجماع التام على بيعة أبي بكر رضي الله عنه وهذا دليل على أنه أفضل الأمة وأولى الصحابة رضي الله عنهم بالإمامة. وإلا فلو رأى الصحابة غيره هو الأولى لقدموه. فلما أجمعوا على بيعته - وإجماعهم حجة - دل ذلك على أنه الأفضل والأولى بالإمامة والخلافة، لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمه للصلاة إماماً بالمسلمين في مرضه الأخير قبل وفاته. وهذه تزكية ما بعدها مثلها لأنها صادرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه. ولهذا قال علي والزبير رضي الله عنهما: (إنا نرى  أبا  بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين ولقد أمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة وهو حي)([9]).
والفرق واضح بين الخليفتين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما في تحقق الإجماع! إذ أن الإجماع قد انعقد على أبي بكر دون علي الذي لم يبايعه بعضهم. وبايع بعضهم مكرها، وبايع آخرون لكنهم اعتزلوا. وكلهم مجتهد في طلب الحق فمخطئ ومصيب. والكل مغفور له مأجور }والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل
في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم  { (الحشر:10).

 
القاعدة الثانية
خصـائص الصديـق
 
وهي فضائله التي اختص بها دون باقي الصحابة. فهي بمثابة خصائص انفرد بها، لا مناقب يشاركه فيها الآخرون. فهو لذلك أفضل الصحابة: شاركهم في فضائلهم وتفرد عنهم بما اختص به دونهم.
وأبرز هذه الخصائص –- كما أسلفت – ثلاث هي:
1- أول الناس إسلاماً.
2- الآيات التي نزلت في حقه.
3- ما خصه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفضل.
سأتكلم عنها واحدة واحدة:
 
 
1- أول النـاس إسلامــاً
 
لا شك أن السبق المجرد لا مزية له ما لم يقترن به المقصود منه ألا وهو استغلال وقت السبق في العمل النافع ما يعطيه الاولوية عند المقارنة بمن تأخر. فإذا عمل المتأخر أكثر وأنفع، كان له الفضل، وإن تأخر زمن نزوله الى الميدان. ولذلك قد يتخلف السابق.. ويتقدم اللاحق.
إن القول بأن علياً أسلم قبل أبي بكر، أو أن أبا بكر أسلم قبل علي، وبعضهم يلجأ الى حل وسط فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر وأول من أسلم من الصبيان علي - لا معنى له غالباً الا الجدل الفارغ، أو المجاملات الزائفة التي لا نفع يرتجى من ورائها ، ولا قيمة لها في الميزان كبيرة؛ لأن الأفضلية والقيمة للعمل، لا للزمن المجرد[10].
ولذلك حينما ذكر الله تعالى فضل من آمن قبل الفتح على من تأخر من بعده لم يعلق الفضل بمجرد السبق في الزمن. وإنما علقه بالعمل الذي هو الإنفاق والقتال فقال: }لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى { (الحديد/10). وإلا فإن بعض المسلمين سبق في إسلامه الفتح لكنه لم يهاجر ولم ينفق ولم يقاتل. وهؤلاء قال الله عنهم: }وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا { (الأنفال:72).
لقد أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول الناس، إسلاماً نفع الدين وكذلك الأمة أعظم النفع، فكان أولَ داع في الاسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد أسلم على يده وجوه المجتمع وصناديده - وأولَ خطيب. ودافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ولسانه فضرب ضرباً شديداً حتى سقط لا يشك أحد في موته. وبذل ماله كله في نصرة الدين، وقضاء حوائج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتفرغ للدعوة والتبليغ فكان أحق الناس بقوله تعالى: }لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة { الآية. وأحق الناس بموضع منة الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: }ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك* الذي انقض ظهرك { (الانشراح:1-3). فبه شرح الله صدر نبيه وخفف عنه حمله الذي كاد يقصم ظهره. نعم أسلم علي رضي الله عنه في اليوم الأول لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان في بيته. لكنه كان صبياً في الثامنة أو العاشرة من عمره، لا يستطيع أن يشارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هم، أو يشركه في رأي. ولم يكن قادراً على الدفاع عنه بيد أو لسان. وليس عنده من مال. بل كان هو نفسه في كفالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مادياً ومعنوياً: يأكل في بيته، ويأوي اليه، ويلبس مما ينفقه عليه. فهو أحد هموم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبسبب هذه الأسبقية نزل في حق الصديق  رضي الله عنه من الآيات ما لم ينزل في حق غيره طراً. ومدحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يمدح به أحداً غيره،
وأنزله من المنازل ما لم ينزل سواه أحداً من العالمين أجمعين.
 
2– الآيـات التي نزلـت في حـق الصديـق
 
نزلت في حق الصديق رضي الله عنه آيات كثيرة. منها آيات عامة يشترك معه  فيها غيره من الصحابة أو الأمة. ومنها ماهي خاصة به لم يشركه فيها أحد منهم.
وحتى الآيات العامة - إذا تأملتها  - تجد لأبي بكر فيها من النصيب ما ليس لأحد غيره. فهي من هذه الناحية تندرج في خصوصياته، لا من حيث النوع.. ولكن من حيث الكم.
يأتي على رأس قائمة هذه الآيات اثنتا عشرة آية: أولها (آية الغار)، وآخرها (آية الولاية). وما بينهما سورة (الليل) و سورة (الشرح)، و(آية الفضل) و(آية التفضيل) و(آية الصدق) و(آية التصديق). وغيرها من الآيات البينات سنتناولها جميعاً بالتفصيل. ونترك بقية الآيات خشية الإملال والتطويل.
 
آية الغــار
 
وهي قوله تعالى: } إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { (التوبة:40).
   لقد نزلت هذه الآية العظيمة في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحق الصديق رضي الله عنه لم يشركهما في شرفها وفضلها أحد من الأمة أو الصحابة رضي الله عنهم . وفيها من الفضائل التي اختص بها أبو بكر الصديق دون غيره من الأصحاب ما لا يحصى.
وسنقسم البحث فيها إلى عدة أقسام: قسم منها نسميه تجليات الخصائص، وهي أربع سنفرد كلاً منها بمبحث. ومن المباحث ما نقسمه إلى تقسيمات جزئية أخرى كالمعالم، ومظاهر المعالم. كل  ذلك  من أجل  لملمة تشعبات  البحث، وإعطاء  صورة  متكاملة عنه.
أما الخصائص فقد تجلت في:
1.                  تفرده بلقب (صاحبه).
2.   تفرده بالمعية الخاصة.
3.                  تفرده بوصف (ثاني اثنين).
 تفرده بمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وموضوع (الصحبة) فيه مبحثان:
الأول: في حقيقة هذه الصحبة واقعاً.
والثاني: في آثارها.
وآثار (الصحبة) فيها معلمان:
الأول: في علم الصديق وإيمانه.
والثاني: في حسن خلقه وسلوكه.
وقد تجلت المعالم في مظاهر:
فالعلم والإيمان تجلى في ثلاثة مظاهر هي:
1-                موقفه من الاختلاف في وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2-  موقفه في البيعة.
3-                 قتال المرتدين.
وأما حسن الخلق فقد تجلى في ثلاثة مظاهر أيضاً هي:
1-                الصدق والتصديق.
2-  الشجاعة.
3-                الإنفاق والكرم.
وسأتكلم عن كل قسم من هذه الأقسام بالتفصيل:
 
تجليـات خصائـص الصديـق في آية الغـار
 
التجلي الأول: تفـرده بلقـب (صاحبــه)
في الآية الكريمة يتفرد الصديق بلقب الصاحب المضاف إلى أشرف مصحوب: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء اللفظ هكذا: (صاحبه).
لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آلاف الأصحاب لو أقسم أحدهم على الله تعالى لأبره، فلم يختر ربنا أحداً منهم يشرفه في القرآن كله بإضافته إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه التسمية غير أبي بكر! فيا لها من مزية تفرد بها‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍! ويا له من شرف تناهى وما انتهى !.
إن كل فضيلة تعلقت بالصحبة فأبو بكر أولى بها، وله منها السهم الأوفر لأنه الفائز بلقب الصاحب في القرآن دون بقية الأصحاب.
لو كان لملك من الملوك عشرة وزراء، فأطلق على واحد من بينهم فقط لقب (وزير الملك)، وكتب في ذلك مرسوماً ملكياً وأعلنه على الملأ فإن الناس جميعاً سيعرفون أن هذا الوزير هو المقدم على بقية الوزراء، وإلا لما أفرد هذا الوزير من بينهم بهذا اللقب مع أنهم جميعاً وزراؤه.
ومن هنا جاءت أفضلية الصديق على بقية الأصحاب - بمن فيهم عمر وعثمان وعلي - لأنه المختص من بينهم في القرآن بلقب صاحب النبي. فمن هو الأولى من صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنصب الإمامة والخلافة ! فليس عبثاً أن يكرمه الله تعالى فيخصه بلقب خليفة رسول
الله  صلى الله عليه وآله وسلم فلم يطلق على أحد غيره !
1. حقيقة هذه الصحبة
 
(صاحبه) قبل الإسلام وبعده.. وفي حياته ومماته
تفرد أبو بكر الصديق بصحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإسلام حتى صارت قريش تطلق عليه وعلى محمد لقب (صاحبك) فإذا قالوا لأحدهما :(إن صاحبك كذا وكذا) لا ينصرف الذهن إلا إلى الآخر !وجاء القرآن شاهداً ومؤكداً إذ أطلق هذا اللفظ (صاحبه) مضافا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون تصريح باسم أبي بكر ولا قرينة لفظية تميزه أو تخصصه، ومع ذلك لم يفهم أحد أو يدّع أن المقصود به أحد غيره !
وما ذلك إلا لأن هذا اللقب أو اللفظ قد صار علما على أبي بكر وحده فلا يحتاج معه إلى اسمه الصريح أو قرينة أخرى تدل عليه.
كان أبو بكر قبل الإسلام صفياً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصحبه في حله وترحاله لا يفرق بينهما إلا الليل يأوي فيه كل في بيته. واستمرا على هذه الصحبة بعد الإسلام إلى يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم استمرا متجاورين بعد مماتهما إلى اليوم !
تأمل ماذا قالت قريش لأبي بكر يوم صدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم إلى الإسلام قالت: لقد جن (صاحبك)، وصبيحة الإسراء قالوا له: اسمع إلى ما يقول (صاحبك).
ولما عزم على أن يهاجر قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : على رسلك يا أبا بكر لعل الله يجعل لك (صاحبا). حتى إذا جاءه ليخبره أن الله قد أذن له في الهجرة قال: (الصحبة) يا رسول الله! قال صلى الله عليه وآله وسلم : (الصحبة)[11]. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (ما شعرت قبل ذلك أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في (صحبته).
 ألا ما أعظم منزلة هذه (الصحبة)! منزلة تبكي لها الرجال دموعا! إنها شرف لم يؤثر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحداً سوى (صاحبه) الذي اختار (صحبته).
إنها صحبة المصير الواحد في أخطر رحلة وأحرج موقف يخلده الله تعالى قرآناً يتلى: }إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا{  .
 
الصحبة عارضة ولازمة
الصحبة صحبتان:
1- صحبة عارضة لسبب تزول بزواله كصحبة يوسف u لصاحبي السجن. إنها صحبة فرضها السجن الذي جمعهم فما أن خرجا حتى نسياه وما ذكره أحدهما إلا بعد بضع سنين! وصحبة الرجلين المذكورين في سورة (الكهف) إذ جمعتهما التجارة وكان المؤمن ناصحا لصاحبه مخلصا في نصيحته فلم يداهنه على كفره بل بين له حقيقة حاله ودعاه إلى الإيمان بصراحة ووضوح. وهذا هو الواجب في حقه، وهو خير - ألف مرة - من آخر يصحب كافرا طيلة حياته فلا ينصحه ولا يدعوه إلى ترك ما هو عليه. وتستمـر الصحبة بينهما إلى الممات وهو يجامله ويداريه! كيف يتصور مثل هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع (صاحبه)!! ألا ساءت الظنون وانتكست القلوب !
وكما فعل الرجل المؤمن مع صاحبه الكافر من الدعوة والنصيحة كذلك فعل يوسف u مع صاحبيه إذ قال: }يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ{ (يوسف/40،39).
2- صحبة لازمة لاستنادها إلى سبب دائم لا يزول كصحبة
رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولو كانت كصحبة الرجلين في سورة الكهف كما يقول المتهوكون(1). لانقطعت وما دامت إلى الأبد. ثم كيف يساء الظن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! أيتخذ النبي له صاحباً ثم لا يكون هو خير الأصطحاب! ألا يحسن صلى الله عليه وآله وسلم الاختيار؟ أم اختاره لأسباب دنيوية عارضة؟ فكيف دامت صحبتهما طيلة هذه المدة وهو لا ينصحه ولا يردعه! أرأيت رجلاً مصاحباً لرجل صحبة دامت سنين طويلة ثم تبين لك أن مصالح دنيوية جمعت بينهما، وأن الرجل الثاني كان سيئاً في ذاته وأخلاقه ونواياه دون أن يكون ذلك السوء سبباً دافعاً لصاحبه أن يردعه أو ينصحه أو - على الأقل - يتركه. ألا تشك في صلاح الأول؟
أهكذا الظن بصفوة الرسل وخيرة الخلق وهو القائل: (لا تصاحب
إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)(2) ؟! ولا شك أنه ليس المقصود بالنهي الصحبة العارضة.
لقد كانت صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ"صاحبه " صحبة الدين والغايات العظيمة السامية. ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم : (لوكنت متخذاً خليلا لاتخذت ابن  أبي قحافة خليلاً)[12]. وكذلك هي صحبة المشابهة والمشاكلة النفسية والاخلاقية والفكرية – ولا بد - يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)[13].
ولذلك اختاره رفيقاً له في الهجرة و"صاحبا" يؤنس وحدته ويبدد وحشته، ولولا هذه المشابهة والمشاكلة، والراحة والميول النفسية المتبادلة لما اختار صحبته في تلك الرحلة الخطرة الموحشة.
إن المسافر سفراً عادياً يستغرق ساعة أو ساعتين لا يطيق أن يصحب في سفره القصير هذا إلا من ترتاح اليه نفسه ويطمئن فؤاده، فكيف برحلة شاقة عصيبة طالت أياماً ثلاثة منها في غار موحش في جبل منقطع عن العمران !
إنها صحبة رجل الملمات والمهمات الصعبة ، كما هي صحبـة الإنسان للإنسان الذي ترتاح اليه النفس وتأوي اليه آمنة مطمئنة. وإلا
فإن الأمر كما قال الشاعر العربي:

وقائلٍ كيفَ تفارقتُما
لم يكُ من شَكلي ففارقْتُهُ

 

فقلتُ قولاً فيهِ إنصا فُ :
والناسُ أشكالٌ وآلافُ

المَعْلَـم الأول

تجلي أثر (الصحبة) في علم الصديق وإيمانه

ولو لم يكن أبو بكر رضي الله عنه من شكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كانت صحبتهما صحبة العمر كله، بل صحبة استفرغت الحياة.. ثم اتصلت بعد الممات!

2. آثار الصحبة وتجلياتها

 
للصحبة آثارها في أخلاق الأصحاب وسلوكهم نتيجة تفاعل الصاحب مع صاحبه وتأثره بأخلاقه وتصرفاته. وكلما كانت الصحبة أصدق، والنفس أصلح وأكثر استعداداً للتأثر تجلت أخلاق الصاحب في صاحبه أكثر، حتى يمكن أن يكون صورة أخرى له تعكس ما في صورة الأصل من قسمات وملامح لأن الأثر يعتمد على قوة المؤثر وعلى مدى صلاحية المحل للتاثر.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم   : (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)[14].
ويقول الشاعر العربي القديم:
 
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه   فكـل قرين بالمقـارن يقتـدي
 
برزت آثار صحبة الصديق  رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واضحة المعالم في علمه وإيمانه وفي سلوكه واخلاقه. وكانت معالم هذه الآثار من البروز والوضوح ما يشكل دليلاً قاطعاً على صدق هذه الصحبة وقوة عراها وسمو مقاصدها وعلو منزلتها.
 
معالم تجلي آثار الصحبة
وسأتكلم –- بإيجاز - عن معلمين من معالم هذه الآثار: المعلم الأول عن تجلي هذه الآثار في علم الصديق وإيمانه. والثاني عنها في أخلاقه وسلوكه.
 
تقديـم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصديق في الصلاة
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة.
قدمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي بالناس في مرض موته. وهذا دليل جلي على أن النبي كان يراه أعلم الصحابة وأقرأهم لكتاب الله تعالى. ولولا هذه (الأعلمية) لما قدمه عليهم وفيهم خيرة السابقين الأولين كعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وأبي عبيدة بن الجراح وعلي وطلحة وابن مسعود وأبي بن كعب وأمثالهم رضي الله عنهم.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله :(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)[15]. فأبو بكر هو الأقرأ – بين الصحابة طراً – لكتاب الله بشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزكيته العملية. وكفى بذلك شهادة وتزكية‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
والأقرأ في لغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعني الأعلم فإنهم كانوا يسمون العلماء أو الفقهاء بـ"القراء".
 
مظاهر تجلي علم الصديق
وقد تجلى علم الصديق رضي الله عنه في المواقف الحرجة التي تذهب بالباب الحكماء ، ويحتار عندها الحلماء ! وكان  لذلك مظاهر أبرزها ثلاثة هي:
 
المظهر الأول: موقفه من الاختلاف في وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فمن تجليات علم الصديق التي بذ فيها الأقران ما كان يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختلفوا في موته: هل مات حقا ام لا ؟ وكانوا مضطربين مذهولين لا يعرفون كيف يعالجون الموقف ، وقد غص المسجد بالناس وعمر بن الخطاب يلوح بسيفه طاش عقله من الهول يقول: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)[16]! وعثمان وعلي أُقعِدا يبكيان لا يستطيعان القيام!
الكل في حيص بيص وليس من منقذ !
حتى اذا جاء كبيرهم وإمامهم رجع كل شيء الى مكانه ، وانتظم عقد أمورهم كأنهم كانوا معه على ميعاد ! هدأت الأرواح وخشعت الأصوات واشرأبت الأعناق، وتعلقت الأبصار بهذا الذي ارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأصاخت الأسماع تتلهف الى سماع ما يقول ويقرر ويحكم فيفصل !
 
كلمة واحدة وآية واحدة
وبكلمة واحدة وآية واحدة أزال الاضطراب وعالج الموقف ‍‍!
أما الكلمـة..
فقوله رضي الله عنه : (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات!! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وأما الآيـة..
فقوله رضي الله عنهم : }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ { (آل عمران:144)  تلاها عليهم فإذا بهم يرددونها خلفه كأنها نزلت لتوها أو كأنهم لم يسمعوا بها من قبل !!
يقول عمر: (والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض)[17].
 
اختيار الصديق للآية دليل على عظيم فقهه ودقة نظره ‍       
إن اختيار أبي بكر رضي الله عنه لهذه الآية في هذا الموقف دليل على عظيم فقهه وعلمه ودقة نظره وبعد غوره. إنها الآية التي نزلت – قبل بضع سنين - علاجاً لموقف مشابه تعرَّض له الأصحاب في (أُحُد) يوم أُشيع أن محمداً قد قتل ! فحصل ما حصل من الاضطراب – على ما هو مفصل في الكتاب والسيرة - فنزلت الآية تعالج هذا الخلل الذي تكرر يوم مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقاً؛ فعالج الصديق الداء نفسه بالدواء نفسه فكان الشفاء التام بإذن الله . وتجاوز الصحابة الموقف حين سمعوا الآية تتلى عليهم فتذكروا ما حصل لهم يوم أحد، فكانت استجابتهم سريعة، استفادةً من تجربة سابقة مشابهة أعادها إلى أذهانهم ذكاء الصديق حية حاضرة حين طرق أسماعهم بتلك الآية العظيمة الباهرة والمؤمن (لا يلدغ من جحر مرتين)[18] !
لقد كان عمر وعثمان وعلي وغيرهم يحفظون الآية ، ويرون الخلل، ويعيشون الموقف، فلماذا لم يرتقِ واحد منهم المنبر ليتلو الآية ويتكلم بما يناسب المقام لتلتئم الأمور وتستقر الحال ؟
لم يكن واحد منهم هو صاحب الموقف. الكل يعلم - أو يحس - أنه (ليس لها) وأبو بكر في الوجود فهم ينتظرونه كما ينتظر أفراد العائلة كبيرهم الغائب ويترقبون مجيئه عند موت والدهم فلا يجرؤ أحد على حسم الأمور والبت فيها دونه .
 
عاش للأمـة
وحين تستعيد الموقف تجد أن الكل عاش عواطفه وأحاسيسه الخاصة وعبر عنها كما يشاء ، إلا أبا بكر! فإنه كتم عواطفه وكانت أرقها، وأحاسيسه وكانت أرهفها، وانفعالاته وكانت في أوج ثورانها !
إن الفقيد (صاحبه) !
لقد تصرف كما يتصرف كبير العائلة عندما تفقد ربها فيتصبر ويتجمل ويتظاهر بالجلد وإن كان أكثرهم تأثراً وأعظمهم مصيبة! لماذا؟ حتى لا تنهار العائلة.
كل فرد منهم يعيش لنفسه وعواطفه : هذا يبكي.. وهذا يصرخ..
وذلك قاعد منزوٍ.. وغيره يلطم، وآخر يهتف.. إلا كبيرهم؛ إنه يعيش لهم فهو لا ينفعل.. ولا يفعل مثلهم!
وكذلك فعل أبو بكر!
لقد عاش ساعتها للأمة كي لا تنهار . ولو رأيته لرأيت (الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)! ولولا ذلك لاستمر الاضطراب، واشتدت دوامة الحزن فعصفت بالأمة فلم تفق إلا على الأنصار وقد بايعوا وانفردوا بالأمر ووقعت الواقعة !
 
رجل المواقف الصعبة
لكن أبا بكر – وأبا بكر لا غيره – حسم الأمرين معاً. ولو تأخر حسمُ الأمر الأول لما حسم الأمر الثاني.. ولِصالحِ المهاجرين.
 
المظهر الثاني: موقفه في البيعـة
فما إن انتهى أبو بكر من علاج الموقف العصيب الأول حتى سارع – وقد جاءه الخبر بأن أخوانهم الأنصار قد اجتمعوا ليبايعوا سعد بن عبادة رضي الله عنه – ليعالج موقفاً استجد عصيباً لا يقل عن سابقه!
وكان لعلمه رضي الله عنه بالنفوس وفن التعامل معها ، والقلوب وكيف يُتمكن منها. وعلمه بالشرع أصولاً وفروعاً، ومعرفته بكيفية صياغة القول وإلقاء الخطاب. ولسابقته و(صحبته) الدور الفاعل في حسم أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام: ألا وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة. وكان مما قاله في السقيفة المباركة : (يامعشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش . هم أوسط العرب داراً ونسباً. لقد سماكم الله في كتابه بالمفلحين وسمانا بالصادقين والله يقول: }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين{ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء وإني رضيت لكم أحد هذين الرجلين) وأخذ بيدي عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح. لكن عمر حسم الأمر فقام وقال لأبي بكر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله . وأخذ بيده فبايعه وبايعه الناس[19].
 
لولا الصديق لما وصلت الخلافة إلى علي
وعادت الأمور إلى نصابها فكانت الخلافة في المهاجرين ، والوزارة في الأنصار. وصارت سنة ماضية لا يعترض عليها أحد. فلولا أبو بكر لكانت الخلافة في الأنصار – هذا إذا بقيت خلافة – ولما وصلت إلى عمر، ولا كان علي في يوم من الأيام خليفة على المسلمين! فجزاه الله عن علي وعمر وعثمان وعموم المهاجرين وجميع الأمة خير الجزاء.
 
الرجال بالمواقف لا بالعواطف
إن الرجال لا تقاس بالانفعال والعواطف، وإنما بالفعال والمواقف. ولولا موقف أبي بكر عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استفادت الأمة مثقال جناح بعوضة من عواطف عمر ودموع علي ، ولكانت البيعة في الأنصار ، ولاضطربت الأمور واختلف الناس ! لا سيما وأن أكثر القبائل أعلنت العصيان ووقع بعضها في الارتداد، وتململ الروم واستغل الفرس الفرصة فعبروا الخليج ودخلت جيوشهم البحرين وانضمت الى تحشدات المرتدين.
ولولا أن منَّ الله على الأمة بأبي بكر لتصدع بناؤها وانهارت وحدتها وصارت طعمة للطامعين. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقبل رأسه: (لولا أنت لهلكنا) . وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: (رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين. فأما المقاليد فهذه المفاتيح. وأما الموازين فهي التي تزِنون بها. فوُضِعتُ في كفة ووضِعتْ أمتي في كفة فوزِنتُ بهم فرجحتُ. ثم جيء بأبي بكر فوُزِن بهم فوَزَن. ثم جيء بعمر فوُزِن فوَزَن. ثم جيء بعثمان فوُزِن بهم. ثم رُفعت).
نعم ! لقد كانت الأمة يومها أبا بكر وكان أبو بكر هو الأمة. فلو ضعف أو تردد، أو التبست عليه الأمور لانهارت وتفتتت وصارت في خبر كان!
 
المظهر الثالث: قتال المرتدين ومانعي الزكاة
والموقف الثالث العويص فقهياً والعصيب عملياً وعسكرياً – الذي تجلى فيه علم أبي بكر كالبدر يجلو الليلة الظلماء، وإيمانه كالجبال التي لا تهزها الأعاصير – هو يوم أن عارضه الصحابة في قتال مانعي الزكاة ! فقد قال له عمر رضي الله عنه : يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله الا الله فمن قال: لا اله الا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها[20]. ثم تلا قوله تعالى: }فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم{ (التوبة:5)[21].
لقد استند أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى النصوص القرآنية وفهم من الحديث النبوي ما لم يفهمه من وقف عند ظاهره فغاص فيه واستخرج من جواهره وإن لم تكن قريبة المنال! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عظماء المجتهدين الذين تميزوا في صدر الأمة، وهو محدث مسدد بشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد احتج بحديث حسبه له فإذا به يكون عليه! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍فيا لله أبو بكر من رجل يقلب ‍‍‍‍‍‍‍حجة عالم مجتهد كعمر فإذا بها ترتد عليه وقد كانت سلاحاً في يديه! ‍‍
 
نظـر بعيد في الدين والسياسـة
لقد كان الصديق - وهو يتخذ قراره العسكري بقتال مانعي الزكاة وعدم التفريق بينهم وبين المرتدين - بعيد النظر من الناحيتين الدينية
والسياسية!
إن التساهل في ترك ركن من أركان الاسلام يؤدي - ولا بد – إلى
ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول ، وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام وآخر يترك الصلاة ورابع يترك الحج والجهاد … الخ ‍‍‍‍ فإذا بالدين قد انهدم.‍ فلا بد من سد باب الفتنة وبابها إقرارهم على ترك أداء الزكاة. هذا من الناحية الدينية.
وللزكاة جانب سياسي لا يخفى على رجال الحكم والسياسة.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً اعترافاً بنظامها السياسي. إن الامتناع عن أدائه إعلان عن العصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف به. ولا اعتماد على رعية أو شعب إذا كانت علاقته مع حكومته على هذه الصورة.
لقد كان الصديق - وهو التلميذ النجيب لأعظم حاكم سياسي في التاريخ - يدرك تمام الإدراك أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان عن عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته، فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها، وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد وقتال الكافرين. وهكذا تنهار الحكومة وتتفكك الدولة، بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه!
‍لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقية الدائمة. وما ذلك إلا لرسوخ علمه وقوة إيمانه الذي تميز به على بقية الاصحاب. فمن منهم أولى منه بالحكم وإدارة شؤون الخلافة والسياسة؟!
وهكذا استطاع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يقضي على أكبر فتنة عصفت بالأمة فتنة الارتداد والعصيان والحروب الأهلية. ولو فشل في القضاء عليها لانطلقت من عقالها ودمرت كل شيء. يقول ابن
مسعود رضي الله عنه : (لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر) لكن الأمة – بحكمة أبي بكر وثاقب نظره وعلو همته وشدة عزيمته، وقوة إيمانه ويقينه بربه- خرجت من هذه الفتن سليمة معافاة قوية متحدة بحيث تمكنت بعد ذلك مباشرة من أن تضرب أكبر امبراطوريات العالم آنذاك: فارس فتدكها وتهدمها، والروم فتقهرها وتهزمها!!
 

المَعْلَم الثاني

تجلي أثر (الصحبة) في أخلاق الصديق وسلوكه

   ‍‍ ‍‍ 
جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق[22]. فمن فاز منه بالسهم الأوفر كان الأفضل بين الأمة. وأبو بكر الصديق أحسن الأمة خلقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ودليلنا القرآن.
إن أخلاق أبي بكر تقرن بأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقارن بها ! إذ هما الوحيدان - من الأمة - اللذان أرشدهما القرآن بالخصوص إلى أعلى محاسن الأخلاق وأرقاها ، ولا شك أن التحلية بالكمالات لا تكون إلا
بعد الاتصاف بالضروريات والأساسيات.
إن وجود حديقة جميلة تزهو بأجمل أنواع الورود وألوانها، وقد نظمت تنظيماً يخلب الألباب، وفيها من الأطيار والبلابل المغردة ما تطرب له الأسماع وتأنس الأرواح، لا يتوقع الرائي أن هذا كله تابع
لبناية خربة من طين! لا بد من توقع رؤية قصر كبير!
وإنك لن تنصح أحداً بقيام الليل وهو لا يؤدي الصلاة المكتوبة! والإتيان بالفاكهة على المائدة دون طعام ترف لا يغني الجائعين.
والزينة لا تكون الا بعد توفر عناصر الجمال، ولا توضع على محل ملوث بالأوساخ، وإلا كانت سفهاً، ولذلك قال الله تعالى يخاطب الصحابة رضي الله عنهم : }ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم{ (الحجرات:7)  فالتزيين بعد التحبيب، ولا قيمة للزينة بلا حب. إن الحب أصل والزينة كمال. ووجود الكمال لا يكون إلا بعد وجود الأصل عند العقلاء.
وللأخلاق أصل وقاعدة كما أن لها زينة وكمالاً وحسنا وجمالا ، ولا يطالب بمحاسن الأخلاق وكمالاتها من لم ينته من أصولها وأساسياتها.
والآن نأتي إلى حسن أخلاق الصديق رضي الله عنه وجمالها وزينتها وكمالها، وأمام أنظارنا قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)[23]. كذلك كان خلق الصديق.
موقفـه من مسطـح
كان لأبي بكر الصديق قريب اسمه (مسطح) ينفق عليه ويحسن إليه. فلما خاض المنافقون والذين في قلوبهم مرض في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، خاض مسطح مع الخائضين في عرض أبي بكر رضي الله عنه دون أن يرقب فيه إلاً ولا يداً.
 وأنزل الله جل وعلا - من بعد - براءة عائشة رضي الله عنها في سورة (النور) ، فحلف أبو بكر أن لا يصل مسطح ولا ينفق عليه بعد أبداً. وذلك أقل ما يمكن أن يجازي به رجل من طعن في عرضه الشريف. ولا نعرف  أحدا يمكن أن تسخو نفسه فيستمر بالإنفاق والإحسان إلى من طعن في عرضه وشرفه ! اللهم إلا اذا بلغ من الدرجات أعلاها في حسن الخلق وكرم النفس، وأسماها في إنكار الذات من أجل عمل الخير للخير نفسه !
كانت هذه الدرجة العالية السامية هي التي أرادها الله تعالى أن تكون زينة وتاجاً على رأس محاسن أخلاق الصديق فحببها إليه، وزينها في عينيه، ودعاه إليها بقوله الرفيق الشفيق:  }وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ (النور/22) . وكان جواب أبي بكر رضي الله عنه حين سمع توجيه الله إليه بواسطة رسوله و(صاحبه) : (بلى يا رب أحب أن تغفر لي)[24]. وعاد إلى مسطح يصله وينفق عليه !!
إن هذا لا يوفق إليه إلا طراز خاص من المؤمنين يقول الله عنهم: }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ { (فصلت:35،34). وما كان الله ليرضى لـ(صاحب) نبيه إلا أن يكون من ذلك الطراز صاحب الحظ العظيم والخلق القويم !
 
بأبـي شبيه بالنبـي
إن هذا يشبه موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من (الأعمى) الذي عرض له يسأله ويلح عليه وهو مشغول بدعوة كبراء القوم ! فعبس في وجهه ولم يرد عليه. وماذا يمكن أن يتوقع منه غير ذلك!
ولو فعل هذا غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما عاتبه الله ولما كان عليه من بأس:
إن السائل قد تطفل في الكلام وقاطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشغول بغيره. وكان الأولى به أن ينتظر حتى ينتهي من كلامه، أو ينصرف ليلتقيه في مكان آخر وظرف أليق . ثم إنه أعمى، والأعمى لا يرى عبوس من عبس في وجهه !. لكن الذي }عبس وتولى{ هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق العظيم ولذلك استحق العتاب. وذلك من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين)! والعتاب على قدر المنزلة .
وكذلك لو كان الذي قطع النفقة عن مسطح غير أبي بكر لما كلمه الله في شأنه وكلفه بالعود إلى صلته، لأن التكليف بمعالي الأمور وأحاسن الأخلاق لا يختار الله تعالى لها إلا ذوي القرب والاستحقاق.
 
مظاهر تجلي حسن خلق الصديق
وتجلى حسن خلق الصديق رضي الله عنه في مظاهر كثيرة أبرزها ثلاثة. وهي:
 
 
المظهر الأول: الصدق والتصديق
يكفيه شهادة على ذلك تفرده بلقب (الصديق) من بين الأصحاب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)[25].
وقد لقب أبو بكر في الجاهلية -كما لقب محمد- بـ (الصادق) فزاده الإسلام فلقبه بـ (الصديق).
إن العرب قوم معروفون بصدق الحديث، يستحيي أحدهم أن يؤثر عنه شيء من الكذب. فوجود الصادق بينهم لا يثير الانتباه ما لم يكن صدقه متميزاً لأن عامتهم صادقون. فأن يفوز في مجتمع الصادقين شخص بلقب (الصادق) دليل على تميزه في الصدق وبلوغه شأواً عالياً فيه كالبطل المتميز بين الابطال، والشجاع بين الشجعان! وهذا كقوله تعالى: }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ{ (الأحزاب:23) مع أن كل مؤمن صادق.
وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى: }وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ (الزمر/33).
وفيه نزل قوله تعالى: }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{ (الليل/5-7).
وقوله: }إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ{ الحديد/18 بتخفيف الصاد وهي قراءة متواترة .
لقد كان هذا التصديق أثراً من آثار صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرفه معرفة الخبير فكان يسارع إلى تصديقه دون توقف أو تردد في كل شيء مهما كان غريبا! وكان إذا حاججه المنكرون يقول واثقاً مطمئناً: (إن كان قاله فقد صدق)؛ لهذا روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر).
والتصديق إذا بلغ هذه الدرجة فهو أثر من آثار الصدق الفطري الذي طبعت عليه النفس وجبل عليه الطبع.
والصادق لا يدور في نفسه الشك، ولا يتوقع الكذب قط ممن وثق بهم؛ لأنه يرى فيهم نفسه التي ليس فيها إلا الصدق، فيكون حسنُ الظن تعبيراً عن الخير الذي جبلت عليه النفس.
 
المظهر الثاني: الشجاعة
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لم يتردد في موقف، ولم يضطرب أو يفر في معركة. بل كان حيث يكون الخطر أقرب الناس إليه. ولذلك اتخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاحباً له في أحرج المواقف وأصعب الظروف. فكان في الغار ثاني اثنين، وفي عريش بدر كذلك، وثبت معه في أحد وحنين - إذ قتل حامل لواء المشركين - وجميع المعارك ودافع عنه في مكة فضرب حتى كاد يموت.
     أما موقفه - وقد انفرد بعد (صاحبه) - من المرتدين ومانعي الزكاة، والجزيرة قد انتقضت عليه وصارت قبائلها تغزو المدينة نفسها فهو الموقف الذي تميد له الشم الرواسي.
وكان أبو بكر الجبل الوحيد الذي ظل راسياً لم تهزه الزلازل! لقد قرر قتال الدنيا مجتمعة مهما كانت الظروف وبلغت التضحيات وكانت النتائج!
جاءه عمر بن الخطاب يقول له: (تألف الناس وارفق بهم) فصرخ في وجهه : (أجبار في الجاهلية خوار في الاسلام! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك!) وأقسم بالله ليقاتلنهم حتى يؤدوا الخيط والمخيط ثم قال: (انه قد انقطع الوحي وتم الدين، أَوَ ينقص الدين وأنا حي !!).
ولك أن تتصور شجاعة رجل يقف لعمر ويصرخ في وجهه ينبزه بالخَوَر! وعمر هو عمر في شجاعته، وسطوته وهيبته !!
 

يا من رأى عمراً تكسوهُ بردتُهُ
 يهتزُّ كسرى على كرسيِّه فَرَقاً

والزيتُ أُدْمٌ له والكوخُ مأواهُ
من بأسِهِ وملوكُ الرومِ تخشاهُ

 
ثم تفكر في مدى صلابته ورباطة جأشه وثبات قلبه، وقد اجتمع حوله الصحابة رضي الله عنهم يرجونه أن يلين فيوافقهم على إرجاع جيش أسامة ليستعينوا به في القتال، ويذكرون له حراجة الموقف وتغير الظرف فما يزيدونه إلا عزما ومضاءاً! ويقسم أن لن يحل عقدة عقدها رسول الله بيده ولن يرجع جيش أسامة ولو رأى الكلاب تجري بأرجل أمهات
المؤمنين في سكك المدينة!
رجل بلغ في الإيمان مداه! وفي الشجاعة مداها!
أخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر ، إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي اليه أحد من المشركين فوالله ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لا يهوي اليه أحد إلا هوى اليه فهو أشجع الناس. ولقد رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وأخذته قريش فهذا يجبأه وهذا يتلتله وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحداً؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟! ثم رفع علي بردة كانت عليه ثم بكى حتى اخضلت لحيته ثم قال : أنشدكم الله . أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم فقال: ألا تجيبوني ؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة مثل مؤمن آل فرعون! ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه([26]).
 
المظهر الثالث: الإنفاق والكرم
الشجاعة والكرم توأمان مقترنان فكل شجاع كريم وكل كريم شجاع سجية.
لقد كان أبو بكر متميزاً في إنفاقه وكرمه . حتى لقد جعل القرآن
الكريم من ذلك العلامة والنقطة الدالة عليه فقال: ]وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى[ (الليل: 16،17)، وقال قبلها: ]فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى[ (الليل: 5-7) فأول صفة له وعلامة عليه الإعطاء والكرم.
أخرج الحاكم وابن ابي حاتم والبزار في أسباب نزول قوله تعالى: ]فأما من أعطى واتقى[ وما بعدها: أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة، ومنهم بعض نساء أسلمن فكن يعذبن على إسلامهن فقال له أبوه أبو قحافة : أراك تعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون ويدفعون عنك دونك ؟ فقال : يا أبت إني إنما أريد ما عند الله فنزلت في أبي بكر: ]فأما من أعطى واتقى.. [ الآيات الى آخر السورة([27]).
لقد أنفق الصديق أمواله وسخر تجارته في مكة في سبيل الله حتى لم يبق له يوم الهجرة من رأسماله البالغ أربعين ألفاً في أول دخولـه الإسلام وأرباحه معه إلا خمسة آلاف أخذها معه وما أبقى لأهله درهماً!
ومن مواقف كرمه وإنفاقه المشهودة ما كان منه عند تجهيز جيش العسرة المتوجه إلى تبوك وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنفق يومها أبو بكر ماله كله! حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر) ؟  فأجابه: أبقيت لهم الله ورسوله[28] !!
وشهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر)[29].
 
 
التجلي الثاني لخصائص الصديق في آية الغار: تفرده بالمعيـة الخاصـة
 
إن قوله تعالى: ]لا تحزن إن الله معنا[ عبارة عن حكاية الله لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطاباً لأبي بكر. وقد روى الإمام البخاري رحمه الله  بسنده عن أنس قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا. قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!).
والآية تصدق الرواية، والرواية تشرح الآية. وكلاهما من مشكاة واحدة.
والناظر المتأمل يجد إخباراً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم موثقاً من الله تبارك وتعالى بأن القائل - وهو رسول الله - و(صاحبه) - وهو أبو بكر – محفوفان جميعاً بمعية الله ، وأن الله تعالى معهما : يحفظهما ويكلأهما ويدفع عنهما كيد الكائدين وغائلة المشركين.
وهذا التعبير السماوي عن المعية لم نجد له شبهاً في القرآن الكريم ولم يرد لاثنين بخصوصهما الا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ، وإلا لموسى وهارون عليهما السلام.
والأمر يحتاج منا إلى وقفة مناسبة نبسط فيها الكلام عن حقيقة هذه المعية وأنواعها أولاً، وعن تجليات آثارها ثانياً:
 
 
1. المعية وأنواعها
 
(المعية) عامة وخاصة وأخص
المعية نوعان : عامة وخاصة
فالعامـة كما في قوله تعالى: ]مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ[ (المجادلة:7). وهذه شاملة لجميع الخلق: مؤمنهم وكافرهم. وهي معية العلم وما في معناه. ولا فضل فيها لأحد .
إنما الفضل في المعية الخاصة كما في قوله تعالى: ]إن الله مع الصابرين[  (البقرة:153)، وقوله : ]إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون[  (النحل:128) وهي معية التأييد والحب والرعاية والحفظ .
وهناك معية أخـص، فهي أدل على الفضل من المعية الخاصة؛ لأن الفضل كلما كان أخص كان أدل على أفضلية من اختص به على غيره. كما لو كرّم الأمير جيشه المنتصر، ثم كرم قائد الجيش تكريماً خاصاً وأشرك معه في هذا التكريم جندياً آخر واحداً معه: فهذا دليل على تميز ذلك الجندي، وإلا لما قرنه الأمير بالقائد وخصهما معاً بالتكريم دون الآخرين.
فقوله تعالى توثيقاً لما أخبر به نبيُّه صلى الله عليه وآله وسلم صاحبَه أبا بكر رضي الله عنه : ]لا تحزن إن الله معنا[ لا يدخل فيه أحد سواهما. إن هذه المعية كانت لاثنين فقط هما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه ؛ فهو أفضل الأمة بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولاهم بالإمامة ومنصب الخلافة. كذلك فإن هذه المعية هي معية ذات غير مرتبطة أو معللة بصفة أو سبب. وهذه أبلغ مما لو كانت معلقة على صفة معينة.
 
معيـة الله لموسى عليه السلام دون قومـه
لقد تعرض موسى u وقومه إلى موقف عصيب مشابه لموقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه رضي الله عنه في الغار. لقد طاردهم فرعون وجنوده حتى حصروهم أمام البحر وألجأوهم إليه فلم يكن لهم من منفذ! ]فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[ (الشعراء:61).
الموقف واحد والصورة متشابهة: هنا موسى وقومه محصورون أمام البحر، وحولهم فرعون وجنوده. وهناك محمد وصاحبه محصوران في الغار، وأبو جهل وجنوده محيطون بهما.
لكن.. تأمل كيف عبر القرآن عن كل من الموقفين؟ وكيف رسم كلاً من الصورتين؟!
لقد استعمل مع موسى لفظ : (أصحاب موسى) ومع محمد لفظ (صاحبه). و(صاحب) محمد صلى الله عليه وآله وسلم هادئ النفس مطمئن الضمير سوى أنه حزين أو يقارب أن يكون كذلك، فيواسيه صاحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخفف من حزنه قائلاً: (لا تحزن إن الله معنا). أما (أصحاب موسى) فكانوا خائفين هلعين آيسين لا أمل عندهم في النجاة : (إنا لمدركون)! فيجيبهم صاحبهم: (كلا إن معي ربي سيهدين).
انظر! لقد قال موسى u : (معي) ولم  يقل: (معنا) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه: (إن الله معنا) فنجاة أصحاب موسى لا لأن الله معهم، وإنمـا إكراماً لموسى u وتبعاً له. بينما كانت نجاة الصديق رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعية الإلهية لا بالتبعية النبوية فقط! فالله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه، بينما هو مع موسى دون أصحابه.
وقال: (إن معي ربي) بينما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله معنا). فمعية موسى معية ربوبية، ومعية محمد وصاحبه معية ألوهية، والإلوهية أكمل فما تعلق بها كذلك. ومعية الربوبية فيها تعلق والتجاء وطلب مع خوف وقلق. أما معية الإلوهية ففيها التعلق والتفويض المحض مع الطمأنينة والثقة واليقين.
وتأمل كيف أن (معية) موسى u تقدم فيها ذكر ما للنفس على ذكر الرب: (معي ربي) ! (ومعية) محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(صاحبه) تقدم فيها ذكر الله على ما للنفس: (الله معنا). وهذا أقرب للطمأنينة والثقة واليقين والتعلق الخالص من كل حظ للنفس وإن كان مطلوباً مشروعاً.
والنظم على كل حال أبلغ وأدل على الفضل، والنبي  صلى الله عليه وآله وسلم و(صاحبه) يشتركان فيه!
 
بين الحـزن والخـوف
لم يرد في الآية الكريمة أن أبا بكر رضي الله عنه كان خائفاً رغم أن الموقف موقف خوف أكثر منه موقف حزن. وإنما ورد فيها ذكر الحزن. والحزن غير الخوف: الحزن على أمر واقع، والخوف من أمر متوقع. فما يقال من أن أبا بكر رضي الله عنه كان خائفاً مضطرباً لا أصل له، ولا دليل عليه سوى الدعوى العارية.
وحتى لو افترضنا أن التعبير جاء بلفظ (لا تخف) دون (لا تحزن)
فليس في ذلك من عيب أو قدح لأسباب عديدة منها :
1 – إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا لا يبقي للخوف قدحاً ما دام أن الله مع الخائف. فيكون كقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام : ]لا تخافا إنني معكما[ (طه:46).
2 – إن الخوف انفعال نفسي طبيعي لا عيب فيه لذاته. وإنما يذم إذا زاد عن حده، أو اقترن به ما يشين ، وإلا فكل إنسان يخاف حتى الأنبياء عليهم السلام كما أخبر الله تعالى عن موسى u بقوله: ]ففررت منكم لما خفتكم[ (الشعراء:21)، وقوله : ]ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون[ (الشعراء/14) ، وقوله : ]يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون [ (النمل:10)، وغيرها من الآيات. وكما خاطبت الملائكة لوطاً u : ]لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك[ (العنكبوت:32).
3 – إن صيغة النهي لا تستلزم وقوع المنهي عنه إلا بدليل منفصل. وذلك كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ]ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه[ (الكهف:28). وكما توصي ابنك تقول لا تكذب ، لا تسرق …الخ. ان هذا مجرد تحذير لا يستلزم وقوع المنهي عنه وهو الكذب والسرقة ..الخ. بل هو أدعى لعدمه.
فلو افترضنا أن النص جاء هكذا: (لا تخف إن الله معنا) لما دل على تحقق وقوع الخوف. فكيف ولا ذكر للخوف فيه! إنما هو الحزن! وهو كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ]ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون[ (النحل:127).
 
عريش بـدر
وتفرد الصديق بصحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف العصيب هو كتفرده بصحبته في عريش بدر، وقد اختاره صلى الله عليه وآله وسلم من بين جميع أصحابه وفيهم عمر وعلي والزبير وغيرهم من الصناديد ، فلم يكن معه غيره فيه !
 
نزول السكينـة والتأييـد
ومن العنت – بعدُ – البحث عن منافذ للتخلص من قبضة سلطان الآية والتفلت من أحكامها كالقول بأن نزول السكينة والتأييد جاء بضمير الإفراد فلا يشمل أبا بكر ؛ فإنه عاطل عن الدليل، بله الذوق اللغوي العربي .
إن كلام الرب لا يتناقض !
إنه – سبحانه – أكد أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه بأن الله معهما جميعا. والمعية هنا إن لم تكن معية الحفظ والسكينة والتأييد فلا معنى لها ولا علاقة لها بنفي الحزن . وعلى هذا فلا يعقل أن يكون ما بعدها نافياً لما قبلها وإلا حصل التناقض، وهو مستحيل في كلام الرب. ولا أن يكون الرب مع من يكون معه لكنه لا يحفظه ولا حظ له من تأييده وسكينته! فإن هذا في غاية التناقض! وكذلك يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وحاشاه – كاذباً في الإخبار، وهو ممتنع أيضا. أو يكون كلاهما قد استعمل (التقية) والقول بذلك سخف وكفر ! فلم يبق إلا تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إخباره أن الله تعالى مع أبي بكر رضي الله عنه كما هو معه، فالسكينة والتأييد لكليهما معاً لأن الله معهما جميعاً.
هذا من حيث الإجمال.
أما من حيث التفصيل فنقول: إن المقصود بكلام الرب أصلاً هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس أبا بكر؛ فقد بدأ الكلام هكذا: ]إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا[ بضمير الإفراد، فلا بد أن ينتهي كذلك بضمير الإفراد. وهكذا كان: ]فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها[. أما ذكر أبي بكر رضي الله عنه فقد جاء معترضاً في وسط العبارة من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس من أصل كلام الرب ، إنما حكاه الله عنه حكاية بقوله: ]إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا[. فلما انتهى الكلام المعترض المحكي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتصل كلام الرب فكان بالإفراد كما بدأ بالإفراد ليتسق الكلام ، وإلا خرج عن مقتضى البلاغة وكان في الكلام زيادة –وهو ضمير التثنية- لا تأتي بفائدة ؛ إذ شمول الصاحب بما يكرم الله به صاحبه محسوم سلفاً بقوله: ]إن الله معنا[ فهو معه في كل شيء. وكما أنه شاركه في المخاطر والغرم فهو شريكه في المكارم والغنم؛ فلا داعي للإتيان بضمير التثنية لأداء هذا المعنى. فكان التعبير بضمير الإفراد لدلالة ما قبله عليه. وما لا داعي له ولا فائدة منه زيادة لا محل لها في كلام الرب جل وعلا .


المعيـة والتفـرد بالفضائـل (الخصائـص)
إن أفضلية الصديق رضي الله عنه على بقية الصحابة رضي الله عنهم لا تتجلى في تفوقه عليهم عند المقارنة فحسب، وإنما تتجلى حقاً حين تلاحظ من زاوية أخرى أجل وأسمى ألا وهي: اقترانه بالنبي  صلى الله عليه وآله وسلم ومشاركته المتفردة له في (المعية الإلهية).
وتأمل لفظ (ثاني اثنين) في الآية: إنه ينطبق على أبي بكر رضي الله عنه فهو ثاني اثنين، وكذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو ثاني اثنين. وهذا كما قال تعالى عن نفسه: ]ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم[ (المجادلة:7)، أي هو واحد من أربعة، لا أنه – سبحانه – الرابع ترتيباً.
فأبو بكر رضي الله عنه واحد من اثنين خصهما الله تعالى بمعيته. فهو الأول على الصحابة رضي الله عنهم والمقدم فيهم لا لسبقه إياهم – وان كان هذا حاصلاً تحصيلاً – وإنما لكونه الثاني بعد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم . هذه هي علة التقديم. أما سبقه الصحابة فهو – كما أسلفت – تحصيل حاصل.
ولما كان أبو بكر رضي الله عنه كذلك - أي أنه الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة - فهو الأول تلقائيا في غيابه صلى الله عليه وآله وسلم ، دون النظر الى الغير كائناً من كان ! وهذا ملحظ دقيق، وفرق عظيم !!
إن مثل أبي بكر وأفضليته على الأصحاب كمثل إمامين في مسجد واحد. أما أحدهما فهو الإمام الأصيل المقدم لعلمه وأهليته ، وأما الثاني فهو وكيله الذي يأتي بعده في المرتبة والتقديم. فحيثما غاب الإمام الأول كان من المتسالم عليه بين المصلين أن الإمام الآخر هو الذي ينوب عنه بلا منازع. نعم لو غاب كلاهما رجعوا الى أصول الترجيح في تقديم الإمام للصلاة .
إن أولية الثاني عند غياب الأول لا تلحظ من حيث المقارنة ببقية المصلين.. وإنما من حيث كونه الثاني أوالوكيل عن الإمام الأول .
وهكذا كان الأمر مع أبي بكر رضي الله عنه في أفضليته وإمامته. وهي منزلة لم تتأتَّ لأحد غيره من الصحابة ! لقد كان خيرة الأصحاب بعد الصديق – أي عمر بن الخطاب – يجهد نفسه – وأبو بكر لا يدري – يحاول سبقه لكنه يجد نفسه وراءه في نهاية المضمار ! وعمر هو القائل: (ما استبقنا الى خير إلا سبقني إليه أبو بكر)[30].
ولا شك أن رجلاً يسبق دون أن يدري أنه في سباق أو أن أحداً يسابقه متفرد في البطولة والسبق!
أرايت صبياً يركض جهده يسابق عملاقاً يهرول لا يشعر به ثم يعجز عن التفوق عليه ! فكيف لو علم العملاق واستنفد جهده ؟!
هذا حال عمر خير الأمة من بعده معه ! فكيف حال من دونه ؟!!
 
نائب النبـي e دائمـاً
ولذلك كان رضي الله عنه ينوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل موقف مهم بلا منازع.
وأعظم موقفين مهمين تقدم فيهما الصديق عند غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته هما الحج والصلاة ثم ناب عنه في أداء الزكاة بعد الوفاة .
معالـم تجلي آثار المعيـة
 
المعلـم الأول: نيابتـه في الحـج عن النبـي e      
ففي السنة التاسعة لم يحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأناب عنه أبا بكر يحج بالناس. ولم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا حجتان تأمر على إحداهما أبو بكر، وعلى الأخرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وإنما ذهب علي بسورة براءة بعد نزولها خلف أبي بكر تابعاً ومأموراً يحج بحجه ويصلي بصلاته. وليس له إلا قراءة المنشور الإلهي، يساعده في ذلك أبو هريرة ورهط من الصحابة([31]). وكان فيه حل بعض العقود وإتمام بعضها. والعرب من عادتهم أن لا يحل العقود ولا يعقدها إلا الأمير، أو واحد من أهل بيته. وعلى كل حال فقد كان أبو بكر هو الأمير.
 
المعلم الثاني: صلاته بالناس في مرض النبي e
ولما مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أناب عنه أبا بكر يصلي بالناس والصحابة جميعاً متوافرون وفيهم علي وعمر وعثمان . ولما تقدم عمررضي الله عنه في أحد الأوقات -وكان الصديق غائبا- وسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوته يصلي بالناس صرخ غاضباً يسمع الناس : (فأين أبو بكر ؟! يأبى الله ذلك والمسلمون. يأبى الله ذلك والمسلمون)([32]).
 
المعلم الثالث: إلزامه الناس بأداء الزكاة
وهذه سيأتي الكلام عنها.
 
المعلم الرابع: البيعة المتفردة وعدم حاجتها إلى نص أو تعيين
ولما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت بيعة أبي بكر بالخلافة وتقدمه فيها كتقدمه في الحج والصلاة، وكل شيء في حياته .
إن بيعة الصديق أوضح من أن تحتاج إلى نص أو وصية أو كتاب. هذه كلها لا يحتاجها أبو بكر فهو أكبر من أن يكون في حاجة إلـى مثل ذلك ! وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعهد إليه ويكتب فـي ذلك كتاباً إلا أنه تراجع عن ذلك حين رأى أنه لا حاجة إليه. وعبر عن ذلك بقوله: (يأبى الله والمؤمنون)[33] أي إلا أبا بكر. وكان قبلها قد حصل لغط ومراجعات في شأن الكتاب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (قوموا عني) وترك الأمر لعدم أهميته. ولو كان ضرورياً وتتوقف عليه مصلحة للأمة لا يضمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصولها بدونه لما تركه فإنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم عن ذلك.
إن المؤمنين يعلمون أن أبا بكر هو الأولى بمنصب الخلافة ويأبون أن يتولى عليهم – في وجوده – غيره ولا يحتاج علم ذلك الى كتاب أو أدلة ترجيح لأن تقدم الإمام الثاني في غياب الإمام الاول أمر مفروغ منه بلا كتاب ولا حساب.
لذلك قال عمر رضي الله عنه وهو يحكي اجتماعهم للبيعة في السقيفة المباركة وقد قال أبو بكر: (وإني أرضى لكم أحد هذين الرجلين - أي عمر وأبا عبيدة - : (فلم أكره مما قال إلا هذه الكلمة ، فلأن أقدم فيضرب عنقي في غير معصية الله أحب إلي من أن أتقدم على قوم فيهم أبو بكر)([34]).
ويقول: (ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر! من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)([35]) أي أن بيعة أبي بكر متفردة لا يقاس عليها وذلك لتفرد صاحبها فلا يقاس عليه لانعدام النظير، والقياس مع الفارق لا يصح.
وأما قول عمر: (إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها) فقد جاءت في معرض الرد على من قال ذلك؛ فقد قال عمر: (بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً. فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت. ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر) ([36]). ومعنى (فلتة) أنها تمت من دون تحضير في ظرف طارئ غير محسوب ، رسم صيغتها هذا الظرف الطارئ العاجل بلا تخطيط مسبق يقتضي اجتماع أهل الحل والعقد جميعهم، وإلا حسم الأمر وسارت الريح بما لا تشتهي السفن.
ولا يعقل أن عمر أراد من ذلك الذم . فالتعلق بهذه الكلمة – دون تفسيرها بما يتلاءم وسياق الحال والمقال– تعلق الغريق بالقشة ، وتمسك المفلس بِكِسَرِ النقود ! .
التجلي الثالث لخصائص الصديق في آية الغار: تفرده بوصـف (ثاني اثنيـن)
 
وهو من تجليات المعية له وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أيضاً.
إن قوله تعالى: ]ثاني اثنين[ وإن جاء في سياق الآية مقصوداً به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن مقتضى اللغة يجعله منطبقا على أبي بكر أيضاً لأن العرب اذا قالوا: ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة أو سابع سبعة لا يقصدون واحداً بعينه، وإنما القصد واحد من اثنين وواحد من ثلاثة ..الخ أي إن كل واحد منهم ثاني اثنين وثالث ثلاثة ..الخ كما قال تعالى: ]الم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم{ (المجادلة:7). فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار كان ثاني اثنين، وأبو بكر ثاني اثنين كذلك. ولا شك أن ترتيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث المنزلة يأتي أولاً فأبو بكر ثاني اثنين لفظا ومعنى.
 
تجليات (ثاني اثنين)
وقد تجلى كون الصديق ثاني اثنين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن كثيرة منها :
1 – ثاني اثنين في معية الله تعالى.
2 – ثاني اثنين في الإيمان: إذ هو أول من آمن (من الرجال).
3 – ثاني اثنين في الدعوة الى الله: إذ هو أول من دعا إلى الله بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاهتدى بدعوته خيرة رجالات الإسلام وأعمدته التي قام عليها منهم: عثمان بن عفان: ذو النورين الذي أقام الاسلام بأمواله وجهاده. وعبد الرحمن بن عوف: ظهير عثمان في الانفاق والجهاد. وسعد بن أبي وقاص الذي كان يلقب بالأسد عاديا خال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأول من رمى بسهم وأول من أراق دماً من مشرك في سبيل الله، بطل القادسية وفاتح العراق ومحرره من الاستعمار الفارسي الذي دام ألفا ومائة وخمسة وسبعين عاماً، مبيد الأكاسرة وهازمهم. وطلحة بن عبيد الله: الذي كان يلقب بطلحة الخير وطلحة الجود لكرمه وكان من الشجعان المعدودين الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والزبير بن العوام: حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمته، كان يعد بألف فارس لشجاعته وبلائه في الحروب ! وهؤلاء مع علي هم أهل الحل والعقد في الأمة وأعضاء مجلس الشورى الذي عينه عمر رضي الله عنه لاختيار الخليفة من بعده مما يدل على حسن اختيار الصديق وبعد نظره في معرفة الرجال.
كما أسلم على يديه كثير من مشاهير الإسلام وصفوتهم كأبي سلمة وخالد بن سعيد وعثمان بن مظعون.
وهو أول من خطب في المشركين يدعو إلى الله تعالى بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا إذ دخل هو ورسول الله الكعبة فقام أبو بكر فيها
خطيبا ([37]) .
4 – وثاني اثنين في الغار وهو أحرج موقف تعرض له
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخطره.
يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
 

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد

طاف العدو به إذ صعـّد الجبلا

وكان حِب رسول الله قد علموا
         

من البرية لم يعدل به رجلا

 
فروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال : صدقت
يا حسان هو كما قلت.
5 – وثاني اثنين في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة والتعرض لمخاطرها.
6 – وثاني اثنين في عريش بدر.
7 – وثاني اثنين في المشورة والرأي والمداولة في أمور الأمة.
8 – وثاني اثنين في صحبة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في ذهابه وإيابه .
9 – وثاني اثنين في الصلاة: حيث كان هو المقدم إذا غاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومن ذلك ما كان في مرض وفاته إذ قدمه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس بضعة أيام لم يرض غيره إماماً حتى ولو كان عمر!
وكان آخر ما ودع به صلى الله عليه وآله وسلم أُمته أن نظر الى صفوفهم في الصلاة وهم يؤدونها خلف إمامهم أبي بكر فجر اليوم الذي قبض فيه -بأبي هو وأمي- ومن فرحه ابتسم ابتسامة عريضة رضاءاً بما يرى، حتى كاد أن يفتتن المسلمون عن صلاتهم من شدة فرحهم ظناً منهم أن
رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قد تماثل للشفاء !
لقد سرت إمامة أبي بكر الصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرح له حتى ابتسم وأشرق وجهه بالبشر. فكيف تغيظ مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر ويضيق لها صدره ويتمعر وجهه !!([38])
10 – وثاني اثنين في الزكاة: يوم أن امتنعت عن ادائها قبائل الجزيرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحلف أبو بكر : (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) وبر بقسمه فكان الرجل الذي يقول ويفعل. وكان أحق الناس بقوله تعالى: }الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور{ (الحج:41).
وكان مسيلمة الكذاب قد اختصر الصلوات الخمس الى ثلاث مهرا لسجاح فأعادها أبو بكر الصديق إلى ما كانت عليه. وتأمل التقابل بين (الكذاب) و(الصديق) وكيف سلط الله صديق الأمة على كذابها!
وارتدت بعض القبائل عن إقامة الصلاة فارجعهم الى اقامتها. ونشر الصلاة والزكاة قي ربوع الأرض التي كانت تحت سيطرة فارس والروم.   
11 – وثاني اثنين في الحج: إذ أمّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحجيج في السنة التاسعة وهي الحجة الوحيدة قبل حجة الوداع،كما مر بنا سابقا. وهكذا كان أبو بكر ثاني اثنين في أعظم أركان الإيمان والإسلام .
12 – وثاني اثنين في القرآن: وهذه من أعظم خصائص الصديق ومناقبه التي أفرده الله بها ! يفوز بشرف قوله تعالى:  ]إن علينا جمعه وقرآنه[ (القيامة:17) فكان الذي قرأ القرآن وبلغه وكتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان الذي جمعه في مصحف واحد مرتباً بين دفتين أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، إذ كان الجمع متعذراً في عهد أولهما صلى الله عليه وآله وسلم لعدم اكتمال القرآن ونزوله مفرقا لا مرتبا، فلما اكتمل آخر حياته قام بهذا العمل خليفته من بعده، ولا شك أن الله تعالى لا يوفق لكرامة هذا الإنجاز العظيم إلا المصطفَين الأخيار والمقربين من الأبرار.
13 – وثاني اثنين في قيادة الأمة: فكان (خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وتفرد بهذا اللقب فلم يسم به أحد من الخلفاء وهو من موافقات القدر!
وكان الصديق أحقهم به لكمال متابعته لنبيه وسيره الكامل على نهجه.
وسمي غيره بـ(أمير المؤمنين) وهو لقب مشترك وليس مختصاً بأحد كلقب الصديق.
14 – وثاني اثنين في دعوة العرب وجهادهم وإدخالهم أو إرجاعهم الى الإسلام الكامل الصحيح إذ جاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كافرين مشركين وجاهدهم الصديق رضي الله عنه مرتدين أو زائغين .
15 – وثاني اثنين في جهاد العالمين: فأول من خرجت جيوشه الى خارج الجزيرة العربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مؤتة وتبوك ، وعقد الراية آخر حياته لأسامة بن زيد  رضي الله عنه فأنفذه الصديق ثم توالت من بعد جيوشه تضرب فارس والروم .
16 – وثاني اثنين في الصدق والتصديق وهي صفة اشتهر بها في الجاهلية فكان يسمى - كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – بـ(الصادق) ووصفه ابن الدغنة – وهو أحد شيوخ قبائل العـرب – لما  رآه عازما على الخروج الى الحبشة فقال : (ما مثلك يا أبا بكر يخرج. انك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر).
فوصفه بالصفات نفسها التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول عهده بالوحي وأولها الصدق : (إنك لتصدق الحديث …)! ثم نزلت الآيات في ذلك كقوله تعالى: ]والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون [ (الزمر:33) كما مر بنا.
17 – وثاني اثنين في المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذ تفرد بلقب (الصديق) ومصداق ذلك قوله تعالى: ]ومن يطع الله ورسوله فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا[ (النساء:69) . فكان محمد هو النبي، وأبو بكر هو الصديق. ثم يأتي من بعدهم الصحابة ما بين شهيد وصالح .
ولهذا لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ثلة من أصحابه على الجبل ورجف بهم قال له : (اثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد) وكان معه أبو بكر الصديق – ولم يمت شهيداً– وعمر وعثمان وعلي وطلحة وآخرون كلهم ماتوا شهداء !
فأبو بكر أفضل صديق لأفضل نبي في خير أمة فهو خيرة البشر بعد الأنبياء عليهم السلام فمن أولى منه بإمامة الأمة وقيادتها!
18 – وثاني اثنين في التقوى ففيه وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى: ]والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون[ (الزمر:33)، وهل هناك أتقى ممن جمعه الله تعالى مع نبيه وجعله شريكا له في تقواه !
وأدل على ذلك قوله تعالى عنه : ]وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى[  (الليل:17،18)، فأبو بكر هو الأتقى من بين الأمة وهو الأكرم كما قال تعالى: ]إن أكرمكم عند الله أتقاكم[ (الحجرات:13). وسيأتي لاحقاً – إن شاء الله – مزيد تفصيل في ذلك.
19 – وثاني اثنين في الاحسان وهو أعلى درجات الايمان إذ قال تعالى فيه: ]والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين[ (الزمر:33،34).
20-وثاني اثنين في الجزاء والرضا
قال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ]ولسوف يعطيك ربك فترضى[ (الضحى:5). وقال عن (صاحبه): ]ولسوف يرضى [ في آخر قوله: ]وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى [ (الليل:17-21). ولم يعد الله تعالى أحدا بعينه بذلك سوى نبيه و(صاحبه)، والتعبير عن الوعد واحد . (لسوف … ترضى) و( لسوف يرضى).
ولو تدبرنا الآية في الفقرة السابقة (19) لوجدنا المشار إليه مشاركاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجزاء المذكور بقوله: ]لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ (الزمر:34،35).
21–  وثاني اثنين في التنويه بالذكر والفضل تشخيصاً في القرآن
إذ أن كل ما ورد في القرآن الكريم من فضائل في شأن
الصحابة رضي الله عنهم جاء في صيغة العموم وليس في صيغة التخصيص التي يفهم منها تشخيص المراد بالذكر دون الحاجة إلى معرفة أسباب النزول. إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -فهو الأصل والقرآن كله في فضائله- وصاحبه فإن آية الغار قد تواطأت القلوب والعقول على أنها في الصديق دونما حاجة لأسباب النزول.
أما (زيد) الذي جاء ذكره في سورة (الأحزاب) فقد ورد عرضاً دون إشارة إلى مدح أو ذم في قوله تعالـى : ]فلما قضى زيد منها وطرا
زوجناكها[ (الأحزاب:37).
وأما الثلاثة الذين خلفوا وذكروا في سورة (التوبة) فهم قد ارتكبوا ذنباً تابوا منه فتاب الله عليهم. ولا يمكن معرفتهم دون الرجوع إلى روايات أسباب النزول.
22 – وثاني اثنين في (الحديبية) إذ هو الوحيد من الصحابة رضي الله عنهم الذي تابع المتابعة التامة وكان موافقاً (لصاحبه) في كل شيء دون تلجلج أو تردد ولا اعتراض، بل كان منشرح الصدر إيماناً ويقيناً، والجمع المؤمن كله مغموم مكروب وفيهم عمر وعلي الذي رفض أن يمحو من كتاب الصلح كلمة (رسول الله) رغم أن الذي أمره بمحوها الرسول نفسه فاضطر الى محوها بيده الشريفة بعد أن دله عليها!
وعمر يقول: يا نبي الله ألست نبي الله حقا ؟ فيجيبه  صلى الله عليه وآله وسلم : (بلى يا عمر) قال : فلم نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: (يا عمر إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) ويذهب الى أبي بكر – والموقف عصيب - ليلقي عليه الاسئلة نفسها.. ويتلقى الأجوبة نفسها التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! يقول عمر: فأخذ أبو بكر بيدي وجذبها في قوة وقال لي: (أيها الرجل إنه رسول الله ولن يعصيه وإن الله ناصره فاستمسك بغرزه فوالله انه على الحق)[39] فانزل الله السكينة على قلبي وعلمت أنه الحق.
23 – وثاني اثنين في المطاعن؛ فإن أعظم مطعن وُجه إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  كان في عرضه  وزوجته  أم  المؤمنين عائشة. وعائشة هي ابنة أبي بكر؛ فكان أبو بكر ثاني اثنين في أعظم المطاعن !
24 – وثاني اثنين في المخاطر التي تعرض لها بيته يوم الهجرة إذ كان الكفار يترددون بين بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيت أبي بكر رضي الله عنه حتى أن أبا جهل ضرب ابنته أسماء رضي الله عنها فأطار قرطها من اذنها وأدمى وجهها! وكان يمكن لبيته أن يتعرض للمحو والاجتثاث!
25 – وثاني اثنين في مماته كما كان في حياته ! فكان قبره بجوار قبر (صاحبه) وتفرد أبو بكر بـ(الصحبة) وفاز بها حياً وميتا!!
أما قبر عمر الصاحب الثاني فكان إلى جوار قبر أبي بكر .

التجلي الرابع لخصائص الصديق في آية الغار: تفـرده بمواسـاة النبـي e
 
وذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الثابت قطعا في القرآن الكريم: ]لا تحزن إن الله معنا[. وهذه من خصائص الصديق رضي الله عنه حتى كأن الله تعالى هو المواسي.
وهي من جنس مواساة الله لرسوله في قوله: ]ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون[ (النحل:127)، وقوله: ]ولا يحزنك قولهم { (يس:76)، وقوله: ]قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون * فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون[  (الأنعام:33). ومواساة المؤمنين بقوله: ]ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلمون إن كنتم مؤمنين[ (آل عمران:139). لكن مواساة المؤمنين عامة، بينما مواساة الله لصاحب نبيه خاصة.
ومن جنس مواساة الله تعالى لأم موسى وتطمينها بقوله: ]فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه اليك[ (القصص:7). ومواساة عيسى u لأمه: ]فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا[ (مريم:24). فكيف بمن كان العلي الأعلى معه؟!
ومواساة الملائكة لنبي الله لوط u : ]وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك[ (العنكبوت:33)، وتطمينهم للمؤمنين عند الموت كما قال تعالى: ] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ (فصلت:30).
 
سورة (الليل) وآية (الأتقى)
 
وهذه من أعظم فضائله وخصائصه!
وكيف لا ؟! والله تعالى نفسه يصفه فيها بأعظم صفة إيمانية، ألا وهي.. (الأتقـى) !
والأتقى هو الأفضل والأكرم والأعلى منزلة عند الله تعالى. قال سبحانه: ]إن أكرمكم عند الله أتقاكم[ (الحجرات:13). فالصديق أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكرمها وأعلاها منزلة عند الله.
وسورة (الليل) مكية من أول ما نزل من القرآن يأتي ترتيبها في المصحف قبل سورة (الضحى). وجميع ما فيها من فضائل نزلت بحق الصديق رضي الله عنه . كما أن سورة (الضحى) نزلت بشأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فسورة (الليل) لأبي بكر رضي الله عنه ، وسورة (الضحى) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم !
جاء في أسباب النزول للسيوطي: أخرج الحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقاباً ضعافا فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك يا بني، فقال: يا أبت إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه: ]فأما من أعطى واتقى[ إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله ، وفيه نزلت ]وسيجنها الأتقى[ إلى آخر السورة. وأخرج البزار عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية: ]ومالأحد عنده من نعمة تجزى[ الى آخرها في أبي بكر الصديق.
 
الآية لا تنطبق إلا على الصديق رضي الله عنه
قد يحاول البعض – كما مر بنا ذكره في المقدمة - أن يماري في اختصاص الصديق بفضل هذه الآية الكريمة، ولكن الاختبار ليس في صالحه أبداً، إنما يظهر بجلاء أن فضائل هذه السورة لا تنطبق تمام الانطباق إلا على الصديق رضي الله عنه ! فضلاً عن هذه الآية. فلو أخذنا حال الخلفاء الراشدين الثلاثة وأجرينا الاختبار لتبين لنا ما يلي:
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر إسلامه إلى السنة الثالثة أو ما بعدها، والسورة من أول ما نزل ولعلها سبقت في نزولها إسلامه. ولم يكن إنفاقه كأبي بكر وهو القائل: (ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه أبو بكر)[40].
 وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانت نِعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تطوقه؛ إذ زوجه بابنتيه رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما. وهذه من أعظم النعم الدنيوية والأخروية. والسورة تقول عن هذا المنفق الذي يؤتي ماله يتزكى: ]وما لأحد عنده من نعمة تجزى[ أي ليس لأحد عليه سابق نعمة يكافئها بهذا الإنفاق رداً للجميل. وإنفاقه رضي الله عنه اشتهر في المدينة كشرائه بئر رومة وتجهيزه جيش العسرة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر)[41].
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان حين نزول الآية صبياً في كفالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك مالاً ينفقه على نفسه ولا على  غيره. بل كان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ينفق عليه ويكفله ويحوطه ويؤويه، ثم زوجه ابنته السيدة فاطمة رضي الله عنها.
والآيات تصف المذكور بأنه ]يؤتي ماله يتزكى[ ولم يكن عند علي من مال يزكيه عند نزولها. وأنه ]ما لأحد عنده من نعمة تجزى [ وكانت نعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة آنفا تطوقه من كل جانب. فليس هو المقصود إذن.
أما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لغيره عنده من سابق نعمة يكافئها أبو بكر بإنفاقه على الدعوة أو في حوائج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد زوج رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه. ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة)[42].
إلا نعمةَ النبوة والهداية إلى الحق. وهي غير مقصودة في الآية لأنها لا تجزى. والآية في ذكر النعمة التي تجزى. وهي عامة في أعناق الجميع وليست خاصة بأبي بكر وحده.
وفي السورة وعد لأبي بكر بقوله تعالى: ]ولسوف يرضى[ وهو يشبه تماماً ما وعد الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الضحى بقوله: ]ولسوف يعطيك ربك فترضى[ وهو خاص بأبي بكر. كذلك فيها قوله عنه : }سنيسره لليسرى[ وهو يشبه ما قاله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأعلى:
}ونيسرك لليسرى[ ، وذلك خاص بأبي بكر أيضاً.
فأبو بكر هو (الأتقى)، وغيره – كأمية بن خلف الذي نزلت فيه الصفات المقابلة – هو (الأشقى)، والفرقان بينهما واضح جلي وضوح النهار مع الليل. ففضل أبي بكر وتميزه كتميز النهار عن الليل: ]والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى[.
وبمال أبي بكر منَّ الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الضحى فقال: ]ووجدك عائلاً فأغنى[. وبفضله - وهو من معاني الآية - أمره أن يحدث: ]وأما بنعمة ربك فحدث [. والله تعالى يقول : ]ولا تنسوا الفضل بينكم [ (البقرة:237)، وأبو بكر هو صاحب الفضل الذي نوه الله بذكره بقوله: ]ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله[ (النور:22). وبذلك نوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحدث كما أمره الله تعالى.
 
بين النهار والليل والمؤمن والمنافق
جعل الله تعالى إنفاق المال هي الصفة الفارقة بين المؤمنين والمنافقين. يقول تعالى: ]المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون[ (التوبة:67). وقال في صفة المنافقين أيضاً: ]لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون  * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم [ (التوبة:55،54).
وأبو بكر رضي الله عنه بلغ قمة السخاء في الإنفاق في سبيل الله حتى صار
ذلك علامة عليه وهذه العلاقة ثابتة له في القرآن كالنقطة الدالة ترشد إليه فهو: ]من أعطى واتقى وصدق بالحسنى [. وهو ]الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى[.
 
سـورة (الشـرح)
 
والمقصود منها قوله تعالى: ]ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك [. وهي مكملة لسورة (الضحى)، وتأتي بعدها حتى كأنهما سورة واحدة.
والوزر هو الحمل الثقيل الذي جاء ذكره في قوله تعالى: ]إنا سنلقي عليك قول ثقيلا[ (المزمل:5) وهو الأمر بالدعوة والتصدي للناس بالأمر والنهي .
ولم يخف هذا الحمل عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأحد كأبي بكر رضي الله عنه إذ كان ساعده الأيمن وظهيره الأقوى في كل شيء. وسخر في خدمته نفسه وماله.
وكان اتباعه يعذبون فكان أبو بكر يبذل ماله في خلاصهم وشرائهم وذلك مما يفرج الضيق ويزيح الهم عن صدر رسول الله.
وكان مع النبي يتدارس أمور الدعوة ويضع الخطط ويقول ويشير
ويغدو ويروح ويجلس ويسمر ويسر إليه بالأمور الخطيرة([43]).
وهذا كله مما يخفف الحمل، ويزيح عن الصدر العبء الثقيـل
فينفسح وينشرح.
ولا شك أن الهم والعبء لا يمكن أن يخف بصبي أو غلام كعلي لأسباب كثيرة منها:
1- عدم التقارب النفسي بين صبي وشيخ جاوز الاربعين.
2- عدم قدرة الصبي الجسدية والفكرية على تحمل الاعباء.
3- عدم امتلاك المنزلة الاجتماعية المؤثرة.
4- عدم القدرة المادية.
ولذلك لم يبرز دور سيدنا علي إلا في المدينة بعد بدر. وكان المشركون يطلبون رأس عمه حمزة للثأر من قتلى بدر لأنه هو الشخصية البارزة المؤثرة من أهل بيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم على عادة أهل الجاهلية في الثأر والانتقام لا يكون إلا ممن يرونه مقدماً عند الخصوم وبارزاً في المجتمع.
أما الزوجة فيمكن أن تخفف عن الزوج حمل البيت، أما مكابدة أمر الناس في الخارج فلا. وهكذا انطبقت سورة الشرح على أبي بكر فشرح الله به صدر نبيه  صلى الله عليه وآله وسلم ووضع وزره ويسر عليه كل أمر عسير.
 
آية (التفضيل) في سورة (الحديد)
 
وهي قوله تعالى: ]لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير [ (الحديد:10).
في هذه الآية العظيمة يجعل الله للتفضيل أسساً ثلاثة هي:
1 – الإنفاق            
2 – القتال      
3 – السبق في الإنفاق والقتال
ولو عملنا مقارنة منصفة بين الامامين الكريمين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لكانت النتيجة كالآتي:
أبو بكر رضي الله عنه أعظم من أنفق من قبل الفتح وما انتفع الإسلام بمال أحد كما انتفع بمال أبي بكر.
أما علي رضي الله عنه فلم يكن عنده من مال ينفقه لا من قبل الفتح ولا من بعده وذلك لفقره. وكان في مكة في كفالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وظل الفقر ملازماً له طيلة حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعرف عنه أنه جهز جيشاً أو حل معضلة مادية.
وقدم الله تعالى الإنفاق على القتال لأن الدعوات إنما تقوم أولاً على مال المنفقين، لا على قوة المقاتلين.
فهذا العنصر الأول والأعظم من عناصر التفضيل: كله لأبي بكر دون علي عملاً وسبقاً.
وأما القتال فلأبي بكر منه النصيب الأعلى؛ إذ كان قتاله قتال القادة المخططين الذي يرقبون ميدان المعركة يديرونه ويوجهونه ولا ينزلون لمباشرة القتال بأنفسهم إلا عند الحاجة القصوى.
فكان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مركز القيادة يخطط ويرقب مجريات المعركة ويوجهها. وهذا أعظم في الميزان من قتال الجندي الباسل في الميدان مهما بلغت درجة بسالته وفتكه بالأقران. وهو ما كان عليه سيدنا علي رضي الله عنه . ثم أن التخطيط والقيادة تسبق مباشرة القتال.
ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النزول للمبارزة، كما حصل عندما برز ابنه عبد الرحمن في بدر - وكان يومها مشركاً - فأراد أبو بكر أن يبرز له فمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: (متعنا بنفسك يا أبا بكر). فكان يمنعه ويأذن لغيره كعلي لأن أبا بكر ليس من السهل أن يفرط فيه أداء لمهمة يمكن أن يقوم بها عنه آخرون، كان ينتدبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها كما انتدب علياً رضي الله عنه لقيادة الكتيبة الاقتحامية في خيبر فكان الفتح على يديه.
ودافع أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وضرب عنه بيده فضرب حتى أدمي وأغمي عليه وهو يقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)[44] يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وذلك في
مكة وهو من جنس القتال الممدوح فكان رضي الله عنه سابقاً في هذا أيضاً.
ولما كان قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر رضي الله عنه هو قتال القادة ، فلا يقاس
بغيره على أساس عدد من يقتل أو الجهد البدني الشخصي المبذول في ساحة القتال. إنما هذا هو شأن الجندي وعمله. ولذلك لا يعرف أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قتل أحداً إلا القليل النادر. ولكنه أفضل وأعظم من قاتل وجاهد في سبيل الله! وكذلك كان أبو بكر.
 
آية (أولو الفضل) في سورة (النور)
 
وهي قوله تعالى: }ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم { (النور:22).
وقد سبق الكلام عنها (في موضوع آثار الصحبة وتجلياتها)، ووجه تفرد أبي بكر في الفضل الوارد فيها .
وذلك من خصائصه العظيمة.
 
آية (التصديق) في سورة (الزمر)
 
وهي قوله تعالى: ]والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم مايشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون * أليس الله بكاف عبده[ (الزمر:34-37).
أما الذي جاء بالصدق فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعظم من صدّق به الصديق رضي الله عنه فهو أول المقصودين بالآية وما بعدها.
وفي قوله تعالى: ]أليس الله بكاف عبده[ إشارة الى آية الغار: ]إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفرو ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا[ فكما نصره بواحد صدقه بواحد ]أليس الله بكاف عبده[.
ولا شك في أن المصدقين كثيرون، ولكن أعلاهم تصديقاً هو الصدِّيق لشدة صدقه. وعلي واحد منهم إلا أن الآية – على قواعد الإمامية – لا تشمله، فضلاً عن أن تخصه! جاء في [المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي/470] أن أبا بكر بن عبد العزيز غلام الخلال سئل عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في أبي بكر. فقال السائل: بل في علي. فقال أبو بكر: اقرأ ما بعدها. فقرأ الى قوله: ]ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا[ فقال: علي عندكم معصوم لا سيئة له فما الذي يكفر عنه؟! فبهت السائل.
 
آية (الصادقون) في سورة (الحشر)
 
وهي قوله تعالى: ]للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون[ (الحشر:8).
وأبو بكر الصديق أصدق الصادقين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فلقد
تحققت فيه أركان الصدق المذكورة في الآية في أجلى صورها:
- هاجر مع رسول الله.
- وأُخرج من داره وماله. 
- وأنفق ما يملك ابتغاء فضل الله ورضوانه. والغني المنفق خير من الفقير الذي لا يستطيع الإنفاق من هذه الناحية.
- وهو أكثرهم نصرة لله ورسوله حتى كان فيها مضرب المثل! فلقد أنزل الله  فيه وفي المؤمنين هذه الآيات التي يستنفر بها همم المؤمنين جميعاً ويضرب لهم المثل بأبي بكر الصديق وكيف نصر الله ورسوله فقال: ]يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل *–إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا { (التوبة/38-40). فلم يستثن من هذا العتـاب الموجه إلى جميع المؤمنين إلا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم و(صاحبه) رضي الله عنه .
فكان أبو بكر رضي الله عنه أفضل الصادقين الذين نصروا الله ورسوله. فهو الأولى بالإمامة. والله تعالى يقول: ]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين[ التوبة/119. فأمر جميع المؤمنين أن يكونوا تبعا للصادقين وهم تبع لأصدقهم وأفضلهم.
وبهذه الآية احتج أبو بكر على الأنصار في أن المهاجرين أولى منهم بالإمارة وأن المهاجرين هم الأمراء . والأنصار هم الوزراء فكان أبو بكر إمام الأئمة.
 
 
 
آية (الاستخلاف) في سورة (النور)
 
وهي قوله تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ (النور:55).
وبر الله عز وجل بوعده فمكن للمؤمنين، وجعل منهم الخلفاء الراشدين، وأولهم أبو بكر الصديق. بل هو (خليفة رسول الله) بلا منازع. أما غيره فـ(خليفة المسلمين) أو أمير المؤمنين. وشتان شتان.
وهذا يدل على توفر الشرط (وهو الإيمان والعمل الصالح) فيمن استخلفهم ومكن لهم، وإلا لما حصل الوعد بالاستخلاف والتمكين؛ لأنه مشروط به. وأن أبا بكر تحقق فيه من ذلك النصيب الأوفر المناسب للاستخلاف الأعظم.
ومكن الله للمؤمنين وحصل لهم من الأمان والاطمئنان والقوة والإيمان في زمن أبي بكر ما استطاعوا به أن يزعزعوا كيان أكبر دولتين في عالمهم: فارس والروم.
وكان نصيب أبي بكر من الاستخلاف والتمكين والأمن أكبر من علي الذي لم يستطع أن يبسط سلطان خلافته على جميع المسلمين، ولم يبلغ من القوة والتمكين ما يستطيع به قهر خصومه ومخالفيه. بل طمع في المسلمين الروم وفكروا في غزوهم حتى هددهم معاوية بمصالحة علي والمسير اليهم إن لم يكفوا. فرجعوا عما هموا به وعزموا عليه.
 
آية (التمكين) في سورة (الحج)
 
وهي قوله تعالى: ]الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور[ (الحج:41).
وأبو بكر الصديق أولى الأمة بهذه الآية لأسباب عديدة منها:
  1.   أنه صلى بالناس إماما في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته. وكان علي رضي الله عنه وغيره يصلي خلفه مأموماً. وصلاة الإمام أكمل من صلاة المأموم. وإلا لم ينبغ له التقدم عليه إلا لعذر. وتقدم أبي بكر لإمامة المسلمين في الصلاة كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم و(تزكيته) وهو القائل: (يؤم القوم أقرأُهم لكتاب الله)[45].
   2. أنه صلى أول الإسلام وهو رجل بالغ . وصلى علي وهو صبي. وصلاة البالغ أكمل وأوجب: فإن صلاة الصبي على سبيل الاستحباب، وصلاة البالغ على سبيل الوجوب. والواجب أحب إلى الله، ولذلك أوجبه على العباد.
  3.  أنه لما مكن الله له في الأرض قاتل على الصلاة وأرجع المرتدين إلى حضيرة الإسلام فأقاموها. ونشر الإسلام خارج الجزيرة العربية فصار الناس يقيمون الصلاة في تلك البلدان. فاكتمل في حقه قوله تعالى: ]الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة [. وعلي رضي الله عنه لما مكن الله له حكم أناساً مسلمين يصلون. ولم يتمكن - لانشغاله بإخماد الفتن –  من نشر الإسلام الى الخارج. بل ابتلي بقتال المصلين!
      4.      أما الزكاة فقد أداها أبو بكر عن نفسه. ولم يفعل ذلك علي لفقره.
  5.  ولما مكن الله لأبي بكر قاتل الناس على الزكاة حتى صاروا يؤدونها سواء منهم من كان مسلما فامتنع عن أدائها، أم كان كافراً فأسلم. وعلي لم يفعل ذلك في حال تمكينه، وذلك لانشغاله بإخماد الفتن – كما قلنا – وقد قتل فيها عشرات الآلاف من المصلين والمزكين من الطرفين. ما قلل عددهم. ومن الطبيعي أن تستنزف الحروب الداخلية أموال الأمة ومواردها ما يؤدي إلى افتقار كثير ممن كان يؤدي الزكاة ويجعلهم غير قادرين على أدائها!
فكان الذي – لما مكن الله له في الأرض -  أقام الصلاة وآتى الزكاة على الوجه الأكمل هو الصديق. فهو أولى بالخلافة والتمكين لاستيفائه شروطه كاملة.
 
 
آية الأعراب في سورة (الفتح)
 
وهي قوله تعالى: ]قل للمخلفين من الأعراب ستدعون الى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون * فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليماً[ (الفتـح:16).
وهذه الآية لم تكن إلا في حق أبي بكر رضي الله عنه :
·       فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل بعد نزولها (أي بعد صلح الحديبية) قوماً أولي بأس شديد فأسلموا:
·       فيهود خيبر لم يسلموا.
·       ومكة فتحت بلا قتال أو بأس شديد.
·       وأهل الطائف أسلموا طواعية، ولم يسلموا بقتال.
·   وتبوك لم يحصل فيها قتال، ولم يسلم أحد. هذا كل ما حصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية. فليس هو المقصود بها.
·       وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحداً في عهده على الدخول في الإسلام. بل قاتل أناساً مسلمين:
·   قاتل أهل مكة والمدينة في (الجمل). ولم يكن قتالاً على الإسلام فما كان أحد الفريقين يتهم الآخر بالخروج منه فهو يقاتله ليدخله فيه. ولم يحدث أي تحول في اعتقاد الفريق الذي قاتله.
·       والخوارج لم يكونوا كفاراً، بل مبتدعين . ولم يقاتلهم
علي على بدعتهم للرجوع عنها، وإنما لأنهم حملوا السلاح وسفكوا الدم الحرام وقطعوا الطريق وأخافوا الناس بعد أن قال لهم: (لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا نمنعكم فيئكم ما دمتم تقاتلون معنا مالم تحدثوا حدثاً).
وقاتلهم فلم يرجع أحد منهم عما هو فيه بل ظلوا خارجين حتى قتلوه. ومات رضي الله عنه وهو يوصي بهم –  كما ورد في نهج البلاغة - قائلاً: (لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)([46]). ولو كانوا كفاراً أو مرتدين لما نهى عن قتالهم وجعلهم متأولين في ارتكابهم الباطل غير قاصدين اليه أصلاً. ورغب بالعفو عن قاتله فقال – على ما ورد هناك - : (إن أبق فأنا ولي دمي وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)([47]). والمرتد – ما لم يتب – يجب قتله، فكيف وهو مصر بل مرتكب لجريمة القتل مع (سبق العمد والترصد والإصرار)!
وقال: (يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين. ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي)([48]). فسمى الخوارج مسلمين ونهى عن الخوض في دمائهم.
إنما الذي قاتل من ذكرتهم الآية هو أبو بكر الصديق : إذ قاتل
المرتدين. وقاتل الفرس والروم. وكانوا جميعاً أولي قوة وأولي بأس شديد حتى استسلموا وأسلموا.
والله تعالى دعا المخلفين من الأعراب إلى القتال معه ووعدهم بالأجر الحسن على ذلك. وهذا دليل على صحة إمامته. وإلا لما رغَّب الرب في القتال تحت رايته.
 

 
آية (قتال المرتدين) في سورة ( المائدة)
 
وهي قوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم[ (المائدة:54).
وهذا ملخص قول الإمام الرازي في الآية أنقله بتصرف:
إن هذه الآية يجب أن يقال: إنها نزلت في حق أبي بكر  رضي الله عنه والدليل على ذلك: إن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين . وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين …
ولا يمكن أن يكون المراد هو علي لأن علياً لم يتفق له قتال أهل الردة. فإن قالوا: بل قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً قلنا: هذا باطل من وجهين:
·  الأول : إن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية، والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر، وما كان أحد يقول: إنه إنما حاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام، وعلي لم يسمهم البتة بالمرتدين.
·  الثاني: أنه لو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك البتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة. وإذا لم تكن منازعته ردة لم يمكن حمل الآية على علي لأنها نزلت فيمن يحارب المرتدين.
وكلمة (من) في معرض الشرط للعموم فقوله تعالى:]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه... [ الآية، يدل على أن كل من صار مرتداً عن دين الإسلام فإن الله يأتي بقوم يقهرونهم ويبطلون شوكتهم. فلو كان الذين نصبوا أبا بكر كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويبطلون شوكتهم. ولم يكن الأمر كذلك بل كان بالضد: إذ قهر الله خصومهم وقمع بهم المرتدين . وعلي لم يحارب أبا بكر بل حمل السيف تحت لوائه في وجه المرتدين وكان هو على رأس الكتيبة التي تولت حراسة المدينة حينما خرج أبو بكر بنفسه ليقود أول معركة معهم حول المدينة. ولما انتهت المعارك بدحرهم على يد أبي بكر أكرم علياً فزوجه بسبية من بني حنيفة ولدت له ابنه محمداً. وهذا دليل آخر على ردتهم لأن عليا قبلهاً من الصديق ونكحها نكاح ملك اليمين. وقاتل عمار بن ياسر المرتدين حتى صلمت أذنه، ويعيره يوماً رجل فيقول : يا ذا الأذن فيجيبه عمار رضي الله عنه بقوله: (خير أذنيَّ سببت).
وفي الآية صفات جعلها الله لمن أرادهم بها:
·   أولها: أنه ]يحبهم ويحبونه[ فلما ثبت أن المراد بها هو أبو بكر ثبت أن قوله: ]يحبهم ويحبونه[ وصف لأبي بكر؛ فدل ذلك على صحة إمامته.
·  وثانيها: قوله: ]أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين[. وهذه صفة أبـي بكر الثابتة له واقعاً. ويؤيده الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)[49]. فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكافرين. كما أحرق الفجاءة حين ارتد وخدعه فغدر به.
ألا ترى أنه في أول الأمر حين كان الرسول في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكيف كان يلازمه ويخدمه وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم. وفي آخر الأمر - أعني خلافته - كيف لم يلتفت إلى قول أحد وأصر على أنه لا بد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى لو آل الأمر إلى أن يخرج إلى قتال القوم وحده فكان أشد الصحابة في ذلك وأعزهم على الكافرين فكان قوله تعالى: ]أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ لا يليق إلا به !
·  وثالثها قوله تعالى : ]يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[
وهذا وإن كان مشتركاً بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل. وذلك أن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في مكة في أول البعثة. وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة. فكان أبو بكر يجاهد الكفار بمقدار قوته، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه. أما علي فإنما شرع في الجهاد يوم بدر وأحد. وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة. فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين!
الأول: أنه كان متقدماً عليه في الزمان، فكان أفضل .
والثاني : أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد علي كان في وقت الشـدة.
قلت:
والوجه الثالث: أن أبا بكر تفرد عن علي بالجهاد بالمال وهو أول نصف عناصر التفضيل التي جاءت في قوله: ]لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا  [ (الحديد:10).
والوجه الرابع : أن جهاد أبي بكر كان جهاد القائد وجهاد علي جهاد الجندي الباسل.
ورابعها : قوله تعالى: ]ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[ وهذا أكثر ما يليق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى: ]ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة[ ومتى كان الأمر كذلك وجب القطع بصحة إمامة أبي بكر إذ لو كانت باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به أ.هـ بتصرف وجاءت بعدها في السياق مباشرة آية الولاية فهي مكملة لها.
 
آية (الولاية)
 
وهي قوله تعالى: ]إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون[ (المائدة:55،56).
وهي في أصلها عامة. ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية الأولى بالوصف يكون أبو بكر هو الأولى؛ لأنه هو الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة على المستويين الشخصي والجماعي على أكمل وجه ([50]).
والآية التي بعدها تقول: ]ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون[ وكان خصوم أبي بكر مكبوتين مغلوبين. وقد تحقق له الغلب على خصومه أكثر مما تحقق لعلي:
·  فإن الله تعالى مكن للصديق في الأرض.
·  وبايعته الأمة جميعاً.
·  ونصره على المرتدين نصراً حاسماً.
·  وما مات إلا وجيوشه تصاول جيوش أكبر دولتين في العالم آنذاك وتحرز النصر والغلب المتلاحق عليهم. فأي غلب أعظم من هذا؟!!
بينما لم يكن علي سلطانه مبسوطاً. ولم يتغلب إلا على الخوارج.
وكان غلباً جزئياً إذ ظلت فلولهم هنا وهناك تعيث فساداً حتى تمكنوا
في نهاية المطاف من قتله رضي الله عنه .
أما أهل الشام –بقيادة معاوية رضي الله عنه فقد رجحت كفتهم شيئاً فشيئاً لا سيما في أخريات عهد علي. ولا شك أن علياً من حزب الله. لكن تحقق الآية في أبي بكر أكثر وأوضح.
وأما قصة الخاتم فهي موضوعة لم ترد بسند صحيح قط . ومتنها لا يثبت عند التحقيق. ومما يدل على وضعها واختلاقها ما ثبت من فقر علي رضي الله عنه لا سيما عند نزول الآية فإنه كان فقيراً لا يملك نصاب الزكاة. والآية في الذين  يؤتون الزكاة. والزكاة مصطلح قرآني لا يطلق إلا على الفريضة المعروفة. وعلي –عند نزول الآية– لم يكن ممن يؤتون الزكاة. فكيف تصرف الآية إليه، فضلا عن تخصيصه بها، وقصرها عليه!
ولو افترضنا صحة الحكاية فهي ليست أكثر من سبب للنزول. وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فتكون مما يدل على فضله رضي الله عنه . وفضائله كثيرة مشهورة لا ينكرها مسلم.
والراجح مما ذكر من أسباب النزول أنها نزلت في حق عبادة بن الصامت رضي الله عنه([51]) لما تبرأ من حلف اليهود وولايتهم إلى ولاية الله ورسوله والمؤمنين ، في مقابل تمسك عبد الله بن أُبي بن سلول بحلفه
معهم فنزل فيه قوله تعالى في الآية/51 من سورة المائدة وما بعدها:  ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض ([52]) يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة…[ الآيات. وفي عبادة نزل قوله تعالى في (الآية:55) وما بعدها : ]إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ..[ الآيتين، ثم عادت الآيات تنهى عن موالاة اليهود والنصارى وغيرهم ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين[ (الآية:57) وما بعدها.
ومع أن عبادة سبب النزول([53]) إلا أن الآية ليست خاصة به، بل
عامة في كل من تبرأ من أعداء الله ووالى الله ورسوله والذين آمنوا. وأبو بكر أفضل من تبرأ من أولئك وتولى هؤلاء، على الوجه الذي فصلناه في أول الكلام عن الآية.

3 - ما خصه به النبي e من الفضل
 
لم يرد في فضل أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث النبوية الشريفة كما ورد في فضل الصديق رضي الله عنه . وهذه باقة من أزاهيرها الطيبة:
·  روى البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد أحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجله وقال: (اثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان). والصديق على حد النبي في المرتبة: فهو فوق الشهيد ودون النبي. يقول تعالى: ]ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً[ (النساء:69).
·  وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قلت لجبريل ليلة أسري بي: إن قومي لا يصدقونني) فقال: يصدقك أبو بكر الصديق. فعرف منذ ليلة الإسراء بالصديق. وكان علي رضي الله عنه يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء (الصديق). قلت: وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ]أليس الله بكاف عبده[ الذي جاء بعد قوله: ]والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ (الزمر:الآيات 36،34) وهو شبيه بقوله: ]إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار [ (التوبة:40). فكما نصره بأبي بكر صدقه – كذلك – بأبي بكر!
·  روى البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لو كنت متخـذاً من أهـل
الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن. لا يبقين في المسجد باب – وفي رواية: خوخة - إلا سد إلا باب أبي بكر). وهذا في آخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم . والخلة أعظم درجات الحب. واستثناء باب أبي بكر إشارة إلى أنه هو الخليفة من بعده.
·  وهذا يشبه جواب النبي  صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين سأله: من أحب الناس اليك ؟ قال: (عائشة) قال: فمن الرجال؟ قال: (أبو بكر). متفق عليه.
·  وروى البخاري عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم فأمرها أن ترجع اليه قالت: أرايت إن جئتك فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت قال: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر). وفيه إشارة واضحة إلى أنه الخليفة من بعده.
·  وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: (ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر). وروى البخاري الحديث بلفظ مقارب.
·  وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر ما عكم (تلبّث) عنه حين ذكرته له وما تردد فيه.
·  وروى الترمذي وحسَّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر. ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن صاحبكم خليل الله). ومصداقه قوله تعالى: ]وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى [ (الليل:17-21).
·  وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من أصبح منكم اليوم صائماً؟) قال أبو بكر: أنا. قال  صلى الله عليه وآله وسلم : (فمن تبع منكم اليوم جنازة؟) قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وآله وسلم : (فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟) قال أبو بكر: أنا. قال  صلى الله عليه وآله وسلم : (فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟) قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).
·  وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر). رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن. وهو في (سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/233-236) للألباني[54].
·  وروى البخاري وغيره عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم قال: فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال ثم أمر أبا بكر فتقدم بهم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر، وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت فلما أن سمع التصفيق لا يمسك عنه التفت فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفه فأومأ اليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده (أن امكث مكانك) فقام أبو بكر هنيهة فحمد الله على ذلك ثم مشى القهقرى فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالناس. فلما قضى صلاته قال: (يا أبا بكر ما منعك إذ أومأت اليك أن لا تكون مضيت) ؟ فقال أبو بكر : لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !.
·  وعن عائشة رضي الله عنه قالت: (لما ثقل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت: فقلت: يارسول الله إن أبا بكر رجل أسيف (سريع الحزن والبكاء) وإنه متى يقم مقامك لا يُسمع الناس فلو أمرت عمر ؟ فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت: فقلت لحفصة: قولي: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ؟ فقالت له. فقال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الارض. قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه فذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أن أقم مكانك) فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس وأبو بكر قائما يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر). متفق عليه.
ولا شك أن هذا الإصرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تقديم أبي بكر في الصلاة يشير إلى أفضليته وأعلميته، وأنه لا ينبغي أن يتقدم عليه أحد
ولو كان هو الفاروق عمر !
وهذا في آخر أيامه ولا شك في دلالته على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد لأبي بكر رضي الله عنه أن يخلفه في إمامة المسلمين السياسية كما خلفه –بإرادته الجازمة– في الإمامة الدينية.
 
آخـر صلاة لرسول الله e إماماً بالأمـة
إن هذه الصلاة وهي آخر صلاة صلاها النبي المصطفى إماماً بالأمة تمثل ما أراد الله ورسوله وما وقع على مرادهما أصدق تمثيل: إن جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيام أبي بكر صلى الله عليه وآله وسلم رمز إلى قيام أبي بكر بالأمر كله من بعده. إنه جلس وسيغادر الحياة. إن قيام أبي بكر بالأمر إنما هو من خلف رسول الله فأبو بكر متبع له في قيادته وإمامته للأمة والناس مؤتمون بأبي بكر الذي هو مؤتم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ألا ما أروعها من صورة!! فمن أولى من صاحبها بولاية الأمر بعد (صاحبه) ؟!
·  وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال : لما استُعِز برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال الى الصلاة فقال: (مروا من يصلي للناس) فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً فقلت: يا عمر قم فصل بالناس فتقدم فكبر فلما سمع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم صوته وكان عمر رجلاً مجهراً قال: (فأين أبو بكر! يأبى الله ذلك والمسلمون يأبى الله ذلك والمسلمون) فبعث الى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس. رواه أبو داود وأحمد.
·  وعن أنس قال: لم يخرج الينا نبي الله  صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً فأُقيمت الصلاة فذهب ابو بكر يتقدم. فقال نبي الله  صلى الله عليه وآله وسلم بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نظرنا منظراً قط كان أعجب الينا من وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين وضح لنا. قال: فأومأ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده الى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم الحجاب. فلم نقدر عليه حتى مات. متفق عليه.
·  وأخرج البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال: قلت لأبي (أي علي): أي الناس خير بعد النبي رضي الله عنه ؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من ؟ قال: عمر وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
·  وروى الإمام أحمد عن عبد خير الهمداني ووهب بن عبد الله (وكان من شرط علي وكان يسميه وهب الخير) أن علياً رضي الله عنه خطبهم على منبر الكوفة فقال: (ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر. ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر: عمر رضي الله عنه.
·  وبينما كان علي رضي الله عنه يقضي في الكوفة إذ قال رجل: يا خير الناس انظر في أمري فوالله ما رأيت أحداً هو خير منك. قال: قدموه فقدم فقال له: هل رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: لا. قال: هل رأيت أبا بكر وعمر؟ قال: لا قال: لو أخبرتني أنك رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لضربت عنقك، ولو أخبرتني أنك رأيت أبا بكر وعمر لأوجعتك ضرباً.
الحكمـة في اختيار الصديـق رضي الله عنه إماماً للأمـة
لم يكن إجماع الأمة على إمامة  الصديق رضي الله عنه عبثاً، فإنها معصومة لا تجتمع على ضلالة. ولا اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له اعتباطاً. ولم يجعل الله تعالى هذه المزايا ولا الخصائص في غير محلها – حاشاه – فإنه عليم حكيم وهو أعلم حيث يجعل فضله ونعمته: ]أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم[ (الحجرات:7،8).
وقد تجلت حكمة اختيار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وصحة إجماع الأمة على إمامة  الصديق وخلافته لرسول الله، في سياسته وانجازاته الرائعة التي حققها رغم قصر المدة التي حكم فيها الأمة وتسلم فيها قيادتها !  إن هذا يستدعي منا أن نرسم صورة – ولو مصغرة – عن هذا الجانب العظيم من جوانب عظمة الصديق وعبقريته.
 


([1]) متفق عليه.

([2]) يروي الكليني [أصول االكافي 1/181] بسنده عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: كان أمير المؤمنين (ع) إماماً ثم كان الحسن (ع) إماماً ثم كان الحسين (ع) إماماً ثم كان علي بن الحسين إماماً ثم كان محمد بن علي إماماً من أنكر  ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله .

[3] روى ابن أبي الحديد أن علياً والزبير قالا: (ما غضبنا إلا في المشورة وإنّا نرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وثاني اثنين ولقد أمره الرسول (ص) بالصلاة وهو حي)/ شرح نهج البلاغة ج6 ص48 .

[4] صححه ابن كثير في البداية والنهاية 5/249 نقلاً عن (أبو بكر الصديق) للدكتور علي محمد الصلابي ص182 .

[5] روى الإمام أحمد عن حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا بكر قال: (ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد:  »قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم« قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء).

[6] من رواية الإخباري التالف أبي مخنف لوط بن يحيى [انظر: الصلابي ص130] الذي شوه تأريخ الإسلام. أما متنها فلا يستقيم مع ما هو معروف من شخصية سعد بن عبادة، ولا ما هو معروف من أخلاق الصحابة.  فالرواية باطلة سنداً ومتناً.

[7] نهج البلاغة 3/7.

([8]) يحتج البعض بأن هذا مخالف لما ورد في كتاب (نهج البلاغة) من قدح أو ذم للخلفاء الراشدين الثلاثة مثل الخطبة المسماة بـ (الشقشقية) ويتخذ من ذلك وسيلة لإغماض الطرف عن هذا النص وأمثاله في مدحهم وتوثيقهم! والرد على ذلك بما يلي:
1-      إن كتاب (نهج البلاغة) ليس معصوماً من الزيادة والنقصان. بل فيه من ذلك الكثير - ولا بد - وإلا كان كالقرآن !                                       =
2-  إن هذا الكتاب نصوصه جميعاً بلا استثناء مرسلة لا أسانيد لها وبين جمعها ووفاة علي رضي الله عنه أكثر من ثلاثة قرون ونصف ! فإن الشريف الرضي ذكر في المقدمة أنه انتهى من جمعها سنة (400هـ) وعلي توفي سنة (40هـ)!  وذكر أيضاً أن ما وجده من ذلك على ألسنة الناس مختلف شديد الاختلاف وهذا يعني أن الكتاب ضعيف من حيث الإجمال؛ لأن المرسَل – حسب قواعد علم الحديث - أحد أنواع الضعيف وهو قول الإمامية أيضاً المقرر في أصولهم. فلا بد من تحقيق النصوص إذا أردنا الاعتماد.                                                             
ولم أجد أحداً من الذين وثقوا الكتاب اتبع الأسلوب العلمي المجرد عن العاطفة في توثيقه له. وذلك لا يجدي في باب العلم وإنما يسوغ في مجال الدعاية  اعتماداً على ما في نفس القارئ من مشاعر وعواطف لا استناداً على ما في باب العلم من أصول وقواعد.
والذي يلزم الباحث في هذا الفن أن ينقب عن سند لكل نص ثم يقوم بتحقيقه طبقاً لقواعد علم الحديث أو الرواية توصلاً الى صحته او ضعفه وهذا ما لم يفعله كل الذين حاولوا – عبثاً - توثيق الكتاب. فتوثيقهم إذن ليس برهانياً علمياً وإنما خطابي دعائي لا أكثر. فالأصل في الكتاب الضعف حتى يثبت العكس.
3-      إن الخطبة الشقشقية وما في موضوعها مما ورد في الكتاب يتناقض مع هذا النص وأمثاله وهو كثير. والجمع بين النقيضين لا يمكن عند العقلاء. فلا بد من طرح أحدهما إذا أردنا التمسك بالآخر. ولكن ليس بالهوى والعاطفة فيقال بأن هذا النص يخالف الخطبة الشقشقية فهو مرفوض لأن هذا ليس بأولى من قولنا بأننا نرفض الخطبة الشقشقية لمخالفتها لهذا النص.
4-    إن طرحنا لهذه (الشقشقيات) وجزمنا بوضعها واختلاقها ليس عاطفياً دعائياً  وإنما يعتمد على قاعدة راسخة ألا وهي: إن كل ما خالف القرآن باطل. وهو ما جاء منصوصاً عليه في مصادر الإمامية منقولاً عن الإمام جعفر بن
محمد رضي الله عنه أنه قال: (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه).     =
= وحاشا علياً أن يخالف كتاب الله هذه المخالفة ويطعن في خيرة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم =   = مغفرة ورزق كريم) (الأنفال:74). وقال يأمر باتباعهم: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات)  (التوبة:100). وحذر من مخالفتهم فقال: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (النساء:115). وقد بايع علي لهم ونصح وتابع ولم يكن مداهناً ولا منافقاً!
5- إن الاستشهاد اعتضاداً لا اعتماداً بما في (نهج البلاغة) وغيره مما يوافق القرآن أو لا يخالفه ليس فيه ضير أو ضرر على الدين بل العكس هو الصحيح فكان استشهادنا بهذا النص من هذا الباب المشروع.

([9]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/332.

[10] ذات مرة كنا جالسين في حجرة الإمام في جامع المحمودية الكبير –- وكنت حينها إمام وخطيب الجامع - قلت لصاحب لي كان إلى جنبه ولده الصبي الصغير: هذا المسجد يحتاج إلى خدمات ولوازم كثيرة، ويحتاج إلى رعاية وحماية. فلو تولى توفير هذه الخدمات واللوازم كلها، وتولى أمر رعايته وحراسته، وما يتبع ذلك من مصروفات، وقام بالدفاع عنه أمام هجمات أعداء يرومون تخريبه، والإساءة إلى رواده رجل دخله للمرة الأولى بعد يوم أو شهر من هذا التأريخ. ثم استمر يواظب على الصلاة فيه -من بعد- وصار من رواده الدائمين. وتمر الأعوام ليأتي بعد ذلك من يقارن بينه وبين ولدك الصغير هذا ليقول: إن ولدك أفضل منه لأنه سبق إلى دخول المسجد يوماً أو شهراً أو ساعة من نهار! أو يجعل لهذا الزمن الخالي من أي عمل إيجابي قيمة في            =   
= المعادلة! أيصح هذا؟!                                                     وبهذا يتبين أن الذي حمل أصحابنا على القول بأن أول من أسلم من الرجال فلان، وأول من أسلم من الصبيان فلان، وأول من أسلم من النساء فلانة.. إلخ. إنما حملهم عليه المجاملة والرغبة في ترضية قوم لا يزيدهم هذا الأسلوب إلا عتواً ونفوراً! والدليل أنهم حين قالوا: إن علياً أول من أسلم من الصبيان لم يقولوا لنا: من أول من أسلم من الصبايا؟ كما يقول المرحوم الأستاذ محمود الملاح!
ولكن هل انتفعوا بشيء رغم انحدارهم إلى هذا المستوى من المجاملات؟! 
 

[11] رواه البخاري.

(1) نظر مثلا تفسير المخذول عبد الله شبر عند تفسير آية الغار في سورة التوبة.
(2) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وغيرهم. قال المناوي كما جاء في تحفة الأحوذي - : أسانيده صحيحة.

[12] متفق عليه.

[13] متفق عليه.

[14] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب.

[15] رواه مسلم وغيره.

[16] رواه البخاري.

[17] روى البخاري المشهد بتمامه.

[18] متفق عليه.

[19] رواه البخاري.

[20] متفق عليه.

[21] أول الآية : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا ...) الآية.

1 روى أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق). قال في (تحفة الأحوذي): أخرجه البزار بإسناد جيد.

[23] رواه الإمام أحمد.

[24] البخاري.

[25] رواه مسلم وغيره.

([26]) أشهر مشاهير الاسلام في الحرب والسياسة / 15 ، رفيق العظم.

([27]) أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن/ أيمن عبد العزيز جبر. وسيأتي – إن شاء الله تعالى – مزيد بيان لإثبات نزول هذه الآيات في حق الصديق رضي الله عنه .

[28] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

[29] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.

[30] رواه أحمد.

([31]) السيرة النبوية لأبي شهبة 2/537. نقلاً عن كتاب (أبو بكر الصديق) للدكتور علي محمد الصلابي ص93.

([32]) رواه أحمد وأبو داود.

[33] متفق عليه.

[34] البخاري.

[35] أيضاً. وتغرة : كراهة وحذراً.

[36] أيضاً.

([37]) من الملاحظ في كتب التاريخ والسيرة أن علياً رضي الله عنه لم يسلم على يده أحد في زمن ضعف الإسلام لا سيما في مكة. وقد يعتذر له بأنه كان صغيراً. وقد فكرت في وقد فكرت في هذا الموضوع كثيراً أقلبه وأناقشه وأحلله فوجدت أن علياًرضي الله عنه شخص تغلب عليه الطبيعة العسكرية القتالية أكثر من الطبيعة السياسية الدعوية. ولعل هذا هو السر الذي جعل النبيصلى الله عليه وآله وسلم يلفت نظره الى أهمية الدعوة = = إلى الإسلام قبل القتال ويرغبه فيها ويحثه عليها يوم أعطاه الراية في خيبر وقال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَّعم) رواه مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لاحظ عليه غلبة العنصر القتالي العسكري على العنصر السياسي الدعوي مما دعاه للتأكيد على الجانب الآخر من أجل إحداث الموازنة في شخصيته وتصرفاته المنعكسة عنها.
وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جهاز إعلامي من الخطباء والشعراء ينافحون بألسنتهم عن الدين، وإذا أقبلت الوفود قاموا ليباروا خطباءهم وشعراءهم، ولم يكن سيدنا علي واحداً منهم!

([38]) روى مسلم عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستر الحجرة فنظر الينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضاحكاً. قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرحٍ بخروج
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارج للصلاة. فأشار اليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده أن أتموا صلاتكم. قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرخى الستر. قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذلك.

[39] البخاري.

[40] رواه أحمد.

[41] رواه الترمذي وقال: حسن غريب. ورواه أحمد وابن ماجة أيضاً.

[42] رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

([43]) من ذلك قوله بعد القضاء على المرتدين: (واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عول أن يصرف همته الى الشام فقبضه الله اليه واختار ما لديه. ألا واني عازم أن أوجه أبطال المسلمين الى الشام بأهليهم ومالهم فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنبأني بذلك قبل موته).

[44] البخاري.

[45] متفق عليه.

([46]) نهج البلاغة 1/ 108.

([47]) النهج 3/21.

([48]) النهج 3/77.

[49] رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([50]) راجع ما جاء في الفقرة (5) عند الكلام على آية التمكين في سورة الحج .

([51]) روى ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أُبَي بن سلول     = = وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وكان أحد بني عوف من الخزرج وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أُبَي فخالفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ من حلف الكفار وولايتهم وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله رسوله والمؤمنين. قال عبادة: ففيَّ وفي عبد الله بن أُبَي نزلت الآيات من } يا أيها….. فإن حزب الله هم الغالبون { /أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن/ أيمن عبد العزيز .

([52]) عبد الله بن أُبَي بن سلول وأمثاله.

([53]) على أنه ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت في أبي بكر كما في أسباب النزول للثعلبي عن ابن عباس/ نقلاً عن كتاب الحجج الدامغات        = = لنقض كتاب المراجعات 1/130 لأبي مريم الأعظمي. وفي الحلية 3 / 185 عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الآية فقال: أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلت: يقولون: هو علي ؟ فقال : علي منهم . وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال : من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا. / الحجج الدامغات 1/131 – 132.

[54] أبو بكر الصديق – علي محمد الصلابي ص135.

القاعدة الثالثة
سياسة الصديق وإنجازاته
 
السياسة باختصار هي: فن قيادة الجماهير.
ومنصب الخلافة منصب سياسي. فمن كان الأكفأ في هذا الفن فهو الأولى بهذا المنصب، وإن وجد معه من هو أكثر تديناً وورعاً؛ لأن الأمور العبادية البحتة – وان كانت معتبرة في شروط الاختيار – إلا أن الملحظ السياسي هو الأرجح في الميزان؛ إذ لا يشترط في الخليفة أو الأمير أن يكون الأعبد والأورع – وإن كان لا بد من توفر الحدود المقبولة من التدين – إنما يشترط فيه أن يكون الأكفأ في فن السياسة والقيادة، ولا تقبل منه الحدود الدنيا في هذا الفن.
ولو خيرنا بين رجلين: أحدهما أعبد الناس، لكنه ضعيف الشخصية، ضعيف الخبرة في السياسة، والآخر دونه في العبادة لكنه أقوى شخصيةً وكفاءةً سياسيةً وجب علينا اختيار الثاني أميراً أو خليفة، لأن علاقته بالأمة تحددها الكفاءة السياسية والقيادية أكثر من الناحية العبادية.
إن قوة القائد وضعفه للأمة أو عليها. أما عبادته فله وحده.
على هذا الأساس كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختار قادته السياسيين والعسكريين: فقد أرسل مصعب بن عمير سفيراً عنه إلى يثرب يدعوهم إلى الله ، ويتألف كبارهم ورؤساءهم ويمهد الطريق للهجرة من أجل إقامة دولة الإسلام. فهدى الله تعالى على يديه جمهورهم في
غضون سنتين فقط !
ولولا معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقدرته السياسية وقدرته التأثيرية في النفوس لما أرسله. ولو كان الأمر بالعبادة لأرسل من هو أعبد منه كعلي أو بلال مثلاً.
وأمّر عمرو بن العاص في اليوم الثاني من إسلامه، وكذلك خالد بن الوليد وأبا سفيان بن حرب وأمثالهم. ولا شك أن في صحابته صلى الله عليه وآله وسلم من هو أعبد وأورع.
وفي الوقت نفسه نهى أبا ذر عن طلب الإمارة، وأوصاه قائلاً: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي فلا تَأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تولين على مال يتيم)[1]. والضعف هنا ضعف الكفاءة القيادية لا العبادية؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من ذي لهجة ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم عليه السلام)[2].
ومع أن الصديق كان هو الأعبد والأورع و(الأتقى)، لكن أريد أن أدرس شخصيته من الناحية السياسية، لتصل معي إلى أنه الأكفأ أيضاً من بين الصحابة حتى في هذه الناحية!
لقد أسلمت الخلافة لأبي بكر قيادها، وألقت بين يديه برأسها، فصار يجرها من قرنيها! فمن هو الأولى منه بمقدمها وحاذييها ؟!!
نظرة عامة في سياسـة الصديـق([3])
 
كشفت وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حاجة المسلمين الى تنظيم السلطة بعد أن أنجزوا أروع عملية نقل للسلطة في التاريخ من خلال بيعة خليفة من الصحابة يخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس لديهم مما تقتضيه السلطة غير النص القرآني الذي يفرض على المؤمن اطاعة الله واطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأولي الأمر من المؤمنين.
وكان أبو بكر الصديق يدرك هذه الاعتبارات ويدرك نظرة القرآن للسلطة، وتربى على فهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيقه لها[4].
 
 
 
خطبته الأولى
كذلك عبر في خطبته الأولى عن هذا الإدراك بعبارات واضحة ومحددة ودقيقة، فكانت هذه الخطبة التاريخية تلخيصاً موجزاً لسياسته، جمع في كلماتها القليلة خير ما يمكن لحاكم أن يقوله لشعبه عن علاقته القادمة بهم، وسياسته لهم. فكان أن قال: (أما بعد أيها الناس ! فإني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله  والقوي  فيكم  ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم  الجهاد  فـي  سبيل  الله  إلا  ضربهم  الله  بالذل، ولا  تشيـع الفاحشة في قوم  قط  إلا عمهم  الله  بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله،  فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عندكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله).
فهو إذن واحد من المؤمنين تولى شؤونهم وله عليهم حق الطاعة حسب الآية الكريمة .
غير أن الطاعة مشروطة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال: (متبع وليس بمبتدع) مهمته: إدارة شؤون المسلمين على الوجه الذي يقتضية الإسلام فإذا ما انتفت هذه الاسس فلا طاعة له على الناس.
هذا – عملياً - يعني أن السلطة أصبحت تستمد من المبادئ وتقوم على رضا الأمة مع الوعي بأن رأس السلطة أحد المؤمنين. وله من الصفات ما تجعله موضع ثقة الأمة واختيارها: فهو أول المسلمين، وكان موضع ثقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التامة، ومعروفاً: باستيعابه للعقيدة  والخبرة بتاريخها السياسي، والتمرس في الجهاد من أجلها.
أو كما وصفه علي رضي الله عنه : (رجل اختاره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لدينهم فرضوه لدنياهم وقدموه)[5].
 
خليفـة الرسـول
انطلق الخليفة أبو بكر الصديق في فهم السلطة من الموقف الذي أشرته آيات القرآن الكريم. وإذا كان موقف القرآن الكريم من المصطلحات التي تعكس شكلاً من أشكال السلطة مؤثراً في تحديد مفهوم السلطة في الإسلام، فالقرآن كان إلى جانب مصطلح (خليفة) فيكون اختيار المسلمين لهذا اللقب لقباً للرجل الذي يدير الدولة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقاً واعياً يعكس وعيهم ليس لطبيعة السلطات وحسب إنما لأدق تفاصيلها أيضاً، ويعبر عن مستوى عال من الإيمان لدى المسلمين. وكان على الخليفة أن يؤكد بعض الحقائق الأساسية التي ستقوم سلطة الخليفة عليها. وظهر من ممارساته الحقائق التالية:
أولا: أنه خليفة وليس رسولاً. وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد مات، غير أن الدين باق. وإذا كان الخليفة قد واجه جزع المسلمين لوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذهولهم عن الآية الكريمة: ]وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [ - فإنه في الحقيقة أكد أيضاً تميز السلطة في عهد الخليفة عن السلطة في عهد الرسـول صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً: إن سلطة الخليفة تأتي مباشرة بعد سلطة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يحتم أن تكون أعماله وتصرفاته محكومة بما كان لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكي يؤكد (استمرار الدين)، لهذا حرص في إحدى خطبه أن يؤكد هذه المسألة بقوله: (إنما أنا متبع ولست بمبتدع) فاستمرار الدين سوف يعبر عنه في أحد أبرز جوانبه باستمرار سياسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً: إن كونه خليفة وليس رسولاً يعني أن الخلافة ستقوم على حقه في
أنه أحد الصحابة، تعارفوا عليه واختاروه. فعلاقته بالسلطة أنـه
اختير لقيادتها، وعلاقته بالرعية إنه اختير لثقتهم بأنه الأقدر على قيادة السلطة، فهو موضع رضاهم. وأساس الرضا حسن إدارته السلطة وحسن قيادتهم، وهو ما يوجب الطاعة له عملاً بالآية الكريمة: ]أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[ غير انه ملزم بالمشورة أيضا عملا بالآية الكريمة : ]وشاورهم في الأمر[ فإذا ما ارتكب الخليفة ما يمس الدين ويسيء قيادة المسلمين فلا طاعة له).
 
استمـرار تام لسياسـة الرسـول
لقد كان أبو بكر مدركاً قيمة الطاعة وثقة الناس به من تجربته في تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته في كل ما قال وعمل. وقد رأينا كيف عبر عن تصديقه للرسولصلى الله عليه وآله وسلم وطاعته له في أحداث مثل نزول الوحي وقصة الإسراء والمعراج وأحد والحديبية، لذلك أظهر حرصاً شديداً على الإرتكاز الى مبدأي الصدق والرضا وصولاً الى التصديق والطاعة. وكان حرياً في هذا المجال أن يؤكد استمرار سياسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليضمن تثبيت السلطة لهذا نجده:
أولاً: يبقي على عمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين استخدمهم قبل وفاته في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب، فلم يعزل أحدهم.
ثانياً: الإصرار على إنفاذ جيش أسامة.
ثالثاً: الإصرار على حسم الموقف مع المرتدين نهائيا لصالح الإسلام ودولته دون أي تنازل من أجل تثبيت السلطة.
رابعاً: الحرص على موقع الصحابة – والكبار منهم خاصة – في المجتمع الجديد وفي اتخاذ القرار .
ويعبر تطبيقه للشورى في مسألتين أساسيتين عن هذا الحرص: ففي مناقشة الأوضاع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأولوية الخطوات الواجب اتخاذها، كذلك في الموقف من المرتدين، صورة لتطبيق فلسفة الشورى تدلل على المكانة التي حددها الخليفة للصحابة وللعشرة الكبار الذين أشارت الروايات إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشرهم بالجنة ومنها عرفوا بالعشرة المبشرين بالجنة وهم – مع الخليفة – كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعيد بن زيد.
وقد أشار الخليفة أبو بكر إلى هؤلاء العشرة في أول اجتماع لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومبايعته بالخلافة: (انه قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم).
غير أن الخليفة حرص أيضاً بنفس القدر على إعطاء الأنصار موقعهم في القرار إلى جانب القيادة التاريخية للمجتمع الجديد. فقد استشار أسيد بن حضير في استخلاف عمر بن الخطاب إ.هـ .
 
 
 
سياسة الصديق من خلال إنجازاته
 
هناك أربعة معالم بارزة في حياة الصديق أثناء توليه الحكم تتجلى من خلالها- رغم قصر الفترة! - عبقريته السياسية، وعظمة شخصيته القيادية. وهي - في الوقت نفسه - عبارة عن إنجازات ضخمة لا تتهيأ إلا لعظماء الساسة وعباقرة مؤسـسي الدول، وقادة الأمم العظام.
هذه الإنجازات هي:
                                          1.                  القضاء على الفتن الداخلية.
                                           2.                   التصدي للأخطار الخارجية، والجهاد في سبيل نشر رسالة الإسلام.
                                          3.                  حفظ الدستور الإسلامي وجمع القرآن العظيم .
                                          4.                  حسم معضلة ولاية الأمر من بعده .
سأتناولها بالحديث واحدة واحدة :
 
 
1. القضـاء على الفتن الداخليـة
 
في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأت الفتن داخلية وخارجية تطل بقرونها. كانت الفتنة الداخلية – طبقاً لطبيعة الحال – أخطرهما، وكانت ذات ثلاث شعب: شعبتان كانتا وشيكتي الوقوع، والأخرى قد وقعت وهي في طريقها لأن تنفلت من عقالها.
فكان على أبي بكر أن يتحرك - وبأسرع ما يمكن - لمعالجة هذا الخطر: فيوطد الأوضاع، ويضبط الأمور في داخل العاصمة أولاً. لينطلق بعدها لأخماد الفتنة التي انطلقت لتغطي مساحة الجزيرة كلها تقريباً.
 
أ. توطيد الأوضاع في العاصمة
 
نبأ الوفاة وأثره على أهل المدينة
أما الشعبتان الأُولَيان فإحداهما: اضطراب الصحابة وانهيارهم عند سماعهم نبأ الوفاة الصاعق ! فصاروا لا يدرون ما يفعلون؟ إنهم لا يريدون أن يصدقوا الخبر لهوله! وعمر يهدد بسيفه ويوعد من يقول : (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات) !
الكل في اضطراب وذهول والمسجد غاص بالناس، وعثمان وعلي أقعدا لثقل المصاب يبكيان!
ولكن الأمور بمجيء أبي بكر تأخذ منحى آخر!
ينتظم العقد المنفرط ، ويعود كـل شيء إلى مكانه ونصابـه.. وبكلمة واحدة من أبي بكر وهو على المنبر: (يا أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ! ]وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين [.
وتخشع الأصوات وتهدأ الحركات ويفيقون من صدمتهم وترجع إليهم أحلامهم. ويعج المسجد بتلاوة الآية الكريمة المباركة كأنها نزلت لتوها! 
 
نقـل السلطة وكيف تم على يد الصديـق
وما إن ينتهي أبو بكر من علاج الموقف حتى تطل الشعبة الثانية، ويأتي الخبر إليه – لا إلى غيره؛ فهو في نظر الجميع رجل الموقف والمسؤول الأول والأكبر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – يأتيه الخبر بأن إخوانهم الأنصار قد اجتمعوا في ما بينهم ليبايعوا سعد بن عبادة.
ويُهرع أبو بكر – أبو بكر لا غيره – ليعالج الموقف الذي استجد  - وكان أعظم من سابقه- ويحسم الفتنة قبل أن تنطلق. إنها (أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة).
ولو لم يعالج أبو بكر بحكمته الموقف الأول، ويسارع – بحكمته أيضاً وحنكته – إلى علاج الموقف الجديد لظل الصحابة يضطربون في مسجدهم، ويتأوهون لهول مصابهم، ولبايع الأنصار سعداً وقضي الأمر وهم ينظرون لا يعرفون ماذا يفعلون!
ولو حدث ذلك لتفرق الصحابة فِرَقاً ، فإن سعدا ليس ممن تجتمع عليه القلوب، وليس هو المؤهل لأن يخلف رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وله معارضون حتى من الأنصار أنفسهم ! بل الذي جاء إلى أبي بكر بالخبر رجل من الأنصار. وأما المهاجرون فلا يتوقع أن يرضوا به أميراً، ولا العرب في الجزيرة يمكن أن يخضعوا لرجل من غير قريش. فماذا ستكون النتيجة؟!
إن النتيجة المتوقعة هو التفرق والتشرذم. وقد تكون القضاء المبرم على دولة الإسلام وهي في مهدها ! لأن الجزيرة العربية قد انتقضت إلا أقلها. ومن ثبت على دينه وموقفه كمكة المكرمة والطائف قد لا يغني كثيراً عن العاصمة لبعد المسافة وبطء وسائل المواصلات. فإذا افترضنا أن أهل العاصمة قد اختلفوا وتفرقوا فمن للأمة؟ والأمة قد ضربت في صميمها ومركز قيادتها، والخارجون على أبوابها، والفرس قد دخلوا البحرين![6] والروم صاروا يفكرون في التحرك استغلالا للظرف الجديد !!
ولكن أبا بكر يتمكن – وبسرعة خاطفة – من القضاء على هذه الفتنة التي كادت أن تقع، وقبرها في مهدها وأنقذ الأمة من الانزلاق إلى بحر من الفتن لا ساحل له !

ب. مواجهة حركة الخروج والارتداد في الجزيرة

اتخـاذ قرار القتـال

أما الشعبة الثالثة من شعب الفتنة الداخلية فهي حركة الارتداد التي اجتاحت الجزيرة العربية.
يقول العقاد: (وجاءت حروب الردة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غير مدافع أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك .. ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الاولى في مقاومة الشرك ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد ، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحاً جديداً لهذا الدين الناشئ كإنما استأنفت الدعوة اليه من جديد .. إنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طليحة سأله: ويلكم ما يهزمكم ؟ فقال له: أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله. وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه !
… تلك فتنة الردة .. قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل بها من مبدئها الى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وفي كل ناحية من نواحيها. فبادرها بالحزم من صيحتها الأولى وتعقبها بالحزم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت الى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة عقابه للمرتدين الذين مردوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة ولا استجابوا نذير الجزاء. فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة فجزاؤهم ان يشهدوا من باس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا الى الفتنة واستبقوا الى العصيان فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم، ووهبت عطاياهم للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين !!
ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة الى قتل المسلمين بين ظهرانيهم فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان، واعتدائهم بالقتل وإعراضهم عن النصيح والنذير.
جزاء حق لأنه من جنس العمل:
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس. ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذاً
بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان.
قال أبو رجاء البصري: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا.
قلت: من المقبِّل ؟ ومن المقبَّل ؟ قالوا: هو عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين ..
وقد شاء القضاء أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع فهو صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعاً على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل.([7])  
 
تفـرد في استخراج الرأي الفقهي واتخاذ القرار العسكـري
لقد انفرد أبو بكر باستخراج الرأي الفقهي في شرعية قتال أقوام يقولون: (لا اله الا الله)  وذلك أمر عسير حتى أقنع المعترضين بصواب رأيه واوضح لهم ما التبس عليهم فكانوا من الموقنين.
وتفرد باتخاذ القرار في تنفيذ هذا الرأي وتطبيقة رغم الظروف العصيبة المحدقة بهم ! والتي يفرض ظاهرها العدول عن هذا القرار وتأليف الناس أو التريث فيه على الأقل.
وفي الوقت الذي يشير فيه الصحابة عليه بعدم القتال ، ويقـول صناديدهم أن لا طاقة لهم بقتال العرب يقف من بينهم أبو بكر كالجبل الأشم يستثير إيمانهم ويثير نخوتهم ويقول:
(.. أيها الناس ! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
أيها الناس ! أنْ كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب ! والله ليظهرن هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) و (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)
أيها الناس ! لو (أُفردت)([8]) من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده حتى أبلغ من نفسي عذرا، وأقتل مقتلا !
والله أيها الناس ! لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه واستعنت بالله
خير معين) !!!
لقد كان مصيبا – كل الاصابة – في رأيه الفقهي وقراره العسكري!! وبعيدا – كل البعد – في نظره الديني والسياسي !!
ترى! ماذا كان سيكون لو أنه رضخ للضغوط ولان للظروف فغض الطرف عن عصيان العاصين وسكت عن الخارجين فلم يعاقبهم عقوبة الدين أو يواجههم بما ينبغي من حزم الحاكمين ؟
أليس التساهل في ركن من أركان الدين سيؤدي – ولا بد – إلى
ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول ؟! … وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام وآخر يترك الصلاة ورابع وخامس يترك الحج والجهاد …الخ ! فإذا بالدين قد انهدم وعقده قد انفرط !!
إذن ! لا بد من سد باب الفتنة من أساسه. والله تعالى يقول: ]فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم[ (التوبة:5).
هذا من ناحية النظر الديني البحت .
وللزكاة جانب سياسي – هو من الدين بمعناه الأشمل – لا يخفى على رجال الحكم والساسة المتمرسين.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً يعبر عن اعترافها بنظام حكومتها السياسي. إن الامتناع عن أدائه إعلان عن العصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف بالحكومة.
ولا قيمة - بعد – للعلاقة القائمة بين رعية او شعب وبين حكومته! وبعبارة أخرى: لا قيمة – بعد – لحكومة علاقة شعبها أو رعيتها بها على هذه الصورة !
إن على الشعب أن يرضخ لمنطق العدل والقوة، أو على الحكومة أن تغادر موقعها !
لقد كان الصديق – وهو التلميذ النجيب والصاحب الرفيق لأعظم
حاكم سياسي في التاريخ – يدرك تمام الإدراك أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان عن عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد لتبليغ رسالة الدين. وهكذا تنهار الحكومة، وتتفكك الدولة، بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه !
لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقية الدائمة. وكان لقتاله المرتدين أكبر الأثر في حفظ الدين وتثبيت أركان الدولة وفرض هيبتها وسلطانها ولولاه لضاع الدين.. والدنيا كذلك.
 
إنفـاذ جيش أسامـة !
وعاد الصحابة يرجونه أن يرد جيش أسامة بن زيد ليستعينوا به في قتال الخارجين على الدين والقانون، فيأبى الصديق أشد الإباء، ويصمم تصميماً لا رجعة فيه إلا أن ينفذه !
إنه موقف تعنو له الجباه، وتتواضع الجبال !
فمع قمة الإيمان  والثقة بوعد الله، وغاية الشجاعة، وكمال الإتباع
لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القائد حيا وميتا مهما تغيرت الظروف وكلفت الأمور! تبرز مع ذلك كله العبقرية السياسية في القدرة على استقراء الأحداث وتحليل الوقائع واستكناه التوقعات لرؤية المستقبل ورسم خريطته والتصرف في خطوطها لتكون حسب المطلوب، وذلك رغم اشتداد الغبار واشتباه الأمور!
إننا حينما نقرر هذا ونقول بأن الصديق كان مصيبا وعبقريا في إصابته الهدف، إنما نقول ما نقول وأمامنا الأحداث نقرأُها جميعاً في صفحة واحدة؛ فيكون من السهل أو المتيسر استقراءُها وتحليلها والربط بينها للحصول على النتائج وتشخيص الخطأ من الصواب من المواقف والأفعال.
أما أبو بكر فقد عَلِمَ عِلْمَ اليقين بأن الصواب في ذلك الرأي والحكمة في ذلك القرار، والحزم في ذلك الموقف مع أن الأحداث ونتائجها لما تزل في باطن الغيب !! وأن كل الاحتمالات واردة سيما وأن الرأي المعاكس هو الغالب وهو الأقرب إلى ظاهر العقل والحكمة!
ولو افترضنا أن الرياح هبت في الاتجاه الآخر وحلت الهزيمة لكان المسؤول الأول والأخير عنها هو لا غيره. ولكان لنا أو للتاريخ حكم آخر !
وهنا تتجلى الرجولة والعبقرية والنظر الثاقب وسط عواصف الاحداث ومدلهمات الخطوب !
يقول العقاد: ولقد يكون في صوابه إلهام، أو تكون فيه روية وقصد مرسوم ولكنه سداد على كل حال ، ووجهة قويمة هي أدنى الوجهتين إلى النفع والصلاح.
بعثة أسامة كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية - هي في ذلك الحين – خير السياسات.
كان قوامها كله طاعة ما أمر به رسول الله .
وكانت الطاعة – جد الطاعة – مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرد هو الخطأ الاكبر ، فالطاعة – بل الطاعة الصارمة – هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين لا مراء :
-        كان النفاق يطلع رأسه في مكة والمدينة.
-          وكانت القبائل البادية تتسابق الى الردة في أنحاء الجزيرة.
-    وكان جند أسامة يود لو استبدل به أميرا غيره. وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرد أو نذيرُ تمردٍ في كل مكان .
وطاعة واجبة هنا حيث نبع التمرد، أو لا سبيل إلى واجب بعد ذلك يطاع.
طاعة أو لا شيء.
فإن بقيت الطاعة بقي كل شيء.
وهنا تسعف الصديق طبيعة هي أعمق الطبائع فيه أو هي العبقرية الصديقية في أوانها وعلى أحسن حال تكون.
هنا تسعفه القدوة القويمة بالبطل المحبوب.
وهنا يقول وقد خوفوه الخطر على المدينة والجيش يفارقها:
(والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة،  ولو أن الكلاب جرت بأرجل امهات المؤمنين
لأجهزن جيش أسامة).
كلمة لو قالها غير أبي بكر لكانت عظيمة. ولكن الذي يقولها أبو
بكر وبنته أعز أمهات المؤمنين.
فلا خطر إذن أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرت الكلاب بأرجل البنات والأمهات !…
ولقد ضرب المثل الأول في الطاعة التي أرادها فشيع البعثة وهو ماش على قدميه وعبد الرحمن بن عوف يقود دابته بجواره فقال أسامة: ياخليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما عليّ أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة … ثم قال لأسامة: اصنع ما آمرك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله.
ويتساءل العقاد: ماذا كان يحدث لو أن قبائل غسان وقضاعة استضعفت شأن المسلمين وفي أيديها الطريق بين بلاد العرب وبلاد الروم ؟
كل شيء جائز أن يكون !
وأوله إغراء الروم بالهجوم، ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع اليها من المجترئين والمتحفزين .. ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها فشاع في الجزيرة خبرها .. وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء !
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزاً لدفع خطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله. وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة وهو
يومئذ ألزم الدروس.
ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة ! إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان، أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع. وجيش يذهب الى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص، بل يعود بالغنائم والأسلاب كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض صحراء؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعدده فأحجم من المرتدين من اقدم وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح([9]) إ.هـ.
ولقد كان أبو بكر يدرك حجم قوة دولة الروم، ويعلم أن التحرش بها ليس تسلية ولا نزهة، فلولا اعتقاده الجازم بقدرته على مواجهة جميع الاحتمالات لما غامر هذه المغامرة ! فمن أين جاءت القوة لأبي بكر في ذلك الظرف العصيب وكل الدلائل تشير إلى غير ما ذهب إليه ؟! وما هي مصادر الثقة المطلقة بالنتائج الإيجابية لما يصنع وهي لما تزل نطفة في رحم الغيب المجهول ؟! إنها قوة الإيمان الراسخ والنظرة البعيدة الثاقبة والسياسية الحكيمة الصائبة.
أبو بكـر وفن إدارة الأزمـة([10])
بعد أن أنجز المسلمون أروع عملية نقل للسلطة (من نبي إلى خليفة) أصبح الخليفة أمام المهام الرئيسية المطروحة وهي بمجملها مهام فرضها الظرف التاريخي للإسلام في آخر سنة من حياة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم، وبعضها فرضتها الظروف الناجمة عن وفاتهصلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كان الخليفة قد حدد نظرته إلى السلطة وشكل قيادته للمسلمين فإنه في مواجهة المهام التي فرضتها الظروف واجه صعوبة كبيرة . فهو في آن واحد كان مطالباً:
1-            بتثبيت سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
2-               وتعزيز الثقة بالذات لدى الصحابة.
3-            وإبقاء المرتدين في:
أ- موقف البعثرة والتشتت .
ب- ثم الانكفاء والهزيمة .
والراجح أنه من خلال إنفاذ جيش أسامة بن زيد ، وحسم الموقف الاجتهادي من المرتدين وتطبيق مبدأ الشورى حقق الأمرين الأولين.
أما الأمر الثالث فإن خطواته استغرقت وقتاً طويلاً يبدأ منذ تحرك أسامة بن زيد شمالاً إلى الشام في آخر ربيع الأول سنة 11هـ إلى تسيير الجيوش الخمس نحو الشام والعراق سنة 12هـ .
ويمكننا تتبع هذه الخطوات على النحو التالي :
1-                        
2-تحشيد القبائـل
أولاً: بمجرد أن سيَّر الخليفة جيش أسامة قام بتحشيد من بقي من القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم وصيرهم مسالح حول قبائلهم[11]… لقد حققت هذه الخطوة أهدافا تعبوية متعددة:
فهي أولاً: عزلت المسلمين من القبائل عن غير المسلمين، وأقامت حاجزاً نفسياً بين الطرفين يحول دون اهتزاز قناعة المسلمين بسبب قلتهم، وإزاء الضغط والقتل من مشركي قبائلهم.
وأوجدت خطوطاً دفاعية حول المدينة وطورت نظام الدفاع الذاتي عن النفس وتحمل مسؤولية المبادرة واتخاذ القرار.
 
2 – الحرب بالرسل أو سياسة الإلهاء
ثانياً: اتباع سياسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إلهاء المرتدين بالرسل فكلما ورد رسول بخبر قوم رده برسالة وأتبع الرسل بالرسل تأجيلا للمصادمة لحين عودة جيش أسامة.
ويبدو أن هذه السياسة كانت فعالة وحققت أهدافها، لأنها أبقت عامل الزمن الناجم عن غياب جيش المدينة (أربعون يوماً) إيجابيا لصالح الخلافة. وبالتالي أبقت زمام المبادأة بيدها حتى سماها المؤرخون بـ (الحرب بالرسل).
 
 
3 – مهاجمـة بؤر الردة المتحركـة
ثالثاً: مهاجمة بؤر الردة المتحركة: كونت بعض القبائل تجمعا قبليا وجربوا الغارة على المدينة من اتجاهين غير أنهم وجدوا الخليفة قد سد أنقاب المدينة بالمقاتلة، ثم تبعهم فهزمهم وحرق بعض قياداتهم بالنار.([12])
لقد حققت هذه الخطوة أهدافها. وأبرزها:
1-              تعزيز ثقة المسلمين بالخلافة.
2-                 إرهاب المرتدين وإعطاءُهم فكرة حية عن جدية الخلافة في توجهها .
3-              منع تجميع القبائل المرتدة والحيلولة دون تكاتفها.
4-              كما أنها عززت صلة المدينة إداريا ببعض الأطراف.
5-              وأمنت جباية بعض الصدقات، وتعزيز اقتصاد الخلافة.
4 – الهجوم الشامل على المرتدين
رابعـاً: الهجوم الشامل على المرتدين : بدأت هذه الخطوة بعد عودة جيش أسامة، وما ترتب على ذلك من تحسن القدرة الاقتصادية للخلافة حيث عقد الخليفة أحد عشر لواءاً.
أعطى الخليفة إلى كل قائد عهده وحملهم كتاباً واحداً إلى العرب كافة حدد في الأول واجبات كل أمير وحدد في الثاني فهم الخلافة لإسلام المسلم وما يترتب عليه من التزامات وموقفها من المرتد .
وتكشف وثائق المصالحات التي عقدت مع بعض القبائل عن سياسة الخلافة من المرتد الذي يقاتل ويهزم وهي:
1-                        القتل على الرجال والسبي على النساء والذراري.
2-  الإجلاء عن الأرض.
3-                        المصالحة لمن لا يقاتل بشرط:
‌أ.     نزع الحلقة (السلاح) والكراع منهم.
‌ب.      اعتبار ما أصابه المسلمون من أموالهم غنائم. وحدد هذه   الأموال في (الصفراء والبيضاء) أي الذهب والفضة.
‌ج.  تعويض المسلمين عما أخذه منهم المرتدون .
‌د.    دفع المرتدين دية شهداء المسلمين.
هـ. إقرار المرتدين أن قتلاهم في النار.
 
تحقيـق كامل الاهـداف
حققت سياسة الخليفة كامل أهدافه فقد تم له:
1-                القضاء على الردة .
2-                وتثبيت سياسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
3-             وتعزيز الوحدة التي حققها في حدود الجزيرة العربية .
4-             واستكمال التنظيم الإداري والعسكري والاقتصادي والاجتماعي لدولة يقودها الصحابة ويرأسها الخليفة.
5-     وتحقيق نقلة تاريخية في بناء القوة العسكرية القادرة على الضرب بعيدا – ليس عن مركز الدولة وإنما – عن حدودها أيضاً. لذلك تجده يقف في المسجد مخاطباً الناس بقوله:
(فالعرب اليوم بنو أُم وأب وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام) ثم أردف: (واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عوَّل أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار ما لديه. ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنبأني بذلك قبل موته).
 
 
 
الثوريـة والاتباع في سياسة الصديـق
لقد أتاح قدم الإسلام للخليفة أبي بكر مواكبة نزول القرآن أكثر من غيره مما أعطاه فرصة تكوين مبدئية شاملة استوعبت الأسس العقائدية اللازمة وتعزيزها سلوكياً من خلال المواقف العملية المعبرة وبالتالي امتلاك تاريخية أطول لتلك المبدئية.
إن طبيعته الهادئة الوديعة – أو كما وصفه المؤرخون (كان مألوفا لقومه) شكلت عاملا إيجابياً لصالح الاستيعاب العقائدي والتعبير السلوكي العميق عنه وبالتالي تكوين تلك الشخصية الثورية المتزنة القادرة على اتخاذ القرار الصائب والبقاء دائماً في الجانب الصحيح كما تقتضيه العقيدة وتستوجبه الصحبة الطويلة.
وقد كانت هذه الصفات تختفي خلف هدوء القناعة يقيناً بالعقيدة والطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته. أما وقد توفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانتقل أبو بكر إلى الموقع الأول، فقد فاجأ المسلمين والصحابة منهم بشكل خاص بجوانب شخصيته ! فعندما صعب على المسلمين التسليم بوفاته وارتبكوا وذهبوا كل مذهب جاء أبو بكر من منزله بالسنح، ودخل على رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم فكشف عن وجهه فقال: (بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن يصيبك بعد موتة أبداً) ثم رد الثوب على وجهه وخرج إلى الناس وهو يسمع ما يقولون فوقف خطيباً يؤكد حقيقة وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما أرجف الناس واشرأبّ النفاق ، واتسع نطاق الردة واضطرب الصحابة واقترحوا عليه الإبقاء على جيش أسامة بن زيد كشف عن عميق وعيه وبعد رؤيته بالإصرار على إنفاذ جيش أسامة وتأكيد استمرار سياسة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم أولاً. وهي مسألة مهمة جداً لضمان وحدة الفكر والاجتهاد .
غير أنه أدرك أيضاً الاحتمالات العملية التي يمكن أن تترتب على الإبقاء على الجيش أولها الإيحاء بانكفاء المسلمين في المدينة وترك الجزيرة مسرحاً للمرتدين يصولون ويجولون فيها.
كما أنه أدرك أن الإبقاء على جيش أسامة تعلق بأسباب القوة التقليدية بينما المفروض في روح الثورة أن تخلق قوتها باستمرار من خلال تثوير العوامل في الظرفين المكاني والزماني والتعبير عن الذات.
فهو إذن ينشد في المشورة ثورية الرؤية وليس الواقعية المجردة، لأن ثورية الرؤية تعكس الثقة بالمبادئ والروح الثورية، بينما الواقعية المجردة تعكس التوسل بالدنيا تقليدياً.
كما أن خروج الجيش يعطي الانطباع الأول عن تقدير الخلافة لحركات الردة وأنها حركات هامشية لا تخيف المبادئ ولا الدولة فتهز قناعات المرتدين بدل أن تهز الردة قناعات الصحابة والمسلمين.
فلما خرج الجيش خرج هو بمن بقي لملاقاة المرتدين. وهو قرار صائب مكمل لقراره السابق، لأنه اتاح ثوريا تكوين قوة جديدة للعقيدة تتعامل مع المرتدين، وبذلك حقق هدفين: 1– تجديد القوة العسكرية للدولة والعقيدة  2 – إظهار جانب قوة آخر للدولة ومسرحاً جديداً لفعله يشد الخصوم ويمنع التقاءهم ويبقيهم على بعثرتهم.
غير أن المهم في الموقف أن خروج أبي بكر لحرب المرتدين جاء بعد أن أعطى للصحابة مفهومه للإيمان والطاعة. فهو إذ لم يفرق بين من كفر أو من امتنع عن دفع الزكاة، قد اعتبر كلا نوعي الحركات الارتدادية خارجاً على العقيدة والدولة.
وإن موقف النوع الثاني في الارتداديين يجزئ الموقف العام أولاً، ويتخذ لنفسه موقفاً متميزاً ضمن الدولة وبنائها السياسي. فإذا قبل الخليفة تحللهم من شرط الزكاة فمعنى هذا أنه أقر لهم موقفاً خاصاً في اتفاق معلن وهو خلل في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأمة لأنه يهدد الوحدة ويقود الى معارضة نهائية مستقبلاً.
لهذا عد الجميع موضع مجابهة مع الدولة وتمسك بتسليم المرتدين بمبادئ وأسس الإسلام كافة، إدراكاً لقيمة تضافر تلك المبادئ والأسس في إرساء أسس الأمة الجديدة، وانتصار العقيدة الجديدة.
فالذين أرادوا الايمان بالله ورسوله وأقاموا الصلاة وحجبوا الزكاة يريدون دنيا بدون دين، فمثلهم مثل الذين أرادوا الاستقلال عن الدولة فاختاروا الدين بدون دولة. وهو إخلال بالترابط بين التوحيد والوحدة.
لهذا قيل في أبي بكر: إنه أفضل الناس بشيء كان في قلبه وليس لأنه كان أكثرهم صلاةً وصياماً) إ. هـ. بشيء من التصرف.
بهذه السياسة الحكيمة والقيادة الحازمة تمكن الصديق رضي الله عنه من القضاء على الفتن الداخلية بجميع شعبها وأشكالها. وذلك أول عمل ينبغي أن يقوم به أي حاكم، وأول شرط لاستقرار أي حكومة، ودوام أي نظام وإلا ضعفت الحكومة في نهاية المطاف وانهار النظام، فضلاً عن الانشغال عن المهام الأساسية الأخرى في الداخل أو الخارج.

بين الصديـق وعثمان وعلـي

وهو ما حدث لسيدنا عثمان رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته، وسيدنا علي رضي الله عنه يوم آلت إليه الخلافة. فكانت فترة عصفت فيها الفتن بالأمة عصفا فانقسمت على نفسها وخاضت حروباً أهلية لا طائل من ورائها، ولم تحقق أي هدف من أهدافها. بل ابتعدت كثيراً عنها. وكلما
مر زمن زادت الأمور تعقيداً واضطراباً!
وبغض النظر عن الأسباب والأعذار فإن علياً لم يستطع معالجة التركة التي ورثها وتدارك الأمر أو القضاء على الفتنة، ولم يتمكن من السير على سياسة تعود بالأمة إلى سابق جماعتها ووحدتها لينطلق بها مرة أخرى إلى حيث يريد لها أن تنشر رسالتها.
بل تفاقمت الأمور وكثرت الفتن والاضطرابات وقوي الخصوم حتى تمكنوا من قتله! وغادر موقعه في القيادة شهيداً والأمة مضطربة منقسمة لم تتوحد إلا .. بعد حين! في زمن معاوية رضي الله عنه .
 
خليفـة القائد الأعظـم
إن عبقرية الصديق وكفاءته القيادية، وقدرته على حشد الناس، وأثره الفاعل في انقيادهم له والتفافهم حول شخصه، وهيبتهم وإجلالهم لشخصيته، وحبهم وانجذابهم لها، لا يمكن الإحاطة به أو تصوره كما ينبغي وتقديره حق قدره ما لم نستحضر أمراً في غاية الأهمية ألا وهو: أن الصديق جاء الى منصة الحكم والقيادة بعد أعظم قائد وأكبر شخصية آسرة حكمت الارض، ألا وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤيد من السماء !
إن من الطبيعي أن تقع المقارنة بين اللاحق والسابق في أي موقع من مواقع الحياة ووظائفها. وإذا كان السابق قد أوتي نصيباً من التميز وعناصر الجذب والاستيعاب، فإن اللاحق مهما أوتي من مؤهلات ما لم تكن مقاربة لمن سبقه فإن الحظ سيكون إلى غير جانبه؛ ما يؤدي الى ضعف التفاف الجمهور حوله، لشعورهم بالفجوة الفاصلة بينهما ! ومهما أجهد الثاني نفسه ليبدو مقبولاً وجذاباً فلن يفلح إلا أن تكون الفجوة ضيقة أو معدومة.
فما بالك بشخص جاء بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم !! فقاد الناس قيادة وساسهم سياسة حتى كأن شيئاً لم يتغير! بل كثر الخير وانتشر، واستقرت الأمور، وتوسعت الدولة وثبتت أركانها، واستطاع أن يدير الناس في فلكه ويجذبهم إلى مركزه فصاروا يطوفون به كما تطوف الكواكب بالنجم الكبير !
 
شبيه إبراهيم وعيسى عليهما السلام
لا شك أن الله تعالى حين اختار الإسلام خاتماً للأديان يريد له أن يبقى، ويريد له أن يقوى ويستغلظ ويستوي على سوقه، ويكره أن يضعف أو ينتهي ويزول بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
إن هذا يستلزم أن يولي أمر دينه من بعد نبيه خيرة صحبه؛ فإن هذا هو الذي يحقق مراد الرب جل وعلا على أتم وجه وأحسن حال. فكان أبو بكر هو المختار بعد المختار صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم – والأمة تعلم – أن أبا بكر كذلك، ويشبهه بإبراهيم خليل الله، وعيسى روح الله. وهما من أولي العزم.
وإبراهيم أفضل الأنبياء عليهم السلام بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وللنبي شبه كبير به خَلقا وخُلقا. وعيسى لا يبعد عنه في المنزلة كثيراً. وهذا يعني أن الفجوة بين شبيه إبراهيم وعيسى وبين النبي ليست واسعة، بل ضيقة جداً.
بينما شبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً رضي الله عنه بهارون u ، وجعل منزلته منه كمنزلة هارون من موسى. والفجوة بين المنزلتين واسعة!
ولو مات موسى فخلفه هارون لما استطاع أن يجمع حوله بني إسرائيل، ويشدهم في فلكه. ولقد حدث له ذلك حين ذهب موسى لمناجاة ربه وقال: ]لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ[ (الأعراف:142). فلم يستطع هارون أن يقود قومه وينقذهم من فتنة الارتداد وعبادة العجل ]وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ (الأعراف:150). وقال: ]إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي  [ (طه:94) . ولما قال لقومه: ]اتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى[ (طه:91،90)
 

بين أبي بكر الصديق ويوشع بن نون

والشيء نفسه قاله المرتدون لأبي بكر:
 

أطعنا رسولَ اللهِ ما دام بيننا
 

 

فيا لَعبادِ اللهِ ما لأبي بكرِ

 
ولكن أبا بكر – يا لعباد الله – كان له معهم شأن آخر !
ولما مات موسى u كان الذي خلفه في قومه وقادهم قيادة قوية محكمة هو (صاحبه) الذي كان دوماً في رفقته وصحبته، فتاهُ الذي جاء ذكره في سورة (الكهف) في قصته مع الخضر u . لقد استطاع أن يقود بني إسرائيل ويقاتل بهم عدوهم حتى عبر بهم نهر الأردن. والشيء نفسه حدث لأبي بكر !
يقول الأستاذ محمود الملاح[13] رحمه الله :
(ولننقل ما ورد في الإصحاح الأول من سفر يوشع ليقف القارئ على أن سيرة يوشع كانت (مفصلة) على أبي بكر كأنها حلة أعدت له منذ ألفي عام هكذا: (وكان بعد موت موسى عبد الرب، أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم .. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى .. لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك.
تشدد وتشجع جداً !! للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً.
تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك).
فانظر إلى هذه، أما تراها منطبقة المفاهيم على أبي بكر (يوشع نبي المسلمين) كأنها نزلت عليه (إلا أنه لا نبي من بعدي) !
قلت : كأن هذه الكلمات نزلت من السماء على أبي بكر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووقوع الارتداد: (لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك كما كنت مع (محمد) أكون معك).
وقالوا له: لا تنفذ جيش أسامة، فأصر على إنفاذه حفاظا على متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده! فكأن السماء يومها كانت تناديه: (تشدد وتشجع جداً للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها (محمد) عبدي، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً. تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك)([14])!
يقول الأستاذ الملاح: (فارجع البصر هل ترى من فطور) في سيرة أبي بكر وسياسته بالنسبة إلى سيرة النبي وسياسته ؟ (ثم ارجع البصر كرتين) في قوله: (لا يقف إنسان في وجهك ! كما كنت مع موسى أكون معك ! تشدد وتشجع للعمل حسب كل الشريعة ، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً (لا ترهب ولا ترتعب).
ومن الغرائب أن آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت غزوة تبوك دون الأردن وإنما الذي عبر الأردن جيش أبي بكر !!
وكان النبي عقد لواء لأسامة فأنفذه أبو بكر وقال: لا أحل راية عقدها رسول الله.([15])
ولو خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته بأربعين يوماً كيف سيجد أمته التي تركها ؟ سيجدها متماسكة قوية تضرب بيد من حديد رأس كل خارج عنيد. قد أحكمت أمرها واستقام رشدها والتفت حول إمامها. ورجع جيش أسامة بالغلب والخير والظفر. فهل هناك أروع وأبهى، وأشد وأقوى !!
لا بد أنه سيودعهم بالابتسامة نفسها التي ودعهم بها آخر مرة وهم يصلون جميعاً خلف إمامهم، ثم يرخي الستر ما بينه وبينهم من جديد! ويحلق راضياً مطمئناً إلى الملأ الأعلى والسماوات العلى.
لقد شبت الأمة عن الطوق فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما علي رضي الله عنه فكان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كـ(هارون من موسى) في منزلته. وكذلك في شخصيته التي تعاني من عدم انقياد الناس لها واجتماعهم حولها. وقد حدث له ذلك مرارا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يوم تركه على المدينة وتوجه إلى تبوك فكان سبب قوله له وقد تبعه يبكي وهو يشكو اليه انفضاض الناس عنه ولمزهم إياه: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). وهو مواساة وتطييب خاطر أي أن لك أسوة بهارون حيث تركه موسى  فعصاه قومه  واستضعفوه  وكادوا  يقتلونه  فاصبر واحتسب !
إن القدرة على القيادة وحشد الاتباع ليس شرطاً أن تتناسب طردياً مع التقوى، فقد يكون الرجل تقياً ولا يكون قائداً من الطراز الأول كهارون u وهو نبي!.
وليس كل الأتقياء يصلحون كقادة أكفاء. وقد تجتمع في أحدهم نسبة معينة من مؤهلات القيادة تقترب أو تبتعد من القمة والناس مراتب ، وليس ذلك بضائرهم عند الله .
ولما ذهب علي رضي الله عنه إلى اليمن اختلف الناس عليه وخاصموه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاضطر أن ينزل في الهجير عند غدير يقال له خم ليدافع عنه ويبرئ ساحته.
وحدث لما آلت إليه الخلافة أن تفرق عنه الناس ولم يستطع جمعهم واستيعابهم ووقع له ما خشي منه هارون u أن يقع من الفرقة في قومه فلم يأمرهم إلا بما كان يقدر عليه وانتظر حتى رجع موسى u القائد الموهوب.
وقد أدرك علي ذلك تمام الإدراك وأشار إليه – بأبي هو وأمي -
بقوله: (أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)([16]) لما أكرهوه على البيعة ولكن لم يسمعها منه أحد وضاعت وسط الضجيج فتقدم لتحمل المسؤولية بشجاعة وصبر وثبات، لكن الأحداث كانت عاصفة شديدة العصف ولم يكن في وسعه إخمادها، فقضى والفتنة لما ينطفئ أوارها.
ترى ! لو خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة عثمان وتولي علي بأربعين يوماً ماذا كان سيجد ؟ وما عساه أن يقول!
إنه سيجد أمة متفرقة تموج في الفتن. وإمامهم يرقب الأوضاع وهو يتحسر كهارون يأمر أتباعه فلا يطيعون وينهى قومه فيعصون وهو يقول: (تقول قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا رأي له ألا لا رأي لمن لا يطاع لا رأي لمن لا يطاع لا رأي لمن لا يطاع).([17])
لقد انتظر هارون حتى رجع موسى فحسم الأمر. ولحق علي بعد حجة الوداع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدركه عند ذلك الغدير فكان ما كان وقضي الأمر. وتبعه وهو متوجه الى تبوك فواساه وطيب خاطره ! ولكن ينتظر من في ذلك الظرف وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟).
وشتان شتان بين المنزلتين ! لقد كان الفراغ واسعاً بين منزلة هارون ومنزلة موسى فملأه يوشع بن نون كما ملأ الفراغ بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي أبو بكر الذي شبهه رسول الله بإبراهيم وعيسى، وعمر الذي
شبهه بنوح وموسى !
ولا شك أن إبراهيم وعيسى - وكذلك نوحاً وموسى - أعظم منزلة من هارون.
وأذكِّر هنا أن يوشع الذي خلف موسى u صار من بعده نبياً يوحى إليه؛ فلولا أن الوحي قد انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن محمداً قد ختمت به النبوة، لكان أولى الناس بالنبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأ
 
2- التصدي للأخطار الخارجية والجهاد في سبيل نشر الرسالة
وهو من أدل الدلائل على عبقرية الصديق السياسية وكفاءته المتميزة في التخطيط والقيادة العسكرية.
لقد استثمر الحالة الجديدة التي صارت عليها الأمة بعد القضاء على فتنة المرتدين وما اكتسبته من خبرة في القتال وثقة بالنفس وتوحد في الصف للقيام بأعظم عمل إيجابي ألا وهو الجهاد في سبيل الله لنشر مبادئ الإسلام. وأول ثمرة من ثمار هذا العمل إشغال الناس عن الفتن وما يمكن أن يتولد عن الحروب الداخلية التي خاضوها قريباً من التفكير بالثأر والعمل للإنتقام وزعزعة الصف . فنادى فيهم نداءه وعبأهم لمقاتلة أعظم دولتين في زمانه فارس والروم فعصف بهما عواصفه، وما قضى إلا وقد وجه لكل منهما الضربة الموجعة المميتة، إذ حررت جيوشه غربي العراق وتمركزت في (الحيرة) تتخذ منها قاعدة بانتظار فرصة القفز الى (المدائن) عاصمة الفرس المغتصبين.
اما الروم فقد انتزع منهم الشام، ولما جاءته المنية كانت جموع المجاهدين تتعبأ في ساحة اليرموك لتخوض أعظم معركة فاصلة في تاريخ الجبهة الغربية الملتهبة بقيادة ألمع وأعظم القادة العسكريين الميدانيين في التاريخ سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان الصديق وراء اختياره.
كل ذلك تم في غضون سنتين اثنتين فقط هي فترة حكمه المباركة والحافلة بالأحداث الجسام! أليس هذا من العجب العجاب؟!
أعظم خطة عسكرية في التاريخ
حينما نقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من طراز القادة التاريخيين العظام، لا نقول ذلك بدافع الحب والإعجاب المجرد.
لقد كان الصديق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطط ويقود ويوجه وهو يشاركه الرأي والمشورة. لكن شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان تغطي عليه وتحجب بروز مواهبه ظاهرة للقريب والبعيد. لكن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف من هو أبو بكر فكان يقدمه على الأصحاب. حتى إذا غادرت الشمس سماء الإسلام برز البدر ينير الوجود ويسحب ذيل نوره على الكواكب والنجوم.
إن أبا بكر هو واضع الخطة العسكرية التي أبادت الفرس وحطمت دولتهم فأزالتها - وإلى الأبد - من الوجود!
إن خطة عسكرية حققت ما عجز عنه الرومان والبابليون، وهزمت قوماً كانوا قد محوا خلال تاريخهم – إضافة إلى بغداد -خمس دول وحضارات قامت في العراق هي سومر وأكد وآشور والحضر وبابل ! وكانت وقعاتهم وسطواتهم بالروم يشهدها العالم إلى زمن مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنها انتصارهم الذي سجله القرآن بقوله: ]غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون[ (الروم:2،1) حتى لقد وصل الفرس إلى عاصمة الرومان الشرقية -القسطنطينية- لهي حقاً أعظم خطة عسكرية في التاريخ.
لقد أيس البابليون وعجز الروم في دهورهم المتطاولةعن إسقاط دولة 
فارس، ولم  يفلح  أي  قائد  عسكري لامع طيلة تاريخهم في أن يضع خطة يجتث بها دولتهم ويسقطها الى الأبد. وعجز العرب كذلك ! حتى إذا استيأسوا وهم يحاولون ويأملون ويظنون بأنفسهم الظنون جاءهم أبو بكر ليضع تلك الخطة العسكرية التاريخية الأسطورية ويرسمها وهو جالس مع أركان حربه فوق رمال الجزيرة . وهذه هي الملامح الأساسية للصورة الرائعة لتلك الخطة:
 

الملامح الأساسية للخطة

قسم أبو بكر الخطة إلى مرحلتين:
 
المرحلة الأولى:
عبارة عن معارك استنزاف سريعة متلاحقة تنهك الخصم الفارسي وتشتت قواه وتستنفدها وتفقده الثقة بنفسه وتعيد الثقة وتزرعها في نفوس العرب حتى إذا تم استنزاف الخصم أجهز عليه بمعركة نهائية كبيرة فاصلة أعد لها طويلاً.
تنتهي المرحلة الأولى بتحرير غربي العراق والاستيلاء على (الحيرة) التي هي أنسب موقع لمن يريد تهديد العاصمة من العرب: ان وجهها الى سواد العراق وظهرها الى صحراء العرب فيمكن التوغل منها بحذر الى الداخل أو الانسحاب منها الى الصحراء لإعداد العدة واستئناف الهجوم مرة أخرى.
 
المرحلة الثانيـة:
وهي عبارة عن معركة كبيرة فاصلة ، يخوضونها بعد أن يكون
الفرس قد أنهكت قواهم وفقدوا الثقة بأنفسهم في الوقت الذي يكون العرب قد استعادوا هذه الثقة وجمعوا قواهم وحشدوها لكسب المعركة التي سيتم بعدها الانقضاض على عاصمة الفرس -المدائن- لإسقاطها وإحكام السيطرة عليها.
أوكل تنفيذ المرحلة الأولى إلى سيف الله خالد بن الوليد وعياض بن غنم على أن يدخل الأول العراق من جنوبه والثاني من أعلاه لمشاغلة العدو وشل تفكيره وتشتيت قواه فأيهما وصل الحيرة – وهي الهدف الأول لهما – قبل صاحبه كان هو الأمير أو القائد العام. فأتم المهمة كلها خالد بن الوليد([18]) وخاض في سبيل تحقيق هذا الهدف الكبير - وفي غضون سنة واحدة! - بضع عشرة معركة كبيرة خاطفة استطاع العرب بها أن يحققوا أهدافهم ضمن تلك المرحلة كاملة، وصاروا يتأهبون لخوض المعركة الفاصلة وهم في أعلى المعنويات وحالات الاستعداد.
بعد احتلال الحيرة صدر الأمر من العاصمة لسيف الله خالد بالتوجه إلى الشام، وعاجلت المنية أبا بكر فاكمل تنفيذ الخطة الفاروق عمر، فكانت معركة (القادسية) التي تم من بعدها إسقاط المدائن وإخماد أسطورة النار الخالدة.
فلو لم يكن للصديق إلا هذا الإنجاز في عالم العسكرية الذي عز على متناول عمالقة الرومان والبابليين وسادات العرب لكفاه فخراً بين عظماء التاريخ ودليلاً على عبقريته العسكرية وكفاءته القيادية!

بين قيادة أبي بكـر وبطولة علـي

لقد عرفت العسكرية علياً مقاتلاً ميدانياً من الطراز الأول، وجندياً باسلاً ومحارباً فاتكاً يجيد فن القتال ومبارزة الأقران! أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية مراراً وهي لا تعطى إلا للأبطال كمصعب بن عمير وأمثاله.
ومن الملاحظ في دراسة جهاد علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم ينفرد في قيادة جيش طيلة العهد النبوي كما انفرد غيره كأبي عبيدة وعمرو بن العاص وخالد وحمزة وأسامة وجعفر!
إلا في خيبر. وحقيقتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوكل إليه قيادة كتيبة اقتحامية أشبه ما تكون بالكتائب الميدانية الاستشهادية . وهو الأسلوب الأنجح مع اليهود لجبنهم وحرصهم على الحياة وخوفهم من المواجهة والالتحام بالسلاح الأبيض. وخير من يستطيع القيام بهذه المهمة من هو مثل علي في بسالته وشجاعته وتمكنه من فن القتال في الميدان.
أما القائد العام والمخطط الذي يشرف على سير المعركة فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الصديق (ثاني اثنين) وبقية أركان حربه.
حتى إذا انتقل النبي القائد إلى الرفيق الأعلى لم نجد علياً رضي الله عنه يستلم قيادة جيش أو معركة طيلة ربع قرن. حتى إذا استلم الخلافة وقد كثرت الحروب الأهلية خاض معارك عديدة تولى قيادتها، لم تكن من جنس المعارك التي يتجلى فيها الفكر الاستراتيجي العسكري والعبقرية القيادية التخطيطية أو التنفيذية كما هو الشأن في معركة القادسية واليرموك ونهاوند . إنما كانت معارك برزت فيها المقدرات الفردية والمبارزات الميدانية للجندي الباسل، وذلك ما يجيده علي. لقد كثر القتل فيها وكان القتلى يعدون بعشرات الآلاف ثمنا لمعارك لم تكن حاسمة قط، ولم يتغير بها وجه التاريخ أو وجهة الأحداث، ولم يصل فيها علي إلى هدفه وكانت سجالاً بينه وبين خصومه الذين بدا أن الزمن ومجرى الأحداث يسير إلى صالحهم إلى يوم استشهاده رضي الله عنه .
إن ما فقدته الأمة من شهداء في ساحات الوغى وهي تحرر العراق والشام وأفريقيا، وتفتح فارس وبلاد ما وراء النهر، وتطهر البحر الأبيض والأحمر، وتغير وجه التاريخ أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة الأُوَل - لا أظنه يساوي ما فقدته الأمة من رجال في تلك الحروب التي خاضها الخليفة الرابع، دون أن يصل من ورائها إلى أي هدف من أهدافه!

3- جمع القرآن وحفظ الدستور
 
إن هذا العمل العظيم والإنجاز الكبير هو أعظم ما شرف الله تعالى به الصديق من أعمال وحققه من إنجاز!
إن الأمة هي أمة القرآن ، فلا أمة بلا قرآن إذ لا أمة بلا هوية. وهوية هذه الأمة هو القرآن العظيم. بل هو أصل وجودها وبقائها !
ويفوز أبو بكر بهذا الشرف ! ويكون هو صاحب وسام قوله تعالى: ]إن علينا جمعه وقرآنه[ (القيامة:17).
انقسمت هذه الآية فكان الحفظ والقراءة من نصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان الجمـع من نصيب (صاحبه) رضي الله عنه !
إن جمع القرآن متسلسلاً بين دفتي كتاب كان مستحيلا على الجهد البشري زمن النبي، وليس ممكناً في نفسه لعدم اكتماله أولاً، ولنزوله مفرقا لا متسلسلاً ثانياً.
إن تأليف أي كتاب لا بد أن  يكون مرتباً متسلسلا موضوعاً موضوعاً حتى إذا اكتمل أمكن رزمه ضمن جلد واحد.
أما القرآن فقد نزل مفرقاً حسب الحوادث وليس مسلسلاً حسب المواضيع أو السور. فلم تنزل مثلاً - سورة الفاتحة أولاً ثم أول صفحة من سورة البقرة ثم الثانية وهكذا إلى آخر الكتاب. وليس ممكناً لأي كتاب أن يجمع مرتباً ما لم يكتمل متسلسلاً.
وما أن اكتمل القرآن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مفرق عند كتبة الوحي فتولى العمل من بعده أبو بكر الصديق (ثاني اثنين).
وتجلت في الصديق إرادة الله في جمع القرآن:  ]إن علينا جمعه وقرآنه{ (القيامة:17)، وحفظه: ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[ (الحجر:9). إن هذه الإرادة الربانية الكريمة لا يجعل الله تعالى محلاً لتجليها إلا الذين يختارهم من مقربيها.
إن هذا العمل هو أعظم وأكرم عمل يقوم به إنسان غير نبي، لأن القرآن هو الصلة الوحيدة المضمونة السلامة بين الرب وخلقه فلا يأتمن الله على حفظها إلا الخيرة من عباده. وإلا وقع الشك فيها وفي سلامتها من الزيادة والنقصان. وذلك مرض لا يسلم منه طاعن في الصديق، إلا ما شاء الله وهو لازم له.
وتجلت في الصديق أول آية في القرآن: ]الحمد لله رب العالمين[ ؛ لأن نعمة حفظ القرآن من أعظم النعم التي يحمد الله عليها ويشكر. وأبو بكر كان في هذا الحفظ السبب الأكبر. ولذلك يقول الله تعالى ]الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم  يجعل له عوجاً[ (الكهف:1). فالله يحمد على إنزال الكتاب وعلى حفظه من التحريف.
وتجلى فيه أول سورة البقرة: ]ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين[ (البقرة:2،1). ولا يكون الكتاب هادياً إلا بعد الاطمئنان الى كماله وحفظه ونفي الريب عنه. وأبو بكر هو الرجل الذي كتب الله ذلك على يده. وذلك يستلزم نفي الريب عن أبي بكر أولاً وإلا تطرق الريب الى الكتاب لأن فاقد الشيء لا يعطيه. إذ كيف لصاحب العيب
أن ينفي عن غيره الريب!
وأبو بكر هو (الأتقى). ومن أولى من الأتقى بتولي حفظ كتاب المولى؟! يقول علي رضي الله عنه : (رحم الله أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين).
وهكذا جمع أبو بكر الأمة بعد أن تفرقت أو كادت.
وجمع دستور الأمة بعد أن كان مفرقاً.
ولا أمة بلا دستور، ولا دستور بلا أمة.
وفي الوقت نفسه استطاع أن ينقل عوامل الصراع الداخلية إلى ساحة الخصم ويغزوه في عقر داره.
فمن أولى منه بإمامة الأمة وقيادتها !
أما أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فقد شرفه الله تعالى بجمع الأمة على قراءة القرآن بلهجة واحدة طبقاً للمصحف الذي جمعه أبو بكر. لكنه لم يستطع الحفاظ على وحدة الأمة بل استطاع الخصوم من اليهود وزنادقة الفرس ودهاقنتهم وغيرهم أن ينقلوا عوامل الصراع الى ساحة الأمة الداخلية ويشغلوها بنفسها في صراعات وفتن لم يستطع إخمادها بل أكلته آخراً بنارها وأغرقته بأمواجها فقضى شهيداً وترك الأمة تعاني مما كان الى اليوم .

 
4- حسـم معضلة ولاية الأمـر
 
استطاع الصديق - رغم قصر فترة حكمه - أن ينجز هذه الإنجازات ويحفظ الأمة قوية موحدة في قاعدة فكرها واتجاه حركتها.
ويمرض أبو بكر مرض الموت. فلا بد أن يموت قرير العين بأن يضمن الحفاظ على هذا الإرث مجموعاً قوياً موحداً فمن له من بعده؟
لو نظرنا في تاريخ الأمم والشعوب عموماً وتاريخ الأمة منذ وفاة الرسول خصوصاً لوجدنا أن عدم حسم ولاية العهد قبل وفاة الحاكم الذي مات يؤدي إلى تفرق المجتمع وتشرذمه حول الطامحين إلى سدة الحكم بحق أو باطل. ومن ثَمَّ يحدث القتال بين الفئات المتناحرة، ما يقود إلى الضعف والتمزق. وقد يتسبب في إزالة الدولة ونشوء غيرها.
إن عدم حسم هذه القضية بعد مقتل عثمان جر الأمة الى الفتنة والتطاحن خمس سنين حتى طمع فيها أعداؤها. والشيء نفسه كان يمكن أن يتكرر بعد مقتل علي لولا أن تدارك الله الأمة بالحسن.
وتجددت الفتن حول ولاية الأمر بعد معاوية إذ خرج الحسين في العراق. وأعلن عبد الله بن الزبير العصيان في مكة. وظل الانقسام واستمر جريان نهر الدماء إلى أن جاء عبد الملك بن مروان فوحد الأمة. لكنها ظلت تعاني من كثرة الخارجين الطامحين إلى تسنم سدة الحكم.. إلى أن انقسمت ثلاثة أقسام: المشرق بيد العباسيين والمغرب بيد العلويين، والأندلس بيد الأمويين.
وهل يمكن أن ينسى التاريخ الفتنة التي وقعت بعد موت الرشيد بين ولديه الأمين والمأمون؟ وما خبر انقسام دولة الأيوبيين على أيدي أبناء صلاح الدين واضمحلالها منا ببعيد.
إذن أخطر شيء على وحدة الدولة عدم الاتفاق على من يخلف الحاكم السابق، فإن لم يحسم الأمر على أيدي الرجال الأقوياء الحكماء صار بأس الأمة بينها وأكلت بعضها بعضاً.
 
مشاورات الصديق في تولية الفاروق
لقد حسم الصديق رضي الله عنه أو منع وقوع الفتنتين معاً: الفتنة السابقة لولايته، والفتنة اللاحقة لها. فاختار لولاية الأمر من بعده خير الناس وأعدلهم وأشدهم في ذات الله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وذلك بعد تفكير عميق واستشارة ونقاش مع وجوه المهاجرين والأنصار وأهل الحل والعقد منهم.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد :
(إن الصديق قد جهد في مسألة العهد جهد رأيه، وإنه كان يود أن يكل الأمر الى المسلمين يختارون من يشاءون، فجمع اليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: (قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي). فلم يستقم لهم أمر ورجعوا اليه يقولون: (إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك). فاستمهلهم حتى (ينظر لله ولدينه وعباده).
ثم استقر رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبد الرحمن بن
عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن الحضير (وجماعة من المهاجرين والأنصار فكلهم قال خيرا). وسأل علياً فقال: (إن عمر عند ظنك به ورأيك فيه، إن وليته – مع أنه كان والياً معك – نحظى برأيه ونأخذ منه فامض لما تريد ودع مخاطبة الرجل فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير)([19]).
ودخل عليه طلحة فقال: (ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد نرى غلظته؟) وكان أبو بكر مضطجعاً من شدة المرض فقال: (أقعدوني) فلما أقعدوه قال: (أبالله تخوفني ! أقول: اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك. أبلغ عني ما قلت من رواءك).
وأجمع على الفاروق جميع من استشارهم الصديق، سوى أنهم ذكروا أن فيه غلظة فأجابهم أبو بكر بالرأي السديد.
سأل عنه عبد الرحمن بن عوف فقال: (ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني). فقال أبو بكر: (وإن).
فقال عبد الرحمن:
(هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة)
قال أبو بكر:
(ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر اليه لترك كثيراً مما هو
فيه. ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه. وإذا لنت أراني الشدة عليه). ثم قال: (أكتم هذا).
ثم استدعى عثمان فقال:
(اللهم علمي به أنّ سريرته خير من علانيته وأنْ ليس منا مثله).
وقال أسيد بن حضير:
(اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط. الذي يُسر خير من الذي يُعلن. ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه).
ثم بعد أن استقر الأمر وأجمع الرأي على عمر دعاه فأفضى إليه بوصيته فلما خرج من عنده رفع يديه وقال:
(اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به. واجتهدت لهم رأياً فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم. وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم  بيدك. أصلح اللهم ولاتهم واجعله من خلفائك الراشدين واصلح له رعيته).
يقول رفيق العظم تعليقاً على هذه الوصية:
(وفي كلامه هذا ما يؤيد قولنا السابق أن أبا بكر إنما اختار للخلافة بعده عمر رضي الله عنه ولم يتركها شورى خوفاً من الفتنة وثقة بكفاءته وسداً لذرائع النزاع من جهة، ومن جهة ثانية علماً منه بمكانة عمر من السياسة وأنه لا يحيد بالأمة عن سبيل الخشونة والقناعة بالكفاف، ولا يترك لها عنان الخوض في غمرات النعيم الرومي والترف الفارسي فتفسد أخلاقها وتسترخي قواها وتفتر عن بث الدعوة همتها)([20]).
وقال أيضا وهو يحلل الأسباب الموضوعية التي تجعل التخوف من وقوع الفتنة أمراً وارداً في الحساب:
(اشتد على أبي بكر المرض فلم يشغله عن أمر المسلمين، ولم يثن همته عن النظر في مصلحة الأمة، وخشي - إن هو مات ولم يعهد لأحد بالخلافة - أن تكون فتنة تضطرب لها الدهماء، وتعظم اللأواء وفي القوم نفر ينتهي إليهم شرف السيادة في الجاهلية والإسلام وهم في الفضل والتقدم سواء، ولكن لكل منهم مكانة في القلوب غير مكانة من عداه، وعصبية تريده على الأمر وإن هو أباه، فإن ترك منصب الخلافة شاغراً وجعله شورى بين القوم خيف من تفرق الرأي، وتعذر تأليف القلوب على واحد من أولئك النفر. إذ الشورى في الأمور وإن كان يراد بها تمحيص الآراء لاختيار الأصلح منها والأصوب فيها، إلا أن صاحب الرأي مجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وفي الصحابة – كما قلنا – نفرهم في الفضل والشرف والأهلية كالحلقة المفرغة لا يدرى طرفاها، ولكل واحد منهم عصبية وحزب يريدونه على الخلافة اجتهاداً منهم بوجود الكفاية فيه كما هي في سواه.
إذن فالاختلاف متوقع حتماً بين المسلمين فيمـا لو ترك أبو بكـر
منصب الخلافة شاغراً. والمعذرة قائمة للصحابة في هذا الاختلاف ما دام فيهم عدة من ذوي الكفاءة، وأخصهم أهل بيعة الرضوان من السابقين كما أنها قائمة لأبي بكر أيضاً في عدم تركه الأمر شورى والحال ما ذكر درءاً لخطر ذلك الاختلاف المتوقع من بين قوم هو أبصر بهم وأدرى بأخلاقهم.
وإنما نظر أبو بكر فيمن يختار لذلك المنصب الرفيع شأنه الحرِج موقعه فرأى أنه يحتاج الى رجل فيه شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف. وممن توفرت فيهم هذه الصفة من الصحابة الكرام عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب. إلا أن الأول كان ربما يريد الأمر فيرى في طريقه عقبة فيدور اليه، والثاني يرى الاستقامة فلا يبالي بالعقبة تقوم بين يديه فهو بهذا الى الشدة أميَل منه الى اللين.
لهذا لما استشار أبو بكر الصحابة فيمن يستخلفه أشاروا عليه بعمر … ثم دعا عثمان فقال: اكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب).
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوماً فبايع الناس ورضوا به. ثم دعا بعمر خالياً فأوصاه ما أوصاه)([21])
وتأمل قوله: (في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر). أي إني في حال لا يمكن أن يكون في اختياري لمن يخلفني هوى أو ميل شخصي مجرد لأني لن انتفع منه بشيء إذ أنا ميت وشيكا.
وصدق الصديق ! إذ لو كان اختياره عن هوى وعدم مراعاة مرضاة الرب والنصح للدين والمسلمين لكان اختار واحداً من أبنائه أو أحد أقربائه.
وأصاب الصديق في هذا الاختيار عين الصواب وكان موفقاً تمام التوفيق. ولم يخلف الفاروق ظنه. لقد وطد أركان الدولة ووسع رقعتها وعصف بالفرس والروم ونشر رسالة الإسلام في أصقاع الأرض، ولم يكن في عهده أدنى تململ لفتنة. بل كانت الأمة في خير حال. لقد (أقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه)([22]) (لقد قوم الأود وداوى العمد. خلف الفتنة وأقام السنة ذهب نقي الثوب قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرها أدى الى الله طاعته واتقاه بحقه).([23])
وكان الفاروق وولايته على الأمة حسنة من حسنات الصديق وهو القائل: ليوم وليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر. ثم ذكر أن اليوم هو يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والليلة ليلة الغار.
 
 
مسـك الختـام
 
يقول رفيق العظم:
(وأجمع الرواة أن أبا بكر لما قبض ارتجت المدينة ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
وجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه باكياً مسرعاً حتى وقف بالباب وهو يقول: (رحمك الله يا أبا بكر كنت والله أول القوم إسلاماً وأخلقهم إيمانا وأشدهم يقيناً وأعظمهم غنى وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدبهم على الإسلام وأحماهم عن أهله وأنسبهم برسول الله خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً.
صدقت رسول الله حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا. وسماك الله في كتابه صديقا فقال: }والذي جاء بالصدق وصدق به { يريد محمداً ويريدك.
كنت والله للإسلام حصناً وللكافرين ناكباً.
لم تضلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف.
كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضعيفاً في بدنك قوياً في دينك متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله. جليلاً في الأرض كبيراً عند المسلمين.
لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى. فالضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له. والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه.
فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك).([24])
وكان علي رضي الله عنه إذا ذكر عنده أبو بكر يقول: هو السباق والذي نفسي بيده ما استبقنا الى خير قط الا سبقنا اليه أبو بكر.
و(إن أحسن وصف يمثل أبا بكر بفضائله وأخلاقه لا يدع في النفس حاجة الى المزيد، ما وصفته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخطبة وجيزة العبارة عظيمة المعنى جامعة لشمائل أبي بكر وأخلاقه. وإذا أتيت بشيء من ذكر فضائله ومناقبه فإنما يكون تفصيلاً لما أجملت وشرحا لما أوجزت.
فقد روي أنه بلغها أن أناساً يتناولون من أبيها فأرسلت اليهم فلما حضروا قالت:
(أبي ما أبِيَهْ لا تعطوه([25]) الأيدي، ذاك والله حصن منيف وظل مديد. أنجح إذ أكديتم([26]) ، وسبق إذ ونيتم([27]) سبق الجواد إذا استولى على الأمد([28]).
فتى قريش ناشئا وكهفها كهلاً.
يريش مملقها ويفك عانيها ويرأب صدعها ويلم شعثها حتـى حليته
قلوبها.
واستشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيي فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ([29])الجوانح، شجي النشيج([30]) فانصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به و(الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).
فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قُسيَّها وفَوّقت اليها سهامها فانتثلوه غرضاً([31]) فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه([32]) حتى إذا ضرب الدين بجرانه وأرست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجاً ومن كل فرقة ارسالا واشتاتا اختار الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما عنده فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب الشيطان رواقه وشد طُنُبه ونصب حبائله وأجلب بخيله ورجله وألقى بركه. واضطرب حبل الدين والإسلام وحرج عهده وماج أهله وعاد مبرمه أنكاثاً. وبغي الغوائل وظن رجال أن قد اكثبت أطماعهم نُهزها([33]) ولات حين الذي يرجون. وأنى والصديق بين أظهرهم!! فقام حاسراً مشمراً قد رفع حاشيتيه وجمع قطريه فرد نشـر الدين علـى غره([34])، ولم شعثه بطيه وأقام أوده بثقافه[35] فابذعرَّ[36] النفاق بوطأته وانتاش الدين فنعشه. فلما أراح الحق على أهله وأقر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها وحضرته منيته سد ثلمته بشقيقه في المرحمة ونظيره في السيرة والمعدلة. ذاك ابن الخطاب، لله أم حملت به ودرت عليه. لقد أوحدت به[37] ففنخ[38] الكفرة وديَّخها، وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها[39] فقاءت أكلها ولفظت خبئها ترأمه[40] ويصد عنها، وتصدى له ويأباها . ثم وزع فيئها فيها وتركها كما صحبها فأروني ماذا تريبون ؟ وأي يوميْ أبي تنقمون؟
أيوم إقامته إذ عدل فيكم ؟ أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم)([41]).
(وفي هذا الثناء كفاية إذا عمدنا إلى الثناء الذي قاله فيه عارفوه.
ولكننا في أمر أبي بكر وأمثاله نستطيع أن نتجاوز الثناء إلى مقالة
الأعداء الألداء ونحن آمنون أن نسمع فيه ما يغض من فضله وينقص شيئاً من حقه. إذ ليس على عظيم من العظماء غضاضة أن يختلف فيه مختلفون،وأن يتأول أعماله متأولون. فكل عظيم من عظماء الدنيا قيل له وقيل عليه، وحسنت نيات قوم نحوه وساءت نيات آخرين فليس هذا بضائره، وليس هذا بعجيب. وإنما الميزان العادل في الحكم له أن عليه دليل القائل وليس مقال القائل. فلمن شاء أن يزعم ما يشاء فيمن يشاء ولكنه لا يوضع في الميزان إلا بدليل تؤيده الوقائع والأعمال. فهذا الذي يحسب من مقال القائلين ومن لاف المختلفين.
فليست فضيلة أبي بكر أنه ظفر من الناس جميعاً بالثناء الذي لا معقب عليه إذ ليس هذا بممكن وليس هذا بمعقول ولا بمطلوب.
وإنما فضيلته أنه قد ظفر بالثناء ممن في ثنائه صدق ولثنائه قيمة. وأن اختلاف المخالفين لم يقم قط على دليل ولم يأت قط من أناس يحسنون ما يقولون!)
 
أكثــر من أمين
(وكل حكم على أبي بكر مؤيد بدليل معتمد على واقع، فهو مصور له في صورة عامة واحدة لا شك فيها، وهي صورة أمين، وأكثر من أمين لأنه لم يتهم قط بخيانة في الجاهلية أو الإسلام.
وأكثر من الأمين. لان الأمين هو الذي يعطي حق غيره. فأما الذي يعطي الأمانة ويزيد عليها، أو يعطي حق غيره ويعطي من حقه الذي لا يطلب منه، فذلك هو المفضل الذي جاوز قدر الأمانة فهو أكثر من أمين.
وكان أبو بكر يؤدي الأمانات في الجاهلية ويزيد عليها من عنده فضل المفضل وإحسان المحسن وإغاثة المغيث.
ثم تسلم الأمانة الكبرى بعد الخلافة فترك الدنيا وقد أداها كمـا هي وزاد عليها.
ولسنا مغالين في المجاز حين نقول: إنه صنع مثل ذلك في أمانة الخَلق أو أمانة الحياة فمات خيراً مما وُلِد. ونشأ ضعيفاً في بدنه كما قال رسول الله فإذا هو يستمد من قوة باطنه لقوة ظاهره ويلقي من مروءته على مرآه حتى أنشأ من نفسه ما لم ينشأ من بدنه، وبلغ من المهابة بالقوة التي زادها على تكوينه الظاهر فوق ما يؤتاه أمثاله في أمثال هذا التكوين.
للناس أن يعطوه وهم على ثقة أن يستردوا ما أعطوه وزيادة.
وللحياة أن تعطيه وهي على ثقة ألا ينقص عطاؤها وألا يزال معه في ازدياد.
على كل أمانة عنده كائناً ما كان معطيها حق مصون ومزيد مضمون !
صورته المجملة أنه الأمين وأكثر من الأمين !!
الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال. والأمين في الإيمان.
ثم هو في كل أولئك أكثر من الأمين.
عصمته العواصم من فتنة الغواية فولد كريماً تعنيه العزة بين الأقوياء ولا يعنيه الطغيان على الضعفاء.
وكبر وليس له مأرب في سيادة باغية ولا في صولة دائمة على من لا يريدها ولا يطمئن إليها.
وكبر في تكوينه حدة  الشعور، وحماسة اليقين، وسليقة الإعجاب، وعصمة المروءة والوقار.
وكبر وكل فضيلة فيه تكبر إلى آمادها، فلما مات كان أكبر ما كان، وأكبر ما يتأتى أن يكون !
مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام فكان الثاني حقاً بعد النبي عليه السلام في كل شيء:
من قبول الإسلام، إلى ولاية أمر الإسلام إلى تجديد دعوة الإسلام بعد أن نقضت الردة دعوته الأولى وأوشكت أن ترجع بها إلى الجاهلية الجهلاء.
ثاني اثنين وأول مقتد وأول مجيب.
ذلك موضعه في تلك الدعوة الإنسانية التي نشأت في أمة واحدة ثم غيرت ما بعدها في جميع الأمم. سواء منها من علم بها ومن لم يعلم وهي دعوة صديقه وصفيه ونبيه صلوات الله عليه.
قيل إنه مات بالسم في أكلة أكلها قبل عام من وفاته. وليس لهذا القول مرجع يميل الباحث إلى تصديقه.
وقيل إنه مات بالحمى … وانتهت حياة بلغت نهايتها في حيز الجسد، وفي حيز المجد، وفي حيز التاريخ) ([42]).
 
وأخيــــراً..
فليعلم الباحثون عن الحقيقة..
أن أصول الدين لها طريقها الرباني اللاحب..
وصراطها الواضح المستقيم.
إنها – اختصار جامع مانع - آيات قرآنية.. صريحة جلية.
ليس غير.
ولعلني في الصفحات التي خلت قد أودعت ما يجلِّي هذه الحقيقة الكبرى، بالدليل التطبيقي الذي يجد من خلاله الباحث المنصف أن (الإمامة) لا يصح شرعاً أن تثبت بسلوك غير هذا الطريق، وإلا فإن كل من أراد استطاع أن يثبت ما شاء من (الأئمة) –وهو الواقع- لانعدام الضابط الجامع المانع. وعلى هذا الأساس يكون من السهل جداً إثبات (إمامة) أبي بكر الصديق وبالمعنى الشيعي للإمامة، بل معها إثبات أنه أحق بها من أبي الحسن؛ فإن الآيات التي نزلت في حقه أصرح وأوضح، وأخص وأقوى. أما الأحاديث فأقل ما يقال فيها أنه ما من حديث أو رواية هنا، إلا ويوجد ما هو خير منها أو مثلها هناك! والسجال فيها ليس له حدود. وأما الآراء والعقليات فهي البحر الذي لا ساحل له. ولكن يبقى عندنا ما لا يمكن دفعه، أو الإغماض عن مقتضاه بشرط أن يكون الباحث سليماً لا يعاني من عقدة (العصمة) الشيعية، أو عقدة (التقديس) السنية- ألا وهو الإنجازات.
إن إنجازات الصديق لا يقاس بها إنجازات غيره من الصحابة..
وحين نقارن بين أبي بكر وعلي من هذه الناحية نجد الفرق كبيراً بينهما. ولن نستطيع ردم الهوة الحاصلة إلا بالتعلل والمعاذير، وإلقاء التبعة على الظروف، والدوران خارج نطاق الذات. من مثل هذه الحكاية المشتهرة: (جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: لقد كنا في زمن أبي بكر وعمر في أمن وعافية، حتى إذا جئت أنت وعثمان حلت الفتن! فأجابه أمير المؤمنين: هذا لأنه حين كان أبو بكر وعمر أمراء كنت أنا وعثمان الرعية. وحين صرت أنا وعثمان أمراء صرت أنت وأمثالك الرعية). ولا أرى هذا إلا من ترقيع المتأخرين الذين لا يهمهم أن يخرجوا بالتاريخ عن سياقه الموضوعي، ويصعب عليهم أن ينظروا إلى الأحداث بغير عين العاطفة؛ فإن معاوية رضي الله عنه حين صار أميراً – والرعية هي الرعية - انتظم عقدها بعد انفراط ، ولم يكن فيها عثمان ولا علي، بل كان فيها (هذا وأمثاله). علماً أن عثمان حين كان أميراً كان في الرعية علي وعبد الرحمن، وسعد وسعيد، وطلحة والزبير! فلماذا لم يقفوا تدهور الأمور، ويأخذوا على يد (هذا وأمثاله)؟!
من طريف ما قصه عليَّ معمم شيعي أن أحدهم جاءه يريد منه إعانته في الجواب على سؤال عن إنجازات كل واحد من الخلفاء الراشدين؟ وكان هذا أحد الأسئلة المطلوب الجواب عنها في إحدى (الدورات الإيمانية) أيام العهد السابق. يقول: فقلت له وبكل ثقة: بسيطة.. اكتب. وصرت أملي عليه وبسرعة:
أولاً إنجازات أبي بكر الصديق:
1. القضاء على المرتديـن
2. توحيد الجزيرة العربية
3. جمع القرآن
4. …إلخ.
ثانياً إنجازات عمر بن الخطاب:
 1. تحرير العراق
 2. إسقاط دولة فارس
 3. تحرير بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا
 4. تدوين الدواوين 5. …إلخ.
ثالثاً إنجازات عثمان بن عفان:
1. جمع القرآن
2. فتح أذربيجان
3. بناء أول أسطول بحري إسلامي
4. …إلخ.
 رابعاً إنجازات علي بن أبي طالب: .. يقول صاحبي: وفوجئت أنني أتوقف هنا ! ولم أتمكن من أن أستحضر شيئاً بالسرعة نفسها، وصرت أجرجر بالحروف والكلمات أداري حيرتي!. وكنت أفكر بسرعة البرق: ماذا أقول؟ معركة الجمل؟ معركة صفين؟! هل هذه إنجازات؟ أم كوارث؟! فتح.. فتح..؟ فتح ماذا؟! يقول: وأُحرجت إحراجاً شديداً! ثم تداركت الأمر بأن ذكرت قتال الخوارج، ورجعت إلى الوراء فذكرت إسلامه، وموقفه في الهجرة وأشياء أخرى خارج دائرة السؤال لأنها قبل الخلافة، ولكن ذكرتها تمشية للحال، وتخلصاً من الإحراج!.
هذه حقيقة.
وليس في هذا تنقص من أحد؛ فالحقيقة لا تنال من منازل العظماء.
وإنما يخافها الصغار والمعوقون. وليس في أصحاب رسول الله معوق، ولا صغير.
وليس يعني هذا أنه لم تكن لأبي الحسن ذلك الصحابي الجليل من مآثر وفضائل. كلا.. فمآثره كثيرة، وجهوده وسوابقه عظيمة.
ولكن عند المقارنة بمن هو أعظم يبدو الفرق. أقول هذا وأنا أعلم أنه ثقيل على بعض الأسماع التي تعاني من عقدة (التقديس) – عند أهل السنة - أو (العصمة) – عند الشيعة -. فإلى متى نتحدث في الزوايا؟ وقد بلغ الاستهزاء بعظماء الصحابة عنان السماء! لقد أكل الصمت شفاهنا، وذوّب حناجرنا (حذراً من "الفتنة") كما يقولون، والله تعالى يقول: (ألا في الفتنة سقطوا)! وما أدراك؟ لعل في النطق شفاءً مما يعانون؛ فقد جربنا (وصفة) الصمت فما زادتهم إلا خبالاً، ولم تزدنا إلا وبالاً ! فدعونا نخرج من هذا القمقم! فما أفلح محصور قط . وأرض
الله واسعة؛ فلا داعي لهذا الضيق والتضييق. وقد قال الحكماء من قبل: هي كلمة، إن قلتها متَّ، وإن لم تقلها متَّ؛ فقلها ومتّْ.
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على نبينا محمد.. وعلى آله أصحابه وأتباعه أجمعين.
 
 
اللطيفيــة
18 ذي القعـدة 1421
12 شباط 2001
 
 
المصادر
(بعد القرآن العظيم)
 
1.   الصحيح الجامع ، محمد بن إسماعيل البخاري ، دار القلم ، بيروت 1987م.
2.   صحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج النيسابوري ، دار إحياء الكتب العربية ، 1985م.
3.   سنن أبي داود ، سليمان بن الأشعث السجستاني ، المكتبة العصرية ، بيروت.
4.   سنن الترمذي ، محمد بن عيسى الترمذي ، المكتبة الإسلامية ، 1983م.
5.   مسند أحمد ، أحمد بن حنبل الشيباني ، المكتب الإسلامي ، 1985م.
6.   أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، د.نزار الحديثي و د.خالد جاسم الجنابي ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1989م.
7.    الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق ، الدكتور محمد علي محمد الصلابي ، دار ابن كثير ، دمشق - بيروت 1424هـ ، 2003م.
8.   أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة ، رفيق العظم.
9.   عبقرية الصديق ، عباس محمود العقاد ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الرابعة عشرة.
10.  الحجج الدامغات لنقض كتاب المراجعات ، أبو مريم الأعظمي.
11.  التفسير الكبير ، محمد بن عمر الرازي.
12.  أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن ، أيمن عبد العزيز جبر.
13.  الرزية في القصيدة الأزرية ، الأستاذ محمود الملاح.
14.  نهج البلاغة ، الشريف الرضي ، شرح محمد عبدة ، دمشق.
15.  شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، مكتبة المرعشي ، قم ، 1404هـ.ق.
16.  الأصول من الكافي ، محمد بن يعقوب الكليني ، مكتبة الصدوق ، طهران ، 1381هـ.
 
 
محتويات الكتاب
 

المقدمة
 
 
تمهيد
 
  
أحقية الصديق بمنصب الإمامة
إجماع المهاجرين والأنصارعلى بيعة الصديق
خصائص الصديق
أ. أول الناس إسلاماً
ب. الآيات التي نزلت في حق الصديق
آية الغــار
تجليات خصائص الصديق في آية الغار
أولاً: تفرده بلقب (صاحبه)
الفصل الأول: حقيقة هذه الصحبة
الفصل الثاني: آثار الصحبة وتجلياتها
المَعلَم الأول: تجلي آثار الصحبة في علم الصديق وإيمانه
1. موقفه من الاختلاف في وفاة النبي e
2. موقفه في البيعة
3. قتال المرتدين ومانعي الزكاة
3. المَعلَم الثاني: تجلي آثار الصحبة في أخلاق الصديق وسلوكه
1. الصدق والتصديق
2. الشجاعة
 

 
 

 
 

 
3.  الإنفاق والكرم
ثانياً: تفرده بالمعية الخاصة
الفصل الأول: المعية وأنواعها
الفصل الثاني: آثار المعية وتجلياتها
معالم تجلي المعية
المعلم الأول: نيابته في الحج عن النبي e
المعلم الثاني: صلاته بالناس في مرض النبي e
المعلم الثالث: إلزامه الناس بأداء الزكاة
المعلم الرابع: البيعة المتفردة وعدم حاجتها إلى نص أو تعيين
ثالثاً: تفرده بوصف (ثاني اثنين)
تجليات (ثاني اثنين)
رابعاً: تفرده بمواساة النبي e
سورة (الليل) وآية (الأتقى)
سورة (الشرح)
آية (التفضيل) في سورة (الحديد)
آية (أولو الفضل) في سورة (النور)
آية (التصديق) في سورة (الزمر)
آية (الصادقون) في سورة (الحشر)
آية (الاستخلاف) في سورة (النور)
آية (الأعراب) في سورة (الحج)
آية (قتال المرتدين) في سورة (المائدة)
آية (الولاية) 
 
 

 
 

 
 

 
ج. ما خصه به النبي e من الفضل
القاعدة الثالثة: سياسة الصديق وإنجازاته
نظرة عامة في سياسة الصديق
خطبته الأولى
خليفة الرسول
استمرار تام لسياسة الرسول
سياسة الصديق من خلال إنجازاته
1.  القضاء على الفتن الداخلية
أ. توطيد الأوضاع في العاصمة
نبأ الوفاة وأثره على أهل المدينة
نقل السلطة وكيف تم على يد الصدّيق
ب. مواجهة حركة الخروج والارتداد في الجزيرة
اتخاذ قرار القتال
تفرد في استخراج الرأي الفقهي واتخاذ القرار العسكري
إنفاذ جيش أسامة
أبو بكر وفن إدارة الأزمة
1.   تحشيد القبائل
2.  الحرب بالرسل أو سياسة الإلهاء
3. مهاجمة بؤر الردة المتحركة
4.  الهجوم الشامل على المرتدين
تحقيق كامل الأهداف
 
 

 
 

 
 

 

الثورية والاتباع في سياسة الصديق
بين الصديق وعثمان وعلي
خليفة القائد الأعظم
شبيه إبراهيم وعيسى عليهما السلام
بين أبي بكر الصديق ويوشع بن نون
 
2. التصدي للأخطار الخارجية والجهاد لنشر الرسالة
أعظم خطة عسكرية في التاريخ
الملامح الأساسية للخطة
بين قيادة أبي بكر وبطولة علي
3.  جمع القرآن العظيم وحفظ الدستور
4.  حسم معضلة ولاية الأمر
مشاورات الصديق في تولية الفاروق
مسك الختام
أكثر من أمين
المصادر
محتويات الكتاب
 
 

 
 
 


[1] رواه مسلم.

[2] رواه الترمذي وحسَّنه وأحمد وابن ماجة.

([3]) هذا المبحث مستل من كتاب (أبو بكر الصديق رضي الله عنه ) تأليف الدكتور نزار الحديثي والدكتور خالد جاسم الجنابي ص25– ص29.

([4]) سيأتي الحديث عن دور الصديق الرائع وأدائه الحكيم في نقل السلطة.

[5] روى النسائي وأحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر . وقد صحح إسناده أحمد شاكر (1/213) رقم (133) كما جاء في كتاب (أبو بكر الصديق) لعلي محمد الصلابي ص127.

[6] أمد الفرس المرتدين في البحرين بتسعة آلاف. وكان عدد المرتدين ثلاثة آلاف والمسلمين أربعة آلاف / فتوح ابن أعثم ص47. نقلاً عن كتاب (أبو بكر الصديق) لعلي محمد الصلابي ص281.

([7]) مقتطفات من كتاب عبقرية الصديق لعباس محمود العقاد – أُنظر موضوع الصديق والدولة الإسلامية.

([8]) تأمل هذه الكلمة تجدها مصداقاً لقوله تعالى: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة:40).

([9]) المصدر نفسه.

([10]) أبو بكر الصديق رضي الله عنه - د. نزار الحديثي ، د. خالد جاسم الجنابي ص30 ص36 .

[11] أشار الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه (أبو بكر الصديق ص223-224) إلى دراسة عميقة قام بها الدكتور مهدي رزق الله أحمد في كتابه (الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة) أثبت من خلالها أن الردة (لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي، بل إن هناك قادة وقبائل وجماعات وأفراداً تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة... وأن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، وانبثوا في جميع أنحاء الجزيرة، وكانوا سنداً قوياً للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين منهم).

([12]) هو الفجاءة بن إياس لغدره ونكثه العهد إذ جاء يطلب سلاحاً ليحارب به المرتدين فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء !/ أُنظر عبقرية الصديق للعقاد .

[13] الأستاذ محمود الملاح رحمه الله تعالى كان أعرف الناس بالرافضة، وأشدهم عليهم، وأكثر من اهتم بهم وقاومهم في منتصف القرن الماضي وناقش موضوعهم مناقشة صريحة دون لف ودوران. له مؤلفات عديدة في هذا المجال منها: الرزية في القصيدة الأزرية، تاريخنا القومي، تشريح شرح نهج البلاغة وغيرها. ولا أدري ما السبب وراء نسيانه من قبل أصحابنا هذا النسيان المطبق رغم أهمية ما تركه من تراث عثرنا على بعضه مصادفة؟!. إن هذا الرجل مدرسة فكرية كبيرة تحتاج منا إلى بعث واهتمام يناسبها ويليق بما قدمه صاحبها من جهود عظيمة لم يشكر عليها إلى حد هذا اليوم.

([14]) تأمل العلاقة بينها وبين قوله تعالى على لسان نبيهصلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: }لا تحزن إن الله معنا{ .

([15]) الرزية في القصيدة الأزرية ص41-42 ، الأستاذ محمود الملاح.

([16]) نهج البلاغة 1/182.

([17]) نهج البلاغة.

([18]) لأن عياضاً حصره الروم والفرس في دومة الجندل حتى خلصه خالد.

([19]) عبقرية الصديق .

([20]) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة 136.

([21]) المصدر نفسه/133 – 134.

([22]) نهج البلاغة 4/107.

([23]) نهج البلاغة 2/222.

([24]) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة/ 138.

(2) تناوله

(3) خبتم

(4) فترتم

(5) الغاية

(1) عليل

(2) صوت البكاء

(3) أي جعلوه هدفاً لسهامهم

(4) أي استمر ولم يثنه شيء

(5) تحققت أطماعهم

(1) طيه

(2) قوم عوجه

(3) تفرق

(4) أتت به وحيداً

(5) أذل

(6) شقها

(7) تعطف عليه

([41]) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة/77 – 79 ، السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمة نساء الإسلام /229-231 لعبد الحميد طهماز ناقلاً عن صفة الصفوة.

([42]) عبقرية الصديق - عباس محمود العقاد ص185 – 188.


عدد مرات القراءة:
8090
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :