الكاتب : محمد الوزير ..
الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم
(وعليه حواشٍ لجماعة من العلماء منهم الأمير الصّنعاني)
الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير
(775-840)
رحمه الله
تقديم
فضيلة الشيخ
بكر بن عبد الله أبو زيد
إعتنى به
علي بن محمد العمران
الجزء الأول
دار عالم الفوائد - للنشر والتوزيع
تقديم
فضيلة الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وصحبه, ومن اهتدى بهديه.
أما بعد: فهذا صوت من صنعاء اليمن, ينصر السنة, ويدافع عن حملتها, ويذبّ عنهم وعنها, يدونه يراع العلامة ابن الوزير اليماني المُحلّى عند عامة من ترجمه بالإمام المجتهد: محمد بن إبراهيم بن علي القاسمي الصنعاني مدفناً. المتوفى سنة (840) –رحمه الله تعالى- يرقم سطوره في مُ جالدةٍ مع شيخه العلامة ابن أبي القاسم اليماني, المنعوت عند علماء الزيدية بمجتهد المذهب في زمانه: علي ابن محمد الهادي. المتوفى سنة (837) –رحمه الله تعالى- إذ كتب ابن أبي القاسم إلى تلميذه ابن الوزير رسالة ينصحه فيها عن ميله إلى التخلي عن مذهب الزيدية من خلال نصرته للسنة وأهلها.
وقد حوت هذه الرسالة إرجافاً في الخصام, بنفثات اعتزالية, ومحاجات عقلية, وتعسفات وعصبية, وقدحاً في الرجوع إلى الآيات القرآنية, والمرويات الأثرية, والقواعد الشرعية, في سَوْرة انفعالH إذ بهت برجل من قطره, ومن بني جلدته, وقد تتلمذ على يده, فما هي إلا لحظات, وعينه تنفتح على تلميذه وهو ينابذه في مشربه, معتصماً بالله, ديدنه الوحيان الشريفان, جاعلاً مقالات الرجال دبر أذنيه, فاستوحش الشيخ من التلميذ, وتحامق عليه, واستعلى برسالته هذه, فتسلمها التلميذ ابن الوزير, وهش لها وبش, وكرّ وفرّ, وأقبل عليها إقبال الدهر, وأبداها صرخة حق في ضجة باطل, حتى قبضها الله, ونفض التلميذ ماحثاه شيخه عليه من التحامق, ونقضها هذا التلميذ بكتاب مطول أسماه: ((العواصم والقواصم)) وهو مطبوع, ثم اعتصره مع زيادة إفادات, وإضافة مهمات في هذا الكتاب الذي بين يديك باسم ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم))-e- عنوان يلفت الأنظار, ويجذب القلوب,كيف وقد طابق اسمه مسماه لما احتواه من الذَّبِّ عن السنة, والذود عنها وعن حملتها, وكشف الشبه عنها, سنداً ومتناً, في أبحاث حديثية مسهبة, يبين فيها وجه الصواب, ويرد الشبه والاعتراض في مسائل طالما كثر فيها الجدل وطال, ومنها:
عدالة الراوي والرد على دعوى تعسر أو تعذر معرفتها, وإبطال تقديم طرق الاحتجاج العقلي على النقل المعصوم. ومبحث اتصال الراوية بكتب الجرح والتعديل, والمبحث الممتع إقامة حجج الله القاهرة على عدالة من عدّلهم الله –سبحانه- ورسوله -e- وهم صحابته –رضي الله عنهم- ونثر الحصرم في وجوه المشككة. ومبحث في التنديد بمن حصر الصحيح في الصحيحين. وآخر في النقض على من ادعى صحة مافي الكتب الستة. وتحرير طرق التصحيح والتضعيف, ومعرفة الناسخ والمنسوخ, والبحث موعباً في معترك الأقران, حول مسألة الاجتهاد والتقليد, والذب عن الأئمة الأربعة وأهل الحديث, وتقرير شرفهم, وفضيحة من تحَطَّطَ عليهم.
والتعريج على مباحث عقدية في قضايا: الجبر, والتجسيم, والتأويل... وتأصيل القول في الاعتقاد على رسم الشرع المطهر لاغير, ومنابذة علم الكلام ونصيحة أهل الإسلام بالاهتمام بالقرآن, والنهي عن الابتداع.
إلى غير ذلك من أبحاث فائقة, يتخللها من النكات, والفوائد, الخير الكثير, والروض النمير, في فنون شتى.
وإلى هذا المشمول العجاب, ترجع أهمية هذا الكتاب, وإلى أن محاورة مؤلّفه ليست نظرية, وإنما هي ميدانية في مواجهة مذهب عرفه, وارتوى منه ثم نزع إلى السنة, ثم ثاقفه المتعصبة, فأبرزت لنا هذه المنازلة: هذا الكتاب ((الروض الباسم)) وأصله: ((العواصم والقواصم)) والظاهر أن جلّ مؤلفات هذا الحبر هي في هذا الميدان, مثل: ((إيثار الحق على الخلق))–وهو مطبوع- وغيره.
لا جرم إذاً أن يسارع المصلحون إلى طبعه, وقد كان فضل السبق للشيخ محمد منير الدمشقي المتوفى سنة (1367) –رحمه الله تعالى-H إذ طبعه عام (13321), فحصلت الاستفادة منه, ورجوع أهل العلم إليه, ونقلهم منه, على مدى ما يقرب من مائة عام من تاريخ طبعه, ثم تتابعت طبعاته بعد –فجزا الله الجميع خير الجزاء وأوفاه-.
هذه إضاآت عن هذا الكتاب, وعن مؤلّفه, وعن نزوعه إلى السنة, وعن تعويل العلماء على كتابه.
وإن كتاباً بهذه المثابة لابد أن يكون أمام اهتمامات البصراء من أهل العلم وطلابهH لمتابعة طباعته وإخراجه.
وقد سمت همّة الشيخ الفاضل/ علي بن محمد عمران, إلى الإمساك بناصيته, والاعتناء بإخراجه على مجموعة نسخ خطية, فلما أحضره إليّ –تقبل الله منا ومنه- مطبوعاً في تجربته الأخيرة في نحو: (600) صفحة, ومقدمة التحقيق في نحو: (100) صفحة, وكشافاته في نحو: (150) صفحة, الجميع نحو: (850) صفحة, قرأت مقدمة التحقيق, وجملة من التعاليق, وفي مواضع من المتن, وفي فهارسه الكاشفة عن مخبآته, فتذكرت قول من مضى: ((دلّ على عاقل حسن اختياره)) وأضيف إليه: ((ودلّ على عاقل حسن عمله وإتقانه)) فقد جمع هذا الفاضل بين الحسنيين, وحاز الدّلالتينH إذ قد مشى في تحقيقه على أصول علمية نيرة, يعرف التزامه بها من كان له فضل عناية بالتحقيق, ولا أريد أن أطيل, فالعمل أمام فَوَقَةِ القراء, ومنصفيهم.
وقد عافاه الله من حشر الحواشي الطوال بلا طائل –تلك الظاهرة التي تمكن غير المختصين من استباحة حمى العلوم الشرعية-.
وله –أثابه الله- لفتات نفيسة في المقدمة, والحواشي, وقد أحسن كل الإحسان في كشافات الكتاب المصنفة على مجموعتين: ((الفهارس النظرية)) التي في وسع كل أحد عملها, و ((الفهارس العلمية)) التي لا يستطيع عملها بصفة دقيقة موعبة إلا طالب علم متمكن, ولا أحسب المحقق إلا ذلك.
وكم لإخواننا في الله علماء اليمن وطلابه من أياد بيضاء على العلم وأهله أحيوا فيها مآثر الأجداد, ووطؤا منهم على الأعقاب, فاتصل الأحفاد بالآباء والأجداد.
غفر الله لابن الوزير, ونفع الله بكتابه المسلمين, وجزى الله أخانا الشيخ علي بن محمد عمران خيراً على هذا العمل المبارك.
والحمد لله رب العالمين.
بكر بن عبد الله أبو زيد
في مصيف عام 1419
الطائف
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, من يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ[ [آل عمران:102]
]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً[ [النساء:1]
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً[ [الأحزاب:70-71]
أما بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد e, وشرّ الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة, وكل ضلالة في النار.
فلا زال حرّاس الشريعة, وأمناء الملة في جلاد وجدال دائبين, مع كل ظالم لنفسه ومعتد على غيره, من مبتدع ضالّ مستدرك على الدين, أو جائر باغ معطل لأحكام الشرع القويم, تارة بالحجة والبرهان, وأخرى بالقوة والسلطان, بحسب وجود المقتضي وزوال المانع, فكم لهم في هذا السبيل من فضائل منشورة ومواقف مشهورة!!.
وهذا من حفظ الدين وتبليغه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ((فالمرصدُونَ للعلم, عليهم للأمة حفظ الدين وتبليغه, فإذا لم يبلغوهم علم الدين, أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين, ولهذا قال تعالى: ]إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ[ [البقرة:159], فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها, فلعنهم اللاعنون حتى البهائم))([1]) اهـ.
وكتابنا هذا كتاب ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم))e أحد ثمرات تلك المهمة الجهادية, فقد تصدى المؤلف –رحمه الله تعالى- لتلك الهجمة الشرسة التي شنّها أعداء السنن, وأنصار البدع, ودعاة التقليد, اللذين فضلوا منطق اليونان على آيات القرآن, وذمّوا صحابة الرسول الفضلاء, ومن بعدهم من أكابر العلماء.
فتصدّى ابن الوزير لذلك كلهH فرفع السنن, ونصر الحديث وأهله, ودعا إلى الاجتهاد, وحث على طلب العلوم الشرعية ورغّب فيها وجعل عمادها الكتاب, والسنة النبوية, والآثار الصحابية, وذبّ عن هداة الأنام, وليوث الصّدام: صحابة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام, ومن بعدهم من علماء الإسلام.
وجهاد المؤلف –رحمه الله- هو من أفضل الجهاد, لأنّ من أفضله قول الحق مع شدة المعارض, كالذي يتكلم عند من يخاف سطوته وأذاه([2]), وهكذا كان المؤلف–رحمه الله- في تلك البلاد وفي ذلك الزمان متفرداً بالدعوة إلى الطريقة السنيّة, فخالف أهله وأهل بلده ومذهبه([3]), فتناولته الألسنة البذيّة من أعداء السنة النبوية, ورموه عن قوس واحدة, فصاولهم وصاولوه, وجالدهم وجالدوه, إلا أنه احتسب ذلك كله جهاداً في الله, ((فلم تفزعه فيه ظلل الوشيج, ولم يجزعه فيه ارتفاع النشيجH مواقف حروب باشرها, وطوائف ضروب عاشرها, وأصناف خصوم لدّ اقتحم معها الغمرات, وواكلها مختلف الثمرات, وقطع جدالها قويّ لسانه, وجلادها شبا سنانه, قام بها وصابرها, بُلي بأصاغرها, وقاسا أكابرها, وأهل بدع قام في دفاعها, وجاهد في حطّ يفاعها, ومخالفة ملل بيّن لها خطأ التأويل, وسقم التعليل, وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل حتّى ناموا في مراقد الخضوع, وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع, بأدلة أقطع من السيوف, وأجمع من السجوف, وأجلى من فلق الصّباح, وأجلب من فلق الرّماح:
إذا وثبت فـي وجه خطب تـمـزّقت
على كتفيه الدّرع وانتثر السّرد))([4]).
وقد كان المؤلف ابتدأ جوابه بكتابه الموسوعي العظيم ((العواصم والقواصم)), ثم اختصره واعتصره في هذا الكتاب, فرتّب وهذّب, وقدّم وأخّر, وأتى من الحجج بأقواها, ومن اللوازم بما يلزم, ومن الاعتراض بما يُفحم, وزاد مع ذلك كله فوائد وقواعد وفرائد لا وجود لها في ((الأصل)) فأضحى كتاباً برأسه([5]) .
وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع طبعات عدة –يأتي التعريف بها- وقد مضى على طبعته الأولى قرابة المئة عام, غير أن تلك الطبعات قد امتلأت بالتحريفات والسقط, مع عدم الوفاء بما تتطلبه مهمة التحقيق من أمور علمية وفنية, فانعقد العزم على تحقيق هذا الكتاب والعناية به, والله أسأل أن يكتب لي أجره إنه خير مسئول.
وقدّمت أموراً قبل تحقيقه هي:
1-ترجمة المؤلف: ((لحفيد أخيه: محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (897هـ))).
وصدّرت هذه الترجمة بمقدمة المحت فيها إلى أهمية دراسة شخصية ابن الوزير دراسة موعبة, وما حصل من تقصير في ترجمته من المتقدمين والمتأخرين والمحدّثين. ثم عرّفت بالمؤلّف «صاحب ترجمة ابن الوزير)) وبكتابه.
2-دراسة الكتاب, وفيها:
-اسم الكتاب.
-إثبات نسبته للمؤلّف.
-تاريخ تأليفه.
-سبب تأليفه.
-موارده.
-الثناء على الكتاب, وعكسه.
-علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة والامتياز بينهما.
-غرضه منه, ومنهجه فيه.
-تنبيهات على أمور لها تعلّق بالمنهج.
-طبعات الكتاب.
-مخطوطات الكتاب, ونماذج منها.
-عملي في الكتاب.
ثمّ ألحقت الكتاب بفهارس نظرية وعلمية, وهي:
1- كشاف الآيات القرآنية.
2- كشاف الأحاديث والآثار.
3- كشاف الشعر.
4- كشاف الكتب الواردة في المتن.
5- كشاف الأعلام.
6- كشاف موضوعات الكتاب على الفنون.
7- كشاف الفوائد واللطائف.
8- كشاف المصادر والمراجع.
9- كشاف الموضوعات.
كتب/ عليّ بن محمد العمران
19/ 3/ 1419
في مكة المكرمة –حرسها الله-
أولاً: ترجمة المؤلّف
تمهيد
إن علماً كإبن الوزير –رحمه الله- لم يستوف حقّه من الدراسة الواعية الشاملة لجوانب حياته وآثاره!! تلك الدراسة القائمة على السّبر والاستقصاء والتتبّع. هذا رغم مالهذا الإمام من أهمية عظمى في التغيّرات الفكرية والعقدية في اليمن, فإنه وقف بقوّة وصلابة أمام الامتداد الزّيدي المعتزليّ, ناقضاً لمبانيه, داحضاً لشبهاته ومباغيه.
وتكمن أهميّة دراسة هذه الشخصيّة في جانبين:
أولهما: في تلك الثروة العلمية التي خلّفها, حيث جمع بين العلوم النقلية, والعلوم العقلية –وقلّما يجتمعان-!!
أما العلوم النقليّةH فهذا الفنّ هو الذي أعجز الخصوم, إذ لا عناية بهم به, بل هم من أبعد الفرق عن الاعتناء بعلوم الحديث تدريساً وتصنيفاً([6]), وقد اعترفوا له بذلك. فقد ((حُكي عن السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الأزرقي أنّه قال: لا يبلغ أحد في زماننا هذا من الاجتهاد ما بلغ إليه السيّد عز الدين محمد بن إبراهيم, وقد أحسنّا كل شيء إلا ما بلغ إليه, فلم نقدر عليه, لتمكّنه من معرفة الحديث ورجاله, وتبحّره في السمعيات))([7]) .
وهو كما قال, فقد وصفه بالحفظ جماعة من العلماء واعترفوا له بذلكH كالنفيس العلوي (شيخه), والهادي الوزير, والصنعاني, والشوكاني. والناظر في كتبه([8]) يجده واسع الحفظ([9]), غزير الإطلاع, فهو يسرد في المسألة الواحدة أزيد من مئتي حديث مستحضراً لتراجم الرواة, وما قيل فيهم, وله اختيارات وترجيحات وعبارات تدلّ على تمكنه من هذا الفنّ, وله كلام على دقائق علوم الاصطلاح, والجرح والتعديل([10]) , وهو بكتب الحافظ الذهبي أشدّ عناية, بل يكاد يستظهرها خصوصاً ((النبلاء)) و ((الميزان))([11]) .
أما العلوم العقليّة([12])H فقد بلغ منها الذروة العليا, بل هو جذيلها المحكّك, وعذيقها المرجّب, ((شهد له بذلك جميع أهل الزّمان, من الأقارب والأباعد, والمخالف له في الاعتقاد والمساعد))([13]) .
ولا عجب –أيضاً-H لأن هذه الفنون هي التي أفنى فيها ابن الوزير عنفوان شبابه, وزهرة أيّامه, إلا أنه لم يقف منها موقف العاجز المسلّم, بل فحص وحقّق, وبحث ودقّق, حتى اتضحت له مناهج الصوب فسلكها, وانكشفت له سبل الباطل فزيّفها وردّها([14]) , وذلك بعد رجوعه إلى الكتاب والسنة, فقد وجد فيهما الشّفاء كلّه: دقّه وجلّه.
قال ابن الوزير([15]) –رحمه الله-: ((فإني ما زلت مشغوفاً بدرك الحقائق, مشغولاً بطلب المعارف, مؤثراً الطلب لملازمة الأكابر, ومطالعة الدفاتر, والبحث عن حقائق مذاهب المخالفين, والتفتيش عن تلخيص أعذار الغالطين, محسّناً في ذلك للنيّة, متحريّاً فيه لطريق السويّة, متضرّعاً إلى الله تضرّع مضطر محتار, غريق في بحار الأنظار, طريح في مهاوي الأفكار, قد وهبت أيام شبابي ولذّاتي, وزمان اكتسابي ونشاطي, لكدورة علم الكلام والجدال, والنظر في مقالات أهل الضلال, حتى عرفت صحّة قول من قال:
لقد طفت في تلك الـمعالم كلها
|
|
وسـيّرت طرفي بين تلك المعالم
|
فلم أر إلا واضـــعاً كفّ حائر
|
|
على ذقن أو قارعاً سنّ نادم([16])
|
وسبب([17]) إيثاري لذلك, وســلوكي تلك المســالك: أنّ أول ما قرع سمعي, ورسخ في طبعي: وجوب النّظر, والقول بأنّ من قلد في الاعتقاد فقد كفر, فاستغرقت في ذلك حدّة نظري, وباكورة عمري, وما زلت أرى كلّ فرقة من المتكلمين تداوي أقوالاً مريضة, وتقوّي أجنحة مهيضة, فلم أحصل على طائل, وتمثلت بقول القائل:
كــــلٌّ يداوي سقيماً من مقالته
|
|
فـمـن لـنـا بصحيح ما به سقم
|
فرجعت إلى كتاب الله, وسنة رسول الله e, وقلت: لا بدّ أن يكون فيها براهين وردود على مخالفي الإسلام, وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
فتدبّرت ذلك, فوجدت الشّفاء كلّه, دقّه وجلّه, وانشرح صدري, وصلح أمري, وزال ما كنت به مبتلى, وأنشدت متمثلاً:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافر)) ا هـ.
وثانيهما: تلك المدرسة الممتدّة للفكر الإصلاحي الذي اختطه ابن الوزير –رحمه الله- في تلك المنطقة, متمثلاً ذلك المنهج في نخبة من العلماء, لهم مواقف مسطورة, على تفاوت بينهمH فمن مقلّ ومستكثر, ومنهم:
-القاضي محمد بن محمد بن داود النهمي, رفيق ابن الوزير في الطلب.
-الحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن صلاح الجلال (1084هـ).
-محمد بن علي بن قيس([18]) (1096هـ).
-يحيى بن الحسين بن القاسم (1100هـ).
-صالح بن مهدي المقبلي (1108هـ).
-محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1182هـ), وهو وارث علوم ابن الوزير, وشارح كتبه([19]) .
-محمد بن علي الشوكاني (1250هـ).
-محمد بن عبد الملك الآنسيّ (1316هـ).
-أحمد بن عبد الله الجنداري (1337هـ).
-عبد الله بن محمد العيزري (1364هـ).
-حسين بن أحمد بن قاسم الخوثي (1386هـ).
((وإذا كان الإصلاح (الذي اختطه الرائد) يسير ببطءH فما هو المتسبّب, وإنما ذلك لطبيعة الزمان والمكان, وضعف المقتضيات, وقوة الموانع, وحسبه أن حرّك الخامد, وزعزع الجامد, وأجال اليد المصلحة))([20])
ومن نافلة القول أن هذه الدراسات الوصفية لهذه المدارس الفكرية, لن تؤتي أكلها, ولن تقوم على سوقها, إلا بدراسة مسبقة شاملة عن رائد تلك المدرسة, ولمّا يحصل ذلك –فيما أعلم-.
وبعدH فلم يحض ابن الوزير –رحمه الله- بالترجمة لا من معاصريه, ولا من بعدهم. أما معاصريهH فلم يترجم له أحد منهم في كتبهم المشهورة كالمقريزي (845هـ) في ((درر العقود الفريدة)), فقد ترجم فيه لمعاصريه, ولا الحافظ ابن حجر (852هـ) في ((إنباء الغمر)), وهو على شرطه([21]) , ولا العيني في ((عقد الجمان)), ولا الفاسي (832هـ) في ((العقد الثمين))([22]) , ولا ابن تغري بردي (874هـ) في ((المنهل الصافي)).
إلا ابن فهد (871هـ) فقد ترجمه ترجمة موجزة في ((معجمه)) نقل السخاوي في ((الضوء اللامع)): (6/ 272) جلّ ما فيها.
ثم ترجم له السخاوي ترجمة موجزة في ((الضوء)) جلّها من ((معجم ابن فهد)), وهذا يدل على عدم معرفته به, خاصّة أنه وهم فيها عدة أوهام!!.
ولذلك قال الشوكاني: ((وكذلك السخاوي لو وقف على (العواصم والقواصم) لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه, ولطال عنان قلمه في ترجمته, ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمّى)).
ثم قال: ((ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهـم في الزيديـة مالا مقتضى له, إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال, فإن في الديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً يجاوز الوصف يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة, ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية... ولا يرفعون إلى التقليد رأساً, لا يشوبون دينهم بشيءٍ من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها, بل هم على نمط السلف الصالح...))([23]) ا هـ.
أما أهل بلدهH فقد انتصبوا لعداوته, والطعن فيه, والترسّل عليه, لا لشيء!! إلا لأنه ((ذبّ عن السنة ودفع عن أعراض أكابر العلماء وأفاضل الأمة, وناضل أهل البدع, ونشر علم الحديث, وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلها ذلك, لا سيما في تلك الأيام))([24]) .
وكان قائد تلك الحملة: شيخه جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم (837هـ) وهو المردود عليه في هذا الكتاب –كما سيأتي مشروحاً-.
قلت: بل بُلي بمن يطعن فيه من أهل بيته([25]) !! ويقول: إنه ممن أضله الله على علم!! وهذا كما قيل:
وظلم ذوي القربى أشــدّ مــضاضـةً
على النفس من وقع الحسام المهنّد([26]).
ومن أبشع ما وقفت عليه في الكلام على المؤلف –رحمه الله- والتعصب عليه, مافاه به يحيى بن شمس الدين بن أحمد بن يحيى المرتضى (965هـ), فقد ساق القاضي الأكوع في ((هجر العلم))([27]) نقلاً عن هذا الرجل كلاماً شنيعاً مُقذعاً في حق الإمام ابن الوزير –رحمه الله- .
والشأن ما قاله الشوكاني: ((إن هذه قاعدة مطردة في كلّ عالم يتبحّر في المعارف العلمية, ويفوق أهل عصره, ويدين بالكتاب والسنة, فإنه لا بدّ أن يستنكره المقصّرون, ويقع له معهم محنة بعد محنة, ثمّ يكون أمره الأعلى, وقوله الأوْلى, ويصير له بتك الزلازل لسان صدقٍ في الآخرين, ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره....))([28]) اهـ.
أمّا من ترجم له من أهل بلده فهم:
1-تلميذه محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير (897هـ) في ترجمة مستقلة, وهي التي نشرتها هنا في مقدمة هذا الكتاب.
2-أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الوزير (985هـ). في ((تاريخ بني الوزير)) (ق/ 35ب-41ب).
3-أحمد بن صالح بن محمد بن علي بن أبي الرجال (1092هـ) في ((مطلع البدور ومجمع البحور)) (مخطوط).
4-يحيى بن الحسين بن القاسم (1100هـ) في ((طبقات الزيدية الصغرى)) (مخطوط).
5-إبراهيم بن القاسم بن المؤيد (1153هـ) في ((طبقات الزيدية الكبرى)) (مخطوط).
6-الوجيه العطّاب في ((تاريخه))([29]) .
7-الشوكاني (1250هـ) في ((البدر الطالع)) (2/ 81-93). وقال: إن ترجمته تحتمل مجلداً.
وقد ترجم له ترجمة هائلة, ونعته بعبارات ضخمة, لم يطلقها ولا مثلها على أحد ممن ترجم له في كتابه أجمع.
وغير هؤلاء......
أما المحدثينH فقد قدّم حوله عدد من الدراسات العلمية هي:
-((ابن الوزير اليمني ومنهجه الكلامي)) لرزق الحجر, طبع سنة (1404هـ).
-((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير, دراسة وتحقيق, الجزء الأول, لأحمد مصطفى حسين صالح, رسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود عام (1403هـ), وطبعت سنة (1405هـ).
-الجزء الثاني من ((الإيثار)), رسالة ماجستير بالجامعة نفسها, لمحمد بن زيد العسكر, عام (1408هـ), ولمّا تطبع.
-((ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية)), رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى, لعلي بن علي الحربي سنة (1406هـ), وطبعت سنة (1417هـ) في مجلدين.
-((منهج ابن الوزير في الحديث)) رسالة دكتوراه, بالمغرب, لأخي العزيز محمد بن عبد الله باجعمان, ولمّا تناقش بعد.
-كما أفرده أحمد العليمي بباب كامل في رسالته للماجستير ((الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار)): (ص/ 109-138), لم يقدم فيها جديداً!!.
-الإمام ابن الوزير وكتابه العواصم, للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع.
ولمّا لم أرد تكرار الجهد, واجترار المعلوماتH رأيت أن أسهم هنا بنشر ((ترجمة ابن الوزير)) لحفيد أخيه محمد بن عبد الله بن الهادي (897هـ).
وهذه ترجمته: من كتاب ((هجر العلم ومعاقله في اليمن)): (1/ 450-451).
هو: ((محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الوزير([30]) . عالم مبرز في كثير من العلوم, نسّابة شاعر أديب, وكان له خط جميل.
وقرأ على عمّ أبيه الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير. طُلب منه أن يدعو إلى نفسه بالإمامة فوافق في بداية الأمر, ثم أعرض عنها. ذكره البريهي في تاريخه المطوّل, فقال: ((إنه التزم بمذهب الزيدية, وكان وزيراً للإمام الناصر, ثم عزله, وقال: إنه أطلع على قصيدة للفقيه إبراهيم الإخفافي ينتقد فيها مذهب الزيدية, مطلعها:
مـذهـبكـم يـا أيـهـا الـزيـديــة
|
|
مــذهـب حـق جـاء للــعدلية
|
قال: ذلك تهكماً, فأجاب عليه محمد بن عبد الله الوزير بقوله:
قــصيدة فــريــدة دريـّـــــــة
|
|
رائعــــة في الـوزن والرويّـــة
|
وهي (92) بيتاً تعرّض فيها للمذهب الشافعي, فردّ عليه علي بن أبي بكر السّحولي بقصيدة سماها ((الشهب الثاقبة الدامغة للفرقة القدرية الزائغة)) وهي في (260) بيتاًH مطلعها:
* ما بالكم يا معشر الزيدية *
ثم قال البريهي: ((وله يد باقعة في علم النحو والأدب والشعر)). توفي بحدّه ليلة السبت المسفرة عن (15 شعبان 897هـ), وذكر إبراهيم بن القاسم في ((طبقاته)) أنه توفي بصنعاء وقُبر في جربة الروض. وكان مولده بصعدة سنة (810هـ) انتهى.
أما النسخة الخطية([31]): فتقع في (7) ورقات في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء, بخط لطف بن سعد السّميني([32]).
وهي نسخة جيدة ومقابلة, فرغ من نسخها في ذي القعدة سنة (1336هـ), وفي نهايتها فائدة عن ابن الوزير لمّا سافر إلى الحج.
وقد التزمت الاقتصاد في التعليق على الكتاب, إلا في الكتب, فقد ذكرت كلّ ما فات المؤلف من كتب المترجم له, مع ذكر أماكن وجودها إن وقعت لي.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أني قد حذفت جميع ما يتعلق بالتعريف بكتاب ((العواصم)) من هذه الترجمة, إذ لا تعلّق له بالترجمة, ولأن الكتاب مطبوع متداول, ولأن القاضي الأكوع قد فرّغ هذا التعريف في تقدمته للعواصم, فأغنى ذلك عن الإعادة, مع طول هذا التعريف فهو من (ق/ 1ب-4ب), والله –سبحانه- أستعين, وبه أستهدي.
ترجمة ابن الوزير –رحمه الله-
تأليف
محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير
ت (897هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ عونك
الحمد لله الذي أمرنا بحمده, وزادنا من فضله ورفده, وصلاته وسلامه على رسوله وعبده, وعلى آله وصحبه من بعده.
أما بعدH فإنّه سألني من لاح لي صدقه, وعظم عليّ حقّه من الإخوان المتّقين, ذوي الفضل والإخلاص واليقين: أن أجمع ترجمة مباركة لحيّ الوالد السيّد الإمام عزّ الدين, محيي سنة سيّد المرسلين: محمد بن إبراهيم –رحمه الله تعالى- وأضمّنها كلاماً وسيطاً, لا مختصراً ولا بسيطاً([33]), وعلى أساليب تراجم المحدثين, دون أساليب المبتدعين المحدثين؛ فأجبته إلى ذلك بقدر طاقتي وإمكاني, وحسب قدرتي وإحساني([34]) , مستعيناً بالله –سبحانه وتعالى- فأقول:
هو شيخنا وإمامنا وبركتنا وقدوتنا: السيّد السّند, الإمام العلامة الرّحلة([35]) الحجّة, السنّي الصّوفي, فريد العصر, ونادرة الدّهر, وخاتمة النّقاد, وحامل لواء الإسناد, وبقيّة أهل الاجتهاد بلا خلاف ولا عناد.
كشّـاف أصــداف الفـرائد, قطّاف أزهار الفوائد, فاتح أقفال اللطائف, مانح أثقال الظرائف([36]) , مصيب شواكل المشكلات بنواقد أنظاره, مطبق مفاصل المعضلات بصوارم أفكاره, مضحك كمائم النّكت من نوادره, مفتح نواظر الطّرف من([37]) موارده ومصادره:
عزّ الدين, محيي سنّة سيد المرسلين, أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عليّ بن المرتضى بن المفضّل الحسنيّ القاسميّ الهادوي, نسباً على السّماك عالياً, ومذهباً إلى الصواب هادياً.
كان رأساً في المعقول والمنقول, وإماماً في علمي الأصول([38]) , وله ردّ على صاحب ((النهاية))([39]) و((المحصول))([40]) في إنكار التحسين والتقبيح العقليّ, لم يسبق إلى مثله, وكذلك الردود على غيره من غلاة المعتزلة في كثير من المسائل التي عادوا فيها السّمع من نصوص كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وهي مبسوطة في كتابه الجامع الكبير الموسوم بـ ((العواصم)) فمن أراد الوقوف عليها فليطالعه موفّقاً.
[مولده]
مولده -t ورحمه– في شهر رجب الأصبّ, من شهور سنة خمـس وسـبعين وســبع مئــة بهـجـرة الظّهراوين([41]) من شظب, وهو: جبل عالٍ باليمن. هكذا نقلته من خطّه رضي الله عنه وحفظته من غيره من الأهل([42]) .
[مؤلّفاته, وبعض شعره]
وله رضي الله عنه مصنّفات عديدة, ومجموعات مفيدة, منها: كتاب ((العواصم في الذبّ عن سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم)), أربعة أجزاء مجلّدة([43]), اشتمل من الفوائد على مالم يشتمل عليه كتاب, وها أنا أذكر ما تضمّنه كل جزء منها لإرشاد الطّالب لذلك, وتنبيه الرّاغب إليه, أرشدنا الله تعالى لما يحبّ ويرضى([44]) ...
ثمّ إنه –رحمه الله تعالى- ختم كتابه([45]) بهذه الأبيات:
جمعت كتابتي راجـياً لقبولـه
|
|
من الله فالمرجـو منه قريب
|
رجوت بنصر المصطفى وحديثه
|
|
تكفّر لي يوم الحسـاب ذنوب
|
ومن يتشفع بـالحبيب مـحمد
|
|
إلى الله في أمرٍ فلـيس يخيب
|
فياحافظي علم الحديث لي اشفعوا
|
|
إلى الله فالـرب الكريم يجيب
|
لعـلّ كتابي أن يـكون مذكّراً
|
|
لـكم بالدّعا للعبد حين يغيب
|
ولا سيما بعد الممات عسى به
|
|
يبلّ غليـل أو يــكفّر حوب
|
ولا تغفلوا في أن بليت فودّكم
|
|
وإن بليت منّي العظام قشيب
|
ومهما رأيتم في كتابي قصوره
|
|
فستراً وغفراً فالقصور معيب
|
ولكنّ عذري واضح وهو أنّني
|
|
من الخلق أخطي تارة وأصيب
|
وقد ينثني الصّمصام وهو مجرّد
|
|
وينكسـر المرّان وهو صليب
|
ولـكنني أرجوه إن حلّ داركم
|
|
حلا منه ورد بالأجاج مشوب
|
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
|
|
إليكـم تـلقّى طيـبكم فطيب
|
وقال في الدّعاء إلى السنّة بعد هذه الأبيات المذكورة([46]) :
عليك بأصحاب الحديث الأفاضل
|
|
تجد عندهم كلّ الهدى والفواضل
|
إلى آخرها, وهي معروفة, تركتها اختصاراً.
ومنها:
فلا تقتــــدوا إلا بهم وتيمموا
|
|
لهم منهجاً كالقدح ليس بزائل([47])
|
ألم تر أنّ المصطفى يوم جاءه الـ
|
|
ـوليد بقول الأحـوذيّ المجادل
|
وفي هذا البيت إشارة إلى كلام الوليد بن المغيرة, أو عتبة بن ربيعة([48]) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, حين عرض عليه المال والرّياسة, ويترك دعوى النبوة, فلم يجب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بتلاوة سورة السجدة([49]) , وعلى هذا كان أصحابه –رضي الله عنهم-, ومنها:
تنكّب منهاج الـمــرا وتلاله
|
|
من السّجدة الآيات ذات الفواصل
|
ولم يـجعل القرآن غير مصدّق
|
|
إذا لم تقدمــه دروس الأوائل
|
كذا فعل الطيّار يـوم خطـابه
|
|
لأصحنةٍ([50]) بين الخصوم المقاول([51])
|
تـلا لهـم آي الكتـاب فأيقنوا
|
|
بهـا بشهادات الدّموع الهواطل
|
إلى جمل الإسلام صار أولو النّهى
|
|
وعادوا إليها بعد بُعد الـمراحل
|
أبو حامد([52]) وابن الخطيب([53]) وهكذا
|
|
الإمـام الجويني الذي لم يماثل
|
كذا ابن عقيل([54]) وهو أبرع عاقل
|
|
غدا وهو معقول كبعض العقائل
|
ومنها:
عليكم بقول المصطفى فهو عصمة
|
|
من الزّيغ إني لست عنه بعادل
|
سعدت بـذبّي عـن حماه وحبّه
|
|
كما شقيت بالصّدّ عنه عواذلي
|
فلما وقف صنوه السيد العلامة الهادي بن إبراهيم –رحمه الله- على هذا الكتاب, وعلى هذه الأبيات, تلقّى ذلك بالقبول, وقال مجيباً لأخيه, وما أحسن ما يقول!:
وقفت على سمط من الدّر فاضل
|
|
ترقّ له شوقاً قلوب الأفاضل
|
لمتبع منهاج أحـمد جـــدّه
|
|
وحامي حمى أقواله غير ناكل
|
بديع المعاني في بديـع نظامه
|
|
وثيق المباني في فنون المسائل
|
إذا لزمت يمناه نصـل يراعه
|
|
سجدن له طوعاً جباه المناضل
|
وإن خاض في بحر الكلام تزيّنت
|
|
بجوهره عنق الرّقاب العواطل
|
تبارى وقوم في الجدال فأصبحوا
|
|
وإن لججوا في علمهم في جداول
|
أسمت عيون الفكر في روض قوله
|
|
فأنشدت بيت الأبطحي([55]) المواصل
|
أعوذ بربّ النّاس من كلّ طاعنٍ
|
|
علينا بشــكّ أو ملحٍ بباطل
|
وثنّيت لمّا أن تصـفحت نظمه
|
|
بقول فصيح نابه القول فاضل
|
/ يروم أناس يلحقون بشــأوه
|
|
وأين الثّريّا من يد المتناول([56])
|
وثلّثت بالبيت الشــهير وإنّه
|
|
لدرّة عقد المفردات الكـوامل
|
وقد زادني حبّاً لنفســي أنّني
|
|
بغيض إلى كلّ امريء غير طائل
|
علام افتراق الناس في الدين إنّـه
|
|
لأمرٌ جليٌّ ظاهرٌ غير خـامل
|
علـيك بـما كان النبيّ محمّد
|
|
عليه, ودع ما شئت من قول قائل
|
هو المسلك المرضيّ والمذهب الذي
|
|
عليه مضى خير القرون الأوائل
|
فدن بالـذي دان النبيّ وصحبه
|
|
من الدّين واتـرك غيرهم في بلابل
|
هم الشّامة الغرّا وهم سادة الورى
|
|
وهم بهجة الدّنيا ونور القبائل
|
وأرفع ما تدلي به من فضائل
|
|
على الخلق أدنى مالهم من فواضل
|
إذا أنت لم تسلك مسالك رشدهم
|
|
وتمسك من أقوالهم بالوصائل
|
فقد فاتك الحظّ السنّي ولم تكن
|
|
إلى الحق في نهج السّبيل بواصل
|
رضيت بدين المصطفى ووصيّه([57])
|
|
وأصحابه أهل النّهى والفواضل
|
هم قادة الـقـادات بعــد نبيّهم
|
|
إلى مشرع الحق الرّوي([58]) السلاسل
|
إلى السنة البيضاء والملة التي
|
|
عليها مثار النّقع من كلّ صائل
|
ولكنها عزّت بـدعـوة أحمد
|
|
وقامت ببرهان من الحق فاصل
|
مؤيّدة في حــربها بـملائك
|
|
مشيّدة في أمــرها بعواسل
|
عصابة جبريل الأمين جنودها
|
|
يحفّ بها في خيلها في قنابل([59])
|
أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها
|
|
من الجـيش إلا أنّها لم تقاتل
|
ولم يعجز الـصّدّيق بعد وفاته
|
|
عن الحرب بل شاد الهدى بجحافل
|
وتابعـه الـفاروق فاشتدّ ركنه
|
|
وسار بهم في الحق سيرة عادل
|
وتمّم ذو النّورين سعياً مباركاً
|
|
وعم جميع المســلمين بنائل
|
وقـام بـأعباء الخلافة بعدهم
|
|
عليّ فأمسى الدّين راسي الكلاكل
|
عليك بهدي القوم تنج من الرّدى
|
|
وتغلو بهم في الفوز أعلى المنازل
|
وقال بعد هذه الأبيات ما لفظه: كتب هذه الأسطر الفقير إلى رحمة الله ورضوانه: الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى, أرضاه الله بعفوه حامداً لله, ومصلياً على نبيه, ومسلّماً ومرضياً على آله وأصحابه.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربّنا إنّك رءوف رحيم.
فهذا الكلام انسحب عليّ من ذكر ((العواصم)), وأردت تقييد هاتين القصيدتين في هذا الموضع, لأنّهما غرّتان في القصائد, ودرّتان في منظومات القلائد, ولنرجع إلى تعداد ما عرفت من تصانيفه –رحمه الله- فمنها:
*((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان))([60]) . كتاب مفيد, انتهى من البلاغة والغرابة إلى شأوٍ بعيد, وما أحسن قوله فيه([61]) :
منطـق الأولـيـاء والأديان
|
|
منطق الأنبيـاء والـقـرآن
|
ولأهل اللجاج عــند التّمادي
|
|
منطـق الأذكيـاء والـيونان
|
فإذا ما جمعت علـم الفريقين
|
(م)
|
فكن مــائلاً مــع الفرقان
|
وإذا ما اكـتـفـيت يوماً بعلمٍ
|
|
كان عـلـم المحدّث الربّاني
|
إنّ علم الحــديث علم رجال
|
|
ورثوا هدي نـاسـخ الأديان
|
فحصوا عـن حـديثه ورأوه
|
|
بعيون الـقـلوب رأي العيان
|
|
|
|
|
|
جمـعوا طرق مـا تواتر عنه
|
|
ورأوا بعده صحـيح المباني
|
ورووا بعده حسـان الأحاديث
|
(م)
|
ووهّوا ما دون شرط الحسان
|
فانظروا في مصنّف ابن عديّ([62]) وكـتاب ((التكميل))([63]) و((الميزان))([64])
|
تعـرفوا أنّهم قد ابتغوا الحقّ
|
|
وصـحوا مـن علة الإدهان
|
ومنها:
*كتاب ((البرهان القاطع في معرفة الصّانع وجميع ما جاءت به الشّرائع))([65]) , صنّفه في سنة إحدى وثمان مئة.
ومنها:
*((تنقيح الأنظار في علوم الآثار))([66]) وهو كتاب جليل القدر, جمع فيه علوم الحديث, وزاد ما يحتاج إليه طالب الحديث من علم أصول الفقه, وأفاد فيه التعريف لمذهب الزيدية, وهو يغني عن كتاب ((العلوم))([67]) للحاكم, صنّفه في آخر سنة ثلاث عشرة وثمان مئة.
ومنها:
*كتاب ((التأديب الملكوتي)) وهو مختصر وفيه عجائب وغرائب.
ومنها:
*كتاب ((الأمر بالعزلة في آخر الزمان))([68]) .
ومنها:
*كتاب ((قبول البشرى في تيسير اليسرى))([69]) .
ومنها:
*كتاب ((نصر الأعيان على شر العميان)). قال فيه ما لفظه:
((وقد ولع بعض أهل الجهل والغرّة بإنشاد الأبيات المنسوبة/ إلى ضرير المعرّة, وهي أحقر من أن تسطر, وأهون من أن تذكر, ولم يشعر هذا المسكين أنّ قائلها أراد بها القدح في الإسلام من الرّأس, وهدم الفروع بهدم الأساس. وليس فيها أثارة من علم فيستفاد بيانها, ولا إشارة إلى شبهة فيوضح بطلانها, وإنما سلك قائلها فيها مسلك سفهاء الفاسقين, والزنادقة المارقين, وما لا يعجز عن مثله الأراذل من ذم الأفاضل, بتقبيح مالهم من الحسنات وتسميتها بالأسماء المستقبحات, تارة ببعض الشبهات, وتارة بمجرّد التهويل في العبارات, كما فعل صاحب الأبيات.
وصدّر الكتاب المذكور بهذه الأبيات:
ما شأن من لم يـدر بالإسلام
|
|
والخوض في متشابه الأحكام
|
لو كنت تدري ما دروا مافاه بالـ
|
|
ـعوراء([70]) فوك ولا صمت صمام
|
لكن جمعت إلى عماك تعامياً
|
|
وعـمومة فجمعت كلّ ظلام
|
فاخسأ فمـا لك بالعلوم دراية
|
|
القول فـيهـا ما تقول حذام
|
مـا أذكر العميان للأعيان بل
|
|
ما أذكر الأنـعــام للأعلام
|
وإذا سخرت بهم فليس بضائر
|
|
أن هرّ كـلب في بدور تمام
|
من لم يـكن لـلأنبياء معظّماً
|
|
لـم يـدر قـدر أئمة الإسلام
|
لـم تـدر تغلب وائل أهجوتها
|
|
أم بلت تحت الموج وهي طوامي
|
وقد أحببت ذكر هذه الأبيات لما فيها من الذّبّ عن أئمة الإسلام –رضي الله عنهم-
ولنرجع إلى تعداد مصنفاته:
ومنها:
*كتاب ((إيثار الحق على الخلق))([71]) , صنّفه سنة سبع وثلاثين وثمان مئة, في معرفة الله, ومعرفة صفاته على مناهج الرّسل والسّلف.
رأى –رحمه الله تعالى- بعد فراغه من تسويده: قوله تعالى: ]فَسَالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا[ [الرعد:17].
وقوله تعالى: ]فَأُولَئكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً[ [النساء:69].
ورأى بعد الفراغ من تبييضه: سورة النصر بكمالها, ومن سورة الضحى: ]وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[ [الضحى:11].
ومن سورة يس: ]قِيلَ ادخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَومِي يَعْلَمُونَ[ [يس:26].
ورأى أنه أعطي فواتح كثيرة من فواتح السور.
وأما الرسائل والردود على المبتدعة من طائفتي المعتزلة والأشعرية؛ فلا يأتي عليها العدّ([72]) , ولا يستطاع على ما تضمّنته الردّ!!.
ذكر شيوخه ورحلته في طلب العلم ورسوخه:
أما علم الأدب: فصنوه السّيّد جمال الدين الهادي, والقاضي العلامة جمال الدين محمد بن حمزة بن مظفر, وكان المشار إليه في علوم العربية واللغة والتفسير في تلك المدة.
وأما علم الأصول: فالقاضي العلاّمة, ملك العلماء وقاموس الحكماء, عبد الله بن حسن بن عطيّة بن محمد بن المؤيد الدّواري, والفقيه العلاّمة العلم جمال الإسلام والمسلمين علي بن عبد الله بن أبي الخير, وكان المشار إليه, والمتصدر للتدريس بصنعاء اليمن في علمي الأصول.
قرأ عليه ((شرح الأصول)) وهو معتمد الزيدية في البلاد اليمنية, و ((الخلاصة)) و((الغياصة)) و((تذكرة الشيخ المتكلم ابن متّويه)) وغيرها في علم اللطيف. وسمع عليه ((مختصر المنتهى)) للفقيه النحوي المالكي ابن الحاجب, وطالع كتب آبائه الكرام في هذا الفنّ كـ ((المجزي)) للسيد الإمام الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني, و ((صفوة الاختيار)) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان الحبشي, وغيرهما.
وكذلك مؤلفات جدّه السّيد العلاّمة يحيى بن منصور بن العفيف بن المفضل, ومصنفات السيد العلاّمة حميدان بن يحيى القاسمي, ومثل كتاب ((الجامع الكافي)) للسّيد الإمام [أبي] عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني, وكتاب ((الجملة والألفة)) للفقيه الإمام العلاّمة [ ]([73]) علماء الزيدية وقدماء الشيعة: محمد بن منصور المرادي المتفق على علمه, وفضله([74]) . وعرف ما وقع فيه الخلاف بينهم وبين المعتزلة, وجمع في ذلك مختصرات مفيدة, ومقالات فريدة.
وكان زميله ورفيقه في طلب هذين العلمين: القاضي محمد بن داود النهمي نفع الله به, فإنه لزمه وصحبه واقتفا آثاره, واستصوب أنظاره, وأخذ يراجعه في مسائل الكلام وتضعيف ما جاء به المتكلمون, مثل قولهم: إنّه من لم يعرف الله بأدلتهم المبنية على المقدمات المنطقية من عامة المسلمين, فهو كافر!! ومثل ما نصّ عليه شيخهم أبو هاشم وتبعه عليه أصحابه البهاشمة من غير مناكرة ولا مبالاة من قولهم: ما يعلم الله من نفسه إلا/ ما يعلمونه, وهو ردّ لقوله تعالى في سورة طه: ]وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً[ [طه:110], بل يقال لهم: ليس الواحد منكم يعلم من نفسه ما يعلم الله منه حتى قيلت فيهم الأشعار, وسارت بالتشنيع عليهم الركبان في الأقطار, فمن ذلك قول بعضهم:
يا ضلّة الضالين حيث توهّموا
|
|
ما لا يـفـوه به التّقي المسلم
|
قالوا إله العرش لــيس بعالم
|
|
من ذاته والوصف مالم يعلموا
|
هذي مقالة من هوى في متلف
|
|
وعليه ديجور الغـواية مظلم
|
وربما تأوّل بعضهم قول شيخهم: بأنه لا يعلم سبحانه من نفسه إلا بما يعلمونه, بأنه سبحانه يعلم أنه قادر, وأنّا نعلم أنّه قادر, وكذلك سائر الصّفات الواجبة له سبحانه وتعالى.
ممن ذكر هذا التأويل: القاضي العلاّمة فخر الدين في كتابه الموسوم بـ ((شريدة القنّاص في شرح خلاصة الرّصاص)), وهو تأويل ضعيف يمجّه السّمع, ولا يسوغ سماعه عند المحققين من أهل النظر والسمع!!.
ولو صحّ مثله؛ لصحت تأويلات المبطلين لبواطلهم, وكم لهم من هذا وأمثاله! ما لو ذكرناه لأحوجنا إلى التطويل, وأخرجنا عن المقصود.
فلمّا عرّف القاضي المذكور تضعيف هذه المسائل وأمثالها؛ اعترف بفضله ونبله, واغترف من نمير وبله وطلّه.
وقرأ السّيد المذكور كتاب ((مختصر المنتهى))([75]) على السيد العلاّمة جمال الإسلام وواسطة عقد النظام في السّلاة([76]) الكرام: علي بن محمد بن أبي القاسم الهادي, وكان في تلك المدة هو المشار إليه في فنون العلم جميعها, ولما سمع عليه هذا ((المختصر)) بهره ما رآه من صفاء ذهنه, وحسن نظره, وألمعيّته وبلاغته, وفطنته, وبراعته. وكان يطنب في الثناء عليه, ويرشد طلبة العلم إليه, حتى ترسّل السيد جمال الدين إلي السيد عزّ الدين الرّسالة المعروفة([77]), التي نسب إليه فيها القول بالرؤية, وبقدم القرآن, بمخافة أهل البيت –عليهم السلام-, وبناها على مجرّد التوهمات الواهية, والتخيلات الباردة, ولم يوجب الكلام عليه في ذلك إلاّ العمل بمقتضى مذهب أهل البيت –عليهم السلام- ولا فعل شيئاً إلاّ وفيه خلاف بينهم –عليهم السلام- ولكنه كان يرى أنّهم إذا اختلفوا, وكان مع أحد الفريقين منهم نصّ نبوي وكان الفريق الآخر محتج بالرأي مصرّحين به أو محتجين بحديث ضعيف عنده؛ رجّح العمل بقول مع عضده النّص النّبوي, ولا أقلّ لرسول الله من أن يكون كلامه مرجحاً فقط, وإنكار هذا من عود الدين غريباً.
وقال –رحمه الله- في شأن المتكلمين في ذلك([78]) :
إن كان حبي حديث المصطفى زللاً([79])
|
|
مني فما الذّنب إلاّ من مصنّفه
|
وإن يـكن حبّه ديـناً لمعترف
|
|
فذاك ديمي وهمّي في تعرّفه
|
ومذهبي مذهب الحق اليقين فما
|
|
تحوّل الحـال إلا من تشوّفه
|
وذاك مذهـب أهل البيت إنهم
|
|
نصّوا بتصويب كلّ في تصرّفه
|
نصّوا بتصويب كلّ في الفروع فما
|
|
لوم الذي لام إلاّ مـن تعسّفه
|
فما قفوت سوى أعلام منهجه
|
|
ولا تلوت سوى آيات مصحفه
|
أمّا الأصول فقولي فـيه قولهم
|
|
لا يبتغي القلب حيفاً عن تحنّفه
|
ففي المجازات أمضي نحو معلمه
|
|
وفي المحارات أبقى وسط موقفه
|
وإن سعيت فسعيي حول كعبته
|
|
وإن وقفت ففي وادي معرّفه
|
وحق حبي له أنـي بـه كلف
|
|
يغنيني الطـبع فيه عن تكلّفه
|
هذا الذي كثّـر العذال فيـه فما
|
|
تعجّب القـلب إلاّ من معنّفه
|
ما الذنب إلا وقوفي بين أظهرهم
|
|
كالماء ما الأجن إلا من توقّفه
|
والمندل الرّطب في أوطانه حطب
|
|
واستقر صرف الليالي في تصرّفه
|
يـستأهل القلب ما يلقاه ما بقيت([80])
|
|
لـه عـلاقـة تدليـع بمألفه
|
ولم يزل –رحمه الله- متمسّكاً بأهل البيت سرّاً وجهراً, معتنياً في إظهار عقيدته في ذلك نظماً ونثراً([81]) , ومن شعره –رحمه الله- يعرض بالسيد المذكور في اختلاف أقواله فيه, وهي من ألطف العتاب وأحسن ما يدور بين الأصحاب([82]) :
عرفـت قدري ثـم أنكرتـه
|
|
فما عـدا بــالله ممـّا بـدا
|
في كلّ يوم لـك بـي موقف
|
|
أسرفـت بالـقول بسوء البدا
|
أمس الثّنا والـيوم سوء الأذى
|
|
يا ليت شعري كيف تضحي غدا
|
يا شـيبة العتـرة فـي وقته
|
|
ومنصب الـتـعليم والاقتدا([83])
|
قد خلع العـلـم رداء الهـوى
|
|
عليك والشّيـب رداء الرّدى
|
فصن ردائيك وطـهّـرهـما
|
|
من دنس الإسـراف والاعتدا
|
/ ثم إنّه بعد ذلك انتصب لنشر هذه العلوم, وتصدّر برهة من الزّمان, وأهرع إليه الطلبة من كلّ مكان, فاستناروا بمعارفه, واقتبسوا من فوائده, فظهر أمره وبعد صيته, فلما رأى أن في هذا طرفاً من الدنيا والرياسة, قرّع نفسه وقمعها, ومنعها مما تشوفت إليه وردعها, ثم أقبل على الله بكليته فلزم العبادة والأذكار, وقيام الليل وصيام النّهار, وتأديب النفس وإذلالها للملك الجبار فألجمها بلجام الزهد, وجرّها بعنان القوى, وأجراها في ميدان والورع, وساقها بسوط الصبر, وأدخلها اصطبل الخلوة, وربطها إلى جدار التوكل, وعلفها الجوع, وسقاها الدموع, وألبسها سرابيل الذّل والخضوع, وتوّجها بتاج التبتّل والخشوع, ولم يبق نوع من أنواع الرياضة, ولا طريق من طرق السلوك إلا سلك بها مسلكه, وشرع بها في جناحه, وكلّفها بحمل أعبائه.
ولقد كان يخصف نعله, ويتكسب لأهله, وربما تظاهر بأنواع التصرفات والحرف, كحرف الفدادين والجفاة, ويلبس الصوف الخشن, ويفطر على قرص الشعير بلا إدام, ويقصد بذلك رياضة([84]) نفسه وتحقيرها وتصغيرها, وردعها وتعريفها بمنزلتها عنده.
وهذه أبيات له رضي الله عنه إلى السيد الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى, وقد أنفذ إليه بمسائل([85]) في الإمامة وغيرها, وكان يومئذ مقيماً بـ «ثُلأ))([86]) فلم يجب عليه, فكتب في ذلك إليه.
أعالمنا هل لـلســؤال جــــواب
وهـل يـروي الـعطشان([87]) مـنـك عـباب
إلى آخرها تركتها اختصاراً.
ومن رقائق شعره في بعده من الناس وانقطاعه, أبيات كان كتب بها إلى السيد الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الهادوي المفضّلي –رحمه الله تعالى- عقيب دعوته:
أعــاذل دعني أرى مهجتي
|
|
أزوف الرحيل ولبـس الكفن
|
وأدفن نفسـي قـبـل الممات
|
|
في البيت أو في كهوف القنن
|
إلى آخرها تركتها اختصاراً.
وله رضي الله عنه في ذكر أهل البيت –عليهم السلام-:
أولـئك آباءي على رغم منكر
|
|
لكوني على منهاجهم في مذاهبي
|
وحسبي بهم إن رام نقصي معاند
|
|
شجّا في حلوق الحاسدين النواصب
|
ومن أبيات كتبها إلى السيد جمال الدين علي بن المؤيد الهادي:
ولو شئت أبكيت العيون معاتباً
|
|
وألهبت نـيران القلوب رقائقاً
|
إلى آخرها تركتها اختصاراً.
* * *
فصل
في ذكر ما سنح من أشعار منه وإليه
فمن ذلك أبيات كتبها إليه حيّ صنوه السيد الإمام العلاّمة جمال الدين الهادي بن إبراهيم, وقد شفي من مرض شديد:
بشرى بعافيـة العلوم كلامها
|
|
وحديثـها وحـلالها وحرامها
|
وأصولها وفروعها وبـيـانها
|
|
وبديعها وغريـبـها ونظامها
|
لمحمد شفيـت وزال سـقامها
|
|
وبه شفاء الداء مـن أسقامها
|
لما ألمّ بجسمه ألـم ســرى
|
|
منه إلى الأرواح في أجسامها
|
وشفاه من آلامـه ربّ الـسّما
|
|
فـشفى علوم الدين من آلامها
|
حمداً لمـن أولاك برد سلامة
|
|
وحباك من تحف الهدى بسلامها
|
الله أحمد قـد شفـى لي مهجة
|
|
هامت وحقّ لها عظيم هيامها
|
لمحمد عز الهدى وهـو الذي
|
|
قد حلّ في العلياء فوق سنامها
|
هذا الذي أحيا العلوم وذا الذي
|
|
أحيا التلاوة فهو بدر ظلامها
|
الله قلدني بــذلــك نـعمة
|
|
عظمى ينوء الشكر تحت مصامها
|
لو إنّ عـدنانـاً حبتني كـلّها
|
|
ببيـان منطقها وحسن كلامها
|
ما كنت أبلغ شكرها من نعمة
|
|
لو كانت الأشجار من أقلامها.
|
فالله يوزعنـا جـميعاً شكرها
|
|
ويزيدنـا حمـداً على إتمامها
|
إني أقـول مقالــة قد قالها
|
|
عـمرٌ بـبطحا مكة وإكامها
|
مع حسن خاتمة أفضّ ختامها
|
|
ورضاه عني يالطيب ختامها
|
قلت: وقد ترجم له الفقيه الأديب البارع وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العطار([88]) في تاريخه الذي سمّاه: [ ]([89]) ؛ فقال ما لفظه: ((الإمام الحافظ أبو عبد الله, شيخ العلوم وإمامها, ومن في يديه زمامها, قلّد فيها وما قلّد, وألفى جيد الزمان عاطلاً فطوّقه بالمحاسن وقلّد.
/ صنّف في سائر فنونها, وألّف كتباً تقدم فيها وما تخلّف, وله في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الباع المديد, والشأو البعيد, الذي ما عليه من مزيد, وله شعر تحسده زهر النجوم, وتود لو أنّها في سلكه المنظوم)). ثم أورد له القصيدة التي قالها, وقد سأله بعض الطلبة أن يقرأ عليه في المنطق بكمالها, التي أوّلها:
يا طالب العلم والتحقيق في الدين
|
|
والبحث عن كلّ مكنون ومخزون
|
ثم أورد له أبياتاً بعدها ذكرتها لغرابتها وعدم وجودها:
شجتني الدّيار الدّراسات البلاقع
|
|
بـنجدٍ وبكّتها الحمام السّواجع
|
أعارت عيوني دمعها كل مزنةٍ
|
|
لتروى بها تلك الرّبا والمراتع
|
أيا دمنة ما بـين رامة والنقى
|
|
سقتك دموعي والسّحاب الهوامع
|
وإن قلّ دمعي زدت أمطرت من دمي
|
|
عليـها كما قلبي هنالك ضائع
|
سبته التي كالشمس وجهاً ودونه
|
|
غواش عليها رصدت وأضالع
|
فقلت لها: ردّية طوعاً وأحسني
|
|
إليّ فإنـي مـغرم القلب والع
|
وإلا استبيناها على رغم معشر
|
|
أطارتهم من خوف قومي الفجائع
|
لأنّـا أناس لا تطـلّ دمـاؤنا
|
|
ومن رامنا خسفاً فلسنا نطاوع
|
لنا الذروة العليا لنا المجد والعلى
|
|
لنا الشرف الأقصى فأين المراجع
|
ورثنا رسول الله مجداً ومفخراً
|
|
وعلّمناً وفضلاً كل ذلك واقع
|
وجزنا بأسـباب السّماء نزفّها
|
|
إلى حيث لم يبلغه دانٍ وشاسع
|
رضعنا من العليا لباناً وحرّمت
|
|
على كلّ خلق الله تلك المراضع
|
فما سـامـنا فيما فعلناه ماجد
|
|
ولا رامنا فيما ارتقيناه طامع
|
قال: وله القصيدة المشهورة في ذكر العقيدة التي كان عليها, ومحبته للسنة النبوية, وذكر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم, أنشأها سنة ثمانٍ وثمان مئة:
ضلّت عواذلـه تروح وتغتدي
|
|
وتعيـد تعنيف المحبّ وتبتدي
|
إلى آخرها تركتها اختصاراً.
فأجابه عنها صنوه السيد الإمام جمال الدين الهادي بن إبراهيم –رحمه الله- فقال:
عجلت عواذلــه ولـم تتأيّده
|
|
وجنت علـيـه جناية المتعمّد
|
ومنها:
ومحبّر وافي إلــيّ نظـامه
|
|
كالدّرّ في عنق الغزال الأغيد
|
أربى عليّ بلاغة وبــراعة
|
|
وأكـلّ مذوده المنوّه مذودي
|
وهي قصيدتان فريدتان شرحهما السيد الإمام جمال الدين, واستوفى ما يحتاج الشرح والبيان, وهما موجودتان في كتاب مجلد.
قال الوجيه العطّار([90]) : له -t ورحمه- في التورية, وهي نوع من علم البديع:
يروي حديث وداد عمر ومدمع
|
|
إرساله يـغـنيك عن إسناده
|
ذكر رحلته وطلبه لعلم الحديث النبوي صلوات الله على صاحبه, وإجازة مشايخ أهل هذا الفن الشريف له بألفاظها.
أما حديث أهل البيت –عليهم السلام-؛ فاجازته فيها من السّيد الإمام العلاّمة جمال الدين الناصر بن أحمد بن أمير المؤمنين, تركتها وغيرها من عدّة إجازات عديدة بسيطة لطولها.
والله يعيد من بركته, ويوفق إلى أوسع رحمته ورضاه وتقواه بحق لا إله إلا الله, وبجاه([91]) سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وجميع رسله آمين آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
كان فراغ رقمه نهار الجمعة, لعله (21) من شهر شعبان الكريم سنة (1139هـ) وحسبنا الله وكفى.
ذكر وفاته رحمه الله:
كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر المحرم غرّة سنة أربعين وثمان مئة, وهو العام الذي وقع فيه الطاعون, وهلك فيه الناس أجمعون, فإنّا لله وإنا إليه راجعون! وما أحقه –رحمه الله- بقول الزمخشري في الإمام ابن سمعان([92]) :
مات الإمام ابن سمعان فلا نظرت
|
|
عين البصيرة إذ ضنّت بأدمعها
|
وأي حوباً ما صمّت([93]) ولا عميت
|
|
ولا استفادت بمرآها ومسمعها
|
أين الذي لو شريناه لما أخذت
|
|
ببعضه هـذه الـدّنيا بأجمعها
|
أين الذي الفقه والآداب إن ذكرت
|
|
فهو ابن إدريسه وهو ابن أصمعها
|
من للإمامة ضاعت بعد قيّمها
|
|
من للبلاغة عيّت بعد مصقعها
|
من للأحاديث يميلها ويسمعها
|
|
بعد ابن سمعان ممليها ومسمعها
|
سرد الأسانيد كانت فيه لهجته
|
|
ككفّ داود في تسريد أدرعها
|
/ خلّى الأئمة حيرا فقد أعـلمها
|
|
على اتفاق وأسخاها وأورعها
|
إلى آخر الأبيات.
وفي هذا اليوم الذي مات فيه, كان وقوع الداهية الدهياء, والحادثة الجلّى, وذلك وفاة الإمام الأعظم, أمير المؤمنين, المنصور بالله رب العالمين: علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن منصور بن يحيى بن منصور بن المفضل بن الهادي إلى الحق –u-.
ولو أشرنا إلى الأحداث من بعده, وما اتفق على من بقي من ولده, وأهل ودّه, لكلّت الأقدام وامتلأت المهارق بالكلام, وقلّ أن يأتي في مجلد مفرد, والحمد لله على كل حال, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد, والحمد لله الذي بعزه وجلاله وبنعمته تتم الصالحات.
* * *
اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته, وأهل بيته, وأنصاره, وأشياعه, ومحبيه وأمته, وعلينا معهم أجمعين آمين, واغفر لي ولمالكه ولجميع المؤمنين يا ربّ العالمين آمين.
حُرّر [في] ذي القعدة سنة (1336هـ) ختمت بخير إن شاء الله([94]) .
ثانياً: التعريف بالكتاب
وفيه:
-
اسم الكتاب.
-
إثبات نسبته إلى المؤلّف.
-
تاريخ تأليفه.
-
موارده.
-
الثناء على الكتاب وعكسه.
-
علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة والامتياز بينهما.
-
غرضه منه, ومنهجه فيه.
-
تنبيهات على أمور لها تعلق بالمنهج.
-
طبعات الكتاب.
-
مخطوطات الكتاب, ونماذج منها.
-
عملي في الكتاب.
اسم الكتاب
سمّاه المؤلّف –رحمه الله- في فاتحة([95]) كتابه, فقال: ((وسمّيته الروض الباسم في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم)).
وقد اقتصر ابن الوزير على تسميته بـ ((الروض الباسم)) ي عدد من كتبه اختصاراً, كما وقع في ((العواصم)): (1/ 225), و ((تنقيح الأنظار)): (ق/ 70ب) وكذا اختصر التسمية كل من ترجم له, أو نقل من كتابه؛ كابن فهد في ((معجمه)), وعنه السخاوي في ((الضوء اللامع)): (6/ 272), والمقبلي في ((العلم الشامخ)): (ص/ 255), والشوكاني في ((البدر الطالع)): (2/ 92), والصنعاني في مواضع منها: ((توضيح الأفكار)): (2/ 453), و ((إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد)): (ص/ 83), (ق/ 6أ) مخطوط, و ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)): (ص/ 127).
وهذا الاسم هو الثابت على طرر النسخ الخطية للكتاب, إلاّ في نسخة (ي) –التي سيأتي وصفها- فإنه وقع فيها: ((الروض الباسم مختصر العواصم والقواصم في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم )).
وهذا من تصرّف الناسخ في الاسم, وأخبار عن واقع الأمر, وإلا فالتسمية ثابتة في مقدمة المؤلف.
إثبات نِسبة الكتاب إلى مؤلّفه
الكتاب مقطوع بنسبته إلى المؤلّف, ويتبين ذلك بأمور:
1- قال المؤلف في كتابه ((العواصم والقواصم)): (1/ 225) –وهو أصل هذا الكتاب-: ((ثمّ إنّي قد اختصرت هذا الكتاب في كتاب لطيف سمّيته: ((الروض الباسم))....)) اهـ.
2- أشار المؤلف في مقدمة ((الروض)) لى كتاب ((العواصم)) وأنه أصل هذا المختصر, كما أحال المؤلف على كتابه ((العواصم)) باسمه أو بقوله: ((الأصل)) في مواضع بلغت أربعة وعشرين موضعاً ((انظر فهرس الكتب)).
3- الاتفاق بين الكتابين ((الأصل)) و((المختصر)) في مباحث الكتاب وأصل وضعه, بل في عبارات كثيرة هي في الكتابين بنصّها.
4- أشار المؤلّف إلى كتابه هذا في كتابه ((تنقيح الأنظار)): (ق/ 70ب) فقال: ((وقد استقصيت أحاديثهم وشواهدها في كتاب ((الروض الباسم)).)) اهـ.
وقال: ((وقد ذكرت منها جملة شافية في ((العواصم والقواصم)), وفي المختصر منه: ((الروض الباسم...))اهـ.
5- نقل العلماء عنه, فقد نقل الإمام الصنعاني عنه في ((توضيح الأفكار)): (2/ 453-465) نصّاً طويلاً في تعداد أحاديث معاوية, وعمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة –رضي الله عنهم-.
وما نقله الصنعاني هو في ((الروض)): (2/ 524-569) كما أشار إليه في ((التوضيح)) في مواضع هي: (1/ 300) (2/ 194, 199), وذكره في رسالته ((إرشاد النقاد))([96]) : (ص/ 74, 83), وذكره في ((إجابة السائل)): (ص/ 127) في الكلام على فُسّاق التأويل, وذكره في ((فتح الخالق في شرح مجمع الحقائق والرقائق)): (ق/ 111) نسخة الجرافي.
6- ذكر هذا الكتاب له كلّ من السخاوي في ((الضوء)): (6/ 272) نقلاً عن ابن فهد في ((معجمه)), والشوكاني في ((البدر)): (2/ 92), والقنوجي في ((التاج)): (ص/ 191). وغيرهم.
7- ما جاء على النسخ الخطية من نسبته للإمام ابن الوزير –رحمه الله-.
وبعض ما تقدم يكفي في ثبوت النسبة.
* * *
تاريخ تأليفه
أنهى المؤلّف كتابه في يوم الأربعاء, الثالث من شهر شعبان الكريم من شهور سنة سبع عشرة وثمان مئة.
هذا ما جاء عن المؤلف في آخر النسخة التي بخطّه, كما جاء في خاتمة الطبعتين المنيرية والسلفية, حيث اعتمدوا على نسخة منقولة عن نسخة نقلت عن نسخة بخط المؤلّف([97]) .
ولو لم يكن ذلك أيضاً نصّاً لاقتربنا من تحديده استنباطاً, ذلك أن المؤلّف قد انتهى من ((الأصل)) سنة (808هـ)([98]) فهو قد ألف المختصر بعد هذا التاريخ جزماً.
ويقول المؤلف في ((الروض)): (1/ 213): ((وذكر شيخنا ابن ظهيرة –أمتع الله المستفيدين ببقائه-....)), وشيخ المؤلف محمد بن عبد الله بن ظهيرة توفي ليلة الجمعة سادس عشر رمضان سنة سبع عشرة وثمان مئة بمكة([99]) , فيكون وقت تأليف الكتاب قبل موت ابن ظهيرة.
وهناك ثمّة نصوص أخرى لها علاقة بتاريخ تأليف الكتاب؛ لكن لا قيمة لها مع ما سبق من تحديد دقيق([100]) .
ومما لا شك فيه أن المؤلف لا زال يعتبر كتابه ((العواصم)) ويزيد فيه إلى قبيل وفاته, فمما وجد صريحاً في ذلك قوله في ((العواصم)): (9/ 355): ((وبذلك كملت الأحاديث أربع مئة في عدّتي, وأظنها أكثر؛ لأني قد زدت فيها بعد فراغي من التسويد لحقاً بعد كمال الأربع مئة حديث في الرجاء أحاديث كثيرة في ذلك..)) ثم عدها فبلغت الزيادة أربعة وسبعين حديثاً.
ومن معالم تلك الإضافات أنه نقل من كتب الحافظ ابن حجر –عصريّه- التي ألفت بعد إكماله كتاب العواصم فهو ينقل عن ((التلخيص الحبير))([101]), وهو لم يتم إلا بعد (808هـ) وينقل من ((مقدمة فتح الباري))([102]), ولم تتم إلا بعد (813هـ), ومن ((شرح النخبة))([103]) ولم يتم إلا بعد (818هـ), ويسمّيه ((علوم الحديث)).
بل يحيل على كتابه: ((إيثار الحق على الخلق)) وهو آخر مؤلفاته, تم في سنة (837هـ)([104]) . ولعلّ هذه الزيادات والتنقيحات قد وقعت في نسخة المؤلف التي بخطه في أربع مجلدات([105]) , ومن ثمّ تفرّعت بقية النسخ فثبتت فيها هذه الزيادات. بخلاف ما وقع في ((الروض)) فالظاهر أنه انتسخ عقب فراغ المؤلف منه؛ فبقيت بعض البياضات ونحوها على حالها, انظر ((الروض)): (1/ 276), (2/ 522, 537) وانظر (ص/ 84-85) من المقدمة.
* * *
سبب تأليفه
سبق([106]) أن ذكرنا أن شيخ المصنّف علي بن محمد بن أبي القاسم (837هـ) قد ترسّل على المؤلف برسالتين؛ إحداهما في الرد على قصيدته في التمسك بالسنة, والرسالة الأخرى هي المردود عليها ((بالعواصم)) و((الروض)) والتي وصفها ابن الوزير بقوله: ((إلا أنه لما اتسع الكلام وطال, واتسع مجال القيل والقال, جاءتني رسالة محبّرة, واعتراضات محرّرة, مشتملة على الزّواجر والعظات, والتنبيه بالكلم الموقظات, زعم صاحبها أنه من الناصحين المحبين, وأنه أدى ما عليه لي من حق الأقربين...)) وأسهب في وصفها, ثم قال: ((ثم إني تأملت فصولها وتدبّرت أصولها؛ فوجدتها مشتملة على القدح تارة فيما نقل عني من الكلام, وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام, وتارة في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام, فرأيت ما يخصّني غير جدير بصرف العناية إليه.. وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية, مثل قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية والآثار الصحابية... فتعرضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار))([107]) .
وقد اتفقوا أن المعترض لم ينصف في رسالته تلك, ولا استعمل أساليب أهل العلم في الاعتراض والرد, بل اعتسف وحاد واستعمل أساليب أهل الّلجاج والعناد. وانظر ((تاريخ بني الوزير)): (ق/ 37ب- 38أ), و ((ترجمة ابن الوزير)): (ق/ 6ب), و ((فتح الخالق)): (ق/ 111), و((البدر الطالع)): (1/ 485).
قال الصنعاني في ((فتح الخالق)): ((..... وترسّل عليه شيخه السيد علي بن محمد بن أبي القاسم برسالة بديعة, درات في مواقف الأعيان, وشغف بها كل إنسان, واحتاج الناظم –رحمه الله- أن يشمّر ساعد الجد والاجتهاد, ويجلب الأدلة من الأغوار والأنجاد....)) اهـ. وقال الشوكاني: ((وترسل عليه –أي ابن أبي القاسم- برسالة تدل على عدم انصافه ومزيد تعصّبه –سامحه الله-)) اهـ.
فكان ثمرة هذه الرسالة الكتاب العظيم المشهور: ((العواصم والقواصم)) الذي لم يؤلّف في الديار اليمنية مثله –كما عبّر الشوكاني-.
ثم إن هذا الجواب لما تم اشتمل على علوم كثير؛ أثرية ونظرية, ودقيقة وجليّة, وحجج متكاثرة للمسائل التي نصرها, وإشكالات قد تبلغ المئين على المسائل التي ينقضها, فدعاه ذلك لاختصاره حيث قال: ((ثم إني تأمّلت الكتاب –بعد ذلك- فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق؛ يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيما والباعث لداعيه النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصحيح عن شرب الأدوية النافعة, وألم المكاوي الموجعة؛ فاختصرت منه هذا الكتاب))([108]) اهـ.
موارده
لقد تنوعت موارد ابن الوزير –رحمه الله- في كتابه هذا, إذ استفاد من جميع العلوم الإسلامية المتمثلة في مصنفات علماء الإسلام الحافلة, من تفسير وحديث, وفقه وأصول, ولغة وعقائد.
وقد ضرب المؤلف –رحمه الله- للدارسين مثلاً أعلى, وهمة تحتذى, لا تعرف الكلل ولا السأم, فلقد كان حريصاً كلّ الحرص على الإفادة والإقتباس من كلّ ما طالته يده من مصنفات أهل السنة لنقل أقوالهم منها, مع بعد عن ديارهم وعن مصنفاتهم الحافلة, كما صرح بذلك في مواضع([109]) .
كما حرص في الوقت نفسه على النقل من كتب أصحاب المعترض من الزيدية والمعتزلة, ولم يشكُّ من شَحِّها وعدم توفرها؛ إذ الأرض أرضهم والدولة لهم, مع استظهاره لكثير منها([110]) .
كما أبان المؤلف عن سعة اطلاع كبيرة, فبلغ به الاستيعاب في النقل إلى أن كاد يستوعب معاصريه وشيوخهم, فهو ينقل عن ابن تيمية (728هـ), والمزّي (742هـ), والذهبي (748هـ), وابن القيم (751هـ), وابن كثير (774هـ), وابن الملقّن (804هـ), والعراقي (806هـ), وشيخه النفيس العلوي (825هـ), بل تعدّى ذلك كله فنقل عن الحافظ ابن حجر (852هـ) الذي مات بعده باثنى عشر عاماً([111]) .
ولقد كان للمصنفات الحديثية القدح المعلّى في ترتيب موارده, وتليها الكتب الأصولية, وهذا ذكر أهم الكتب التي اعتمدها المؤلف, ومن أراد الاستيعاب فليكشف ((كشاف الكتب)) الواردة في الكتاب.
*أهم كتب الحديث([112]) :
1-((الاستيعاب)) لابن عبد البر.
(98, 113, 137, 138, 141, 246, 250, 252, 254, 268, 269, 273).
2-((إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه)) لابن كثير.
(35, 68, 104, 111, 209, 471).
3-((أسد الغابة)) لابن الأثير.
(42, 138).
4-((الأربعون)) للنفيس العلوي.
(183, 453).
5-((البدر المنير)) لابن الملقن.
(40, 101, 107, 287, 288).
6-((التمهيد)) لابن عبد البر.
(31, 254, 294, 319, 320).
7-((التبصرة)) للعراقي.
(40, 42, 67, 165).
8-((تذكرة الحفاظ)) للذهبي.
(102, 107, 169, 172, 319, 505).
9-((جامع الأصول)) لابن الأثير.
(34, 144, 444, 469, 536).
10-((جوامع السيرة))لابن حزم.
(122, 389).
11-((جامع الترمذي = سنن الترمذي = الجامع الكبير))
انظر فهرس الكتب.
12-((سير أعلام النبلاء)) للذهبي.
(57, 232, 248, 268, 271, 272, 289, 387).
13-((السنن)) لأبي داود.
(151, 152, 260, 470, 532, 538, 566).
14-((شرح مسلم)) للنووي.
(100, 143, 155, 160, 164, 252, 302, 343, 368, 450, 451, 469).
15-((شفاء الأوام)) للأمير الحسين.
(151, 200, 314, 569).
16-((صحيح البخاري))
في مواضع كثيرة انظر: كشاف الأعلام والكتب.
17-((صحيح مسلم)).
في مواضع كثيرة انظر: كشاف الأعلام والكتب.
18-((علوم الحديث)) للعراقي.
(36, 236).
19-((علوم الحديث))لابن الصلاح.
(67, 145, 136, 274).
20-((العلل)) للدارقطني.
(175, 236).
21-((ميزان الاعتدال)) للذهبي.
(36, 166, 169, 170, 236, 239, 264, 271, 297, 323, 325, 365, 380, 388, 414, 428, 461, 488, 521).
22-((الموطأ)) للإمام مالك.
(151, 321, 526, 529, 532, 534, 543, 544, 546, 547, 558, 566).
23-((مسند أحمد))
(297, 374, 398).
*كتب الفقه والأصول.
1-((الانتصار)) ليحيى بن حمزة.
(98, 482, 483).
2-((البرهان)) للجويني.
(178, 367, 368, 469).
3-((تعليق الخلاصة)) للدواري.
(152, 184, 462, 522).
4-((جوهرة الأصول)).
(192, 482).
5-((الخلاصة)) للرصاص.
(101, 107).
6-((الدرر المنظومة)) للمنصور.
(37, 56, 71, 161, 207, 482, 483).
7-((روضة الطالبين)) للنووي.
(55, 232, 233, 378, 380, 401, 402, 406, 407).
8-((الزيادات)).
(207, 345, 403).
9-((شرح العيون)) للحاكم الجشمي.
(70, 96, 105, 192, 306, 461, 482, 522).
10-((شرح مختصر المنتهى)) للشيرازي.
(72, 119, 207, 216).
11-((المجموع شرح المهذب)).
(208, 209).
12-((صفوة الاختيار)) للمنصور.
(31, 37, 69, 70, 119, 149, 161, 172, 180, 207, 209, 481).
13-((عمدة الأمة في إجماع الأئمة)) للريمي.
(383, 548).
14-((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) للعز بن عبد السلام.
(209, 411, 503).
15-((اللمع)).
(33, 483, 522).
16-((المجزيء)) لأبي طالب.
(30, 37, 172, 192, 783).
17-((المعتمد)) لأبي الحسين البصري.
(56, 70, 96, 99, 105, 173, 223, 310, 482).
18-((مختصر المنتهى)) لابن الحاجب.
(73, 114, 207, 222, 232, 368, 486).
19-((المحصول)) للرازي.
(200, 231, 233, 246, 484, 485, 489).
20-((نهاية المجتهد)) لابن رشد.
(285, 568).
*علوم متفرقة:
1-((أسباب النزول)) للواحدي.
(249).
2-((الإحياء)) للغزالي.
(343, 344).
3-((الأذكار)) للنووي.
(400).
4-((تفسير القرطبي)).
(249, 495).
5-((حادي الأرواح))لابن القيم.
(183).
6-((رياض الصالحين)) للنووي.
(378).
7-((الشفاه)) للقاضي عياض.
(230, 233, 422).
8-الصحاح.
(443).
9-((ضياء العلوم مختصر شمس العلوم)) للحميري.
(234, 304).
10-((عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن))
(96, 205).
11-((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور))لابن دحية الكلبي.
(391, 398).
12-((الكشَّاف)) للزمخشري.
(51, 75, 81, 151, 435, 436, 372).
13-((المدهش)) لابن الجوزي.
(300).
14-((النهاية)) لابن الأثير.
(50, 72, 313, 384, 385, 431).
15-((نهاية العقول)) للرازي.
(356, 377).
16-((الوسيط)) للواحدي.
(249).
وغيرها كثير, وزادت جملتها على المئة وخمسين مصدراً, هذا فيما صرّح باسمه, ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى ((كشاف الكتب)), و((كشاف الأعلام)) فيمن لم يصرح باسم كتابه.
* * *
الثناء على الكتاب وعكسه
وقع كتاب ((الروض الباسم)) موقعه من علماء السنة, فأثنوا عليه واغتبطوا به, وكان بعكس ذلك على من غلظ حجابه عن الفضائل, ولم يرفع رأساً لواضحات الدلائل؛ واتبع هواه فأضلّه الله!.
فممن أثنى على ((الروض)) الإمام العلاّمة المبدع شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي([113]) المتوفى (837هـ) حيث كتب إلى مؤلفه ما يلي: ((ولقد وقف المملوك على «الروض الباسم)) فما هو إلا الحسام القاصم, ولقد وقع من القلوب موقع الماء من الصادي والنُّجح من الغادي, والراحة من المخمور, و [الصلة] من المهجور, ولقد نصرت الحديث على الكلام, والحلال على الحرام, وأوضحت الصراط المستقيم, وأشرت إلى النهج السليم, ولم تترك شبهة إلا فضحتها, ولا حجّة إلا أوضحتها, ولا زائغاً إلا قوّمته, ولا جاهلاً إلا علمته, ولا ركناً للباطل إلا خفضته, ولا عقداً لمبتدع إلا نقضته, ولقد صدقت الله في الرغبة إليه, ووهبت نفسك لله وتوكلت عليه, فالحمد لله الذي أقرّ عين السنة بمكانه, وأدالها على البدع وأهلها ببرهانه, ولقد أظهر من الحق ما ودّ كثير من الناس أن يكتمه, وأيّد دين الأمة الأمية بما علمه الله وألهمه, فعض على الجذل, وسيجعل الله بعد عسر يسراً, وإنا لا ندري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً, وإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه, وفتح لمن أراد الدخول بابه.
*إذا الله سنَّى حلَّ عقدٍ تيسراً*
ومن وقف على ما أفحمت به ذلك المعتدي, [من الحق] الذي استحلبت([114]) فيه بالإعجاز والتحدي؛ علم أن بينه وبين النفثات النبوية أنساباً شريفة لا تحل عقودها, ولا تضاع حقوقها, ورحماً بلّها ببلالها, وبادر إلى صلتها ووصالها, لقد أبقى نوراً في وجه الزمان, وسروراً في قلوب أهل الإيمان, وقلّدت جيد السنة منة وأي منة, وأصبح شخصك ملموحاً بعيون البصائر, ودرّك ملتقطاً بأسماع الضمائر, والمنّة في ذلك للمصنف على عامة أهل الملّة وخاصَّة على أعيان هذه النحّلة, فحقّ على الكل أن يعرفوا حقّه إن كانت لهم أفهام تقدر قدره, وأن يستضيئوا بنوره إن كانت لهم أبصار تثبت للنور فجره.
وأرى لهم أن يـكتـبوا أنفاسه
|
|
إن كانت الأنفـاس مما يكتب
|
سمع الدعاء إلى الفلاح فوثب, وقلّب الله قلبه إلى الحق فانقلب؛ من غير ترهيب استفزه, ولا ترغيب هزه, ولا مناظرة غيّرته, ولا محاسدة اعترته, بل توفيق من الله إلهي, وإلهام سماوي, سهّل عليه مفارقة العادة وما نشأ عليه بدءاً وإعادة, وإن أمراً هذا أوله؛ فعواقبه عن النجاح مسفرة, وقصداً هذا مبتدؤه, فغوارسه مثمرة.
وإني لأرجو الله حـتى كأنني
|
|
أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
|
ثم أجاب ابن الوزير على هذا التقريض بقوله:
ومن عجب لم أقضه منـه أنه
|
|
توهَّمني في العلم سامي المراتب
|
أغرك أني قـد ذكـرت وإنما
|
|
ذكرت لأني من جبال المغارب
|
وقد عدمت فيه البصائر والنهى
|
|
فطِبْت بذكرى موت كل الأطايب
|
ولو عدمت وُرق الحمائم لم يكن
|
|
بمستبعد تشبيهنــا بالنواعب
|
وألبسـت تأليفي ((العواصم)) بالثنا
|
|
جميلاً أطاب الشكر من آل طالب
|
وما فيه من حسن سوى أنه شجا
|
|
روافض صحب المصطفى والنواصب
|
وما كـان تأليفي له عن تضلّع
|
|
من العلم يشفي الصدر من كل طالب
|
ولكنني والحـمـد لله منصف
|
|
أذبّ بجهدي عن صحاح مذاهبي
|
فلا تتوهمني بعلــم محققـاً
|
|
فإنك مـا جربت كلّ التجارب
|
تـوهّمت يا ذا([115]) بالتخيل حينما
|
|
دجـا الليل وامتدت ذيول الغياهبِ
|
رويداً خليـلـي لا يغرك إنما
|
|
رأيت التي تدعى بنار الحباحِبِ
|
وما كلّ نارٍ نار موسى لمهتد
|
|
ولا كل برق في الثقال الهواضب
|
نصحتك لا أني تواضعت فانتفع
|
|
بنصحي فما أرضى خِداعاً لصاحب
|
ولا زلت يا خير الأفاضل باقياً
|
|
رضيع لـبان للعلا والمناقب([116])
|
وأثنى عليه العلاّمة إسحاق بن يوسف بن المتوكل([117]) , فقال في آخر ((الروض الباسم)) من نسخته: ((انتهى ما أردت من مطالعة هذا السفر الجليل, الذي هو برؤ العليل وشفاء الغليل, فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة, وحشره في زمرة حبيبه الشفيع...))([118]) اهـ.
وأثنى عليه الصنعاني في ((فتح الخالق))([119]) فقال بعد أن ذكر رسالة المعترض-: ((واحتاج الناظم –رحمه الله- أن يشمّر ساعد الجد والاجتهاد, ويجلب الأدلة من الأغوار والأنجاد, وأتى بما لم يأت به الأوّلون, وبما يعجز عنه المتأخرون, وألف ((العواصم والقواصم في الذّبّ عن سنة أبي القاسم)) واختصره بكتابه ((الروض الباسم)).
فكأن رسالة شيخه إنّما أثارت كنوزاً من المعارف, وعمرت كعبة لكل طائف, من المحققين المصنّفين وعاكف)) اهـ.
وأثنى عليه العلاّمة القنّوجي (1307هـ) في ((أبجد العلوم)): (1/ 358), فقال: ((وللسيّد الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني –رحمه الله- كتب ورسائل مستقلة في هذا الباب (أي في النهي عن الاشتغال بعلم الكلام, منها كتابه المسمّى بـ ((الروض الباسم في الذبّ عن سنة أبي القاسم, فإن شئت الزيادة فعليك بها)) اهـ.
وبالجملة؛ فكل ثناء قيل في ((العواصم)) فهو منطلق إلى ((الروض)) حري به, مع مافي ((الروض)) من فوائد ليست في أصله.
-أما من ردّ عليه من الزيدية:
1-أحمد بن حسن بن يحيى القاسمي, في كتابه ((العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم)). ولا يدرى من أمر هذا الكتاب شيء([120]) .
2-((العَضْب الصَّارم في الرد على صاحب الروض الباسم)), لمجهول, منه نسختان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء([121]).
* * *
علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة وامتيازات المختصر
قد علمنا فيما مضى أنّ ((الروض)) مختصر من ((العواصم))؛ فإنّ ((الأصل)) لما تم فأينعت ثماره, وازدانت أزهاره, أجال عليه مؤلّفه يد القطاف, فالتقط من ثماره أنضجها, ومن أزهار أطيبها, ثم أعمل يده أخرى فقدّم وآخر وهذّب وشذب, وأصلح ورتّب؛ حتى صار –بحقّ- ((روضاً باسماً))...
وقد كان سبب الاختصار ما أشار إليه المؤلف في المقدمة فقال: ((فلأن التوسيع يملّ الكاتب والمكتوب إليه, والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه, مع أنّ القليل يكفي المنصف, والكثير لا يكفي المتعسّف([122]))).
وقال أيضاً: ((ثم إني تأملت الكتاب –بعد ذلك- (أي الأصل) فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق, يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيّما والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصحيح عن شرب الأدوية النّافعة, وألم المكاوي الموجعة, فاختصرت منه هذا الكتاب, على أني لم أطنب في الأصل كل الإطناب...))([123]) اهـ.
أما جوانب المغايرة بين الأصل ومختصره ففي أمور:
1-سار المؤلف في ((الأصل)) على حسب إيرادات المعترض دون تصرّف في تقديم أو تأخير, بخلاف ((المختصر)) فإنه يجمع الكلام على المسائل المتشابهة في مكان واحد, فيقدم يوخّر بحسب المقتضي.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: ((الكلام على كفار التأويل وفُسّاقه)) فبينما هي في ((الأصل)) في أوائل الكتاب (2/ 130- 3/ 223), كانت في ((المختصر)) في آخر الكتاب: (2/ 481-569). ثم هي في ((المختصر)) أكثر ترتيباً.
ومن الأمثلة أيضاً: ذبّ المؤلّف عن أئمة الإسلام الأربعة, فبينما أورده في ((الأصل)) بحسب إيراد المعترض له, فالكلام على أبي حنيفة في (2/ 81), والكلام على مالك (3/ 453), والكلام على الشافعي في (5/ 5), والكلام على أحمد (3/ 300). إلا أنه قد ساقه في ((المختصر)) مساقاً واحداً, حرصاُ منه على جمع الذّبّ عن الأئمة في مكان واحد. ((الروض)) (ص/ 295- 343), والأمثلة كثيرة, انظر: ((الروض)): (1/ 230).
2-من جوانب المغايرة اختصار ما لا تعلّق له بنقض كلام المعترض من الفوائد والاستطرادات العلمية فقال في (ص/ 154-155): ((وهذا الموضع يحتمل ذكر فوائد ذكرتها في ((الأصل)), منها ما ذكره النووي في «شرح مسلم)), ومنها ما لم يذكره, ثم اختصرتها لأنها لا تتعلق بنقض كلام المعترض))([124]) اهـ.
بل إنه يختصر بعض الأوهام التي وهمها المعترض مما ليس تحتها إلا مجرد الاعتراض, وبيان الوهم, فقال في (ص/ 230): ((وقد رأيت أن أقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها؛ فإنّ مجرّد التعرض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل, ولا يستكثر من ذكره فاضل)) اهـ.
3-أن ((الأصل)) ومختصره مبنيان على إلزام الخصم على أصوله, ولم يتعرض المؤلف لبيان المختار عنده أحياناً, وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية. ثم قال المؤلف عن المختصر: ((ثم إني قد اختصرت هذا الكتاب في كتاب لطيف سميته: ((الروض الباسم)), وهو أقل تقيّة من هذا ولن يخلو, فالله المستعان))([125]) اهـ.
فيستفاد من هذا فائدة جليلة, وهي معرفة اختياراته في المسائل العلمية حيث صرّح بها في ((المختصر)), ولم يتعرض لذلك في ((الأصل)).
4-ومن جوانب المغايرة والامتياز في ((المختصر)), ما فيه من زيادات على ((الأصل)), سواء كانت في الاستدلال أو التمثيل أو التحقيق, فمن تلك المواضع:
*(1/ 9-13) بعض الأشعار في مدح أهل الحديث.
*(1/ 133) شعر للمؤلف في العشرة المبشرين بالجنة.
*(1/ 166) فائدة للمؤلف عمن يُخَرِّج لهم البخاري استشهاداً.
*(1/ 170-171) كلام الذهبي في حديث: ((ما تقرّب إليّ عبدي)) ورد الحافظ ابن حجر عليه.
*(1/ 246-248) الكلام على الوليد بن عقبة.
*(2/ 464-476) بعض الكلام والتحقيق في حديث:((فحجّ آدم موسى))
*(2/ 543-569) أحاديث عمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة في الأحكام مع ذكر شواهدها والكلام عليها. فهذه (26) صحيفة ليست في ((الأصل)).
*(2/ 590-596) خاتمة المؤلف وفيها نصيحة وعِظة وعبرة, وقصيدة في التمسك بالسنة.
* * *
غرضه منه, ومنهجه فيه
أما غرضه منه: فقد أبانه بقوله في فاتحة الكتاب وهو يصف رسالة المعترض وما تعرّضت له من القدح فيه وفي السنة وفي القواعد: ((فرأيت ما يخصني غير جدير بصرف العناية إليه, ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه, وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية؛ مثل قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية والآثار الصحابية, ونحو ذلك من القواعد الأصولية, فإني رأيت القدح فيها ليس أمراً هيّناً, والذبّ عنها لازماً متعيناً, فتعرضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار))([126]) اهـ.
كما أبانه غاية البيان فقال: ((وقد اقتصرت في هذا ((المختصر)) على نصرة السّنن النبوية, والذبّ عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية, سالكاً من ذلك في محجّةٍ جليّةٍ, غير عويصةٍ ولا خفيّةٍ..))([127]) اهـ.
وقال: ((... والقصد بهذا كله الذب عن السنن ورواتها))([128]) .
وقال: ((وقد تركت إيراد كلام متكلّمي الأشعرية في التحسين والتقبيح؛ لأن كتابي هذا كتاب نصرة للحديث وأهله, الواقفين على ما كان عليه السّلف, من ترك الخوض في عويص الكلام, ودقيق الجدال))([129]) اهـ.
وقال: ((وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح..))([130]) .
فلا أصرح من هذه العبارات الدّالة على المقصود من هذا التأليف, فلم تدع قولاً لمتقوّل, ولا تخميناً لمتخرّص!!.
أما ما يتعلق بمنهجه, فيمكن التماسه في النقاط الآتية:
1-سلك المؤلف في نقضه على المعترض مسالك الجدليين فيما يلزم الخصم على أصوله, فقال: ((وقد سلكت –في هذا الجواب- مسالك الجدليين, فيما يلزم الخصم على أصوله, ولم أتعرّض في بعضه لبيان المختار عندي, وذلك لأجل التقيّة من ذوي الجهل والعصبية, فليتنبّه الواقف عليه على ذلك, فلا يجعل ما أجبت به الخصم مذهباً لي, ثم إني اختصرت هذا الكتاب (العواصم) في كتاب لطيف سميته ((الروض الباسم)) وهو أقلّ تقيّة من هذا ولن يخلو, فالله تعالى المستعان))([131]) اهـ.
وقال أيضاً: ((... إذا المقصود إلزام الخصم ما يلزمه على مقتضى مذهبه))([132]) اهـ.
وقال: ((وصحّت أحاديثهم –أي معاوية وعمرو والمغيرة- هذه على وجهٍ لا شبهة فيه على قواعد الخصوم))([133]) اهـ.
2-حرص أن ينصر ما يرجحه بالطرق التي يتّفق عليها الفريقان([134]) فقال: ((وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح بالطرق التي يتفق الفريقان على صحتها أو يتفقون على قواعد تستلزم صحّتها, كما يعرف ذلك من تأمل هذا الكتاب كلّه))([135]) اهـ.
3-يورد المؤلف كلام المعترض المتعلق بمسألة واحدة ثم ينقضه, فيبين له أولاً مخالفته لأصحابه من الزيدية والمعتزلة, وأنهم قائلون بما أنكره أو أكثرهم, وأنّ ما يلزم أهل السنة من إلزامات المعترض؛ فهو لازم لأصحاب المعترض, فما كان جوابه عن أصحابه كان جوابنا عن أهل السنة.
والمعترض على أحسن الأحوال قد جهل تلك الأقوال, ومثل هذا المعترض كما قال شيخ الإسلام: ((... حتى أن كثيراً من هؤلاء يعظّم أئمة, ويذم أقوالاً, قد يلعن قائلها أو يكفره, وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم, ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل, وكثير منها يكون قد قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو لا يعرف ذلك!))([136]) اهـ.
والمؤلف متثبّت في نقله, فهو ينقل مذاهب الزيدية والمعتزلة من كتبهم المعتبرة([137]) , من طرقٍ مختلفة ووجوه متغايرة فيها مقنع للمنصف والمتعسّف!.
ثم إن ساق المعترض دليلاً على قوله؛ نقضه ببيان ضعفه, أو ضعف الاستدلال به, أو قلب دليله دليلاً عليه.
ثمّ إن نسب المعترض لأهل السنة قولاً لم يقولوا به؛ بيّن خطأه في ذلك بنقل قولهم من كتبهم –مع بعده عن ديارهم, وقلّة مصنفاتهم الحافلة- والاستدلال لها من الأصلين, حتى إذا لم يبق بين يديه دليل ولا شبهة دليل؛ إنهال عليه بوابل من الإشكالات, وسيل من الإلزامات, من جنس ما يورده هو على أهل السنة, وهذه من أحسن طرق المناظرة, فتجعله يتملّص من قوله لكثرة الواردات عليه!.
قال شيخ الإسلام: ((ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا (أي الحلّى) أن يورد عليه من جنس ما يورد على أهل الحق وما هو أغلظ منه, فإن العارضة نافعة, وحينئذ فإن فَهِم الجواب الصحيح عَلِم الجواب عما يورده على الحق, وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب؛ اندفع شرّه بذلك, وقيل له: جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا))([138]) اهـ.
وقد اعتذر المؤلف –رحمه الله- عن التحقيق في بعض المسائل, واكتفى فيها بإيراد المعارضات, وذكر الجواب الجُمْليّ: ((أما التحقيق؛ فلا مكانُهُ ولا زمانُهُ, ولا فرسانُهُ ولا ميدانُهُ))([139]) .
وينبغي التنبيه هنا على أن هذه المعارضات والأسئلة لا تلزم المورد لها, بل يورد السؤال والمعارضة وإن كان ضعيفاً عند المورد بل باطلاً, وذلك لأمرين:
((أ- ليدفع المورِدُ عن نفسه ما يرد عليه من ذلك القبيل, فيدفع الباطل بالباطل, ويكتفي بالشر من غير خروج من حقّ, ولا دخولٍ في باطل.
ب- تعريف الخصم بضعف قوله الذي استلزم تلك الأشياء الضعيفة, فإنّ القويّ لا يستلزم الضعيف))([140]) اهـ.
حتى أن المؤلف من شدة انتصاره على خصمه ودفاعه عن الحديث الذي هو من رواية المرجئة الثقات قال –تنبيهاً للقاريء من وهم قد يقع فيه-؛ ((وقد اكثرت من الانتصار لظنّ صدقهم وقبول روايتهم, حتى ربما توهّم بعض الضعفاء أني أميل إلى رأيهم, ومعاذ الله تعالى من ذلك! فعقيدة أهل السنة أصح مباني وأوضح معاني, وحسبك أنها جامعة لمحاسن العقائد..))([141]) اهـ.
4-لم يتعرّض المؤلف لجميع المسائل العقدية أو الأصولية التي يمكن أن تورد, لأن المعترض قد أعرض عن ذكرها فأعرض المؤلف عن إيرادها؛ لأنه مجيب لا مبتدي, وقد نبّه على ذلك حتّى لا يتوهّم من يقف على كلامه أنه ينصر قولاً مبتدعاً, أو يسوّي بين أهل السنة وأهل البدعة فيما لم يذكره من القضايا([142]) .
وههنا ينبّه على أمور لها علاقة بالمنهج:
*أولها: يمكن الجزم بأن المؤلف –رحمه الله- قد أنشأ هذا الجواب من حفظه, ويدل على ذلك أمور:
1-أنه أنشأ الجواب في عزلته بعيداً عن نفائس الأسفار, فقال: ((ومن أين يتأتى ذلك أو يتهيّأ لي (أي: مطالعة نفائس الأسفار) وأنا في بوادٍ خوالي وجبال عوالي))([143]) .
وقال –لما ذكر روايات مروان بن الحكم عن الصحابة-: ((إلا عبد الرحمن بن الأسود؛ فلم أظفر بروايته عنه وقت تعليق هذا الكتاب؛ لبعدي عن أهل الحديث, وعدم وجود مصنفاتهم الحافلة))([144]) اهـ, ولهذا النص دلالة أخرى سأذكرها.
وقال أيضاً –لما ذكر إيواء عثمان للحكم-: ((وقد خاض الناس في ذلك خوضاً كثيراً قديماً وحديثاً, ولم يحضرني وقت كتابة هذا الجواب شيء من هذه الكتب المذكور ذلك فيها فأنقل ما قال العلماء في ذلك, ولا حفظت في ذلك ما يُقنِع... , وأما الجواب المقنع عند النقاد؛ فهو ما ألقاه الله تعالى على خاطري في ذلك...))([145]) .
2-بعض المواضع في ((الروض)) تؤيد أن أصله ((العواصم)) لم يكن بين يدي المؤلف حال تأليف مختصره, بل كان يكتب من حفظه.
فمن ذلك أنه لما تكلّم عن روايات مروان بن الحكم عن الصحابة, وأنه لم يظفر بروايته عن عبد الرحمن بن الأسود وقت تعليق هذا الجواب, وأنه سوف يلحق ذلك, فإن عاق الموت؛ فالمنّة لمن أفاد ذلك([146]) .
فإذا ما رجعنا إلى ((الأصل))([147]) وجدناه قد ذكر هذه الرواية, وتكلم عليها, وذكر شواهدها...
فهذا إما أن يدل على أن ((العواصم)) لم يكن بين يديه وقت الاختصار, أو أنه بيّض لهذا الحديث في الكتابين, ثم ألحقه بـ ((الأصل)) فنقل ذلك اللحق, ولم يلحقه بـ ((المختصر)) ذهولاً أو نسياناً, أو ألحقه بـ ((المختصر)) إلا أن الاستنساخ وقع قبل إضافة اللحق, فبقي كذلك في جميع النسخ الفرعية.
ومن ذلك أنه لمّا سرد أحاديث معاوية([148]) رضي الله عنه في الأحكام لم يقع في جميع النسخ (الحديث السادس والعشرون), بينما نجد جميع أحاديث معاوية مستوفاة في ((الأصل)) لا خرم فيها([149]) .
3-صرّح المؤلّف –رحمه الله- بأنه لم يقف على كتب بعينها, ثم هو مع ذلك ينقل منها إما نصّاً أو بالمعنى أو يشير إلى وجود المبحث فيها معتذراً عن نقله بنصّه لعدم توفر الكتاب بين يديه, وذلك مثل:
-((روضة الطالبين)) للنووي, انظر (1/ 55, 232).
-بعض كتب يحيى بن حمزة مثل ((التحقيق والشامل والانتصار)). انظر(1/ 98)
-((شرح مسلم)) للنووي, انظر (2/ 451), نقل من قرابة الصفحة, ثم قال: ولم يحضرني ((شرح مسلم)).
-((سير أعلام النبلاء)) للذهبي, انظر (1/ 269).
وعلى كلّ حال؛ فمن ادّعى أن ((الأصل)) قد كتبه من حفظه([150])؛ فادعاء مثل ذلك في ((المختصر)) أولى وأحرى.
*ثانياً: ينبغي التنبّه لمواقع إطلاقات المؤلف –رحمه الله- عند ذكره لأهل السنة والبدعة, فإنه قد قال في ((إيثار الحق))([151]) : ((واعلم أني قد أذكر المبتدعة وأهل السنة كثيراً في كلامي؛ فأمّا المبتدعة فإنما أعني بهم أهل البدع الكبرى الغلاة ممن كانوا, فأما البدع الصغرى فلا تسلم منها طائفة غالباً.
وأما أهل السنة؛ فقد أريد بهم أهلها على الحقيقة, وقد أريد بهم من تسمّى بها وانتسب إليها. فتأمّل مواقع ذلك)) اهـ.
ومن ذلك ما قد يطلقه المؤلّف ويريد به اصطلاحاً خاصاً, مثل إطلاقه أهل السنة في مقابلة الشيعة والرافضة, فيدخل في (أهل السنة) حينئذ من خالف الشيعة في مسائل الإمامة والصحابة...
ويدلّ على هذا تفريقه بين طوائف أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة والشيعة, وبين أهل الحديث؛ فقد قال في معنى حديث (الرؤية): ((فأمّا أهل الحديث؛ فيؤمنون به كما ورد, على الوجه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة والشيعة؛ فيجتمعون على أنه تعالى لا يرى في جهة متحيزاً كما يرى القمر, ثم يفترقون في تفسير معناه...))([152]) اهـ.
*ثالثاً: الاعتذار للمؤلف لخوضه في (علم الكلام).
لم يفتأ المؤلف –رحمه الله- يحذر من الدخول في علم الكلام أو تعلمه أو استعماله في مواضع كثيرة, لو أفردت لكانت كتاباً مستقلاً([153]) . إلا أنه اضطر أحياناً للولوج فيه لنقض كلام المعترض, ومع ذلك فهو يعتذر عن الخوض فيه([154]) .
وقد اعتذر الإمام الصنعاني([155]) للمؤلف وغيره ممن اضطر للدخول مع المبتدعة في مباحثهم وعلومهم, فقال: ((إلا أنّ عذر الناظم (ابن الوزير) –رحمه الله- أنه بلي بالمبتدعة وبلسع عقاربهم, فاحتاج أن يدافع عن نفسه ودينه وعقيدته بالخوض معهم في ابتداعهم, دفعاً لشرهم, ومداواة لعللهم, فهو معذور بل مأجور مشكور, وجزاه الله خيراً, وهذا عذره وعذر كل من ألجأه الحال إلى الخوض في الابتداع ضرورة مع أهل الجدال)) اهـ.
وبعد؛ فرغم تحري المؤلف –رحمه الله- للحق, واجتهاده في ذلك بكلّ ما أمكنه, إلا أن الجواد قد يكبو:
وأيّ حسـام لم تصبـه كلالة
|
|
وأي جواد لم تخنه الحوافر؟!
|
فمن الذي عصم, ومن الذي ما وُصم!!.
ويكفي في عذر المؤلف –رحمه الله- ما قاله هو في خاتمة كتابه ((الإيثار)): (ص/ 418), قال: ((ثم إني أختم هذا المختصر المبارك بأني أستغفر الله وأسأله التجاوز عني, والمسامحة في كل ما أخطأت فيه من هذا ((المختصر)) وغيره, فإني محلّ الخطأ والغلط والجهل وأهله, وهو سبحانه وتعالى أهل المغفرة والسعة والمسامحة, والغني الأعظم, والكريم الأكرم...)) اهـ.
وقال شيخ الإسلام في ((المنهاج)) (5/ 250): ((والمؤمن بالله ورسوله باطناً وظاهراً, الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول, إذا أخطأ ولم يعرف الحقّ, كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المعتمد العالم بالذنب, فإن هذا عاصٍ مستحق للعذاب بلا ريب, وأما ذلك فليس متعمداً للذنب, بل هو مخطىء, والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان)) اهـ.
أقول: وقد علّقت على ما رأيته من ذلك في حواشي الكتاب بعبارة وجيزة, وإشارة لطيفة.
* * *
طبعات الكتاب
طبع الكتاب عدة مرات:
1- بالمطبعة المنيرية, لصاحبها الشيخ محمد منير الدمشقي (1367هـ) –رحمه الله-, سنة (1321هـ)([156]) , وقد كان الاعتماد فيها على نسخة جاء في آخرها([157]) : ((انتهى تحصيل هذا الكتاب الجليل من نسخة قال فيها: نقلت هذا الكتاب من نسخة بخط المؤلف, ذكر في آخرها: تمّ الكتاب بحمد الله ومنِّهِ وحُسن توفيقه يوم الأربعاء, الثالث من شهر شعبان الكريم من شهور سنة سبع عشرة وثمان مئة. وتاريخ أمّ هذه النسخة المباركة, خامس شهر رجب من سنة ألف ومئة واحد وعشرون ختمها الله بالحسنى)) اهـ. ولم يذكر تاريخ نِساخَتهِ لها!.
وقد صُوّرت في دار المعرفة سنة (1399هـ).
وهذه الطبعة, قد وقع فيها ما يقع في الكتب المنشورة عن نسخة واحدة متأخرةٍ, أو غير متقنة, من عدم تبين بعض الكلمات, أو السقط في النسخة الناتج عن انتقال نظر الناسخ, خاصة إذا لم تكن معارضة بالأصل المنسوخ منه.
كما وقع فيها سقط في مواضع عديدة, يبلغ مجموع الأسطر الساقطة صفحات. أما التحريفات الطباعية فكثيرة!. إلا أنّ لهذه الطبعة فضل إحياء هذا الكتاب ونشره.
2- طبعة المطبعة السلفية:
بعناية قصيّ بن محبّ الدين الخطيب, سنة (1385هـ) الطبعة الأولى. وقد اعتمد على النسخة نفسها التي اعتُمِدَت في الطبعة المنيريّة, كما جاء في خاتمتها([158]) , ويُقال في هذه الطبعة ما قد قيل في سابقتها؛ إلا أن ههنا عدة أمور:
أ- تمتاز هذه الطبعة بتلافي كثير من الأخطاء الطباعية, وتمتاز –أيضاً- بالاعتناء بعلامات الترقيم وعزو الآيات القرآنية, بينما ينعدم هذان الأمران في الطبعة المنيرية.
ب- أقحم الناشر قلمه في عدد من صفحات الكتاب معلّقاً على كلام المؤلف, ومُتعقباً له, ومتوعّداً له بالردّ, إلا أنه اعتذر عن ذلك بأنّ هذا ليس مكانه؟!!.
وفي كل تلك المواضع ينتصر الناشر لبني أُميّة, وقَتَلَة الحسين رضي الله عنه!! مُحيلاً في ذلك على تعليقات أبيه: الشيخ محبّ الدين الخطيب على ((المنتقى)) للذهبي, و ((العواصم من القواصم)) لابن العربي!.
وكأنه لا مساعد له في قوله إلا تلك التعليقات!! حتى وصل به الحد إلى إنكار بعض الروايات الثابتة, بإسلوب تهكميّ جريء.
وقد كنت أعددت جدولاً بالأخطاء والسقط في هذه الطبعة, ثم بدا لي الاستغناء عن ذلك بما أثبته في حواشي هذه المطبوعة, مما فيه دلالة على وقوع تحريف أو سقط في (س).
3- طبعة المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع بصنعاء: سنة (1405هـ), وقد أعاد الناشر تنضيد الكتاب اعتماداً على الطبعات السابقة.
4- وقد أشار العلامة الأكوع في كتابه الموسوعي: ((هِجَرُ العلم ومعاقله في اليمن)) (3/ 1741), إلى طبعة لكتاب ((الروض)), طبعت قبل سنة (1350هـ) بدعم من الأمير محمد بن الإمام يحيى حميد الدين, ولم أقف على هذه الطبعة.
وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة (التاملية)([159]), ذكره الأكوع في «هجر العلم)) (3/ 1375).
* * *
مخطوطات الكتاب
لا يزال الحصول على المخطوطات من الخزائن في الدول العربية (خاصّةً!!) عقبة كؤوداً في طريق الباحثين, فقد يمضي الباحث مدة مديدة في سبيل الحصول على مخطوطة ما دون جدوى, وفي أحسن الأحوال يحصل على بعض طَلِبَتِهِ!!.
وهذا ما حصل لي في هذا الكتاب؛ فقد انتظرت قرابة السنة رجاء الحصول على مخطوطات الكتاب من مكتبات اليمن, حتى أوشكت على الإياس من ذلك, إلى أن يسّر الله تعالى الحصول على بعضها –كما سيأتي- بمساعدة من أخي الكريم أحمد أبو فارع وفقه الله لكل خير.
وكنت قبل هذا قد حصلت على نسخة للكتاب من مكتبة عارف حكمت([160]) بالمدينة النبوية –حرسها الله- وقابلت الكتاب عليها؛ ثم ظهر أنها عديمة الجدوى كما سيأتي.
وقد حصلت على ثلاث نسخ خطيّة للكتاب, وهذا وصفها:
1-نسخة خطية في (114) ورقة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (70/ علم كلام), مسطرتها: 32×21سم, وعدد الأسطر: 31 سطراً, خطها نسخي متوسط.
كتبت سنة (1179هـ) في شهر ذي القعدة في ليلة الاثنين كما جاء في آخرها. وناسخها هو العلامة لُطْف الباري بن أحمد بن عبد القادر بن الورد([161]) .
وهي نسخة تامّة جيدة صحيحة قليلة الأخطاء, مقابلة على الأصل المنسوخة منه فقد جاء في آخرها: ((بلغ مقابلة على أصله (عناية) حسب الإمكان, وذلك يوم الأحد لعلّه سابع شهر محرم الحرام سنة [1180]([162]), وكتب الفقير إلى رحمة ربه: لطف الباري بن أحمد, عفى الله عنه وغفر له ولوالديه ولمسامحه ولجميع المؤمنين آمين)) اهـ.
وعلى هوامش النسخة تعليقات كثيرة ومتنوعة لجماعة من العلماء, منها ما هو بخط ناسخها, ومنها ما هو بخط المطالعين, وقد ظهرت أغلب هذه التهميشات إلا القليل منها فقد أصابه بعض الطمس, أما العلماء أصحاب التعليقات فهم:
1-الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1182هـ) وتعليقاته متنوعة ومفيدة, وهي كثيرة في أوائل الكتاب وتقلّ تدريجيّاً حتى تندر في أواخره؛ وقد أثبت جميع تعليقاته.
2-القاضي محمد بن عبد الملك الآنسي([163]) (1316هـ) قال زبارة: ((القاضي الحافظ الناقد الضابط البارع التقي)) اهـ. وكان أديباً شاعراً علاّمة في عدد من الفنون, ولد سنة (1273هـ), وتوفي سنة (1316هـ) وعمره (43) سنة.
3-أحمد بن عبد الله الجنداري([164]) (1337هـ). وهو عالم مبرّز في علوم كثيرة, كان زيدياً متعصّباً ثم انقطع إلى علوم السنة, وترك التعويل على آراء الرجال, وانتهت إليه في أواخرأيامه الرياسة في علوم السنة ومعرفة الحديث والرجال ومتعلقاتها, وانتفع به خلق كثير وجمّ غفير على هذه الطريقة, منهم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين([165]) , وإن لم يجاهر بذلك حرصاً على منصب الإمامة!.
وقد أَثْبَتُّ في الهامش جلّ تعليقات هذين العالمين, إلا مالم يظهر تامّاً في المصورة أو مالم أر في إثباته نفعاً, وكان قبيل المجادلات الكلامية, أو ذكر مذاهب بعض الزيدية.
4-العلاّمة هاشم بن يحيى بن محمد الشامي([166]) (1158هـ).
5-العلاّمة محمد بن حسين العمري([167]) (1330هـ).
6-كاتب النسخة وقد تقدمت ترجمته.
وتعليقات هؤلاء العلماء قليلة جداً في الكتاب ولم ألتزم بإثباتها جميعاً.
وقد اتخذت هذه النسخة أصلاً, ورمزت لها بـ ((الأصل)) أو (أ).
2-نسخة خطية تقع في (79) ورقة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (69/ علم كلام), مسطرتها: 35×24سم, عدد الأسطر: 32 سطراً, خطها: نسخي جيد حديث.
كتبت سنة (1336هـ) في شهر ذي القعدة في يوم الجمعة. كما جاء في آخرها. وناسخها هو لطف بن سعد السّميني([168]) , كما جاء في آخر المجموع الذي بخطه الذي بدأ بـ ((ترجمة ابن الوزير)) ثم بـ ((الروض)) ثم بـ ((العلم الشامخ)) للمقبلي (ق/ 219أ).
وهذه النسخة كسابقتها تامّة جيدة نادرة الخطأ, مقابلة بعناية, فقد جاء في آخرها: ((بلغ بحمد الله تعالى مقابلة هذه النسخة ليلة (3) رمضان الكريم سنة (1340هـ), والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى)) اهـ.
وقد كان الشروع في مقابلتها في (13) ذي الحجة الحرام سنة (1339هـ) كما جاء على طرّة النسخة.
ويبدو أن أصل هذه النسخة نسخة بخط القاضي العلاّمة محمد بن عبد الملك الأنسي, فقد جاء في خاتمتها ما صورته: ((قال القاضي العلاّمة محمد بن عبد الملك الآنسي –رحمه الله- في آخر النسخة التي بقلمه التي قابلنا هذه النسخة عليها: [وجد] بخط سيدي العلاّمة إسحاق بن يوسف –رحمه الله- في آخر نسخته من هذا التأليف ما لفظه: انتهى ما أردت من مطالعة هذا السّفر الجليل الذي هو برؤ العليل وشفاء الغليل, فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة وحشرة في زمرة حبيبه الشـــفيع, وحـرّر في رمضان سنة (1137هـ) انتهى)) اهـ.
وعلى هوامش النسخة تعليقات كثيرة لجماعة من العلماء تتفق في معظمها مع ما في نسخة (الأصل) وقد تزيد عليها أحياناً. ويظهر من هوامش النسخة أن كثيراً من تعليقاتها منقولة من هوامش نسخة العلاّمة الجنداري([169]) , أو من نسخة مقروءة عليه.
والقول في إثبات هذه التعليقات كالقول في نسخة الأصل. وقد جعلتها نسخة مساعدة في قراءة كلمة أو إثبات ما هو أولى. ورمزت لها بـ (ي).
3-نسخة خطية (102) ورقة, في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة النبوية, مجموعة الشيخ عارف حكمت برقم (702).
مسطرتها: 30×12.5سم, عدد الأسطر: 31 سطراً, خطها: نسخي معتاد مضطربة النقط, كتبت سنة (1179هـ) في آخر شهر ذي الحجة الحرام, كما جاء في آخرها, ولم يكتب الناسخ اسمه.
وهي نسخة سقيمة, كثيرة التحريف والسقط الناتج عن انتقال النظر, إضافة إلى النقط العشوائي, وهناك سقط كبير وهو (الوهم الثالث عشر) برمّته([170]) من (354-366) من هذه الطبعة!!.
وكنت قد قابلت جميع هذه النسخة وأثبت ما وقع فيها من سقط وتحريف, ثم عدلت عن ذلك؛ إذ لا جدوى من وراءه, وقد استفدت منها في مواضع لا تزيد على العشرة.
وعلى هوامش النسخة بعض العناوين لموضوعات الكتاب, بقلم كبير.
وهناك نسخ للكتاب إلا أني لم أقف عليها وهي:
-نسخة في مكتبة الأوقاف بصنعاء في (132) ورقة. مسطرتها: 21×15سم عدد الأسطر: 23 سطراً, ناسخها: إبراهيم بن أبي القاسم بن مطير, خطها: نسخي معتاد, في يوم الخميس من ذي الحجة سنة (956هـ). من وقف محمد بن علي قيس([171]). انظر ((الفهرس)) (2/ 638).
-نسخة في دار المخطوطات اليمنية بصنعاء, صوّرها معهد المخطوطات العربية بمصر, وتقع في (358) ورقة!! منسوخة في سنة (1068هـ).
-نسخة في دار الكتب المصرية في (61) ورقة برقم (323). مسطرتها: 31×22سم, عدد الأسطر: 40 سطراً, بقلم: عبد الله بن علي بن علي بن محمد ابن مهدي بن أحمد الجيوري([172]) , سنة (1319هـ). انظر: ((فهرس دار الكتب)) (1/ مصطلح/ 231).
* * *
خطة العمل في الكتاب
1- قدمت بمقدمة, أَبَنتُ فيها عن مشروعية الرد على المخالف, وأنه باب جهادي.
2- نشرت ترجمة المؤلف لمحمد بن عبد الله بن الهادي الوزير (897هـ), حفيد أخي المؤلف, وتلميذه.
3- عرّفت بالكتاب, وذلك في نقاط عديدة.
4- قابلتُ ما وقع لي من نسخ الكتاب الخطية, معتمداً في ذلك على نسخة (الأصل) المشار إليها بـ (أ), وسبق سبب اعتمادها أصلاً, وجعلت نسخة (ي) أصلاً آخر يعتمد عليه, وقد يترجح ما فيه إذا قوي حظه من النظر, ولم أجمد على ما في نسخة (أ). وكذلك استفدت من الطبعة السلفية, ورمزت لها بـ (س), كما استفدت –أيضاً- من (الأصل) وهو ((العواصم)) في مواضع, وكذلك من نسخة (ت). فما كان من بقية النسخ أو زيادة من عندي لصالح النص, وضعتها بين معكوفتين هكذا [ ].
5- خدمت نصّ الكتاب على ما هو متعارف عليه عند محققي التراث والمعتنين به, على ما أسعفني به الوقت والمراجع.
6- لم أسهب في تخريج الأحاديث, ولا في التعليق على بعض القضايا, بل حرصت على الاقتصاد ما استطعت إليه سبيلاً, إذ التطويل في ذلك يخرج الكتاب عن المقصود.
7- ثم صنعت فهارس نظرية؛ للآيات والأحاديث والأشعار والأعلام والكتب.
وفهارس علمية؛ للموضوعات على الفنون, وللفوائد المنثورة, ولموضوعات الكتاب على تسلسلها.
وأرجو بهذا أن أكون قد وفّقت لخدمة هذا السّفر النفيس مع اعترافي بالعجز والتقصير, وصلى الله على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.
* * * *
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين, ومعلّماً للأمّيين بلسان عربيّ مبين, وقال وهو أصدق القائلين: ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ[ [الجمعة:2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيءٍ قدير. وأشهد أنّه كما وصف ذاته الكريمة في كتابه المنير: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى:11]. وأنّه مُنزّه عن إجبار العباد, وأنّه لا يرضى لعباده الكفر, ولا يحب الفساد, وأنّه لا يظلم العبيد, وأنّه لا يخلف الوعد ولا الوعيد, وأنّه المختصّ بصفات الكمال, ونعوت الجلال, وأنّه منزّه عن الأشكال والأمثال.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب الكريم, المنعوت بالخلق العظيم. الموعود يوم القيامة مقاماً محموداً, وحوضاً موروداً, وشرفاً مشهوداً, وأصلّي وأسلّم صلاة دائمة النّماء, تملأ الأرض والسّماء وما بينهما, عليه وعلى آله الكرماء, الثّقل المذكور مع القرآن([173]) أئمة الإسلام, وأركان الإيمان المتوّجين بتاج: ]قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى[ الشاهد بمناقبهم كتاب: ((ذخائر العقبى))([174]), وعلى أصحابه حماة الإسلام, وليوث الصّدام, وهداة الأنام, وأهل المشاهد العظام, أهل مكّة والهجرتين, وطيبة والعقبتين, الذين أغناهم نصّ القرآن على فضلهم عن أخبار الآحاد والقياس, حيث قال تعالى [في خطابهم]([175]) : ]كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ[ [آل عمران:110].
أما بعد: فإنّ الله لما اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أميناً, ومعلّماً مبيناً, واختار له ديناً قويماً, وهداه صراطاً مستقيماً, ارتضاه لجميع البشر إماماً, وجعله للشرائع النّبوية ختاماً, وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً [له]([176]) وتعظيماً, فقال عزّ قائلاً كريماً: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيماً[ [النساء:65] ثم إنه عز وجل أثار أشواق العارفين إلى الاقتداء برسوله؛ بكثرة الثّناء عليهم في تنزيله, مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: ]الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ[ [الأعراف:157]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة, الشّاهدة لمتبعيه بالطريقة القويمة.
فلمّا وعت هذه الآيات آذان العارفين, وتأمَّلتها قلوب الصّادقين, حرصوا على الاقتداء به في أفعاله, والاستماع منه في أقواله, فكانوا له أتبع من الظّلم, وأطوع من النّعل: فعلّمهم أركان الإسلام وشرائعه وفرائضه ونوافله, وكان بهم رءوفاً رحيماً, وعلى تعليمهم حريصاً أميناً, كما وصفه ربّ العالمين, حيث قال في كتابه المبين: ]لَقَد جَآءَكُم رَسُولٌ/ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [التوبة:128].
فلم يزل عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى أفضل الأعمال, ويهديهم إلى أحسن الأخلاق, ويلزمهم ما فيه النجاة والفوز في الآخرة, والسلامة والغبطة في الدنيا, من لزوم الواجب [والمسنون, ومجانبة المكروه, وترك الفضول, فلم يترك خيراً قطّ إلا أمرهم به]([177]) ففعلوه, ودعاهم إليه فأجابوه, حتّى لم يكن شيء في زمانه من أعمال البرّ متروكاً, ولا منهجاً من مناهج الخير إلا مسلوكاً, فلمّا تمّ ما أراده الله تعالى برسوله من هداية أهل الإسلام, وبلّغ إلى الأنام جميع ما عنده من الأحكام؛ من العقائد والآداب والحلال والحرام, أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً: ]اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِيناً[ [المائدة:3]. فكمل الدين في ذلك الزّمان, ووضحت الحجّة والبرهان, ودحضت وساوس المشبّهين؛ وانحسمت مواد المبطلين, إذ لا حجّة على الله بعد الرّسل لأحد من العالمين, بنصّ كتابه المبين.
حديث المؤلف عن نفسه, ودفاعه عن السنة, وبيان مكانتها
|
|
هذا؛ وإنّي لما رَتَبْت([178]) رتوب الكعب في مجالسة العلماء السّادة, وثبتُ ثبوت القطب في مجالس العلم والإفادة, ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمّراً في طلب معرفة ديني, أنتقل في رتبة الشّيوخ من قدوة إلى قدوة, وأَتَوَقَّل([179]) في مدارس العلم من ربوة إلى ربوة, ولم يزل يراعي بلطائف الفوائد نَوَاطِف, وبناني للطف المعارف قَوَاطِف: لم يكن حتماً أن يرجع طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسيراً, ولم يجب قطعاً أن يعود جناح طلبي للفوائد مَهيضاً كسيراً, ولم يكن بدعاً أن تنسّمت من أعطارها روائح, وتبصّرت من أنوارها لوائح, أشربت قلبي محبّة الحديث النّبوي, والعلم المصطفوي, وكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه, وتمهيد ما تعفَّى من رسومه.
ورأيت أولى ما اشتغلت به: ما تعيّن فرض كفايته بعد الارتفاع, وتضيّق وقت القيام به بعد الاتساع, من الذَّبَّ عنه, والمحاماة عليه, والحثّ على اتّباعه والدُّعاء إليه.
فإنه علم الصّدر الأوّل, والذي عليه بعد القرآن المعوّل.
وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس.
وهو المفسّر للقرآن بشهادة : ]لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ[ [النحل:44].
وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: ]إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى[ [النجم:4].
وهو الذي وصفه الصّادق الأمين, بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمّعة: ((إني أوتيت بالقرآن ومثله معه))([180]) .
وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه, في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه.
وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للرّكب, وتفاوتت العلوم في الرتب, أصمَّت مِرْنانُ([181]) نوافله كلّ مناضل, وأَصمَّت برهان معارفه كلّ فاضل.
وهو العلم/ الذي ورّثه المصطفى المختار, والصّحابة الأبرار, والتّابعون الأخيار.
وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام, الباقية حسناته في أمّة الرّسول –عليه الصلاة والسلام-.
وهو العلم الذي صانه الله عن عبارات الفلاسفة, وتقيّدت عن سلوك مناهجه فهي راسفة([182]) في [الأغلال]([183]) آسفة.
وهو العلم الذي جلي للإسلام به في ميدان الحجّة وصلى, وتجمّل بديباج ملابسه من صام لله وصلّى.
وهو العلم الفاصل حين تلجلج الألسنة بالخطاب, الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطّاب([184]) .
وهو العلم الذي تفجّرت منه بحار العلوم الفقهية, والأحكام الشّرعية, وتزيّنت بجواهره التفاسير القرآنية, والشّواهد النّحوية, والدّقائق الوعظية.
وهو العلم الذي يميز الله به الخبيث من الطّيّب, ولا يرغم إلا المبتدع المتريّب.
وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السّلامة, ويوصله إلى دار الكرامة, والسّارب([185]) في رياض حدائقه, الشّارب من حياض حقائقه, عالم بالسنّة, ولابس من كلّ خوف جنّة, وسالك منهاج الحق إلى الجنّة.
وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي, وإن برز في علمه, والفقيه وإن برّز في ذكائه وفهمه, والنّحوي وإن برّز في تجويد لفظه, واللّغوي وإن اتسع في حفظه, والواعظ المبصّر, والصّوفي والمفسّر, كلّهم إليه راجعون, ولرياضه منتجعون.
ولنورد نبذة لطيفة ونكتة شريفة مما قيل فيه من أشعار الحكمة, وكلمات أحبار هذه الأمة, ارتياحاً إلى ذكر ممادحه, والتذاذاً بِسَطر فضائله.
بعض الأشعار في الثناء على الحديث وأهله
|
|
فمن ذلك ما قال الحافظ الصّوري([186]) :
قل لمن عاند الحديث وأضـحى
|
|
عـائباً أهله ومـــن يدّعيه
|
أبعلم تقـول هــذا أبــن لي
|
|
أم بجهل فالجهــل خلق السّفيه
|
أيعاب الذين هـم حفظـوا الدين
|
|
من الـترهـات والتّمــويـه
|
وإلى قـولهم ومـا قـد رووه
|
|
راجع كـل عـالـم وفقيـه([187])
|
|
|
|
|
ومن ذلك قول الحافظ الحُميدي([188]) :
كتـاب الله عـزّ وجلّ قـولي
|
|
وما صحّت بـه الآثار ديني
|
وما اتفـق الجميع عليه بدءاً
|
|
وعوداً فهـو مــن حقّ يقين([189])
|
فدع ما صدّ عن هذا وخذها
|
|
تكن منها عـلى عـين اليقين([190])
|
ومن ذلك قول أبي محمد هبة الله بن الحسن الشّيرازي([191]) :
عليك بأصحاب الحـديث فإنهـم
|
|
على منهج ما زال بالـدين معلما
|
وـا النور إلاّ في الحديث وأهـله
|
|
إذا ما دجى الليل البهيــم وأظلما
|
فأعلى البرايا من إلى السّنن اعتزى
|
|
وأغوى البرايا من إلى البدع انتمى
|
ومن يترك الآثار ظـل بسعيه([192])
|
|
وهل يترك الآثار مـن كان مسلماً
|
ومن ذلك قول العلاّمة مجد الدّين محمد بن أحمد بن [الظهير]([193]) الإربلي([194]) :
إذا شئت أن تتــوخّى الهـدى
|
|
وأن تأتـي الحـقّ مــن بابـه
|
فدع كلّ قـول ومن قالــــه
|
|
لقــول النّـــبيّ وأصحابـه
|
فلـم تنج مـن محادثـات الأمور
|
|
بغـير الحــــديث وأربابـه
|
ومن ذلك قول الحافظ أبي محمد علي بن أحمد الفارسي:
عليـك كتـــاب الله لا تتعدّه
|
|
ففيـه هدى للزّيغ مــاح وقامع
|
ومـا ســنَّهُ النّبي مــحمدٌ/
|
|
فقد خاب عاصيه وفــاز المتابع
|
فخير الأمور السّالفات على الهدى
|
|
وشـرّ الأمـور المحدثات البدائع
|
ومن ذلك قول الحافظ أبي عبد الله الذّهبي:
العلم قـال الله قــال رسـوله
|
|
إن صحّ والإجمـاع فاجـهد فيه
|
وحذار من نصب الخلاف جهالة
|
|
بين النّبي وبيـــن رأي فقيه([195])
|
ومن ذلك قول بعضهم([196]) :
ديـن النّــبي محمد آثـــار
|
|
نعم المطيّـة للفتــى الأخـبار
|
لا تـرغبنّ عن الحديث وأهـله
|
|
فالـرّأي ليل والحــديث نهار
|
وممّا قلت في ذلك:
العلم ميراث النّــبي كـذا أتى
|
|
فـي النّـصّ, والعلماء هم ورّاثه
|
فإذا أردتّ حقيقة تدري بـمن([197])
|
|
وُرَّاثــه فكَّـرت مـا ميراثُـه
|
ما ورّث المختار غـير حديثـه
|
|
فينا, وذاك متـاعــه وأَثاثــه
|
فـلنا الـحديثُ وراثــة نبويّـة
|
|
ولكلّ مُحـدِث بِدعــةٍ إِحداثُـه
|
ومما قلت في الرّدّ على من كره تمسّكي بالسّنة([198]) :
يا لائمي كُفّ عن لومي ومعتقدي
|
|
قـول النبي فهمّي فــي تعرُّفِه
|
فما قفوت سوى آثار([199]) منهجه
|
|
ولا تلوثُ سوى آياتِ مُصحفِـه
|
ففي المجازات أمضي نحو مَعْلمه
|
|
وفي المحاراة أبقى وسط موقِفِـه
|
وإذا سعيت فسـعي نحو كعبتـه
|
|
وإن وقـفت ففي وادي معرَّفـه
|
وحقّ حبّي لـه أنّـي بـه كلفٌ
|
|
يغنيني الطّبع فيـه عـن تكلّفـه
|
هذا الذي كثّر العذّال فيــه فـما
|
|
تعجَّب القلـب إلا مـن مُـعَنِّقه
|
يستأهل القلب مــا يلقاه إن بقيت
|
|
له عـلاقة تـوليـع بــمألفـه
|
ومما قلت في ذلك: القصيدة الطويلة([200]) التي أوّلها:
ظلَّـت عــواذله تروح وتغتدي
|
|
وتُعيـدُ تعنيـف الـمحبّ وتَبْتَدي
|
يا صاحِبيَّ على الصَّبابـة والهوى
|
|
من مِنكما في حبِّ أحمد مُسعدي
|
حسبي بأني قـــد شُهرتُ بحبِّه
|
|
شـرفاً ببردته الجِميلـةِ أَرتـدي
|
لي باسمه وبحبّــه وبقربـــه
|
|
ذِمَـمٌ عِظامٌ قـد شَدَدت بها يدي
|
ومحمد أوفـى الخلائــق ذمّـة
|
|
فـليبلغنّ بي الأمـاني في غَــدِ
|
يا قلبُ لا تســــتبعدنَّ لقـاءه
|
|
ثق باللقــاء, وبالـوفاء فكأَن قَدِ
|
يـا حـبَّذا يوم القيامة شُهرتــي
|
|
بين الخلائق فــي المقام الأحمدِ
|
بمحبَّتي سـنن الشّـفيع وأَنَّــني
|
|
فيهـا عَصَيتُ مــعنِّفي ومفنِّدي
|
وتركتُ فيها جـيرتي وعشيرتي
|
|
ومكان أترابي وموضـعَ مولدي
|
فلأشكونَّ عليه شــكوى موجعٍ
|
|
متظلِّـم مـتجــرِّم مُسـتنجـد
|
وأقولُ: أنَجِد صــادقاً في حُبّه
|
|
مـن يُنْجـدِ المظلومَ إِن لم تُنجـدِ
|
إِني أُحـبُّ محمداً فـوقَ الورى
|
|
وبـه كما فَعَــلَ الأوائل أقتدي
|
فقد انقضت خير القرون ولم يكن
|
|
فيهم بغـيرِ محمدٍ مـن يَهتدي([201])
|
معاداة المؤلف
لتمسكه بالسنة
والترسّل عليه
|
|
هذا؛ وإنّي لما تمسّكت بعروة السّنن الوثيقة, وسلكت سنن الطريقة العتيقة؛ تناولتني الألسنة البذيّة من أعداء السّنة النّبوية, ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة, وأمور غير ذلك كثيرة. حرصاً على ألا يتّبع ما دعوت إليه من العمل بسنّة سيّد المرسلين, والخلفاء الرّاشدين, والسّلف الصّالحين, فصبرت على الأذى/ , وعلمت أنّ النّاس ما زالوا هكذا.
ما سَـلِمَ الله مــن بــريَّتـه
|
|
ولا نــبيُّ الهدى, فكيفَ أَنَا!([202])
|
إلا أنّه لما اتّسع الكلام وطال, واتّسع مجال القيل والقال, جاءتني رسالة محبّرة([203]), واعتراضات محرّرة, مشتملة على الزّواجر والعظات, والتنبيه بالكلم الموقظات, زعم صاحبها أنه من النّاصحين المحبين, وأنّه أدّى به ما عليه لي من حقّ الأقربين, وأهلاً بمن أهدى إليّ([204]) النصيحة, فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة, وليس بضائر إن شاء الله ما يعرض في ذلك من الجدال, مهما وزن بميزان الاعتدال, لأنه حينئذ([205]) يدخل في السّنن, ويتناوله أمر: ]وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ [النحل:125] وقد أجاد من قال وأحسن:
وجِدَالُ أهلِ العلمِ ليــس بضائرٍ
|
|
مـا بينَ غَــالبهم إلى المَغلُوبِ
|
بيد أنّها لم تضع تاج المرح والاختيال, وتستعمل ميزان العدل في الاستدلال, بل خلطها من سيما المختالين بِشوب([206]) , ومالت من التّعنّت في الحجاج إلى صوب, فجاءتني تمشي الخطراء, وتميس في محافل الخطراء, مفضوضة لم تختم, مشهورة لم تكتم. متبرّجة قد كشفت حجابها, وطرحت نقابها, وطافت على الأكابر, وطاشت إلى الأصاغر, حتّى مضّت أيدي الابتذال نُضارتها, وافتضّت أفكار الرّجال بكارتها, وإنّ خير النَّصائح الخفيّ, وخير النُّصاح الحفيّ, وخير الكتاب المختوم, وخير العتاب المكتوم.
رد المؤلف على الرسالة, وطريقته
فيه
|
|
ثم إني تأملت فصولها وتدبّرت أصولها, فوجدتها مشتملة على القدح تارة فيما نقل عنّي من الكلام, وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام, وتارة في سنّة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام, فرأيت ما يخصّني غير جدير بصرف العناية إليه, ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه, وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية, مثل قدحه في صحة الرّجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية, والآثار الصّحابية, ونحو ذلك من القواعد الأصولية, فإني رأيت القدح فيها ليس أمراً هيناً, والذّبّ عنها لازماً متعيناً, فتعرّضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار, وجعلت الجواب متوسّطاً بين الإطناب والاختصار, وصدّني عن التّوسيع والتكثير, خشية التنفير والتأخير:
أمّا التنفير: فلأن التوسيع [يُمل]([207]) الكاتب والمكتوب إليه, والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه, مع أنّ القليل يكفي المنصف, والكثير لا يكفي المتعسّف, وضوء البرق المنير, يدلّ على النّوء الغزير.
وأمّا التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيد عرائس الأفكار, حتّى تستكمل الزّينة, ومطالعة نفائس الأسفار, الحافلة بالآثار المتينة, والأنظار الرّصينة.
فهذا البحر وهو الزّخّار, يحتاج من السّحب إلى مَددٍ([208]) , والبدر وهو النّوار, يفتقر من الشّمس إلى يد. ومن أين يتأتّى ذلك أو يتهيّأ لي, وأنا في بوادٍ خوالي, وجبالٍ عوالي!([209])
فحيناً بطودٍ تُمطر السُّحب دونـه
|
|
أَشـمَّ مُنيفٍ بالغمــامِ مُـؤَزَّرُ
|
وحيناً بشــعب بطنِ وادٍ كأَنـه
|
|
حَشا قلم تُمسي بـه الطيرُ تصفر
|
إذا التفتَ السـاري بـه نحو قلةٍ
|
|
تـوهّمها مــن طـولها تتأخّر
|
أجاور في أرجائـه البومَ والقَطـا
|
|
فَـجيرتهـا للمرءِ أولـي وأَجدرُ/
|
هنالك يصفو لي من العيش وِرده
|
|
وإلاّ فورد العيش رَنـق([210]) مكدَّر
|
فإِن يبست ثَمَّ المراعي وأَجدبـت
|
|
فَرَوْضُ العُلا والعلم والدّين أخضر
|
ولا عـارَ أن ينجو كريمٌ بنفسـه
|
|
ولكنَّ عاراً عجْزُهُ حــين يُنصر
|
فقـد هاجَر المختار قبلي وصحبُه
|
|
وفرّ إلى أَرض النَّجاشـي جعفرُ
|
ولما أنشأت هذا الجواب من هذه الجبال العالية, والبوادي الخالية, قصر باعي, وضاقت رباعي, فتمصّصتُ من بَلَلِ ما عندي بَرَضا([211]) , وما أكفى ذلك وأرضى, إذا كان ذلك طيباً محضاً!.
سامحاً بالقليل من غــير عـذر
|
|
ربما أَقنع القــــليلُ وأرضى
|
ولكن هيهات لذلك! لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَفِّ([212]) الصّاع, ولا بد لي من الانخداع بداعية الطّباع. وقد قصدت وجه الله تعالى في الذّبّ عن السنن النبوية والقواعد الدينية, وليس يضرّني وقوف أهل المعرفة على مالي من التّقصير, ومعرفتهم أنّ باعي في هذا الميدان قصير, لاعترافي بأني لست من نقّاد هذا الشأن, لا من فرسان هذا الميدان. لكني لم أجد من الأصحاب من تصدّى لجواب هذه الرسالة, لما يجرّ إليه [ذلك]([213]) من سوء القالة, فتصديت لذلك من غير إحسان ولا إعجاب, ومن عدم الماء تيمّم بالتراب, عالماً بأني وإن([214]) كنت باري قوسها ونبالها, وعنترة فوارسِها ونِزالها, فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد, ولا يصفو جوابي من الكدر عند النّقاد.
فالكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو: كلام الله الحكيم, وكلام من شهد بعصمته القرآن الكريم. وكلّ كلام بعد ذلك فله خطأ وصواب, وقشر ولباب. ولو أنّ العلماء رضي الله عنهم تركوا الذّبّ عن الحقّ خوفاً من كلام الخلق: لكانوا قد أضاعوا كثيراً, وخافوا حقيراً.
وأكثر ما يخاف الخائض في ذلك أن يكل حسامه في معترك المناظرة وينبو, ويعثر جواده في مجال المحاجة ويكبو, فالأمر في ذلك قريب: إن أخطأ فمن الذي عُصم, وإن خُطىء فمن الذي ما وُصِم؟.
والقاصد لوجه الله تعالى لا يخاف أن يُنقد عليه خلل في كلامه, ولا يهاب أن يُدل على بطلان قوله, بل يحبّ الحقّ من حيث أتَاه, ويقبل الهُدى ممن اهداه, بل المُخاشنة بالحقّ والنّصيحة, أحبّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة, وصديقك من [صَدَقك]([215]) لا من صدّقك.
وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس, وإيّاك من يقول: لا باسَ ولا تاسَ.
ثمّ إن الجواب([216]) لما تمّ –بحمد الله تعالى- اشتمل على علوم كثيرة, وفوائد غزيرة, أثرية ونظرية, ودقيقة وجليلة, وجدليّة وأدبية, وكلّها رياض للعارفين نضرة, وفراديس عند المحققين مزهرة, لكنّي وضعته وأنا قويّ النّشاط, متوفّر الدّاعي, ثائر الغيرة, فاستكثرت من الاحتجاج رغبة في قطع الّلجاج.
فربما كانت المسألة في كتب العلماء –رضي الله عنهم- مذكورة غير محتج عليها بأكثر من حجة واحدة, فأحتج عليها/ بعشر حجج, وتارة بعشرين حجة, وتارة بثلاثين حجة, وكذلك قد يتعنّت صاحب الرسالة, ويُظهر العجب بما قاله, فأحبّ أن يُظهر له ضعف اختياره, وعظيم اغتراره, فأستكثر من إيراد الإشكالات عليه, حتّى يتضح له خروج الحقّ من يديه, فربما أوردت عليه في بعض المسائل أكثر من مئتي إشكال, على مقدار نصف ورقة من كتابه.
ثم إنِّي تأمّلت الكتاب –بعد ذلك- فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق, يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيمّا والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنّة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدّقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصّحيح عن شرب الأدوية النّافعة, وألم المكاوي الموجعة. فاختصرت منه هذا الكتاب, على أني لم أطنب في((الأصل)) كلّ الإطناب لما قدّمت من العذر عن ذلك, وتوعّر تلك المسالك.
وقد اقتصرت في هذا((المختصر)) على نصرة السّنن النّبويّة, والذّبّ عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية, سالكاً من ذلك في محجّة جليّة, غير عويصة ولا خفيّة, وتركت التعمّق في الدّقائق, والتقحّم في المضايق, رجاء أن ينتفع بهذا المختصر المبتدي والمنتهي, والأثري والنّظري, وسمّيته:((الروض الباسم, في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم, وجعلنا من جيران حِماه المحرّم.
كلام المعترض على عدالة الرواة
|
|
وهذا حين الشّروع في الجواب, والله الهادي إلى الصّواب:
قال: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرّواة [ومعرفة عدالتهم]([217]) في هذا الزّمان مع كثرة الوسائط كالمعتذرة, ذكر هذا كثير من العلماء منهم: الغزالي, والرّازي. وإذا كان ذلك في زمانهم فهو في زماننا أصعب, وعلى طالبه أتعب, لازدياد الوسائط كثرة والعلوم دروساً وفترة. فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزالي: إنّا نكتفي بتعديل أئمة الحديث: كأحمد بن محمد بن حنبل, ويحيى بن سعيد الأنصاري([218]) , وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومحمد بن إسماعيل البخاري, فإنّ هؤلاء قد تكلّموا في الرّواة, وبيّنوا العدل ممن سواه. قلنا: هذا لا يصح لوجوه؛ أحدها: أنّا إذا قبلنا تعديلهم فيمن كان متقدماً, فما يكون فيمن بعدهم من الرّواة؟ فإنّ اتصال رواية الحديث من وقتنا إلى مصنّفي الكتب الصّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصّحة متعسر لأجل العدالة.
ثمّ خرج المعترض إلى ذكر شيء يتعلّق بمسألة [المتأَولين]([219]) فتركته, لأنّ الكلام عليها يأتي مستقلاً كما فعل المعترض([220]) , فإنه أفردها.
الجواب في بيان أن الاجتهاد واجب على الأمة وبيان عدم تعذره
|
|
أقول: الجواب على هذا المعترض يتبيّن بذكر وجوه:
الوجه الأول: طلب الحديث ومعرفته شرط في الاجتهاد([221]), والاجتهاد فرض واجب على الأمّة بلا خلاف([222]) , لكنّه من فروض الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها وتتعيّن عند عدم ذلك.
فإذا ثبت أنّه فرض لزم أنّه من الدين, وإذا لزم أنّه من الدين لزم أنّه غير متعسّر ولا متعذّر لقوله تعالى: ]وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ [الحج:78] وقوله تعالى: ]يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ[ [البقرة:185]. وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:/ ((بعثت بالحنيفيّة السّمحة))([223]) .
والمعترض مقرٌ بأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر, ومقرّ أن الله يريد منا الاجتهاد ومعرفة الحديث الصّحيح. فقوله: إنّ معرفة الحديث متعسّر يستلزم أنّ الله تعالى يريد منّا المتعسّر, بل لم يقنع حتّى قال: إنّه متعسّر أو متعذّر, واستلزم أن الله تعالى يريد منا المتعسّر أو المتعذّر.
فإن قال: إنّما أردت بذلك مشقّة, والمشقّة تلازم التّكاليف غالباً.
قلنا: مجرّد المشقّة لا يسمّى عُسراً في العرف العربي, فإنّ المشقة ملازمة لأكثر الأعمال الدنيوية والأخروية, وقد يشقّ على الإنسان قيامه من مجلسه إلى بيته, ونحو ذلك.
والعُسر في عرف اللسان العربي مستعمل في الأمور العظيمة لا في كل أمر فيه مشقّة, فإذا قيل: فلان في عسر, أفاد أنّه في شدّة عظيمة من مرض أو خوف أو فقر شديد أو غير ذلك, وقد يطلق على ما هو دون ذلك مع القرينة, فأمّا إذا تجرّد الكلام عن القرينة, وقيل: إنّ فلاناً في عسر, لم يسبق إلى الفهم أنّ معنى ذلك: أنّه في قراءة في العلم, وتعليق للفوائد, ولو كان هذا عسراً لكان الجهاد [عسراً]([224]) والحج عسراً, والورع الشّحيح عُسرين اثنين, وعبادة الله كأنك تراه أعسر وأعسر, ولكانت الشّريعة كلّها أو أكثرها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً. وما بهذا نطق القرآن, ولا به جاء صاحب بيعة الرضوان. بل نفى الله الحرج عن الدين, ووصف الشّريعة بالسّهولة سيد المرسلين, وإنّما الحرج في صدور المتعنّتين.
فإن قيل: فإذا كانت الشريعة سهلة فما معنى: ((حفّت الجنة بالمكاره))([225]), ولأي شيء مدح الله الصابرين, ووصّى عباده بالصبر؟.
قلنا: لأن النّفوس الخبيثة تستعسر السّهل من الخير لنفرتها عنه وعدم رياضتها عليه, لا لصعوبته في نفسه, ولهذا نجد أهل الصّلاح يستسـهلون كثيراً مما يستعسره غيرهم, فلو كان العسر في نفس([226]) الأمر المشـروع لكان عسيراً على كلّ واحد, وفي كلّ حال.
وقد نصّ الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: ]وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ[ [البقرة:45] فدلّ على أنّ العسر والحرج لا يكون في أفعال الخير, وإنّما يكون في النُّفوس السُّوء, قال الله تعالى: ]وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[ [الأنعام:125] فمدار المشقّة التي في الطّاعات على الدّواعي والصّوارف, ولهذا ترى([227]) قاطع الصّلاة يقوم نشيطاً إلى أعمال كثيرة أشق من الصّلاة.
وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من قساوة القلب, وكثرة الذنوب, وعدم الريّاضة وملازمة البطالة, ألا ترى إلى ما في قيام الليل وإحيائه بالعبادة([228]) من المشقّة على النّفوس, وهو يسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار, والسّروات في الأسفار.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدّة الرّغبة في العلم وسائر الفضائل ما يسهّل عليه عسيرها, ويقرّب إليه بعيدها, فلا معنى لتعسير الأمر الشّرعي في نفسه, لأنّ ذلك يخالف كلام الله/ تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
واعلم أنّ من العقوق, لوم الخلي للمَشُوق, وفي هذا يقول أبو الطّيّب([229]) :
لا تَعْذُل المُشتاق في أشـــواقِهِ
|
|
حتّى يكونَ حَشاكَ في أَحشــائِهِ
|
أما علمت أنّ حبّ المعالي, يُرخص الغوالي([230]) , ويقوّي ضعف الصّدور على الصَّبر للعوالي. وربما بُذلت الأرواح, لما هو أنفس منها من الأرباح. قال ابن الفارض([231]) :
بـذلت له روحي لـراحِة قُربـهِ
|
|
وغـير عـجيب بذلي الغالِ بالغالي([232])
|
وفي ((المقالات))([233]) للزّمحشري: ((عزّة النّفس وبعد الهمّة, الموت الأحمر والخطوب المدلهِمّة. ولكن من عرف منهل الذّلّ فعافه؛ استعذب نقيع العزّ وزُعافه([234]) )).
وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى:
صحبُ اللهُ راكبيـن إلى العـز
|
|
طريقـاً من المخـافـة وَعـرْا
|
شرِبُوا الموت في الـكريهة حُلواً
|
|
خوفَ أن يشربوا من الضّيمِ مُرَّاً
|
يا هذا! إن الدّواعي تحرّك القُوى, وإنّ القلوب ليست بسَوَى. إنّ الإبل إذا كلّت قواها, ونفخت في بُراها, أطربها السّائق بحداها, فنفحت في سُراها, فعلّلوها بحديث حاجِرٍ, ولتصنع الفلاة ما بدا لها. هذا وهي غليظة الطّباع بهيميّة, فكيف بأهل القلوب الرّوحانية؟! وأنشد الحجّة([235]) في هذا المعنى في كتابه:((سر العالمين وكشف ما في الدّارين))([236]) :
انـظر إلـى الإبـل اللَّـــوا
|
|
تي هُنّ أغلظ مـنــك طَـبعـا
|
تُـصـغـي إلى قــول الحدا
|
|
ة فَـتَـقطع الفلواتِ قَـطعَـــا
|
فإيّاك والاستبعاد لكلّ ما عزّ عليك, والاستنكار لوجود ما خرج من يديك. طالب المعالي لا يعنو كمداً, ولا يهدأ أبداً. وكلّما قيل له قف تسترح جُزت المدى, قال: وهل نِلتُ المدى؟!.
الاجتهاد غير متعذّر ولا متعسّر
|
|
الوجه الثاني: إفراط المعترض على أهل السنة وطلبة الحديث في تعسير معرفته حتّى قال: إنّ الأمر متعسّر أو متعذّر, وذلك يقتضي أنّه شاكّ في تعذّره غير قاطع بدخوله في حيّز الممكنات. وقد بيّنت([237]) أن الاجتهاد من الفروض الدينية, والشّعائر الإسلامية, وأنّه رأس معارفه العزيزة, وعمود شرائطه الأكيدة, فيجب القطع بأنّه غير متعذّر؛ لأنّ المتعذّر غير مطاق, والاجتهاد وطلب الحديث مشروع واجب, فلو أوجبه الله وهو متعذّر لكان الله قد كلّفنا ما لا نطيقه, وهذا يستلزم القول بتكليف ما لا يطاق, وهو مردود عند جماهير أهل المذاهب كلهم, وأمّا المعتزلة والزيدية فعندهم أنّ تجويزه كفر وخروج من الملّة, إلا القليل منهم, فيقولون: تجويزه بدعة محرّمة ومعصية ظاهرة([238]), لا سيمّا ومذهب الزّيدية أنّه لا يجوز خلوّ الزّمان عن عالم مجتهد جامع لشرائط الإمامة, فعلى أيّ المذاهب بَنَيْتَ([239]) هذه الرّسالة, وعلي أي الأسباب ركبت هذه الجهالة؟
لا يجوز أن يخلو الزمان من مجتهد
|
|
الوجه الثالث: أنّ كلام هذا المعترض مستلزم لخلوّ الزّمان من أهل المعرفة بالحديث ومن أهل الاجتهاد في العلم, بل قد صرّح/ بذلك في غير موضع, وقد غفل عما يلزم في مذهبه من هذا, فإنّه يلزم منه تعيّن وجوب طلب الاجتهاد وطلب علم الحديث على كلّ مكلّف؛ لأنّ هذا حكم فرض الكفاية إذا لم يقم به البعض تعيّن الطّلب على الجميع, فكان الواجب عليه على مقتضى تعسيره أن يقول: إنّ الزّمان خالٍ من المجتهدين, وأنّه يتعيّن علينا القيام بما يجب من فريضته, ونحو ذلك من كلام العلماء العاملين.
وأمّا أنّه يقرّ بخلوّ الزّمان من القائم بهذه الفريضة, وينهى من اشتغل ببعض شرائطها: فهذا هو النّهي عن المعروف, والوقوع في المحظور, نعوذ بالله منه!!.
وفي هذا الوجه والذي قبله خلاف, ومباحث لطيفة تركتها اختصاراً, إذ المقصود إلزام الخصم ما يلتزمه على مقتضى مذهبه, وسوف تأتي الإشارة إلى عمدتها في (الوجه العاشر), فخذه من هناك([240]).
الوجه الرابع: أنّه لا فرق فيما ذكره بين علم الحديث وسائر علوم الإسلام, ومصنّفات العلماء الأعلام, بل كتب الحديث مختصّة بصرف العناية من العلماء إلى سماعها وتصحيحها, وكتابة خطوطهم عليها شاهدة لمن قرأها بالسّماع, ولا يوجد في شيء من كتب الإسلام مثل ما يوجد فيها من العناية العظيمة في هذا الشأن, حتّى صار كأنه خصّيصة لها دون غيرها, وذلك من العلماء رضي الله عنهم تعظيم لشعارها, ورفع لمنارها, وبيان لكونها أساس العلوم الإسلامية, وركن الفنون الدينية, فلا يخلو المعترض:
إمّا أن يخصّها بتحريم إسناد ما فيها إلى أربابها دون سائر المصنّفات؛ فهذا عكس المعقول, لأنّها أقوى العلوم أثراً في هذا الشّأن.
وإمّا أن يورد هذا الإشكال على جميع العلوم السّمعية الظّنيّة؛ فهذا إشكال يعم جميع أهل الإسلام [و]([241]) لا يخصّ حملة أخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يلزم [منه]([242]) القدح في إسناد فقه الأئمّة المتبوعين في الفروع إلى أهله فيحرم تقليدهم, مع أنّه قد أنسدّ باب الاجتهاد بتعذّر معرفة السّنن النّبوية, فيصبح أهل الإسلام في عمياء لا إمام ولا مأموم ولا منصوص ولا مفهوم.
وكذلك يحرم على الأصوليين والنّحويين نقل ما في كتبهم من الأقاويل المنسوبة إلى قائلها, وكذلك يحرم على أهل السّير والتّاريخ, فما([243]) خصّ علم الحديث بالتّرسّل على من أخذ في تعلمّه وتعليمه والعمل به والدّعاء إليه؟
ثبوت كتب السنة إلى مصنفيها
|
|
وهلا وضع المعترض كتاباً آخر [إلى]([244]) من أراد القراءة في فنّ من سائر الفنون؟
الوجه الخامس: أجمعت الأمّة على جواز إسناد ما في الكتب الصّحيحة إلى أهلها بعد سماعها على من يوثق به([245]) , والدّليل على ذلك: أنّ العلماء ما زالوا ينسبون في مصنّفاتهم الأحاديث إلى من أخرجها والأقاويل إلى من قالها, فيقولون في الحديث:
أخرجه البخاري وأخرجه مسلم, وكذلك سائر مصنّفي الحديث والفقه من غير نكير في هذا على الرّاوي عنهم, مع كثرة وقوع هذا منذ صنّفت/ هذه الكتب إلى هذا التاريخ, وذلك قريب من خمسمائة سنة, ما علمنا أنّ أحداً من المسلمين حرّم على من سمعها على الثّقات أن ينسب ما وجد فيها إلى مصنّفيها ولا شكّك, ولا حرّج في هذا.
حتّى إنّ هذا المعترض زعم أنّ البخاري مبتدع, بل كافر!! صانه الله عن ذلك! واحتجّ عليه بشيء نقله من صحيحه, يدلّ على أنّ البخاري يؤمن بالقدر, مع أنّ التكفير عند المعتزلة والزّيدية لا يجوز إلا بنقل متواتر, فكيف يحتجّ على البخاري بما في صحيحه وهو عنده لا يصحّ بطريقة ظنيّة؟ مع أنّ صحيحه ما اشتمل على ما يلزمه ما توهّمه.
وكذلك فإن هذا المعترض صنّف تفسيراً نقله من تفاسير العلماء, فتراه يروي فيه عن البخاري [ومسلم]([246]) .
بل أغرب من هذا أنّه يقرأ كتب الحديث ويجيز روايتها عنه عن شيوخه عن أهلها, لكنّه غضب من العمل بها وظهور التّعظيم لها, وكلّ ما ذكرته يدلّ على انعقاد الإجماع على ما ذكرته. والله أعلم.
الوجه السادس: أنّ كلام هذا المعترض مبنيّ على تحريم قبول المراسيل كلها([247]) , وما أدرى لم بنى كلامه على هذا! وهو لا يدري ما اختيار خصمه ولا ما يختاره طالب علم الحديث؟
فجواز قبول المراسيل مذهب المالكيّة والمعتزلة والزّيدية, ونصّ عليه منهم أبو طالب([248]) في كتاب((المجزي))([249]) .
والمنصور([250]) في كتاب((صفوة الاختيار))([251]) .
وروى أبو عمر بن عبد البر في أوّل كتاب((التمهيد))([252]) عن العلاّمة محمد بن جرير الطّبري: إجماع التّابعين على ذلك.
ومذهب الشافعية قبول بعض المراسيل على تفصيل مذكور في كتب علوم الحديث([253]) والأصول([254]) , وهو المختار على تفصيل فيه, وهو:
قبول ما انجبر ضعفه لعلّة الإرسال بجابر يقوّي الظّن بصحته, إمّا: بمعرفة حال من أرسله وأنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة كمراسيل ابن المسيّب, وما جزم به البخاري من تعاليق((الصّحيح)) ولم يورده بصيغة التّمريض([255]) وما صنّفه المتأخرون الحفّاظ في كتب الأحكام([256]) واقتصروا على نسبة الحديث إلى مخرّجه من غير إسناد من المصنّف إلى مخرج الحديث, وغير ذلك من المراسيل المعضودة بما يقوّيها.
بل مراسيل الصّحابة والتّابعين وأئمة الحديث المعروفين مقبولة إذا لم يعارضها مسند صحيح, إلا مرسل من عرف منهم بالإرسال عن الضّعفاء([257]) , وأدلّة وجوب قبول خبر الواحد تتناول ذلك.
وموضع بيان الحجّة على جواز ذلك كتب الأصول, والمسألة نظريّة لا يجوز الإنكار فيها على من ذهب إلى أحد المذاهب. ومن أحسن ما يحتجّ به [في ذلك]([258]) الإجماع على قبول اللّغة والنّحو مع بناء تفسير الحديث عليهما بغير إسناد صحيح على شرط أصحاب الحديث.
إذا عرفت هذا؛ فاعلم أنّ أقوى المراسيل ما أرسله العلماء من أحاديث هذه الكتب, وذلك لوجوه:
أولها: أنّ نسبة الكتاب إلى مُصنِّفه معلومة في الجملة بالضّرورة, فإنّا نعلم بالضّرورة أنّ محمد بن إسماعيل البخاري ألّف كتاباً في الحديث, وأنّه هو الموجود في أيدي المحدّثين/ , وإنما يقع الظّنّ في تفاصيله, وما عُلِمت جملته وظنّت تفاصيله أقوى مما ظنّت جملته وتفاصيله.
وثانيها: أنّ أهل الكذب والتّحريف قد يئسوا من إدخال الكذب في هذه الكتب, فكما أنّه لا يمكن أحداً أن يدخل على الفقهاء في المذاهب الأربعة غير مذاهب أئمتهم, فَيُدخل في((المنهاج))([259]) للنّووي أنّ الشّافعي لا يشترط النّصاب في زكاة ما أخرجت الأرض, ويدخل على الحنفية مثل ذلك. وكذا لا يستطيع أحد أن يدخل على الزّيدية في كتاب ((اللّمع))([260]) الذي هو مَدْرَسهم([261]) مسألة للفقهاء وينسبها إلى أئمة الزّيدية, ولا يستطيع أحد أن يدخل على النّحاة في كتبهم المدروسة ما ليس فيها.
فكذلك يتعذّر أن يدخل في البخاري أحاديث((الشّهاب))([262]) ونحوه ويمضي ذلك على الحفّاظ, ولو تقدّر ذلك في حق بعض الضّعفاء لا نكشف الحقّ عن قريب, وكان ذلك المغرور غير مؤاخذ عند الله, بل لابد أن يكون عاملاً على بعض مذاهب العلماء غالباً, كما سيأتي بيان ذلك عند تذكر كثرة الطّرق في الرّاوية, واتّساع كثير من العلماء في ذلك واعتمادهم على العمل بالظّنّ.
وثالثها: أنّ النّسخ المختلفة تنزّل منزلة الرّواة المختلفين, فاتفاقها يدلّ على صحة ما فيها عن المصنّف قطعاً أو ظاهراً.
فإنك إذا وجدت الحديث منسوباً إلى البخاري في نسخة نسخت باليمن, ووجدته منسوباً إليه في نسخة غربية أو شاميّة أو عراقية, ووجدت ذلك الحديث كذلك في شرح البخاري, ومصنّفه كان في بلاد أخرى أو زمان آخر ووجدته في الكتب المستخرجة من كتب الحديث والمختصرة منها, فتجده في ((جامع الأصول)) لأبي السّعادات ابن الأثير و((المنتقى)) لعبد السلام([263]) , و((أحكام عبد الحق))([264]) , و((الإلمام)) للشيخ تقي الدين([265]) , ونحوها, وتجده في كتب الفقه البسيطة([266]) المشتملة على ذكر المذاهب والحجج. وتجده في شواهد الفقه المجرّدة مثل: ((شواهد المنهاج)) لابن النّحوي([267]) , و((شواهد التنبيه))([268]) لابن كثير ونحوها, ونحو هذه الكتب قد توجد كلها ويوجد الحديث فيها, وقد يوجد كثير منها ويوجد الحديث في كثير منها.
ولا شكّ أنّ النّاظر فيها إن لم يستفد العلم الضّروري باستحالة تواطؤ مصنّفيها على محض الكذب والبهت؛ لأنه يستحيل اجتماعهم واتفاقهم على ذلك لتباعد أغراضهم وبلدانهم وأزمانهم ومذاهبهم, فأقلّ الأحوال أنّ ذلك يفيد من الظّنّ ما يفيده الإسناد إلى المصنّف مع السّماع على الثّقة ولكن بغير إسناد, فإذا كان الجمّ الغفير من الأئمة من فرق الإسلام قد نصّوا على وجوب قبول المرسل, وادّعى ابن جرير وغيره الإجماع على ذلك مـــع خلوّ المرسل عن مثل هذه القرائن, فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟ وإذا كان المعتبر([269]) في باب الرّواية هو الظّنّ المطلق كما يأتي تحقيقه عند كثير من أهل العلم, فكيف ينكر على من استند إلى مثل هذا الظّنّ القوي؟
/ فإن قيل: إنّ أهل الحفظ والثقة قد يسندون عن معمَّرين([270]) لا يعرفون الحديث, ولا يضبطونه؛ فكان هذا قدحاً في رواية الحديث([271]) عنهم.
قلنا: أهل الحديث لا يعتمدون على أولئك المعمّرين في جواز الرّواية والعمل بالحديث, بل يعتمدون على من قرأ لهم, وعلى من أثبت طباق السّماع لهم, وإنّما احتاجوا إلى أولئك لأجل علوّ السّند, ذكر معنى ذلك الذّهبي في خطبة ((الميزان))([272]) وقال: ((إنّه مبسوط في علوم الحديث)), وقال: ((من المعلوم أنّه لابدّ من صون الرّاوي وستره)).
وذكر ذلك كلّه زين الدّين في كتابه في ((علوم الحديث))([273]) والله أعلم.
الوجه السّابع: أنّ أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء, فقد قال بذلك([274]) من أهل العلم المجمع على فضلهم ونبلهم من لا يحصى, فقد ذهب أئمة الحنفيّة إلى قبول المجهول من أهل الإسلام, وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزّيدية, وهو أحد قولي المنصور بالله: ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه: ((هداية المسترشدين)), وهو الذي ذكره عالم الزّيدية ومصــنّفهم وعــابدهم وثقتــــهم عبــد الله بــن زيـــد العنسي([275]) , ذكــره فــي ((الدّرر المنظومة))([276]) بعبارة محتملة للرّواية عن مذهب الزّيدية كلّهم, وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب: ((جوامع الأدلة))([277]) وتوقّف فيه في كتاب: ((المجزي)) وذكر أنّه محل نظر, وحكاه المنصور في ((الصّفوة)) عن الشّافعي.
فكيف تنكر أيّها الزّيدي ما ذهب إليه جلّة من أئمة الزّيدية ومحقّقيهم؟ّ! على أنّ المحدث غنيّ عن النزول إلى هذا الحدّ في الترخّص, وأكثر ما يحتاج إليه في بعض الأحوال: الرّواية عن المجهول مطلقاً, وقول ابن عبد البرّ, وابن الموّاق([278]) معهم, فقد وافقوهما على قبول مجهول العلماء لأنه من جملة المجاهيل, لكنّهما خالفاهم في قبول من عدا هذا الجنس, ولهما من الحجج على ما اختاراه ما يمكن الرّكون إليه والاعتماد عليه, لولا عدم الحاجة إلى ذلك, ومحبّة الاحتياط بسلوك أوضح المسالك, وقد ذكرت في ((الأصل))([279]) لهما حججاً في ذلك, وطوّلت الكلام عليها, وأنا أذكرها في هذا ((المختصر)) وأحذف من التّطويل فأقول:
يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية, وأثريّة, ونظرية:
أما القرآنية: فقوله تعالى: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ[ [الأنبياء:7], فإطلاق هذا الأمر القرآني يدلّ وجوب سؤال العلماء إلا ما خصّه الإجماع وهو: الفاسق المتعمّد؛ وهذا نادر في العلماء, وإن اتّفق ذلك من أحد منهم فهو معروف غير معتمد, وإنّما يصدر منهم من المعاصي ما لم يجمع على [الجرح]([280]) به كما سيأتي/ قريباً.
وأما الأثريّة؛ فقد ورد في ذلك آثار:
الأثر الأول: النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله([281]))). روي مرفوعاً مسنداً من طريق أبي هريرة, وعلي بن أبي طالب, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, وأبي أمامة, وجابر بن سمرة.
واختلفوا في صحة إسناده وإرساله؛ فأسنده العقيلي([282]) عن أبي هريرة, وابن عمرو بن العاص وقال: الإسناد أولى, وضعّف إسناده زين الدّين ابن العراقي([283]), وقال ابن القطّان([284]) : الإرسال أولى. وتوقّف في ذلك الحافظ ابن النّحوي الشّافعي المصري. وقال ابن عدي([285]) : ((رواه الثّقات عن الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا]([286]) الثّقة من أصحابنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ...)) وساقه. قال الذّهبي([287]) : ((رواه غير واحد من معان يعني ابن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري التّابعي)).
فالقوي صحّة الحديث كما ذهب إلى ذلك: إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل, والعلاّمة الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ, روى تصحيحه عن أحمد بن حنبل غير واحد وابن النّحوي في ((البدر المنير))([288]) والزّين ابن العراقي في ((التبصرة))([289]) وقال: ((ذكر الخلال في ((كتاب العلل)) أنّ أحمد سئل عنه فقيل له: كأنّه كلام موضوع؟ فقال: لا, هو صحيح, فقيل له: ممن سمعته؟ قال: من غير واحد)).
قلت: الظّاهر صحته أو حسنه, فإنّما علّل بالإرسال, والاختلاف في معان.
أمّا الإرسال: فقد ارتفع بقول ابن عديّ: إنّ الثّقات رووه عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا]([290]) الثقة مع شهادة تلك الطرق المقدّمة لإسناده, وإن كان زين الدّين ضعّفها؛ فالضعيف يستشهد به, وقد تكثر الطّرق الضّعيفة فيقوى المتن على حسب ذلك الضّعف في القلّة والكثرة, كما يعرف ذلك من عرف كلام أهل [هذا]([291]) العلم في مراتب التّجريح والتّعديل.
وأمّا مُعان؛ فقد قال أحمد: ((لا بأس به))([292]) ووثّقه ابن المديني, لكن ليّنه ابن معين([293]) والتّليين لا يقتضي ردّ الحديث, بل يسقطه من مرتبة الصّحة, ويجوز أن يكون حسناً لا سيمّا وهو من قبيل الجرح المطلق, وهو مردود مع التوثيق الرّاجح, وموقوف فيه مع انفراده.
وهذا الجرح المطلق معارض بما هو أرجح منه, وهو كلام أحمد وابن المديني فإنّهما أرجح من ابن معين لأجل العدد, وإن كان مثلنا أقلّ من أن يرجح بينهم في المعرفة بالحديث, فأمّا التّرجيح بالعدد فهو ظاهر, على أنه لم يصرّح([294]) بما يعارض كلاميهما.
فقد يقال فيمن يجب قبوله: ((فيه لين)), وقد تطلق هذه العبارة في بعض رجال الصّحيح, وإنّما فائدتها: ترجيح من لم يقل فيه ذلك على [من]([295]) قيل فيه عند التعارض, كيف وقد وردت شواهد لحديث مُعان! فقد قال ابن عدي: ((رواه الثقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن)) فالثّقات جمع أقلّه ثلاثة, وقد رواه أحمد بن حنبل عن غير واحد, منهم مسكين, إلا أنّه وهم في اسم إبراهيم بن عبد الرحمن, فقال: القاسم بن عبد الرحمن.
هذا كلّه من غير اعتبار/ الطّرق المسندة التي اوردها ابن العراقي في ((التّبصرة))([296]) .
وأمّا إبراهيم بن عبد الرحمن؛ فقد قال ابن الأثير في ((أسد الغابة)):([297]) إنّه من الصّحابة, وقد قيل: إنّه ليس بصحابيّ.
لكن المثبت أولى من النّافي, والزّيادة من العدل مقبولة إذا لم تكن معلولة, وقال جماعة: تقبل وإن كانت معلولة ولم تضعّف, بل قد قال الذّهبي([298]) ((ما علمته واهياً)), وحديثه مقبول عند طوائف من العلماء.
أما المحدّثون؛ فلأنّ إمامهم أحمد بن حنبل يقبله, ولأنّ له قاعدة في تصحيح الأخبار معروفة([299]) عندهم, ولا يظن بمثله أنّه يقضي بصحّته قبل تمهُّد قاعدةِ الصحّة, وكذلك ابن عبد البر, وقد روى عنه غير واحد من الثّقات فخرج عن مطلق الجهالة, ولأنّه قد قال فيه الثقة: إنه صحابي.
وأما الحنفيّة؛ فإنهم يقبلون المجهول, كيف إذا كان تابعيّاً! كيف إذا قيل: إنه صحابيّ!.
وأمّا المالكيّة؛ فإنّهم يقبلون المرسل.
وامّا الشّافعيّة فإنّهم يقبلون بعض المراسيل, وإذا جمعت طرق هذا كلّه وجدته أقرب إلى القبول على قواعدهم.
فهذه الوجوه مع تصحيح أحمد, وابن عبد البر, وترجيح العقيلي لإسناده([300]) مع سعة اطّلاعهم, وإمامتهم: تقضي بجواز التّمسّك به.
وأمّا ما اعترض به زين الدّين على هذا الحديث من جهة المعنى, فإنه ضعيف.
فإنه قال: ((لو كان خبراً لما وجد في حملة العلم من ليس بعدل, فوجب حمله على الأمر به))([301]) .
والجواب: أنّ هذا غير لازم؛ لأنه يجوز تخصيص الأخبار كما يجوز تخصيص الأوامر, وذلك مستفيض في القرآن والسّنة, ومنه: ]وَأُوتِيَت مِنْ كُلِّ شَيءٍ[ [النمل:23], وقد قال الله تعالى في أهل عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ]كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ[ [آل عمران:110].
مع صحة ارتداد جماعة منهم, كما ذكره أئمة الحديث في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ((فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي))([302]) , فلم يوجب ذلك تأويل الآية على الأمر([303]) , وسلب الصّحابة رضي الله عنهم هذه الفضيلة العظمى.
والوجه في ذلك أنّ التخصيص كثير في الشّريعة واللّغة, حتّى قال بعضهم: إنّ كلّ عموم في القرآن مخصوص إلا قوله تعالى: ]وَهُوَ بِكُلِّ شِيءٍ عَلِيمٍ[ [الأنعام:101] وقوله: ]وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ[ [المائدة:120].
وحتّى قال بعض الأصوليين: إنّ ألفاظ العموم مشتركة بينه وبين الخصوص, بخلاف ورود الخبر بمعنى الأمر فإنّه ليس في هذه المرتبة([304]) , وما كان أكثر وقوعاً كان أرجح.
وأمّا قوله: إنّ ذلك قد جاء في بعض طرق [ابن] أبي حاتم([305]), فمردود بضعفه وإعلاله لمخالفة جميع الرّواة الثّقات وغير الثّقات([306]) .
الأثر الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين))([307]) , رواه جماعة من الصّحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو صحيح صحّحه محمد بن إسماعيل البخاري, / وأبو عيسى الترمذي([308]) وغيرهما, وهو دليل على أن الله قد أراد الخير لأهل الفقه, ولا معنى لتخصيصهم بذلك إلا لوقوع ما أراده بهم, أمّا عند أهل السنة فظاهر, وأمّا عند المعتزلة فلتخصيصهم بالذّكر, وأمّا الزّيدية فقد احتجوا بمثله في قوله تعالى: ]إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً[ [الأحزاب:33].وهذا الأثر يخصّ من فقه في دينه دون غيره من أهل العلم, والكلام فيمن يطلق عليه ذلك يتعلق بشروح الحديث.
الأثر الثالث: ما ورد في ((الصّحيح))([309]) من قصّة الرّجل الذي قتل تسعة وتسعين, وسأل عن أعبد أهل الأرض, فدلّ عليه, [فسأله]([310]) فأفتاه ألاّ توبة له فقتله, ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض, فدلّ عليه, فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة, وفيه: بأنّه من أهل الخير.
فحكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصّته, ولم يحك فيها أنّه بعد معرفة علم الرّجل سأل عن عدالته, وقد اعتمد هذا الرّجل على فتواه فيما يتعلق بالتّوبة من أحكام تلك الشّريعة من الدّية وسقوط القود, وغير ذلك, والظّاهر أنّه لم يكن القود في شرعهم([311]) , أو كان هناك مسقط للقود من كفر القاتل والمقتول أو غير ذلك, والله أعلم.
الأثر الرابع: وهو في ((الصّحيح))([312]) أيضاً وذلك أنّ الله تعالى لما قال لموسى u: »إنّ لنا عبداً هو أعلم منك« -يعني: الخضر u-, سأل موسى من الله تعالى لقاء الخضر ليتعلم منه وسافر للقائه, ولم يرد في الحديث أنّه سأل عن عدالته بعد أن أعلمه الله تعالى بعلمه([313]) , مع أنّ من الجائز أن يكون عظيم العلم غير عدل مثل: بلعام([314]) وغيره, و[لكنه]([315]) تجويز بعيد, قليل الاتفاق, نادر الوقوع, فلم يجب الاحتراز منه كما لا يجب الاحتراز من تعمّد كذب الثّقة, ولا من وهم الحافظ.
وفي بعض هذه الآثار ما لو انفرد كان في الاحتجاج به نظر, لكنّها تقوى باجتماعها, وما قدّمنا في شهادة القرآن لها, ولم يذكر ابن عبد البرّ([316]) منها إلا حديث: إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري المقدّم.
وأما الاستدلال على ذلك من النّظر فهو يظهر بذكر أنظار:
النظر الأول: أنّ الظّاهر من حملة العلم أنّهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة, مجتنبون لكبائر المعاصي, ولما يدل على الخسّة, معظّمون لحرمة الإسلام, لا يجترثون على الله تعالى بتعمّد الكذب عليه.
والظّاهر أيضاً فيهم قلة الوهم بعد الاعتماد على الكتابة, وظهور العناية بالفنّ, فصاحب الفنّ الشهير به قليل الغلط فيه, وإن كان يغلط في غيره, على أن الوهم المقدوح به عند أهل الأصول شرطه أن يكون أكثر من الصّواب أو مساوياً له, على اختلاف بينهم في المساوي.
وهذا الذي ذكروه نادر الوقوع في حقّ الشّيوخ المتأخرين, ولا شكّ أنّ هذه الأمور أمارة/ العدالة المشترطة في الرّواية التي يترجّح معها ظن الصّدق, وخوف المضرّة بالمخالفة.
النّظر الثاني: أنّه ثبت بالاجماع الظّاهر جواز رجوع العامّي في الفتوى إلى من رآه في المصر مُنتصباً للفتوى, ورأى المسلمين يأخذون عنه, وهذا كافٍ للعامّي, مع أنّ العدالة شرط في المفتي, فدلّ على أنّ ظاهر العلماء العدالة, وأنّه لا يجب البحث حتّى يظهر.
وإنّما قلنا: إنّ ذلك يكفي العامّي لأنّ العامّة ما زالوا على ذلك, ولم ينكر عليهم أحد من السّلف والخلف([317]) , ولو أنّ أحداً أوجب على العامّي إذا دخل المصر يستفتي أن يختبر المفتي في سفره وحضره ورضاه وغضبه ونحو ذلك لخالف الإجماع, وقد نصّ على هذا جماعة من أهل الأصول, ذكرتهم في ((الأصل))([318]) .
النّظر الثالث: وجوب إجابة العامّة للقاضي الذي على هذه الصفة وامتثال قضائه, مع اشتراط العدالة فيه.
الأصل العدالة
في حملة العلم
|
|
النظر الرابع: أنّه ظهر من طلبة العلم أنهم يسألون عن العارف بالفنّ, فإذا سمعوا به رحلوا إليه, وأخذوا [عنه]([319]) من أوّل المجالسة قبل طول الخبرة, وربّما طالت المجالسة, وحصلت الخبرة فيما بعد, وربّما تعجّلت الفرقة قبل الخبرة, ومع استمرار وقوع هذا في جميع أقطار الإسلام لم نعلم أنّ أحداً من العلماء قال لمن فارقه قبل الخبرة: إنه لا يجوز لك العمل بما أخذت عنّي, ولا قال لمن جالسه في أوّل المجالسة: إنّه لا يجوز لك الأخذ بما تأخذ([320]) عني حتى تطول المجالسة وتحصل الخبرة.
والمقصود بهذا النّظر أنّ العمل بهذا كثير في قديم الزّمان وحديثه؛ فإذا عمل به طالب الحديث لم ينسب إلى الشذوذ, وكذا إذا قيل: إنّ هذا مذهب ابن عبد البرّ, وابن الموّاق لم يتوهّم أنّهما شذّا بهذا.
فإذا قيل: ليس كلّ طالب علم معلوماً أنّه يريد العمل, ولا كلّ طالب [أيضاً]([321]) يظهر منه أنه يستجيز العمل قبل الخبرة, قلنا: ذلك صحيح. ولكن الأكثر يظهر ذلك منهم.
فإن قيل: كيف يستنبط من هذا النّظر إجماع مع ظهور الخلاف؟ قلنا: يستنبط منه إجماع على عدم النكير([322]) على من استجاز ذلك, لا على أنّ الكلّ من العلماء قائلون به.
النظر الخامس: أنّه قد ظهر تفسير كثير من الكتاب والسنة بألفاظ لغويّة ومعاني نحويّة عن كثير من الأدباء من غير عناية بمعرفة أحوالهم في التّوثيق, فإنّ التّوثيق وإن وجد في بعضهم فلا يطّرد في جميعهم, ألا ترى إلى إطباق الطوائف على الرجوع إلى ((النهاية))([323]) لابن الأثير من غير تثبّت في توثيقه؟.
ولو قدّرنا معرفة بعض الخاصّة لذلك فالأكثر على النّقل/ منه من غير معرفة لثقة مؤلّفه, حتّى إنّ الزّيدية يعتمدون على الرجوع إلى كتابه, مع أنّه لو ثبت أنه عدل لما كفى ذلك, فإنه لم يشافه العرب, وينقل عنهم بغير واسطة, بل روى عن جماعة كثيرة من اللّغويين كما أشار إليه في خطبة كتابه, بل كلّ واحد من اولئك الذين روى عنهم روى عن خلق أيضاً, ألا ترى أنّه يروي عن الزّمخشريّ مع أنّ الزّمحشريّ معتزلي حنفيّ والظّاهر من الحنفية قبول المجهول([324]) , وهو ظاهر عن كثير من المعتزلة وغيرهم, كما ذلك مذكور في مصنّفاتهم.
ومع أنّ الزّمخشريّ, وإن كان صالحاً عند أهل الحديث في نفسه؛ فهو عندهم داعية إلى الاعتزال, غير معروف بتحريم الرّواية عن المجاهيل في الحديث, دع عنك اللّغة, بل قد روى الموضوعات في ((كشّافه)) في فضائل السّور, مع الإطباق أنّه من أئمة اللّغة والعربيّة, والرّجوع إلى مصنّفاته في ذلك, وهذا يدلّ على ما ذهب إليه أبو عمر بن عبد البرّ من حمل كلّ صاحب علم معروف العناية فيه على السّلامة في علمه حتّى يتبيّن جرحه([325]) , والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن قلت: هذه الحجج كلّها مبنيّة على تحسين الظنّ بجملة العلماء, والقول بأنّ المجروح فيهم نادر, و [أنّه]([326]) إذا كان نادراً فالحكم بالنّادر تقديم للمرجوح على الرّاجح, وذلك قبيح وفاقاً, لكن كون المجروح نادراً فيهم غير مسلّم, فإنّ وقوع الغيبة منهم والحسد فيما بينهم والمنافسة في الدّنيا كثير غير قليل.
قلت: الجواب عن ذلك أن نقول: أمّا قوله: إنّ المجروح فيهم كثير غير نادر؛ فهو بناء على أنّ كلّ من وقع منه معصية فهو مجروح, ومتى سلّم له أنّ العدالة هي: ترك جميع الذّنوب؛ فالسؤال واقع, ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنّظر والنّقل.
أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه, ونزع الغلّ من صدور أهل الجنّة, مع أنّ شهادة ذي الغلّ لا تقبل, وذكر ذلك على التفصيل يطول.
وأما الأثر: ففيه أخبار كثيرة, أذكر ما حضرني منها وهو اليسير:
الأثر الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من نوقش الحساب عُذّب))([327]) وهو صحيح الإسناد والاستناد.
الأثر الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من طلب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلب عدله جوره فله الجنّة, ومن غلب جوره عدله فله النّار)) رواه أبو داود([328]) عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الحافظ ابن كثير: ((إسناده حسن))([329]) .
الأثر الثالث: ما ورد في تحريم قبول ذي الإحنة([330]) في الشّهادة على من هو له مبغض([331]) , وإن كانا مسلمين عدلين, فالإحنة على المسلم محرّمة, / وذو الإحنة مقبول على من ليس بينه وبينه إحنة؛ لأنّ مجرّد دخول الإحنة, ووجود بعض العداوة لا يمنع من العدالة, ولهذا قال الله تعالى في صفة أهل الجنّة: ]وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ[ [الأعراف:43] ولو كان صاحب الإحنة على أخيه مجروحاً في حقّ كلّ أحد, لم يكن لتخصيص ردّه إذا شهد على من يبغضه معنى.
الأثر الرابع: الحديث الصّحيح الذي فيه: ((قاربوا وسدّدوا وأبشـــروا, ولن يدخل الجنّة أحد إلا برحمة الله تعالى))([332]) ونحو ذلك.
إلزامات على
قول المعترض بنفي العدالة
|
|
وأما النّظر: فلأنّا إذا تركنا شهادة من هذه صفته من المسلمين,وطرحنا روايتهم وفتواهم ومصنّفاتهم, واعتبرنا في الشهادة قول بعض المتعنّتين في العدالة: إنّها الخروج من كلّ شبهة, ومحاسبة النّفس في كلّ لحظة, ونحو ذلك من التّشديدات تعطّلت المصالح والأحكام, وتضرّر جميع أهل الإسلام, واختلفت([333]) الأحوال, وضاعت الحقوق والأموال, ولم يجد المقلّد من يروي له مذهب إمامه, ولا العامّي من يفتيه, ولا الحاكم من يقيم له الشّهادة, ولا وجد صاحب الولاية من يصلح للقضاء, ولا وجد أهل عقد النّكاح من يشهد بينهم.
فإنّ أهل الورع الشّحيح ورياضة النّفوس على دقائق المراقبة أعزّ من العَيُّوق([334]) ملمساً, ومن الكبريت الأحمر وجوداً, فإن وجدتهم لم تجدهم أهل التدريس والفتوى والشهادة بين أهل اللّجاج والحضور عند أهل الخصومات, وإذا تأمّلت وجدت السّالم من جميع المعاصي من أهل الفتوى والتّدريس عديم الوجود.
فمن منهم الذي لا يسمع منه غيبة أحد, ولا يداهن على مثل ذلك [أحد]([335]) , ويصدع بمرّ الحقّ في كلّ موقف, ولا تأخذه في الله لومة لائم, ولا يتخلّف عن إنكار منكر يجب إنكاره, ولا يتثاقل عن أداء واجب عليه لعدوّ, ولا يترخّص إن وجب عليه عداوة صديق, ولا يلين بالمداهنة لأمير, ولا يتكبر على فقير!!.
ولسنا نعتقد أنّ أهل هذه الصّفة غير موجودين, ولكن نعتقد أنّهم غير كافين للمسلمين في التّعليم والرّواية والقضاء والشّهادة, ومن أين لكلّ عاقد نكاح وبايع حقّ شاهدان كذلك؟ ومن أين لكلّ طالب علم من جميع طلبة الفنون, وكلّ طالب فتوى في جميع الأقطار من هو كذلك؟!!.
وأما النّقل: فعن الشّافعي رضي الله عنه أنّه قال([336]) : لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً, ولو كان كلّ مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً, ولكنّ العدل من اجتنب الكبائر, وكانت محاسنه أكثر من مساويه, أو كما قال الشّافعي.
وقد روى النّووي في ((الرّوضة))([337]) عن الشّافعي هذا المعنى, ولم يحضرني لفظه/ ولا كتابه.
وروي عن أحمد بن حنبل –رضي الله تعالى عنه- أنّه قال: [إنّه]([338]) يعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب من الحديث الصّحيح ما يدفعه([339]) , وعن أبي داود مثله([340]) .
ولهما حجّة فيما روي عن عليّ رضي الله عنه من تحليف من اتّهمه وقبول حديثه, وسيأتي بلفظه وأنّه حسن الإسناد([341]) .
وقد روي عن أبي حنيفة –رحمه الله- أكثر من هذا في هذا في المعنى المقصود.
وبالجملة؛ فإنه أجاز قبول المجاهيل, وحكم لهم باسم العدالة متى كانوا من أهل الإسلام. وقد جاء في كلام عمر رضي الله عنه له حجّة, وهو قوله في كتابه إلى أبي موسى: ((والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشّهادات, إلاّ مجلوداً في حدّ, أو مجرّباً عليه شهادة الزّور)) الحديث. رواه البيهقي([342]) عن معمر البصري عن أبي العوّام عنه. وقال: ((وهو كتاب معروف)).
وأما كلام أصحاب المعترض: فقال عبد الله بن زيد, من علماء الزّيدية في كتابه ((الدّرر المنظومة)) في تفسير لفظ العدل: ((ومعنى كونه عدلاً: أن يكون مؤدياً للواجبات مجتنباً للكبائر من المستقبحات)).
قال شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري([343]) في كتابه ((المعتمد))([344]) في تفسير لفظة العدل: ((وتعورف أيضاً فيمن تقبل روايته عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو من اجتنب الكبائر, والكذب, والمستخفّات من المعاصي والمباحثات)), ومثّل المستخفات من المعاصي: بالتّطفيف بحبّة, والمستخفّات من المباحات: بالأكل على الطريق.
ومن المنقول في ذلك عن فضلاء السّلف والخلف: ما اشتهر عنهم من وصفهم لأنفسهم بمقارفة الذّنوب والوقوع في المعاصي.
فروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن أبيه قال: قال عبد الله –يعني ابن مسعود-: ((لو تعلمون ذنوبي ما وطيء عقبي اثنان, ولحثيتم على رأسي التراب, ولوددت أنّ الله غفر لي ذنباً من ذنوبي وأني دعيت: عبد الله بن روثة))([345]) .
وروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن الحارث بن سويد قال: أكثروا على عبد الله يوماً فقال: ((والله الذي لا إله غيره لو تعلمون [علمي]([346]) لحثيتم التّراب على رأسي))([347]) . قال الذّهبي في ((النبلاء))([348]) : ((روي هذا من غير وجه عن ابن مسعود t)).
قلت: هذا؛ وقد روى علقمة عن أبي الدرداء([349]) أنّه قال: ((إنّ الله أجار ابن مسعود من الشّيطان على لسان نبيّه)).
وجاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ((لو كنت مؤمّراً أحداً من غير مشورة لأمّرت ابن أم عبد))([350]) , وجاء عنه -u-: ((اهتدوا بهدي عمّار وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد))([351]) وقال -u-: ((رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أم عبد))([352]) رواه الثّــوري وإسرائيل عن منصور([353]). وأجمعت الأمّة على صحة حديثه وجلالة قدره.
فإذا كان مثل هذا الصّاحب الجليل يقسم بالله الذي لا إله إلا هو: لو يعلم النّاس ذنوبه لحثوا على رأسه التّـراب, فكيف يشترط في العدل أن لا تبدو منه هفـوة ولا يقع في معصية؟!.
وأعظم من هذا سؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفة, هل هو منافق؟ وقول حذيفة بعد تزكيته: لا أزكّي بعدك أحداً([354]) . ولم يخف/ عمر رضي الله عنه من النّفاق الذي هو الشّكّ في الإسلام, فإنّه يعلم براءة نفسه منه, بل نحن نعلم براءته رضي الله عنه [منه]([355]) بما شهد له به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل الكثيرة, والمناقب الكبيرة, وإنّما خاف t من صغائر النّفاق الذي هو: خلف الموعد, وخيانة الأمانة, والكذب في الحديث, فإنّ المؤمن الورع قد يدخل عليه من صغائر بعض هذه الخصال ما يدقّ ولا يتفطّن له, وربما كان الغير([356]) أبصر بعيب الإنسان منه.
وربّما قصد عمر تنبيه ضعفاء المسلمين على تفقّد أنفسهم, وجعل لهم بنفسه الكريمة أسوة حسنة حيث أتّهمها على أمر عظيم. وقد كان عمر رضي الله عنه إماماً في التّقوى والمراقبة, شديد المناقشة لنفسه والمحاسبة, وقد قال لبعض الصحابة: كيف وجدتموني؟ [قالوا]([357]) :صالحاً, ولو زغت لقوّمناك. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا زغت قوّموني([358]) أو كما قالا.
فهذا كله –وأمثاله مما يطول ذكره- يردّ على من يتعنّت, ويقدح على كثير من العلماء بأشياء يسيرة لا تدلّ على تجرّيهم على تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقد قال الحاكم أبو عبد الله([359]) : ((إنّا نظرنا فوجدنا البخاري قد صنّف كتاباً في التّاريخ, جمع أسامي من روى عنهم من زمان الصّحابة إلى سنة خمسين([360]) , فبلغ عددهم قريباً من أربعين ألفاً, إلى قوله: ثم جمعت من ظهر جرحه من جملة الأربعين الألف فبلغ مائتين وستة وعشرين, فليعلم طالب هذا العلم أنّ أكثر الرّواة ثقات)) انتهى.
والقصد بهذا كلّه الذّبّ عن السّنن ورواتها, وبيان أنّ من تشدد منهم, فقد احتاط لنفسه والمسلمين, ومن ترخّص منهم, فقد عمل بمقتضى أدلة كثيرة, ووافق في عمله غير واحد من جلّة العلماء الأعلام, وخيار أهل الإسلام.
الرد على المعترض في تشكيكه الرجوع إلى العلوم الإسلامية
|
|
الوجه الثامن: أنّ هذا الإشكال الذي أورده هذا المعترض لا يختصّ بأهل السّنة ورواة الحديث, بل هو تشكيك في القواعد الإسلامية, وتشكيك على أهل الملّة المحمديّة, وذلك لأنّهم أجمعوا على حسن الرّجوع إلى الكتاب والسّنة في جميع الأحوال [على الإطلاق]([361]) وأجمعوا على وجوب ذلك على بعض المكلّفين في جميع الأحوال, وعلى جميع المكلّفين في بعض الأحوال.
والمعترض بالغ في التّشكيك على من أراد الرّجوع إلى الكتاب والسّنة, بحيث لو تصدّى بعض الفلاسفة للتشكيك على المسلمين في الرّجوع إلى كتاب ربّهم الذي أنزل عليهم, والاعتماد على سنّة رسولهم الذي أرسل إليهم ما زاد على ما ذكره المعترض, فإنّه تشكيك في صحة الأخبار النّبويّة, وتشكيك في جميع طرقها, فمنع القول بصحّة حديث المحدّثين, وأوجب معرفة الأسانيد وبراءة رواتها عن فسق التأويل, فمنع بذلك صحة قبول حديث المعتزلة والزّيدية, فإنّ عامّة حديثهم مرسل, ونصوا على قبول المتأولين / ومن لم يقبل المتأوّلين منهم قبل مرسل من يقبلهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإن كان لهم حديث مسند في بعض الكتب البسيطة فإن الإسناد يضرّ ولا ينفع, لأنّه: مع الإسناد لا يجوز قبول الحديث عند من يقبل المرسل, فتعيّن البحث عن السّند, وليس لهم في علم الرّجال مصنّفات يمكن الرّجوع إليها بحيث لا يكون فيها اعتماد على أهل الحديث, ولا من المعتزلة والزّيدية الذين يقبلون أهل الـحديث, فثبت أنّه لابــدّ مـن الرّجوع في علم الرّجال إلى المحدثين.
لكنّ المعترض قد منع ذلك فلزمه طرح الحديث كلّه: حديث أهل الأثر, وحديث المعتزلة والزّيدية, لأنّه يمنع من قبول كلّ حديث احتمل أنّ في رواته([362]) فاسق تأويل مجرّد احتمال, وقال: لابدّ من تبرئة صحيحة, وسيأتي تحقيق هذا.
فثبت أنّ المعترض سدّ الطّريق إلى معرفة السّنة النّبوية على الإطلاق, ثــمّ إنّه شـــكّك في معرفة علم([363]) الحديث على تقدير صحّته, وذكر صعوبة([364]) معـرفة النّاســخ والمنســوخ, [و]([365]) العام والخاص.
ثمّ إنّه شكّك في معرفة القرآن العظيم بما فيه من النّاسخ والمنسوخ, والعام والخاصّ, ووقوف العمل بالعامّ على معرفة مافي السّنة من المخصّصات, مع أنّه قد سدّ طريق معرفة السّنة, فأشكل الأمر حينئذ, وبقي القرآن مع العرب بل مع النّحاة كما هو مع العجم في عدم المعرفة بتفسيره, وتحريم العمل بمعناه.
ثمّ إنّه شكّك في معرفة اللّغة والعربيّة([366]) اللتين هما عمود تفسير الكتاب والسّنة, فمنع صحّتهما عن اللّغويين والنّحويين, وصرّح بأنّ اتصال الرّواية الصّحيحة بهم متعذّر, هكذا أطلق القول بهذا, وجزم به, وقطعه عن الشّكّ.
ثمّ إنّه شكّك في قبول النّحويين واللّغويين على على تسليم صحّة الرّواية عنهم فقال: ((إن قبولها منهم على سبيل التّقليد لهم)), ومنع من التّفسير بهذا الوجه, وهذا ما لم يقل به أحد ممّن يعتدّ به. وليت شعري كيف الاجتهاد في علم العربية([367]) ؟ وهل ثمّة طريق إليها إلاّ قبول الثّقات, مثل ما أنّه لا معنى للاجتهاد والخروج من التّقليد في قبول الحديث [إلاّ بقبول الثقات]([368]) , ومتى كان قبول الثّقات في اللّغة والحديث تقليداً محرّماً على المجتهد, فكيف السّبيل إلى الاجتهاد! إلاّ أن يبعث الله الموتى من العرب فيشافهوا العالم باللغّة, وكذلك يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتّى يأخذ العلماء الحديث عنه ويسلموا من تقليد الثّقات, وقد انعقد إجماع المســلمين على وجوب قبول الثّقات([369]) فيما لا يدخله النّظر, وليس في ذلك تقليداً بل عمل بمقتضى الأدلّة القاطعة الموجبة لقبول أخبار الآحاد, وهي محرّرة فـي موضعها من الفنّ الأصوليّ([370]) .
ولم يخالف في هذا إلا شرذمة يسيرة, وهم: متكلّموا بغداد من المعتزلة, والإجماع منعقد قبلهم وبعدهم على بطلان قولهم؛ فقد تبيّن بهذا أنّ المعترض شكّك في رجوع المسلمين إلى القرآن العظيم والسّنة النبوية, والله تعالى جعل الكتاب والسنّة النبويّة عصمة لهذه الأمّة, ولم يجعلهما عصمة للقرن الأوّل ولا للثّاني, فالمشكّك في هذا يجب عليه أن ينظر في الجواب حتّى على مذهب المعتزلة والزّيدية, فليس هذا يخصّ أهل الحديث, [لكن في إيراد المعترض لهذا الإشكال عليهم أعظم شهادة لهم بأنّهم أهل القرآن والحديث]([371]) , الذين يذبّون عنهما ويحامون عليهما, والحمد لله والمنّة.
الوجه التاسع: قال الله تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى, / إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[ [النجم:3-4] وقال فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ [الحجر:9], وهذا يقتضي أنّ شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تزال محفوظة, وسنته لا تبرح محروسة, فكيف ينكر هذا المعترض على أهل السّنة, ويشوّش قلوب الرّاغبين في حفظها, ويوعّر الطّريق على السّالكين إلى معرفة معناها ولفظها؟
فإن قال: فإنّه قد ورد على رفع العلم في آخر الزّمان, وذلك في حديث ابن عمرو بن العاص: ((إن الله لا يرفع العلم انتزاعاً ينتزعه, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رؤوساً جهّالاً فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا))([372]) .
والجواب من وجهين:
الأول: أنّ هذا غير مذهب الزّيدية والمعتزلة, فإنّهم لا يجيزون خلوّ الزّمان عن مجتهد.
الثّاني: أنّ الحديث محمول على وقت مخصوص لم يأت بعد, وهو بعد نزول عيسى -u- وموته وموت المهديّ المبشّر به, وذلك مبيّن في أحاديث صحيحة, وقد ورد في ((الصّحيح))([373]) : ((لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق حتّى يقاتل آخرهم الدّجال)), وهذا يفسّر ذاك, لأنّه خاصّ وذلك عامّ, ولا يمكن أن يكون ذلك الضّلال العامّ مع وجود هذه الطائفة الموصوفة بالظّهور على الحقّ, فدلّ على أنّه بعد انقراض هذه الطائفة.
ولا يعترض على هذا بأدلّة عصمة الأمة عن الضلالة لأنّه يحتمل أنّ هذا يكون بعد موت الأمّة, بل قد ورد معنى ذلك منصوصاً في الحديث الصحيح الذي فيه: ((إنّ الله يبعث ريحاً ألين من الحرير, لا تترك أحداً ممن في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان إلا توفّته))([374]) أو كما ورد, وذلك بعد ظهور المهدي ونزل عيسى, وأدلّة المعتزلة على ما يخالف هذا عامّة, وهذه الأدلّة أخصّ فوجب المصير إليها.
صحة الرجوع إلى
الكتب الحديثة
والعمل بالوجادة
|
|
الوجه العاشر: لو فرضنا – والعياذ بالله- خلوّ الزّمان عن الحفّاظ الثّقات, والرّواة الأثبات لما تعذّر الرّجوع إلى السّنة العزيزة, وذلك لأنّ الكتب الصحيحة المتقنة موجودة في المدارس الإسلامية, والعمل بما في الكتب –التي عليها خطوط الثّقات الحفّاظ شاهدة بالصّحة- جائز عند كثير من أهل العلم, وهو الذي يقوى في النّظر ويظهر عليه الدّليل, بل هو الذي أجمع على جوازه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي, والعجب من المعترض كيف غفل عن ذلك! وهو قول أئمة الزّيدية والمعتزلة كما سيأتي, والعمل بهذا هو المعروف في علم الحديث بـ ((الوجادة))([375]) , وهو أحد أنواع علوم الحديث, وقد ذكرها ابن الصّلاح في ((علوم الحديث))([376]) وطوّل الكلام فيها, وحكى القول بوجوب العمل بها عن الإمام الشّافعي, وطائفة من نظّار أصحابه في [أصول]([377]) الفقه.
قال ابن الصّلاح –رحمه الله-: ((وما قطع به هو الذي لا يتّجه غيره / في الأعصار المتأخرة, فإنه لو توقّف العمل فيها على الرّواية لانسدّ باب العمل [بالمنقول]([378]) لتعذّر شرط الرّواية فيها على ما تقدّم في النّوع الأوّل))([379]) .
قلت: الذي تقدّم في النّوع الأوّل أنّه لا يجوز للمتأخرين تصحيح الحديث إذا لم ينصّ أحد من المتقدمين على صحّته لعدم خلوّ الإسناد في هذه الأعصار ممن يعتمد على كتابه من غير تمييز لما فيه, هذا كلام ابن الصّلاح([380]) , وقد خالفه النّووي([381]) , وزين الدين بن العراقي, ذكر ذلك زين الدين في ((تبصرته))([382]) وقال: ((هو الذي عليه عمل أهل الحديث, فقد صحّح غير واحد من المعاصرين لابن الصّلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدّمهم فيها تصحيحاً كأبي الحسن بن القطان([383]) , والضّياء المقدسيّ([384]) , والزّكي عبد العظيم([385]) , ومن بعدهم.
قلت: فالأولى ألا يحتج على جواز العمل بـ ((الوجادة)) بما ذكره ابن الصلاح, ألا ترى أنّ الشّافعي جوّز العمل بها مع أنّ زمانه كان زمان إمكان العمل بغيرها, بل سوف يأتي أنّ الصّحابة –رضي الله عنهم- عملوا بها, والدّليل على ذلك حديث: عمرو بن حزم, وقد ذكر طرقه الحافظ ابن كثير في ((إرشاده))([386]) , وقال بعد ذكر الاختلاف في بعض طرقه:
((وعلى كلّ تقدير؛ فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديماً وحديثاً, يعتمدون عليه, ويفزعون في مهمّات هذا الشأن إليه, كما قال يعقوب بن سفيان([387]) : ((لا أعلم في جمع الكتب كتاباً أصحّ من كتاب عمرو بن حزم؛ كان الصّحابة([388]) والتّابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم)).
وصحّ عن ابن المسيّب: أنّ عمر ترك رأيه ورجع إليه. قال ابن كثير: ((رواه الشّافعي و [النّسائي]([389]) بإسناد صحيح إلى ابن المسيب)).
ونحن نبيّن للمعترض أنه غفل عن مذاهب أسلافه في هذا فنقول:
أسلاف المعترض أجازوا العمل بالوجادة
|
|
ممّن أجاز هذا ونصّ عليه من الزّيدية والمعتزلة الإمام المنصور في كتاب: ((صفوة الاختيار)) في أصول الفقة, [و]([390]) ادّعى إجماع الصّحابة على ذلك لرجوعهم إلى كتاب عــمرو بــن حــزم, وصــرّح أنّهـم عوّلوا على مجرّد الخطّ لما غــلــب عــلى ظــنّهــم صحّته.
قلت: ظاهر كلام المحافظين: يعقوب بن سفيان, وابن كثير: دعوى إجماع الصّدر الأوّل على قبول حديث عمرو بن حزم, وذلك يقتضي دعوى الإجماع على جواز العمل بــ ((الوجادة)) كما ذكره المنصور.
ومنهم: الإمام يحيى بن حمزة, فإنّه ذكر في ((المعيار))([391]) جواز العمل بذلك مع ظنّ الصّحة, قال: ((وهو قول أبي يوسف ومحمد, واختاره ابن الخطيب الرّازي))([392]) .
ولكنّ الإمام يحيى قال: ((يجوز العمل بذلك دون الرّواية, لأنّ العمل إنّما مستنده الظّنّ)).
وقال الإمام محمد بن المطهّر في كتاب ((عقود العقيان))([393]) : ((إن ذلك جائز عنده وعند والده, وأنه مستند للعمل والرّواية, وحكاه عن الإمام أحمد بن سليمان, والمنصور بالله)). قال: ذكره المنصور بالله في ((الصفوة)) وغيرها.
وقال المحسّن بن كرّامة المعتزلي([394]) المعروف بالحاكم في ((شرح العيون))([395]) : ((إنه قول الشّافعي وأبي يوسف, ومحمد, وأكثر العلماء: فيما([396]) وجد بخطه في كتابه وعلم أنّه سمعه على الجملة ولا يعلم أنه سمعه مفصّلاً؛ [فإنّه يجوز أن يرويه]([397]) )).
لكنّه قال في ((الاحتجاج)): ((إنّ الصحابة كانوا يروون من الكتب من غير نكير, وكان بعضهم يعمل على كتاب بعض, وكان عمر يكتب إلى عمّاله وقضاته فيعملون بذلك, وكذلك كتب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وروى الشيخ أبو الحسين في كتاب ((المعتمد))([398]) عن الصّحابة مثل ذلك, ذكره محتجاّ به / على جواز مثله.
وقال عبد الله بن زيد في ((الدّرر المنظومة)): ((لا خلاف أنّه متى عرف خطّه أو خطّ أستاذه, وعلم أنّه لا يكتب إلاّ ما سمعه قبلت روايته, وإنّما اختلفوا إذا ظنّ أنّه خطّه أو خطّ أستاذه فمذهبناً أنّه تقبل روايته, وهو مذهب طائفة من العلماء)), واحتجّ بعمل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك, وكذلك الصحابة.
وبهذا الوجه العاشر نجيب على من يجيز خلوّ الزّمان من المجتهدين مع بقاء الأمّة على الهدى, محتجّاً بأنّ طلب الاجتهاد –وإن كان فرض كفاية- فقد سقط عنهم بموت العلماء, فلا يكونون([399]) مجتمعين على ضلالة, وكيف يصح هذا العذر وقد استنبط الأوائل العربيّة و[الأصلين]([400]) من غير شيوخ, فالحال في هذه الفنون واحدة. بل هي اليوم أيسر قطعاً, كيف لا وقد قطع النّقاد أعمارهم في فنون كثيرة في تسهيل صعبها([401]), وإيضاح غامضها وجمع متفرّقها؟! وقد أمكن استنباطها قبل ذلك, فكيف بعده؟! وأمّا علوم السّماع فهي أسهل العلوم على مريدها, وإنّما تسهّلت وتمهّدت في هذه الأعصار الأخيرة([402]).
وإذا كانت الصّحابة عملت بـ ((الوجادة)) –مع قرب عهدهم- واحتاجت إلى ذلك فيكف بنا؟. وأمّا قول قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح مختصر المنتهى))([403]) : ((إنه يمكن أن يجاب بمنع كون التّفقّه في الدّين فرضاً مع إمكان معرفة العوامّ أحكام الشّرع بالنّقل المظنون عن العلماء السّابقين, فهو ضعيف جداً؛ لإمكان وقوع حادثة غير منصوصة لمن تقدّم, ووجود من لا يستجيز ويرى الفتوى([404]) بأقوال المجتهدين ولإمكان وجود مكلّفين لا يستجيزون تقليد الميّت, ولأنّ حديث ابن عمرو([405]) الصّحيح يقتضي أنّ أهل الزّمان الخالي عن العلماء ضالون, المفتي منهم والمستفتي, ولا شكّ أنّ المفتي المقلّد لا يسمّى عالماً, فدلّ هذا على أنّ التّقليد لو كان يقوم مقام العلم ما استحقّ المفتي أن يسمّى مُضِلاً والمستفتي مُضَلاً, وقد سمّاها بذلك في الحديث الصّحيح([406]) . والله سبحانه أعلم.
يلزم المعترض إبطال إمكان التقليد
|
|
الوجه الحادي عشر: لو صحّ ما ذكره المعترض –والعياذ بالله- من انطماس معالم العلم, وتعفّي رسوم الهدى, إلا تقليد العلماء –رضي الله تعالى عنهم- يلزم من ذلك أن يبطل الطريق إلى جواز التّقليد, لأنّ تقليدهم لا يجوز إلا بعد معرفة الدّليل, والدّليل لا بد أن يكون مستنداً إلى معرفة الكتاب والسّنة, وهذا ظاهر على أصول المعتزلة والزّيدية, فإنّهم قد شحنوا مصنّفاتهم بتحريم الإقدام على ما لا يؤمن قبحه.
وأمّا أهل السّنّة قد نقل ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى))([407]) و[شرّاحه]([408]) ما يقتضي ذلك, ولم يذكروا فيه خلافاً, ذكره ابن الحاجب في بيان حدّ التّقليد والمقلّد؛ وإنّما قلنا: إنّ ذلك يستلزم بطلان التّقليد لأنّ أدلّته من النّصّ والإجماع مترتبة على ذلك.
بحث في الاستدلال
بهذه الآية على
جواز التقليد
|
|
وبيانه أنّ الاستدلال بقوله تعالى: ]فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ[ [الأنبياء:7]. يحتاج إلى معرفة أنّها غير منسوخة ولا مخصّصة ولا معارضة, ويحتاج إلى معرفة معنى الآية, فهذان أمران:
أحدهما: معرفة أنّ الآية غير منسوخة ولا معارضة ولا مخصّصة, / وهذا ينبني على أنّ هنا سنّة صحيحة, يخصّص بها, وينسخ بمتواترها أو بها على قول, وعلى أنّ إلى معرفة تلك السّنّة [طريقاً]([409]) يمكن معها معرفة ذلك.
وثانيهما: معرفة معنى الآية, ولابدّ فيه من النّظر في قواعد العربيّة واللّغة, إذ ليس معلوماً بالضّرورة, فاحتاج النّاظر في معنى الآية إلى أن يكون من أهل الاجتهاد.
فإن قلت: إن دلالتها على جواز التّقليد جليّة لا تحتاج إلى اجتهاد.
قلت: ليس كذلك, فإن في معناها غموضاً واختلافاً, والذي يدلّ على ذلك أنّ السّؤال من الأفعال التي تُعدّى إلى مفعولين, تارة بواسطة حرف الجرّ مثل: سألت العالم عن الدّليل, وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالاً, وسألت العالم دليلاً. إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لابد من مسئول ومسئول عنه, فالمسئول مذكور في الآية, وهم أهل الذّكر, والمسئول عنه محذوف, والقول بأنّ المسئول عنه هو: أقوال المجتهدين, من هذه الأمة مجرّدة عن الأدلة هو [مما]([410]) لا يدلّ عليه دليل, وهذا المسئول عنه المحذوف يحتمل أنّه الأدلّة, ويحتمل أنّه([411]) المذاهب من غير أدلّة, وقد قال بعض العلماء: هو السّؤال عمّا أنزل الله تعالى, لقوله تعالى: ]اتَّبِعُواْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُم[ [الأعراف:3] فلمّا أمر([412]) بسؤال أهل الذكر, كان المفهوم أنّه أمرنا بسؤالهم عمّا أمرنا باتّباعه مما أنزله علينا من الشّرائع.
وهذه [الأقوال]([413]) كلّها مخالفة للمفهوم على قواعد العربيّة, والمختار: أنّ المراد: السّؤال عن الرّسل هل كانوا بشراً؟ لأنّ ذلك هو المذكور في أوّل الآية, والعرف العربيّ يقضي بأنّ ذلك هو المراد, والقرائن تسوق الفهم إليه.
فإنّه تعالى لما قال: ]وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ[ [الأنبياء:7]. كان السّابق إلى الأفهام؛ فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالاً, كما لو قال القائل: واجهت اليوم الخليفة, وسل وزراءه, كان المفهوم واسألهم عن كوني واجهته. وهذا الذي ذكرت أنّه المحذوف هو الذي اختاره الزّمخشري في ((كشّافه))([414]) , ولكن لم يذكر الوجه في ذلك لجلائه عنده.
والعجب أنّ الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد من غير بيان لوجه الدّلالة, ولا ذكر لهذا [الإشكال]([415]) مع جلائه!!.
فإنّ قيل: إنّها وإن نزلت على هذا السّبب لم تقصر عليه عند الجمهور, فلذا لم يتعرّض الأصوليين لذلك.
قلنا: ليس هذا من ذاك, فإن ذلك إنّما يقال فيما لفظه عامّ وسببه خاصّ, وهذه الآية لفظها غير ظاهر لما فيه من الحذف, ومعناها خاصّ غير عام, فظهر الفرق.
وأمّا الاستدلال بالإجماع على جواز التّقليد؛ فلا يصح أيضاً مع فرض عدم المعرفة بالكتاب والسّنّة, لأنّ الأدلّة على كون الإجماع حجة إنّما هي ظواهر تحتاج في معرفة معناها إلى ثبوت اللّغة والعربيّة, وبعد ذلك لابدّ من معرفة عدم النّاسخ والمعارض والمخصّص, والمعترض على أهل الحديث قد منع من معرفة اللّغة, وجزم بتعذّر معرفتها, ومعاني الكتاب والسّنة المستنبط منها جواز التّقليد, وكون الإجماع حجة مما يفتقر إلى ثبوت اللّغة والعربيّة, فإذا بطل معرفة تفسير القرآن, وبطلت طريق معرفة الأخبار, / بطل أيضاً ما هو فرع ذلك وهو جواز التّقليد, فيلزم الخصم أن يبطل التكليف تقليداً واجتهاداً على مقتضى [إشكاله]([416]) .
الوجه الثّاني عشر: أنّه لو صحّ ما توهّمه من بطلان([417]) معرفة الكتاب والسّنة, وتعذّر الطّريق إلى ذلك؛ لزم أنّ الله تعالى قد قبض العلم بقبض العلماء, وأنّه لم يبق عالماً, وأنّ النّاس قد اتّخذوا رءوساً جهّالاً, فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا, كما ورد ذلك في حديث ابن عمرو الثّابت في ((الصحيحين))([418]) وغيرهما, وإنّما يلزم ذلك من كلام هذا المعترض على طلبة علم الحديث؛ لأنّ من ليس بعالم بالكتاب والسنّة لا يستحق أن يسمّى في الشّرع عالماً, وإن عرف جميع العلوم ماعدا الكتاب والسّنة, وهذا ظاهر لا نعلم فيه نزاعاً فنطوّل بذكر الحجّة عليه, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق حتّى يقاتل آخرهم الدّجال([419]) , وأجمع أهل العلم على ذلك وإن اختلفوا في معناه, فثبت أنّ ما جاء في حديث ابن عمرو لم يأت وقته إلى الآن, وإلا لزم مع وجود هذه الطائفة الظّاهرين على الحقّ: أنّ الله تعالى لم يبق عالماً, وأنّ أهل الفتوى قد ضلّوا في أنفسهم, وأضلّوا العامّة السّائلين لهم, وذلك يستلزم ضلال المسلمين كلّهم, وألا تبقى فيهم طائفة ظاهرة على الحقّ.
وفي هذا القدر كفاية في الجواب على تنفيره عن طلب الحديث والتّفسير, وتوعيره لطريق ذلك, والتّشكيك في دخوله في حيّز الإمكان, والتّشويش على من أراده من أهل الإيمان.
ويلحق بهذا تنبيهات([420]) حسنة تعلّق بالجواب على سؤاله, لكنه يليق إفرادها عن الأجوبة, لأنّ بعضها من قبيل تعليم الأدب وبعضها مما يحتمل المنازعة في كونه جواباً مقنعاً, وجدلاً قامعاً, أو خطاباً خطابيّاً, أو تنبيهاً أدبياً.
التنبيه الأوّل: المراجعة في أنّ طلب الحديث متيسّر أو متعسّر من الأساليب المبتدعة والأمور المتعسّفة؛ لأنّ مقادير التّسهّل والتّعسّر غير منضبطة بحدّ, ولا واقفة على مقدار, ولا جارية على قياس, ولا يصحّ في [معرفة]([421]) مقاديرها برهان العقل, ولا نصّ الشّرع ولا تعرف مقاديرها بكيل ولا وزن ولا مساحة ولا خرص, فإنّ من قال: إن طلب الحديث أو أنّ حفظ القرآن أو الفقه متيسّر عليه أو متعسّر, لم يُعقد له مجلس المناظرة كما يُعقد للمخالفين في العقائد, لأنّ الذي ادّعاه أمر ممكن وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وطلب العلم متسهّل على ذكي القلب, صادق الرّغبة, خليّ البال من الأشغال, واجد الكتب المفيدة, والشّيوخ المبرّزين, والكفاية فيما يحتاج إليه, ونحو ذلك, وطلب العلم متعسّر على من فقد هذه الأمور كلّها, وبينهما في التسهّل والتّعسّر درجات غير منحصرة ومراتب غير منضبطة, وبين النّاس من التّفاوت ما لا يمكن ضبطه ولا يتهيّأ, وأين الثّريّا من الثّرى؟
وجامد الطّبع بليد الذّهن, إذا سمع [من]([422]) يدّعي سهولة ارتجال القصائد والخطب, وتحبير الرّسائل والكتب؛ توهّم أنّه بمنزلة من يدّعي إحياء الموتى, وإبراء الأكمة والأبرص, وكذلك الجبان الفشل إذا سمع [من] يدّعي سهولة مقارعة الأقران ومنازلة الشّجعان.
وكم عاصر أئمة العلم والنّحاة والنّظّار وحفّاظ الحديث من طالب للعلم مجتهد في تحصيله؛ فلم يبلغ مبلغهم ولا قارب شأوهم, وإنّما تميّز عن الأقران أفراد من الخلق, وخواصّ منحهم الله الفهم والفطنة وآتاهم الفقه والحكمة, وقد وقع التّفاضل بين الصّحابة –رضي الله عنهم-: فكان علي رضي الله عنه أقضاهم, ومعاذ أفقههم, وأبيّ أقرأهم, وأبو هريرة أحفظهم, والخلفاء أفضلهم, وزيد أفرضهم([423]) , بل قد فاضل الله تعالى بين الأنبياء –عليهم السلام- قال الله تعالى: ]تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم عَلَى بَعْضٍ[ [البقرة:253] وقال تعالى: ]فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً[ [الأنبياء:79], فهذا تفضيل في الفهم بين داود وسليمان – عليهما السلام- مع الاشتراك في النّبوّة, والتّقارب ما بين الأبوّة والبنوّة, وكذلك قد فاضل الله بينهم فيما هو دون هذه المرتبة, وذلك في البيان والفصاحة وضوح العبارة, مثل ما نصّ الله عليه من إيتاء داود فصل الخطاب([424]) , ومثل قوله تعالى في الحكاية لقول موسى في أخيه –عليهما السلام-: ]هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً[ [القصص:34].
وعموم([425]) التّفاوت الذي يدور عليه, وميزانه الذي يعتبر به في أغلب الأحوال هو: التّفاوت في صحّة الفهم, وصفاء الذّهن, واعتدال المزاج, وسلامة الذّوق, ورجحان العقل, واستعمال الإنصاف, فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف, ومباني الفضائل, ولأجلها يكون الرّجل غنيّاً من غير مال, وعزيزاً من غير عشيرة, ومهيباً من غير سلطان, إلى غير ذلك من الصّفات الحميدة والنُّعون الجميلة, ومن ههنا حصل التّفاوت الزائد, حتّى عدّ ألف بواحد, ومما أنشدو في ذلك:
ولم أر أمثال الرِّجال تفاوتــاً
|
|
لدى المجدِ حتّى عدّ ألف بواحد
|
وقال ابن دريد([426]) في المعنى:
والنّاس ألفٌ مِنهم كــــواحدِ
|
|
وواحـد كالألفِ إن أَمـرٌ عنى
|
وأنشدوا في المعنى:
يا بـنـي الـبُعـد فـي الطّباع
|
|
[لا]([427]) مع القُربِ فــي الصّور
|
وفي الأخبار: ((النّاس كإبل مائة, لا تجد فيها راحلة))([428]) .
وفي الأمثال العربيّة: ((المرء بأصغريه))([429]) .
بل في الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه))([430]) .
وليس كلّ من حفظ الحديث كان كالبخاري, ولا كلّ من تفقّه في الدّين كان مثل الشّافعي, ولا كلّ من قرأ النّحو والمعاني صنّف مثل ((الكشّاف)), ولا كلّ من درس الأصول والجدل ركب بحر الدّقائق الرّجّاف/ .
وما كلّ دارٍ أقفرت دار عَـزَّةٍ([431])
|
|
ولا كلّ بيضاء التّرائب زينـب
|
فإذا نظرت إلى([432]) المواهب الرّبانية لا تنتهي إلى حدّ, والعطايا اللّدنيّة لا تقف على مقدار, لم يحسن من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسير ما الله قادر على تيسيره, فَيُقنّط بكلامه طامعاً, ويتحجّر من فضل الله واسعاً, بل يخلّي بين النّاس وبين هممهم وطمعهم في فضل الله عليهم, حتّى يصل كلّ أحد إلى ما قسمه الله تعالى له من الحظّ في الفهم والعلم وسائر أعمال الخير, وهذا مما لا يفتقر إلى حجاج, لولا أهل المراء واللّجاج([433]) .
2-الرد على المعترض
في توعيره لطرق العلم
وتزهيده فيه
|
|
التّنبيه الثاني: التّعرض لذكر المشاقّ التي في طلب العلم والحجّ والجهاد وسائر أعمال البرّ على سبيل التّوعير لمسالكها, والإحالة لبلوغ مراتبها عكس ما جاءت به الشّرائع, ودعت إليه الأنبياء –عليهم السلام- وكان عليه الأئمة والعلماء والوعّاظ, وإنّما السّنّة تيسير الأمور على من عسرت عليه, وتذكير القلوب الغافلة, وتنشيط النّفوس الفاترة([434]) , ولهذا شرعت الخطب, وصنّف الوعّاظ أحاديث الرّقائق, لتسهيل ما يصعب على النّفوس وتقريب ما تباعد على أهل القصور.
وقد تكاثرت الأحاديث النّبويّة في الحثّ على ذلك, وكان -u- إذا بعث سريّة يقول لهم: ((يسّروا ولا تعسّروا, وبشّروا ولا تنفّروا))([435]) . فالمعترض على أهل الحديث, المعسّر لمعرفته, الموعّر لطريقه, مرتق لمرتبة الفتيا, منتصب في منصب التّعليم متمكّن في مكان الدعاء إلى الله بالحكمة, والموعظة الحسنة, فما [باله]([436]) يعكس السّنن, ويستن من البدعة في كل سنن!؟ نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا, ويعلّمنا ما ينفعنا, ويوفقنا للاقتداء بسيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التنبيه الثالث: فرع من فروع الشّجرة النّبويّة على صاحبها السّلام, ونشء من أهل بيته الكرام, تشوّف إلى مرتبة العلم, وتشوّق إلى التشبّه بأهل الفضل, ورغب في اتّباع سنّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم, فلما شِمتُم([437]) بارقة جهده صيّبة, و[شَمِمتُم]([438]) رائحة سعيه طيّبة, وتوسّمتم فيه للفائدة سمات, وتوهّمتم أنّه قارب وهيهات, تواترت عليه الرّسائل, وتواردت عليه الدّلائل, تفتّره عن عمله, وتقنّطه من أمله.
من قد سبقكم إلى هذا من الخلفاء الرّاشدين والعلماء الهادين!؟.
وإنما بلغنا أنّ أهل العلم يحبّون من علت همّته وظهرت فطنته, ويرغّبونه بأنواع التّرغيب, ويجعلون التّصويب له مكان التّثريب, فعكستم السنّة بالتّنفير عن الحديث, وخالفتم العادات القديم منها والحديث.
وإلى ههنا انتهى الجواب عن الجملة المتقدمة من كلامه, وهي الوجه الأوّل في إبطال الطريق إلى معرفة الحديث بتعذّر الإسناد الصّحيح منّا إلى المصنّفين من المحدّثين, ويتعلّق بتفاصيلها بحثان:
المبحث الأول: قال وفّقه الله: ((وذكر هذا كثير من العلماء –يعني تعسر معرفة الحديث- ومنهم الغزالي والرّازي)).
والجواب عليه: أنّه قصد الاستئناس بكلام العلماء بإظهار الموافقة لهم, فهيهات! فإنّه لا يوافقه على صرف الهمم عن طلب / الحديث عالم, ومقصد من أشار إليه من العلماء الذين منهم الغزالي والرّازي غير مقصد المعترض, فإنّهم قصدوا سقوط البحث عن رجال الأسانيد في الأعصار الأخيرة كما أشار إليه ابن الصّلاح, وخالفه النّووي, وغــير واحــد ممّــن تــقدّم ذكره([439]) , وهم مع ذلك مقرّون ببقــاء طــريق المعــرفة للــحديث, والـتـعبّد به علماً وعملاً.
والمعترض قصد تحريم العمل بالأخبار, والمنع من التمسّك بالسّنن والآثار, وكلامهم عليه لا له, مع أنّ المعترض قد ناقض روايته هذه عن الغزالي بقوله بعد هذا: إنّ الغزالي قال: يُكتفى بتعديل أئمة الحديث, فإنّه أورد كلام الغزالي الآتي إشكالاً على كلامه الأول الذي نسبه إلى الغزالي.
الاكتفاء بتعديل أئمة الحديث
|
|
المبحث الثاني: ما قصدك بحكاية ما ذهبت إليه عن جماعة كثيرة من العلماء؟ إن أردت أنّه حجّة؛ فليس يخفى عليك فساد ذلك, وإن لم ترد أنّه حجّة؛ فقد أوردت الدّعوى من غير دليل, وادّعيت الحقّ من غير برهان, وهذا ما لا يعجز عنه مبطل!!.
قال: الثاني([440]) : أن أولئك المعدّلين معلومون بمثل هذا, ومجهولة براءتهم منه –يعني الجبر والتّشبيه والإرجاء-.
أقول: إمّا أن يسند القول بهذه البدع إلى جميع معدّلي حملة العلم النّبويّ أو إلى بعضهم؛ الأول: ممنوع, وبطلانه معلوم بالضّرورة, ومدّعيه لا يستحق المناظرة. والثاني: مسلّم, ولا يضر تسليمه لوجهين:
أحدهما: أن نقول لهذا المعترض: هل بقي عندك حديث صحيح يمكن معرفته؟ فدلّنا عليه واهدنا إليه, فإنّما غرضنا اتّباع السّنّة المرويّة عن الثّقات بطريق صحيحة, وليس غرضنا مقصوراً على ما في بعض الكتب, ولا على ما روى بعض الثّقات. وإن كان المعترض يدّعي تعذّر معرفة السنّة وانطماس معالم العلم كما مرّ في كلامه, فقد بيّنّا الجواب عن ذلك فيما مضى, وبيّنّا أنّ هذا إشكال على أهل الإسلام لا على حفّاظ حديث النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وثانيهما: أنّ الثّقات من أهل هذه البدع مقبولون في مذهب المورد للاعتراض, ومذهب المعترض عليه.
أما المورد للاعتراض؛ فسوف نبيّن عند الكلام على هذه المسألة نصوص أئمة مذهبه على القطع بأنّ قبولهم مجمع عليه من السّلف, وأنّ أحداً منهم ما اعترض على من استجاز ذلك من الخلف.
وأمّا المعترض في نفسه فلا مذهب له ولا اختيار, لأنّ المسألة خلافية ظنّيّة اجتهادية كما سيأتي, وقد نصّ على تعذّر الاجتهاد في العلم, فثبت أنّه لا مذهب إلا ما ذهب إليه أسلافه على مقتضى رسالته هذه. وأمّا أنّ قبولهم مذهب المعترض عليه؛ فلأنه روى ذلك عن نفسه, وكلّ راوٍ عن نفسه فهو مصدّق لها وعليها, ومع هذا كيف يصحّ هذا الإشكال, وعلى من يرد!؟ وسوف يأتي في مسألة المتأوّلين, والكلام على قبولهم وردّهم, وذكر أدلّة الفريقين, ونقض كلام المعترض, ما يكفي ويشفي, فقد استوعبت الكلام في هذه المسألة, وبلغت في تحقيقه([441]) ما لم / أسبق إليه, لله الحمد والمنّة على ذلك.
وأقصى ما في الباب أن يتعذّر الإسناد على شرط أهل [الصّحيح]([442]) , فأين عقل المعترض عن مذاهب أسلافه, ومذهب المالكية في قبول المرسل؟ وما الذي يمنع طالب الحديث من القول بجوازه؟ وقد تقدّمت الإشارة إلى الحجّة عليه وصحّة الإسناد إليه ولكن لا ضرورة تلجىء إلى ذلك ولله الحمد.
الكلام على
كتب الجرح
والتعديل
|
|
قال: الثّالث: أنّ اتصال([443]) الرّواية بكتب الجرح والتّعديل متعسّرة, أو متعذّرة على وجه العدالة الصّحيحة.
أقول: المعترض –وفّقه الله- متحيّر متردّد, أهذه الأمور متعسّرة أو متعذّرة؟ فهو لا يزال يكرّر الشّكّ في ذلك, والشّاكّ في تعذّر أمر أو إمكانه, لا يصلح منه أن يعترض على من ادّعى إمكان ذلك الأمر حتّى يزول ما عنده من الشّكّ في إمكانه, ويحصل لـــه عــنده عــلمٌ يقين أنّه غير ممكن, فإن قطع المعترض بتعذّر ذلك ســـقط التّكليف بــه, لأنّ الــتّـكليف لا يــتعلّق بما لا يطاق.
والعجب منه أنّه خصّ كتب (الجرح والتعديل) بالتعذّر أو التعسّر!! وهذا من قبيل القياس على مجرّد الوجود, فإنّه لما عسر ذلك عليه, وخرج من يديه, لبعده عن علماء هذا العلم الشّريف, ظنّ أنّ ذلك لأمر يرجع إلى ذات الفنّ, فليحط علماً أصلحه الله: أنّ تعسّر سماع كتب الجرح والتّعديل عليه عرضيّ لا ذاتيّ, فإنّ طلبة الحديث النّبوي يحافظون على سماع كتبه, وشيوخها موجودون اليوم في جميع الأمصار الكبار من المملكة الإسلامية حرسها الله, فإن كنت محبّاً في العلم؛ فاطلبه حيث كان, وارحل في تحصيله وإن بَعُد المكان, ولا تقعد متّكئاً على أريكتك تقول: لا أعرف طريقاً إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولا إلى تفسير كتاب الله عزّ وجلّ.
ولقد زدت على من ذمّ([444]) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المبتدعة الذين يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله, فكيف من أنكر معرفة كتاب الله مع معرفة سنّة رسول الله!؟ نعوذ بالله. مع أن معرفة كتب الجرح والتّعديل غير مشترطة فيما نصّ [على صحّته]([445]) إمام مشهور بالحفظ والأمانة حتّى يعارضه قول من هو أرجح منه أو مثله على ما هو مذكور في مواضعه, وإنّما يحتاج إليها في معرفة كثير من أحاديث المسانيد التي لم يصحّح مصنّفوها كلّ ما رووا فيها, وقد جمع الحفّاظ ما يحتاج إلى معرفته من أحاديث الأحكام والعقائد والقواعد, وتكلّموا عليها, وكفوا المؤونة, فجزاهم الله عن المسلمين أفضل ما جزى المحسنين.
وكذلك من لم يقدح في حديث بالإرسال لم يرد عليه هذا الإشكال, وقد اشتمل الكلام هذا على ردّ كلامه في هذا الفصل بأربعة وجوه لم أتأملها إلا بعد سردها غير مفصّلة فتأمّله.
مسألة قبول الجرح والتعديل والأقوال فيها
|
|
قال: الرّابع: أنّ تعديل هؤلاء الأئمة من بينهم وبين الرّسول إنّما يقع على سبيل الإجمال غالباً, والتّعديل الإجمالي إنّما يصحّ من موافق في المذهب بعد كونه عارفاً بوجوه الجرح والتّعديل عدلاً مرضيّاً, وقيل: لا يصحّ وإن كان المعدّل كذلك بل لابدّ من التّفصيل, وقيل يصحّ الإجمال مطلقاً وهو ضعيف.
أقول: ما أدري ما حمل المعترض على تجريد حكاية المذاهب في هذه المسألة, ودعوى التّصحيح والتّضعيف / [المجرّدة]([446]) عن الأدلة, وهو يعلم ما في ذلك من الشّين عند أهل هذا الشّأن, وإنّما يجب الإيمان بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, فلو أنّا عاملناه بمثل كلامه لسهل الجواب عليه بمجرّد نسبة القول الضّعيف إليه, فمجرّد الدّعوى لا يعجز عنها أحد, ولكن لابدّ من الإشارة إلى الدّليل على قوّة ما ضعّفه على سبيل الاختصار, فأقول([447]) :الجواب على ما ذكره من وجوه:
الوجه الأول: أنّ هذه مسألة خلاف بين الأصوليين وبين المحدّثين, فحكى فيها خمسة أقوال لأهل العلم:
منهم: مــن قـبل الإطلاق في الجرح والتّعديل معاً, ومنهم: من مــنعه فيـهمـا معاً, ومنهم: من فصّل, واختلفوا على ثلاثة أقوال:
منهم: من قبل الأجمال في التّعديل دون الجرح وهو([448]) اختيار الشّافعي وجماعة, ومنهم من عكس هذا, وقال بعضهم: إن كان الجارح أو المعدّل من أهل العلم قبل, وإلاّ لم يقبل, وأفاد صاحب الرّسالة قولاً سادساً وهو: إن كان موافقاً في الاعتقاد وكان من أهل العلم قبل وإلا لم يقبل. فإذا ثبت هذا الاختلاف الكبير في هذه المسألة؛ فلا معنى للإنكار على من ذهب إلى أحد هذه الأقوال, إذ ليس فيها ما يخالف الإجماع القطعيّ, بل ولا الظّنيّ, ولا ما يخالف النّصّ المتواتر المعلوم معناه, بل ولا الآحادي المظنون معناه, فالتّشعيب على طلبة علم السّنة بذكر ذلك من جملة مبتدعات المعترض في [رسالته]([449]) , فإنّه ابتكر فيها من منكرات الأساليب, وتعسّفات أهل اللّجاج, ما لم يسبقه إليه مبتدع, ولا سيّما وقد أنكر المعترض في هذه المسألة القول المشهور, المعمول عليه عند الجمهور.
الوجه الثاني: وهو المعتمد في الجواب, وذلك أنّ المختار الصّحيح الذي قامت عليه الأدلّة, ومضى عليه عمل السّلف والخلف هو: الاكتفاء في التّعديل بالإطلاق, والدّليل عليه وجوه:
أولها: أنّا متى فرضنا أنّ المعدّل ثقة مأمون, وأخبرنا خبراً جازماً بعدالة رجل آخر فإنّه يجب قبول قوله, لأنّه خبر ثقة معروف بالعدالة, فوجب قبوله كسائر أخبار الثقات.
وثانيها: إمّا أن يترجح صدقه أو لا, إن لم يترجح لم([450]) يقبل, لكن هذا الفرض لا يقع إلا لعلة, وكلامنا في توثيقه إذا لم يكن معلوماً بما يدلّ على وهمه, أو معارضاً بأقوى منه, وإن ترجّح صدقه وجب قبوله, وإلا لزم المساواة بين الرّاجح والمرجوح, وهو قبيح اتفاقاً.
وثالثها: إن ردّ قوله تهمةً له بالكذب والخيانة, أو بالتّقصير والإقدام على ما لم يتقن حفظه, والفرض أنّه عدل مأمون, وتهمة العدل المأمون بغير موجب محرّمة, وما استلزم المحرّم لا يكون مشروعاً.
ورابعها: أنّ الله تعالى إنّما اشترط في الشّاهد أن يكون ذا عدل, وكذلك الرّاوي, مع أنّه أصل, والمعدّل له فرع, والفرع لا يكون أعظم من أصله, ولا آكد, فكما أن العدل في الشّهادة والرّواية لا يجب عليه التّفصيل فيما يحتمله؛ فكذلك العدل لا يجب عليه ذلك في التّعديل.
فإن قلت: وكيف يحتمل التّفصيل في الشّهادة والرّواية؟
قلت: أمّا الشّهادة فإذا شهد بالمال لزيد سئل عن سبب اعتقاده لملك زيد للمال, فربّما استند اعتقاده لذلك إلى ما لا يدل على الملك / من: خبر ثقة, أو بيع باطل, أو غير ذلك, وهذا يجوز على الشّــاهد الثّقة إذا لم يكن فقيهاً, ولا مخالطاً لأهل الفقه مخالطة كثيرة.
وأمّا الرّواية فقد يجوز في راوي الحديث أنه رواه باللّفظ أو بالمعنى, وقد يجوز فيمن روى بالمعنى أن يعتقد أنه روى بالمعنى([451]) مع الخطأ الذي يدقّ على كثير, ونحو ذلك مما يدلّ على قبول الثّقة من غير تفصيل وإن احتمل التفصيل.
ومما يزيد ذلك وضوحاً: أنّ كلّ دليل دلّ على وجوب قبول أقوال العدول بمجرّد عدالتهم؛ فهو بعمومه يدلّ على قبولهم على الإطلاق, ويدخل في ذلك قبولهم في التّعديل.
وخامسها: -وهو المعتمد- أنّ اشتراط التّفصيل في التّعديل يودّي إلى ذكر اجتناب المعدّل لجميع المحرّمات, وتأديته لجميع الواجبات, على حسب مذهب المعدّل في تفسير العدالة, فإن كان ممن يتشدد ذكر ذلك كلّه, وإن كان ممن يترخص ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معدّداً لها, ولجميع معاصي الأدنياء الدّالّة على الخسّة وقلّة المبالاة بالدّين, وذكر أداءه لجميع الواجبات التي يدلّ تركها على الجرح.
ومعلوم أنّ التّعديل بهذه الصّفة لم يكن قط, لا من معدّلي حملة العلم, ولا من معدّلي الشّهود في الحقوق, فإنّ تعديد هذه الأشياء مما يفوت ذهن المعدّل, ولو سئل ذلك ما استحضره, فإنّه يحتاج إلى تأمّل كثير, وجمع وتأليف, وقد عددتّ من ذلك في ((الأصل))([452]) شـــيئاً كـــثيراً فـــبـلغ إلى بــطــلان عدالة العدول ويترتّب عـلــى ذلك مــن المفاســد الدّينية مــا لا يــقـول بـــه منصف.
فإن قيل: أقلّ من ذلك التّفصيل يكفي, قلنا: إن كفى الإجمال في صورة ما, كفى قوله: ثقة, وإن لم يكف وجب ذلك التّفصيل, فأمّا أنّ الإجمال يجوز في موضع دون موضع فهذا تحكّم.
فإن قيل: إنّما يشترط التّفصيل من الفاسق والكافر المتأوّلين لأنّه لا يؤمن أن يعدّلا من يعتقد اعتقادهما, وهو غير عدل عند من لم يقبل المتأوّلين, وإنّما أشار إلى هذا صاحب الرّسالة.
فالجواب: أن لا معنى لهذا, لأنّ من يقبله فهو يقبله, [و]([453]) يقبل من عدّله من المبتدعة, ومن لا يقبله فإنه لا يقبله. وإن فصّل في التّعديل؛ فالخلاف إنّما هو في قبوله لا في قبول ما أطلقه من تعديله, وأمّا من لا يقبل بعض المبتدعة ويقبل بعضهم فإنّه يشكل عليه تعديل المبتدع المقبول.
مثالـه: مـبتدع غير داعية عدل عند بعض أهل مذهبه, فيحتمل أنّ المعــدّل داعيــة إلى مذهبه([454]) , فإذا اتفق هذا ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يقبل تعديل غير الدّاعية حتّى يثبت أنّ المعدّل داعية, لأنّ الأصل أنّه غير داعية, وقد ورد التّمسّك بالأصل في الشّريعة في يومي الشّكّ وغير ذلك, وهو ظاهر إطلاق أهل القول بقبول التّعديل الإجمالي.
وثانيهما: أن يقبل في عدالة من عدّله في جميع الأمور إلاّ في كونه داعية فيبحث عن ذلك حتى يظنّ عدمه, ويؤخذ بتعديل المبتدع المقبول فيما عدا ذلك من شرائط العدالة والله أعلم.
وأمّا الجرح: فالقول باشتراط التّعيين فيه أقرب, لأنّ الجارح إذا قال: فلان ليس ثقة, لأنّه يشرب الخمر, أو غير ذلك كفى ذلك, ولم يلزمه تعديد جميع المعاصي فظهر الفرق.
قال: الخامس: أنّ هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصّحابة جميعاً, ويرى أكثرهم/ أنّ الصّحابي من رأى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به وإن لم تطل ولم يلزم, وهذان المذهبان باطلان, وبِبُطلانهما يبطل كثير من الأخبار المخرّجة في الصّحاح.
أمّا المذهب الأول: فلأنّ من حارب عليّاً -u- مروح, ومن قعد عن نصرته كذلك, لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: ((اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله))([455]) , وقال: ((لا يبغضك إلا منافق شقي))([456]) وأقل أحوال هذا ألا تقبل روايته.
وأمّا الثّاني:فيلزمهم أن يكون الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([457]) عدلاً بتعديل الله, ولا يحتاج إلى تعديل أحد, وكذلك كثير من رواتهم الذين هم من أعراب, أو يفدون عليه مرة واحدة كما جاء في حديث وفد تميم([458]) وأنزل الله تعالى فيه: ]إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ[ [الحجرات:4], وكحديث وفد عبد القيس([459]) .
أقول: اشتمل كلامه في هذا الوجه على مسائل:
المسألة الأولى: القدح على المحدّثين بقبول المجهول من الصّحابة –رضي الله عنهم-, وقولهم: [إنّ]([460]) الجميع عدول بتعديل الله, والجواب عليه من وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الذّاهب إلى هذا المذهب لا يستحق الإنكار؛ لأنّ هذا المذهب إن لم يكن هو الحق دون غيره؛ فلا أقلّ من أن يكون غير محرّم ولا منكر, لأنّه لا دليل قاطع على تحريمه, ومن ادّعى شيئاً من ذلك فليدلّ عليه.
والعجب من المعترض أنه خصّ المحدثين بهذا المذهب, وهو مذهب أكثر أهل الإسلام من المحدّثين والفقهاء وغيرهم, بل هو مرويّ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهو مذهب مشهور مستفيض حتّى في مذهب المعتزلة والزّيدية.
أمّا المعتزلة: فرواه ابن الحاجب عنهم الجميع, لفظه: ((قالت المعتزلة: الصحابة([461]) عدول إلا من حارب عليّاً)). وذكروه أيضاً في كتبهم, فممن ذكره منهم: عالمهم وإمامهم بغير منازعة: الشّيخ أبو الحسن البصريّ في ((المعتمد))([462]) فإنه قال فيه ما لفظه: ((واعلم أنّه إذا ثبت اعتبار العدالة وغيرها من الشّروط التي ذكرناها, وجب إن كان لها ظاهر أن يعتمد, وإلا لزم اختبارها, ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كانت العدالة منوطة بالإسلام, فكان الظاهر من المســلم كــونه عدلاً, ولهذا اقتصر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في قبول خبر الأعــرابـي عــن رؤيــة الهــلال عــلــى ظاهــر إســلامه, واقتصرت([463]) الصّحابة على إســلام من كان يروي الأخبار من الأعراب)).
وقال الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي في: ((شرح العيون)) له ما لفظه: ((إن أحوال المسلمين كانت أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلومة, وكانت مستقيمة مستغنية عن اعتبارها([464]) )).
ثناء الزّيديّة على الصحابة
|
|
وأمّا الزّيدية: فقد ثبت عن كثير منهم ما يدل على ذلك كما سنذكره, من ذلك قول الإمام الكبير المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان رضي الله عنه, فإنّه قال في: ((الرسالة الإمامية, في الجواب على المسائل التّهامية))([465]) ما لفظه: ((فأمّا ما ذكره المتكلّم حاكياً عنّا من تضعيف آراء الصحابة, فعندنا أنّهم أشرف قدراً, وأعلى أمراً, وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم ضعيفة, أو موازينهم في الشّرف والدّين خفيفة. فلو كان ذلك, لما اتّبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب و[القرباء]([466]) إلى أمر لم يسبق لهم به أُنس, ولم يسمع له / ذكر, شاقّ على القلوب, ثقيل على النّفوس فهم خير النّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده, فرضي الله عنهم, وجزاهم عن الإسلام خيراً)) إلى قوله: ((فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة, ولم نكتم سواه تقيّة. وكيف وموجبها زائل! ومن هو دوننا مكانة وقدرة يسبّ ويلعن, ويذمّ ويطعن, ونحن إلى الله سبحانه من فعله براء, وهذا ما يقضي به علم آبائنا منّا إلى علي -u-)) إلى قوله: ((وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء بسبّ الصّحابة –رضي الله عنهم- والبراءة منهم فتبرّأ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم.
إذا كنت لا أَرمِي وتُرمي كِـنانتي
|
|
تُصب جانحات النّبل كشحِي ومِنكبِي
|
انتهى ما أردنا نقله من كلام المنصور بالله, وما فيه من نسبة مذهبه هذا إلى جميع آبائه –رضي الله عنهم-.
وفي كلامات المؤيد بالله يحيى بن حمزة رضي الله عنه في الذّبّ عن الصّحابة والثّناء عليهم, ما هو أكثر من هذا, ولكن لم يحضرني تأليفه فأنقل ألفاظه في ذلك, وقد أفرد الكلام في ذلك وجوّده في كتابه ((التحقيق))([467]) وانتصر للذّبّ عن الصّحابة غاية الانتصار, وذكر مثل ذلك في كتابيه: ((الشامل))([468]) و((الانتصار))([469]) .
وأمّا المنصور بالله فله في ذلك كلامات مختلفة, في أماكن من كتبه متفرقة. من ذلك كلامه في كتاب ((هداية المسترشدين)), واحتجاجه بتأمير النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لعتّاب بن أسيد ثاني يوم من إسلامه واكتفاؤه في أمره بمجرّد الإسلام.
وفي ((الاستيعاب))([470]) وغيره أنّه أسلم يوم الفتح, وولاّه النّبي صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج إلى حنين.
وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر, لكن المنصور بالله ذكر أنّه ولاه على القضاء فيما حكى لي بعض أهل العلم. فعلى الجملة؛ فغرضنا حاصل بكلام المنصور, فإنّ القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصّحابة, وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ له منه عدالة الصّحابة كلّهم –رضي الله عنهم- على أنّه قد ثبت في كلام غير واحد من الزّيديّة: أنّه يقبل المجهول من جميع المسلمين؛ الصّحابة وغيرهم. كما قدّمنا ذلك من كلام عبد الله بن زيد, والمنصور بالله, وأبي طالب, فخذه من مكانه المقدّم([471]) . وذلك أيضاً مشهور عن الحنفية وغيرهم. فمع هذا ما سبب إنكار هذا المعترض على المحدّثين, وتخصيصهم بردّ هذا المذهب من بين سائر طوائف المسلمين؟ وهل هذا إلا محض الجهل أو التّجاهل, وصريح التّعنّت والتّحامل؟ والله المستعان.
قبول الصحابة
لأخبار الأعراب
|
|
الوجه الثاني: أنّ الشّيخ أبا الحسن روى في ((المعتمد))([472]) عن الصّحابة أنّهم اقتصروا على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب, وهذا يفيد إجماع الصّحابة على ذلك. والمعترض يعتقد عدالة الصّحابة, وقبول خبره, وقد كان الرّجل –على ما ذهب إليه, من أهل الدّيانة والأمانة, يعترف له بذلك أهل المعرفة بعلم الرّجال من المحدّثين كما ذكره الذّهبي([473]), وإنّما الذي قدحوا به عليه كونه كان رأساً في الاعتزال داعية إلى القول به, وذلك كثير في الرّواة الثقات المتفق على إخراج حديثهم في ((الصّحيحين)), وغيرهما كقتادة وغيره. وإذا ثبت ذلك؛ فكيف ينكر المعترض على المحدّثين, مذهباً قد روى الثّقة عنده أنّه قول الصّحابة, بل الذي روى أوسع من مذهب المحدّثين فإنّهم اقتصروا على قبول من رأى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وأبو الحسين روى قبول الصّحابة لمن أسلم من الأعراب من غير تقييد لذلك برؤية النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال النّواويّ/ رضي الله عنه: إنه قول من يعتبر به من الأمّة أو كما قال, ذكره في ((شرح مسلم))([474]) وهذه العبارة تفيد دعوى الإجماع. وقد روى الحفّاظ من فرسان علم الأثر ما يدلّ على كلام الشّيخ أبي الحسين.
فمن ذلك: ما روى معمر البصريّ عن أبي العوّام البصري قال: كتب عمر إلى موسى –وساق كتابه الطّويل في القضاء- وفيه من كلام عمر رضي الله عنه: ((والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشّهادات, إلا مجلوداً في حدّ, أو مجرّباً عليه شهادة الزّور, أو ظنيناً في ولاءٍ أو دية([475]) . فإن الله تعالى تولّى من العباد السّرائر, وستر عليهم الحدود إلا بالبيّنات والأيمان)) وساق بقيّة كتابه, رواه البيهقي هكذا, ثم قال: ((وهذا [كتاب]([476]) معروف مشهور))([477]) .
وفيه ما يدلّ على مذهب المحدّثين, وأنّ مذهبهم هذا مشهور في السّلف والخلف.
وفي حديث شقيق [ابن سلمة]([478]) عن كتاب عمر رضي الله عنه: ((لا تفطروا حتّى يشهد رجلان مسلمان [أنّهما]([479]) أهلاّه بالأمس)) رواه الدّارقطنيّ([480]) والبيهقي, قال: ((وهو أثر صحيح))([481]) ذكره ابن النّحويّ في ((البدر المنير)) و ((الخلاصة))([482]) ([483]) .
ومن ذلك أثر عليّ رضي الله عنه وفيه: أنه كان يستحلف بعض الرّواة [إذا اتّهمه]([484]) , فإن حلف صدّقه. وقد روى ذلك عنه من الزّيديّة الإمام المنصور محتجّاً به, وكذلك رواه الإمام أبو طالب وهو –أيضاً- معروف عند حفّاظ الحديث, رواه أبو عبد الله الذّهبي في ((تذكرة الحفّاظ))([485]) وقال: ((وهو حديث حسن))([486]) .
وهو يدلّ على مثل مذهب المحدّثين, لأنّ التّهمة والتّحليف لا يكون للمخبورين المأمونين. وإنما يكون لمن يجهل حاله فيقوى الظّنّ بيمينه.
فإن قيل: هذا يدلّ على خلاف مذهب المحدّثين, لأنّ المفهوم منه: أنّه لو لم يحلف له الرّاوي ما قبله.
والجواب: أنّ ذلك عير صحيح لوجهين:
أحدهما: أنّ المحدّثين إنما يقولون بذلك في الصّحابة الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وليس يعلم أنّ هذا منهم لجواز أن يكون من الأعراب.
وثانيهما: أنّهم لا يقولون: [إنه]([487]) لا يجوز الوهم على الصّحابي, إنّما قالوا: إنه ثقة, والوهم جائز على الثّقة, وعليّ رضي الله عنه لم يتّهم الرّاوي بتعمّد الكذب؛ لأنّه لو اتّهمه بذلك لاتّهمه بالفجور باليمين, ولم يصدّقه إذا حلف, وإنّما اتّهمه بالتّساهل في الرّواية بالظّنّ الغالب, فمع يمينه قوي ظنّه بأنّه متقن لما رواه حفظاً. ومع امتناعه من اليمين يعرف أنّه غير متقن ولا مستيقن, فتكون هذه علّة في قبول حديثه.
ولا شكّ أنّ حديث الثّقة قد يكون معلولاً بأمر يوجب الوقف, ولهذا توقّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبول حديث ذي اليدين([488]) حتّى سأل, وتوقّف عمر رضي الله عنه في قبول حديث فاطمة بنت قيـس([489]) , وذلك مقرّر في مواضعه من الأصول.
الوجه الثالث: أنّ الأدلّة قد دلّت على ما ذهب إليه أهل الحديث, وغيرهم من قبول الصّحابة –رضي الله عنهم- المعروف منهم بالعدالة والمجهول حاله. والأدلّة على ذلك من الكتاب, والسنّة, والنّظر كثيرة, نذكر طرفاً يسيراً [منها]([490]) :
أما الكتاب؛ فمثل قوله تعالى: ]كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ[ [آل عمران:110].
وأمّا السّنّة؛ ففي ذلك آثار كثيرة, نذكر منها نبذة يسيرة:
الأثر الأول: ما روى ابن عمر عن أبيه –رضي الله عنهما-: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام فيهم فقال: ((أوصيكم بأصحابي, ثمّ الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, ثم يفشو الكذب حتّى يحلف الرّجل ولا يستحلف, ويشهد الشّاهد ولا يستشهد)) ([491]) , الحديث رواه أحمد والتّرمذيّ.
وقد رواه عن شعبة: أبو داود الطّيالسيّ, عن عبد الملك بن عمير, عن جابر ابن سمرة, عن عمر, وله طرق أُخر, وهو حديث مشهور جيّد, قال ذلك الحافظ ابن كثير في ((إرشاده))([492]) .
قلت: وفيه ما يدلّ على أنّه أراد بأصحابه أهل زمانه, يفهم([493]) من قوله: ((ثمّ الذين يلونهم)), فإنّه جعل أهل زمانه طبقة, ثمّ الذين يلونهم, فلم يكن ليخرج من لم يره ممن أدرك زمانه, مع دخول من لم يره من التّابعين الذين لم يدركوا زمانه.
الأثر الثاني: عن ابن عبّاس –رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال –يعني رمضان- فقال: ((أتشهد أنّ لا إله إلا الله, وأنّ محمداً رسول الله؟)) قال: نعم. / فقال: ((يا بلال أذّن في النّاس أن يصوموا غداً)) رواه أهل السّنن([494]) , وابن حبان صاحب ((الصحيح))([495]) والحاكم أبو عبد الله([496]) وقال: ((حديث حسن صحيح)).
وذكره الحاكم أبو سعد([497]) في ((شرح العيون)) واحتجّ به أبو الحسين في ((المعتمد)) واحتجّ به: عبد الله بن زيد العنسيّ.
الأثر الثالث: حديث أبي محذورة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمه الأذان عقيب إسلامه, واتّخذه مؤذناً([498]) من ذلك الوقت, وذلك يدلّ على عدالته من قبل الخبرة؛ لأنّ العدالة معتبرة في المؤذن [إذ]([499]) هو مخبر بدخول وقت الصلاة([500]) معتمد عليه في تأدية([501]) الفرائض وإجزائها.
الأثر الرّابع: وهو أثر صحيح, ثابت في دواوين الإسلام, بل معلوم, متواتر النّقل, وهو حجّة قويّة, وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى اليمن عليّاً ومعاذاً –رضي الله عنهما-, واليين قاضيين ومفتيين([502]) , ولا شكّ أنّ القضاء بين النّاس, متركّب على عدالة الشّهود, ومعرفة الحاكم عدالتهم أو عدالة معدّليهم, وهما غريبان في أرض اليمن, لا يعرفان عدالتهم, ولا يخبران أحوالهم, وهم لا يجدون شهوداً على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم, فلولا أنّ الظّاهر العدالة في أهل الإسلام ذلك الزّمان؛ وإلا لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن على الإطلاق سبيل.
وهذا يدلّ على عدالة أهل الإسلام ذلك الزمان, لا على عدالة من صحب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره, وهذا أوسع من مذهب المحدّثين, ولأمر ما أشار أبو الحسين إلى إجماع الصّحابة عليه مع ذكاء أبي الحسين, فقد قال الذّهبيّ –مع كراهته للمعتزلة-إنّها كانت لأبي الحسين شهرة بالذّكاء والدّيانة([503]) , فتأمّل أحوال الصّحابة –رضي الله عنهم- تعلم صحّة ما قاله, وحُسن استخراجه.
الأثر الخامس: ما ثبت عن عليّ رضي الله عنه أنّه ((كان يستحلف من اتّهمه من الرّواة, فإن حلف له صدّقه)) رواه الذّهبيّ في ((تذكرة الحفّاظ))([504]) وحكم بحسنه.
وقد احتجّ به غير واحد من أئمة الزّيديّة –منهم الإمامان أبو طالب, والمنصور بالله- ووجه الحجّة فيه: أنّ التّحليف والتّهمة إنّما يكون لمجهول الحال, أو من هو شرّ منه من المخبورين بقلة أهل الإسلام في ذلك الزّمان.
الأثر السادس: حديث الجارية السّوداء راعية الغنم التي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعرّف إيمانها, ويختبر إسلامها, فقال لها: ((من ربّك)) فأشارت, أي: ربها الله. فقال لها: ((من أنا؟)) قال: رسول الله. قال u: ((هي مؤمنة)), والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسوله بتصديق المؤمنين في قوله تعالى: ]وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِينَ[ [التوبة:61].
وحديث الجارية هو ثابت في ((صحيح مسلم))([505]) رواه الشّافعيّ([506]) عن مالك([507]) ذكر ذلك ابن النّحويّ في ((البدر المنير)) و((الخلاصة))([508]) .
الأثر السابع: حديث عقبة بن الحارث المتفق على صحّته وفيه أنّه تزوج أمّ يحيى بنت أبي إهاب, فجاءت أمة سوداء وقالت: قد أرضعتكما, فذكرتُ ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأعرض عنّي, فتنحّيتُ فذكرت ذلك له فقال: ((وكيف وقد زعمت أن قد أرضعَتُكُما)) هذا لفظ البخاري([509]) ومسلم([510]) .
/ وفي رواية التّرمذيّ([511]) بإسناد حسن صحيح: ((أنه زعم أنّها كاذبة)) وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهاه عنها, فدلّ على اعتبار قولها مع الجهالة وتكذيب المدّعى عليه, ولو لم يعتبر قولها لم ينهه([512]), ولا أمره بالطّلاق, لعدم [تحقّق]([513]) انفساخ النّكاح, ولخيّره بين الإمساك مع الكراهة, أو الطّلاق [للحيطة]([514]), فإنّ التّفريق بين الزّوجين من مؤكّدات الأمور, وقد قال بمقتضى ذلك مع يمين المرأة: ابن عبّاس وأحمد وإسحاق([515]), وإنّما ترك العمل بظاهره بعض أهل العلم لتعلّقه بحقوق المخلوقين التي ورد الشّرع باعتبار الشّهادة فيها.
فأمّا قبول الخبر النّبويّ في الأحكام؛ فمقبول من المرأة الصّحابيّة وإن لم تعرف, بدليل هذا الحديث وغيره.
الأثر الثامن: أنّ الكافر كان يأتي النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسلم, فيأمره النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم [أن يذهب]([516]) إلى [قومه]([517]) داعياً لهم إلى الإسلام ومعلّماً لهم ما علّمه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من شرائع الإسلام, وهذا موجود في السّيرة, لكنّها لم تحضرني فأنقله بلفظه([518]) .
ومثل هذا له شواهد كثيرة يعرفها من طالع السّيرة النّبويّة, وفيه دلالة على عدالة الدّاخل في الإسلام, وإلا لوجب أن يبين له النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا يحل لقومه أن يتعلّموا منه شيئاً حتّى يختبروه بعد إسـلامه, وفي هذا الأثر وفي السابع إشارة إلى آثار كثيرة, والله أعلم.
وأما النظر: فلأنّ العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدلّ على الدّيانة والأمانة دلالة ظنّية. [إذ]([519]) لا طريق إلى العلم بالبواطن؛ وهذا ظاهر في الصّحابة, فإنهم كما قال المنصور بالله: ((لولا ثقل موازينهم في الشّرف والدّين ما تبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومالوا عن إلف دين الآباء, والأتراب والقرباء إلى أمرٍ شاقّ على القلوب, ثقيل على النّفوس, لا سيّما وهم في ذلك الزّمان أهل الأنفة العظيمة والحميّة الكبيرة, يرون أن يقتل جميعهم وتستأصل شأفتهم حذراً من أيسر عار يلم بساحتهم أو ينسب إلى قرابتهم, ولا أعظم عاراً عليهم من الاعتراف بضلال الآباء, وكفرهم, وتفضيل الأنعام السّائمة عليهم, فلولا صدقهم في الإسلام ومعرفتهم لصدق الرّسول u, ما لانت عرائكهم [لذلك]([520]) ولا سلكوا في مذلّلات المسالك.
شواهد على تقوى الصحابة وصدقهم
|
|
وممّا يدلّ على صحّة ذلك ويوضّحه: أنّ أكثرهم تساهلاً في أمر الدّين: من يتجاسر على الإقدام على الكبائر, لا سيما معصية الزّنا, فقد علمنا أنّ جماعة من أهل الإسلام في ذلك العصر من رجال ونساء وقعوا في ذلك, فهم([521]) فيما يظهر لنا أكثر أهل ذلك الزّمان تساهلاً في الوقوع في المعاصي, وذلك دليل خفّة الأمانة ونقصان الدّيانة, لكنّا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله المتأخرين إلا أهل الورع الشّحيح, والخوف العظيم, ومن يُضرب بصلاحه المثل, ويتقرّب بحبه إلى الله عزّ وجلّ, وذلك أنّهم بذلوا أرواحهم في مرضاة ربّ / العالمين, وليس يفعل هذا إلا من يحقّ له منصب الإمامة في أهل التّقوى واليقين, وذلك كثير في أخبارهم, مشهور الوقوع في زمانهم.
من ذلك حديث المرأة التي [زنت]([522]) فجاءت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مقرّة بذنبها, سائلة للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم الحدّ عليها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستثبت في ذلك, فقالت: يا رسول! إنّي حبلى به, فأمر أن تُمهل حتّى تضع, فلمّا وضعت جاءت بالمولود وقالت: يا رسول الله هو هذا قد ولدته, فقال: ((أرضعيه حتّى يتمّ رضاعه)), فأرضعته حتّى أتمّت مدة الرّضاع, ثمّ جاءت به في يده كسرة من خبز, فقالت: يا رسول الله! هو هذا يأكل الخبز, فأمر بها فرجمت([523]) . رواه الحافظ ابن كثير في ((إرشاده))([524]) .
فانظر إلى عزم هذه الصّحابية –رضي الله عنها- على أصعب قتلة على النّفوس, وأوجع ميتة للقلوب, وبقاء عزمها على ذلك هذه المدّة الطّويلة, ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية, وهذا –أيضاً- وهي من النّساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان, فكيف برجالهم رضي الله عنهم!؟.
ومن ذلك حديث الرّجل الذي أتى إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنّه سرق, فأمر بقطع يده, فلما قطعت قال: الحمد لله الذي خلّصني منك, أردت أن تدخليني النّار([525]) , أو كما قال.
وحديث المجامع في رمضان([526]) .
وحديث ماعز بطوله([527]) .
وحديث الذي قال: إنّي أتيت امرأة فلم أترك شيئاً مما يفعله الرّجال بالنّساء إلا أتيته, إلا أنّي لم أجامعها([528]) ؛ وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه.
فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا, وقبل زماننا من أهل الدّيانة قد سار إلى الموت نشيطاً, وأتى إلى ولاة الأمر مقرّاً بذنبه, مشتاقاً إلى لقاء ربّه, باذلاً في مرضاة الله لروحه, ممكّناً للولاة والقضاة من الحكم بقتله؟
وهذه الأشياء تنبّه الغافل, وتقوّي بصيرة العاقل, وإلا ففي قوله تعالى: ]كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ[ [آل عمران:110]. كفاية وغنية, مع ما عضدها من شهادة المصطفى -u- بأنهم خير القرون, وبأنّ غيرهم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه, إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشّريفة ومراتبهم المنيفة.
وقد ذكر ابن عبد البرّ في ديباجة ((الاستيعاب))([529]) جملة شافية ممّا يدلّ على فضل أهل ذلك الزّمان, [وذكر في ذلك أحاديث كثيرة]([530]) .
منها الحديث الصّحيح الشّهير أنه ((لا يدخل النّار أحد شهد بدراً والحديبية)) ([531]) رواه من طرق كثيرة.
وروى الحديث المشهور من طريق أبي الزّبير عن جابر مرفوعاً ((لا يدخل النّار أحد بايع تحت الشجرة))([532]) ثمّ روى أنّ أهل الحديبية كانوا ألفاً وأربع مائة, وأهل بيعة الرضوان ألفاً وخمس مائة, وأهل بدر ثلاث مئة وبضعة عشر, وذكر الحديث ((ألا إنّكم توفّون / سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله))([533]) والحديث الذي فيه: ((إنّ الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلوب أصحاب محمد خير قلوب العباد))([534]) , وأمثال ذلك.
وقد ظهر بهذه الجملة بيان قوّة ما أنكره المعترض على أهل الحديث, وأنّه مذهب العلماء الجلّة, من أهل الملّة, قويّ الموادّ, منصور الأدلّة. والحمد لله.
المسألة [الثانية]([535]) : ممّا اشتمل عليه كلامه, إنكاره لقول أهل الحديث: إنّ الصّحابيّ من رأى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به, وقوله: إنّ هذا باطل, وأنّه يبطل ببطلانه كثير من حديث الصّحاح.
وقد تحامل المعترض على أهل الحديث في هذه المسألة, وأطلق عليها اسم ((الباطل)) الذي لا يطلق على أمثالها من المسائل الظّنّيّة المحتملة, والخلاف في هذه المسألة مشهور في الأصول, وعلوم الحديث, وقد ذكر ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى))([536]) : أنها لفظيّة؛ لأنّ النّزاع فيها راجع إلى من يصدق عليه إطلاق هذا القول([537]) , وهذا مدرك ظنّيّ لغويّ, أو عرفي لا يدخله التّأثيم, ويستحق اسم الباطل, وذلك يظهر بالكلام في فصلين:
الفصل الأوّل: في بيان ما يستغربه المعترض من تسمية يسير المخالطة: ((صحبة)), وبيان ظهور ذلك في الكتاب والسّنّة والإجماع, ولنقدّم قبل ذلك مقدّمة, وهي: أنّ ((الصّحبة)) في اللّغة تطلق كثيراً في الشّيئين إذا كان بينهما ملابسة, وسواء كانت كثيرة أو قليلة, حقيقيّة أو مجازيّة, وهذه المقدّمة تبيّن ما نورده من كلام الله تعالى, وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وما أُجمع على صحّته من العبارات في هذا المعنى.
أما القرآن: فقال الله تعالى: ]فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ[ [الكهف:34] و ]قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ[ [بالكهف:37], فقضى بالصّحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من الخطاب المتقدّم, وقد أجمعت الأمّة على اعتبار الإسلام في اسم الصّحابيّ, وقد ثبت بالنًصّ القرآني أنّ الله تعالى سمّى الكافر صاحباً للمسلم, فيجب أن يكون اسم الصّحابيّ عرفيّاً اصطلاحياً, ويكون لكلّ طائفة أن تصطلح فيه على عرف كما سيأتي تحقيقه.
وقال تعالى: ]وَالصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ[ [النساء:36]. وهو المرافق في السّفر, ولا شكّ أنّه يدخل في إطلاق هذه الآية الملازم وغيره, ولو صحب الإنسان رجلاً([538]) ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك, لأنّه يصدق أن يقول: صحبت فلاناً في سفري ساعة من النّهار, ولأنّ من قال ذلك لم ينكر عليه أهل اللّغة, ولا يستهجنون كلامه.
وأما السّنّة؛ فكثير غير قليل, ومن أدلّها على التّوسعة العظيمة في هذا الباب ما ورد في الحديث الصحيح من قوله -u- لعائشة –رضي الله عنها-: ((إنّكنّ صواحِبُ يوسف))([539]) , فانظر ما أبعد هذا السّبب الذي سمّيت به النّساء صواحب يوسف! وكيف يستنكر مع هذا أن يسمّى من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم / ووصل إلى حضرته العزيزة وتشرف برؤية غرّته الكريمة صاحباً له!؟ ومن أنكر على من سمّى هذا صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلينكر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سمّى النّساء كلّهن صواحب يوسف.
ومن ذلك الحديث الذي أُشير فيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال -u-: ((إنّي أكره أن يقال: إنّ محمداً يقتل أصحابه)) فسمّاه صاحباً مع العلم بالنّفاق للملابسة الظّاهرة, مع أنّ النّفاق المعلوم يقتضي العداوة, ويمحو اسم الصّحبة في الحقيقة العرفية, فهذا الذي ذكرته من تسميته في هذا الحديث صاحباً يحتمل في اللّغة, وقد تقدّم أوّل الفصل هذا([540]) , شاهده من القرآن العظيم في قوله تعالى: ]فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ[ [الكهف:34]. وليس في الآية احتمال آخر.
وأمّا هذا الحديث فهو يحتمل احتمالاً آخر تركته استغناء بهذا الاحتمال, بشهادة القرآن له.
وممّا يدلّ على التّوسع الكثير في اسم الصّحبة: إطلاقها بين العقلاء والجمادات, كقوله تعالى: ]يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ[ [يوسف:39], ومثل تسمية ابن مسعود: ((صاحب السّواك))([541]) وصاحب: ((النّعلين والوسادة)).
وأما الإجماع: فلا خلاف بين النّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لاقى المشركين في الحرب فقتل ممن معه من المسلمين جماعة, ومن المشركين جماعة أنه يقال: قتل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا, ومن المشركين كذا وكذا, وبذا جرى عمل أهل السّير([542]) والمؤرّخين والرّواة والأخباريين, وكذا يقولون في أيّام صفين: قتل من أصحاب عليّ كذا, ومن أصحاب معاوية كذا, ولا يعنون بأصحاب عليّ من لازمه, وأطال صحبته, بل من قاتل معه, ولو يوماً أو ساعة([543]) , وهذا شيء ظاهر لا يستحق من قال بمثله الإنكار, وهو من أحسن ما احتجّ به أهل الحديث, على أنّ ما ذهبوا إليه حقيقة عرفية.
ومن ذلك أصحاب الشّافعي, يطلق ذلك على من دخل في مذهبه وإن مات عقيب الدّخول فيه من غير مهلة, وكذلك أصحاب الظّاهر وأصحاب الرّأي.
ومن التّوسع في هذا الباب: تسمية النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الشفاعة قبل أن يشفع, وهذا أيضاً ممّا لا يشترط فيه الإطالة, بل يسمّى صاحب الشّفاعة, وإن كانت في ساعة واحدة, وهذا كلّه دليل على التّوسعة الكثيرة في إطلاق اسم الصّحبة على أدنى ملابسة.
وبعد؛ فإنّها لفظة لغويّة ظنّيّة, والاختلاف فيها كالاختلاف في الشّفق, هل هو الحمرة أو البياض, أو مشترك بينهما, ونحو ذلك من الألفاظ اللّغوية التي لا ينكر على من خالفها من أهل العلم.
وبعد؛ فقد قال غير واحد من العلماء: يجوز إثبات اللّغة بالقياس([544]) , واختاره إمام الزّيديّة المنصور بالله في كتابه ((صفوة الاختيار)), قال قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح المنتهى)): ((إنّه مذهب القاضي, وابن سريج من الشّافعية, وهو قول كثير من الفقهاء, ومن أهل العربية)) اهـ.
ولم يعلم أنّ أحداً شنّع على / من ذهب إلى ذلك ولا قبّح عليه, فكيف بهذه المسألة المذكورة في الصّحبة! وقد تقدّم لها من الشّواهد اللّغوية ما أقلّ منه يشفي ويكفي, فلو قدّرنا خلوّها عن الشّواهد اللّغوية, ورجوع القائلين بها إلى الأمارات القياسيّة, لم يكن إلى تقبيح ذلك وقطع الخلاف فيه سبيل, ولا على القطع بإبطاله وإبطال ما ترتّب عليه من الحديث دليل.
الفصل الثّاني: في بيان المختار, والمختار: أنّ ما ذكره المحدّثون جائز بالنّظر إلى وضع اللّغة, وأمّا بالنّظر إلى العرف المستعمل السّابق إلى الأذهان([545]) عند الإطلاق من غير قرينة فهذا أمر يتوقّف القطع فيه على نقل متواتر اللّفظ معلوم المعنى, وهذا مفقود في كلا القولين, ومع فقده يتعذّر القطع ويتّسع القول.
وسرّ هذه المسألة هو: أنّ الأمور العرفية تختلف بحسب اختلاف أهل العرف أزماناً وبلداناً وأدياناً, فقد يصطلح كلّ من الطّوائف, وأهل الفنون على اصطلاح, ويصطلح آخرون على خلافه, فيكون المفهوم من اصطلاح كلّ طائفة ما قصد به.
مثاله: لفظة (الكلام) فإنّه في اصطلاح النّحاة: المفيد, وفي اصطلاح المتكلّمين: ما تركّب من حرفين فصاعداً, فلا يمتنع مثل ذلك في اسم الصّحبة, فيكون المفهوم من ذلك في كلام المحدّثين ما اصطلحوا عليه, والمفهوم منه في كلام غيرهم كذلك, وكلٌّ يفهم من كلام الصّدر الأوّل ما غلب على ظنّه أنّه عرف الصّدر الأوّل, ولا حجر في هذا ولا تضييق. والله سبحانه أعلم.
وبقيّة ما ذكره المعترض يشتمل على مسألتين:
إحداهما: فيمن قاتل عليّاً رضي الله عنه, ذكرها ذِكراً مختصراً؛ ثمّ أعادها بأطول من ذلك, فأخّرنا الجواب فيها إلى الموضع الذي استوفى فيه الكلام.
والمسألة الثانية: قبول الأعراب, وقد أعادها أيضاً حيث بسط القول فيها.
بعض الاعتراضات على عدالة الصحابة ونقضها
|
|
وقد ذكر في هذا الموضع ثلاثة أشياء احتجّ بها ولم يُعدها, فرأينا ذكرها في هذا الموضع:
الحجّة الأولى: خبر الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله([546]) صلى الله عليه وآله وسلم, قال المعترض: يلزم أنّه عدل.
والجواب من وجوه:
الأوّل: من أين صحّ للمعترض أنّه كان في عصره صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي بال في مسجده؟ فثبوت هذا مبني على صحّة طرق الحديث وقد شكّ في تعذّرها, فلو صحّت طرق هذا بطل الشّكّ, ومن البعيد أن يصحّ طريق هذا الحديث دون غيره, ومن المعلوم أنّ صحة البعض تستلزم بطلان الشّكّ في استحالة الكلّ.
الوجه الثاني: أنّا قد ذكرنا أنّ كلّ مسلم ممن عاصر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّه عدل ما لم يعلم جرحه, وبيّنّا الحجج على هذا, وأنّه مذهب جلّة علماء([547]) الإسلام, وبيّنّا أنّه مما ادّعي فيه الإجماع, وهذا الأعرابي من جملة من دخل تحت عموم تلك الأدلّة, فيسأل المعترض: ما الموجب لتخصيصه بالذّكر؟ فإنّ الخصم ملتزم لعدالته, فيطالب بإبداء المانع منها.
فإن قال: إن بوله في المسجد يمنع العدالة لأنّه محرّم.
فالجواب عليه: / أنّ الجرح بذلك غير صحيح لأنّه لا دليل على أنه فعله وهو يعلم بالتّحريم, ويقوّي هذا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منع من قطع درّته, ونهى من نهاه وقال: ((إنّ منكم منفّرين)), ولو كان في فعله لارتكاب ما حرّمه الله مجترئاً معانداً لم يكن يستحق هذا الرّفق العظيم, ولكان الأشبه أن يزجر عن الجرأة كما زجر السّائل عن الضّالّة, الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا وجدت))([548]) وإنّما ذكرنا هذا الوجه لزيادة قوّة الحجّة على الخصم, وإلا فالأصل جهل الأعرابيّ بالتّحريم والتّمسك بالأصل كافٍ.
فإن قال المعترض: أنّ البول في المسجد يدلّ على الجرح من حيث إنّه يدلّ على الخسّة وقلّة الحياء, إذ البول في حضرة النّاس يدلّ على ذلك كالأكل في السّوق.
قلنا: ليس كما توهّم, فإنّ ما يدل على الخسّة, وقلّة الحياء يختلف بحسب اختلاف عرف أهل بلد الفاعل لذلك وأهل زمانه, والأعراب في ذلك الزّمان وفي غيره لا تستنكر ذلك في باديتها غالباً, وكلّ ما كان أهل الصّيانة يفعلونه من المباحات في بلد أو زمان, لم يقدح في عدالة أحد من أهل تلك البلد وذلك الزمان, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي في المدينة بغير رداء, ولا نعل, ولا قلنسوة, يعود المرضى كذلك في أقصى المدينة, ذكره ابن حزم في ((سيرته))([549]) .
ومثل هذا في بعض الأمصار في هذه الأعصار المتأخّرة مما لا يفعله بعض أهل الحياء, ومما يتكلّم بعض الفقهاء في فاعله, لعُرف([550]) مختصّ بهذه الأزمنة الأخيرة في الأمصار العظيمة, وإلا فمن أشد حياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها([551]) , وكان لا يثبت بصره في وجه أحد لكثرة حيائه صلى الله عليه وآله وسلم, ولكن هذا الذي فعله كان عادتهم في ذلك العصر, وإنّما الحياء يتولّد من مخالفة العادة حتّى إنّ الرّجل الفقير المستمرّ على البذاذة([552]) في الملبس, لو لبس في دفعة واحدة لباس الأكابر الذي لا يعتاده قط, وطاف به الأسواق, لكان معدوداً من أهل المجون, وقلّة الحياء لمجاهرة النّاس بمخالفة العادة من غير تدريج, ولا التماس فضيلة, وكذلك قد ورد عنه -u- أنّه أخذ قطعة من لحم وجعل يلوكها في فيه وهو يمشي في السّكة [أو]([553]) يمشي بين أصحابه أو نحو ذلك, ذكر معناه أبو داود([554]) , وقد أردف -u- امرأة خلفه في بعض الغزوات([555]) , وربّما كان [هذا]([556]) ممّا يتجنّبه بعض أهل الحياء في بعض الأزمان والبلدان لاختلاف العرف.
والقصد الاحتجاج بأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم على أنّها ليست في ذلك الزّمان مما يستحيى منه, لا على أنّه كان يفعل ما يُستحيى منه في زمانه -u-, فتأمّل ذلك ولا تغلط فيه, فإنّ الغلط فيه عظيم.
الوجه الثالث: لو قدّرنا أنّ هذا مما يجرح به لكان مما يحتمل النّظر والاختلاف, ولا يعاب على من جرح به ولا على من لم يجرح.
الوجه الرّابع: سلّمنا تسليم جدل أنّه مجروح فنحبّ([557]) من المعترض أن يبيّن لنا أنّ أهل الصّحاح رووا عن هذا الأعرابي, ويبيّن لنا كم رووا عنه لا سيّما من أحاديث الأحكام, فإنّ الحاجة إلى معرفة ذلك ماسّة.
الوجه الخامس: سلّمنا أنّهم رووا عنه وأنّه مجروح, فما وجه الاحتجاج بذلك على الشّكّ في [تعذّر]([558]) معرفة السّنن وبطلان العلم؟ وليس هذا يمنع من معرفة الحديث الصّحيح, بل كلّما كثر المجروحون قلّ الصّحيح, وكلّما قلّ سهل حفظه وأمكن / ضبطه, والكلام من أصله إنّما هو متعسّر أو متعذّر.
الحجة الثانية: وفد بني تميم([559]) .
قال المعترض: إنه يلزم قبول حديثهم, وقد قال الله تعالى: ]إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ[ [الحجرات:4].
والجواب من وجوه:
الأوّل: من أين صحّ أنّها نزلت فيهم؟ وأنّها نزلت بعد إسلامهم؟ والطّريق إلى صحّة ذلك عندك مشكوك في إمكانها وتعذّرها كما في سائر الأخبار.
الثّاني: من أين صحّ فيهم([560]) أن نداءهم له -u- من وراء الحجرات كان بعد إسلامهم؟ وما المانع أن يكون قبله فيكون ذمّهم على فعل فعلوه قبل الإسلام, فلا يستحقّون الذّم بعد الإسلام, فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله من الكفر والكبائر, كيف ما لا يعلم أنّه من ذلك؟ ونزول الآية بعد إسلامهم لا يصلح مانعاً في ذلك كما نزل بعد التّوبة على آدم -u- قوله تعالى: قوله تعالى: ]وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى[ [طه:121].
الثالث: أنّ قوله تعالى: ]أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ [[الحجرات:4] ليس على ظاهره, لوجهين:
أحدهما: أنّهم مكلّفون, وشرط التّكليف العقل.
وثانيهما: أنّه سبحانه وتعالى لا يذمّ ما لا يعقل كما لا يذمّ الأنعام لعدم العقل, إذ من لا عقل له لا ذنب له في عدم العقل, وإنّما قال الله تعالى: ]إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ[ [الفرقان:44]. ذمّاً للغافلين عن تدبّر الآيات, لا ذمّاً للأنعام السّائمات([561]) .
إذا ثبت ذلك فالمراد ذمّهم بالجفاوة, وعدم الفهم للعوائد الحميدة([562]) , وآداب أهل الحياء والمروءة, وهذا ليس من الجرح في شيء, فإنّ لطف الأخلاق, والكيس في الأمور, ليس من شروط الرّواية, لأنّ مبني الرّواية على ظنّ الصّدق, وأولئك الأعراب لا سيما ذلك الزّمان كانوا من أبعد النّاس عن الكذب والظّنّ لصدقهم قوي, لا سيّما في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, ولابدّ إن شاء الله تعالى من الإشارة إلى أنّ الكذب على الله ورسوله أبعد ما يجوز وقوع المسلم فيه من المعاصي في غالب الأحوال, إلا أعداء الله تعالى من الدّجالين الكذّابين خذلهم الله تعالى.
الوجه الرّابع: أنّ صدور مثل هذه القوارع على جهة التّأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى, أو من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدلّ على فسقه وخروجه من ولاية الله تعالى, فقد نزل من الآيات القرآنية ما فيه تقريع لبعض الصّالحين, وتأديب لبعض الأنبياء والمرسلين, وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: ]لَولاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [الأنفال:68], وأنزل الله في الممتحنة في شأن حاطب بن أبي بلتعة, وشدّد فيها على من والى أعداء الله تعالى, ولم يكن ذلك جرحاً في حاطب, فقد عذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه عمر رضي الله عنه, وقال له: ((إنّك لا تدري لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ([563]) .
وقد ثبت في ((صحيح مسلم))([564]) مرفوعاً: أنّ حاطباً يدخل الجنة رضي الله عنه.
وقد نزل الوعيد في رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فأشفق بعض أصحابه –رضي الله عنهم- من ذلك, وكان جهوري الصّوت([565]) , ولم يكن شيء من ذلك جرحاً في أحد من أولئك.
وقد أنزل الله تعالى سورة (عبس) في تأديب صفوته من خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل في أوّل أنبيائه آدم u: ]وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى[ [طه:121].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر –الذي ورد فيه أنّه: ((ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة منه))([566]) -: ((إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة)) / قاله -u- وقد سبّ امرأة, رواه البخاري([567]) .
وقد روى عن علي أنّه قال لابن عبّاس –رضي الله عنهم- وقد راجعه في المتعة: ((إنّك امرؤٌ تائه))([568]) , ولم يدلّ شيء من ذلك على الجرح, فكذلك الآية([569]).
الوجه الخامس: أنّ هذا يؤدّي إلى جرح قبيلة من قبائل المسلمين, وهذا لا يصحّ عند أحد من أهل العلم, لأنّ العادة الغالبة تمنع من وجود [مثل ذلك]([570]) , ولهذا لم يقع إلى الآن من أوّل الإسلام.
الوجه السّادس: سلّمنا أنّ ذلك الجرح مانع من قبول الرّواية, فإنّما يستلزم ترك حديثهم, وترك حديثهم متيسّر غير متعسّر ولا متعذّر, فما وجه الاحتجاج بذلك على تعسّر معرفة الحديث وتعذّرها إذا تركنا حديث وفد تميم؟!.
الحجة الثّالثة: وفد عبد القيس, ولم أعلم وجه تخصيصهم بالذّكر؛ فإنّهم من جملة الأعراب, إلا أنّه ارتدّ بعضهم بعد الإسلام.
والجواب على ما ذكره من وجوه:
الأوّل: أنّ إسلامهم يقتضي قبول حديثهم ما داموا مسلمين؛ وردّتهم تقتضي ردّ حديثهم من حين ارتدوا, ولا مانع من ورود التّعبّد بهذا في العقل ولا في الشّرع المنقول بالتواتر المعلوم بالضّرورة معناه, بل قد بيّنّا فيما تقدّم قبول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أسلم عقيب إسلامه, والدّليل عام لوفد عبد القيس ولغيرهم.
الثّاني: إمّا أن يكون المعترض أنكر قبولهم لأنّ من أسلم لا يقبل حتّى يخبر, أو لأنّهم ارتدّوا بعد الإسلام؟ إن كان الأول فلم خصّهم بالذّكر؟ ولم أنكر ذلك المذهب وقد بيّنّا أنّه قول الجمهور, وأنّه بالأدلة الأثريّة والنّظريّة منصور؟ أقصى ما في الباب: أنّه لم يترجّح للمعترض موافقة الجماهير من علماء الإسلام, لكن لا يحل له الإنكار عليهم.
وإن كان يوافق على أن قبول المسلمين ذلك الزّمان قبل الاختبار مذهب صحيح, غير مدفوع ولا منكر, وإنما الذي أنكره قبول المسلم الذي يريد أن يرتدّ بعد إسلامه, فهذا لا يصح لأمرين:
أحدهما: أنّ العلم بأنّه يريد أن يرتد من قبيل علم الغيب الذي استأثر الله به, وقد حكم عليّ رضي الله عنه بشهادة رجلين, ثمّ انكشف أنّهما [شهدا زوراً]([571]) فلم يلزمه أحد بذلك محذوراً.
وثانيهما: أنّ العدل المخبور إذا فسق بعد العدالة لم يقدح ذلك في شهادته وروايته قبل الفسق, وقد ثبت أنّ المسلمين في ذلك الزّمان عدول عقيب إسلامهم, فإذا كفروا بعد العدالة لم يقدح كفرهم فيهم قبل أن يكفروا, ولا قال أحد بأنّ الكفر يقدح في الرّاوي قبل أن يكفر.
الثّالث: سلّمنا أنّ وفد عبد القيس مجاهيل أو مجاريح, فما لمعرفة الحديث والتّعذّر أو التعسّر, وأحاديث الصّحابة الكبار هي المتداولة في كتب الحديث والفقه والتّفسير, وأحاديث الأعراب الجفاة غير معروفة إلا أن يكون شيئاً نادراً, وعلى تقدير كثرتها فتركها لا يكون سبباً لتعذّر معرفة الحديث, ولا تعسّرها, بل ذلك من أسباب السّهولة كما بيّنّا, وترك الكثير في السّهولة مثل ترك اليسير, وإنّما يختلف في ذلك حفظ الكثير واليسير, وتمييز أحاديث كبار الصّحابة عن أحاديث جفاة الأعراب ممكن غير متعذّر,
فرجال السّنّة قد صنّفوا كتباً كثيرة في معرفة الصّحابة وبيّنوا فيها من هو معروف العدالة من الأصحاب, ومن لا يعرف إلا بظاهر حاله من الاعراب, ومن له رواية / عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن ليس له رواية, ومن أطال الصّحبة, ومن لم يطلها, بل تعرّضوا فيها لبيان السّابق من المسبوق, والأفضل من المفضول, والأقضى والأحفظ والأذكى, بل هم بعد هذا يبرزون صفحة الإسناد للنّقّاد, ولا يكتمون شيئاً مما قيل في رجال الحديث وعلله على سبيل الإرشاد, لمن يحبّ التّرجيح في التّقليد والاجتهاد.
وإنّما يلزم اختلاط أحاديث ثقات الأصحاب بأحاديث جفاة الأعراب لو أرسلوا الأحاديث ولم يسندوها, وقطعوها ولم يصلوها, فأين تعذّر معرفة الحديث؟ وما معنى التّشويش على طلبة الحديث بأنّ وفد عبد القيس ارتدّوا؟! وإذا ارتدّ وفد عبد القيس فمه؟! أتبطل السّنن, ويضيع العلم, ويلزم من ذلك ألا يصحّ حديث الثّقات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ما هذا الكلام [المعتلّ, والاستدلال]([572]) المختلّ؟.
سرد أسماء جلّة الرواة من الصّحابة
|
|
وهذا ذكر جلّة الرّواة من الصّحابة –رضي الله عنهم-, رأيت ذكر أسمائهم ليعرف أنّ حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه وينبني عليه العلم, وأنّ أحاديث جفاة الأعراب المجاهيل شيء يسير نادر على تقدير وقوعه, فيعلم أنّه لم يُبنَ على حديث جفاة الأعراب حكم شرعي, فإن اتّفق ذلك ففي نادر الأحوال ممن يستجيز ذلك من أهل العلم من غير ضرورة إلى ذلك. فإنّه لو لم يستجز الرّواية عنهم كان له في القرآن وما صحّ من السّنّة والإجماع, وصحيح القياس غنية وكفاية.
وإذا أردتّ أن تعرف صدق هذا الكلام فأرنا المسائل التي احتجّ عليها الفقهاء والمحدّثون بأحاديث الجفاة من الأعراب من غير عموم من القرآن, ولا شاهد من سائر الأدلّة, وفي عدم ذلك أو نذرته ما يدلّك على ما ذكرناه من أنّ جلّة الرّواة هم عيون الأصحاب لا جفاة الأعراب, فدع عنك هذه الشّبه الضّعيفة, والمسالك الوعرة([573]) , وإمّا أن يكون من أهل العلم المجدّدين لما درس من آثاره, المجتهدين [في الردّ على]([574]) من أراد خفض ما رفع الله من مناره, وإلا فبالله عليك أرحنا من تعفيتك لرسومه وتغييرك لوجوهه, فحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركن الشريعة المطهّرة المحفوظة إلى يوم القيامة, وليس يضرّ أهل الإسلام جهالة بعض الأعراب, فلنا من حديثهم غنية بما رواه عيون الأصحاب مثل: الخلفاء الراشدين الأربعة المهديّين –رضي الله عنهم- وسائر إخوانهم العشرة المشهود لهم بالجنّة, وقد جمعتهم في بيت واحد فقلت:
في جنّة الخلد نصّاً زادهم شرفاً
|
|
للمصطفى خير صحب نصّ أنّهم
|
أبي عبيدة والسّـعدان والخـلفا
|
|
هم طلحة وابن عوف والزّبير مع
|
ومثل: الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة, وأمّهما سيدة النّساء–رضي الله عنهم- ومثل من لا يتّسع لذكره هذا ((المختصر)) من نبلاء المهاجرين والأنصار, مثل: عمّار بن ياسر, وسلمان الفارسي, وذي الشّهادتين: خزيمة بن ثابت, وخادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنس بن مالك, وأمّ المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- وحبر الأمّة المفقّه في الدّين المعلّم التأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما, ووالده العبّاس, وأخيه الفضل, وجابر بن عبد الله, وأبي سعيد الخدري, وصاحب السّواك([575]) عبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, والبراء بن عازب, وأم سلمة أمّ المؤمنين, وأبي ذر الغفاري الذي نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنّ السّماء لم تظل أصدق لهجة منه))([576]), / وعبد الله بن عمرو الذي أذن له -u- بكتابة حديثه الشريف([577]), وكتب ما لم يكتبه غيره؛ فاستكثر من طيّب, وأبي أمامة الباهليّ, وحذيفة بن اليمان, والحافظ الكبير: أبي هريرة الدّوسيّ الذي قرأ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نمرته, ثمّ أمره فلفّها فلم ينس شيئاً مما سمعه منه صلى الله عليه وآله وسلم([578]), وأبي أيّوب الأنصاريّ, وجابر بن سمرة الأنصاريّ, وأبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأسامة بن زيد مولاه u, وأبي مسعود الأنصاريّ البدريّ, وعبد الله بن أبي أوفى, وزيد بن ثابت, وزيد بن خالد, وأسماء بنت يزيد بن السّكن, وكعب بن مالك, ورافع بن خديج, وسلمة بن الأكوع, وميمونة أمّ المؤمنين, وزيد بن أرقم, وأبي رافع مولى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم, وعوف بن مالك, وعديّ بن حاتم, وأمّ حبيبة أمّ المؤمنين, وحفصة أمّ المؤمنين, وأسماء بنت عميس, وجبير بن مطعم, وذات النّطاقين أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق, وواثلة بن الأسقع, وعقبة بن عامر الجهني, وشدّاد بن أوس الأنصاري, وعبد الله بن يزيد, والمقدام أبي كريمة([579]) , وكعب بن عجرة, وأمّ هانىء بنت أبي طالب, وأبي برزة, وأبي جحيفة, وبلال المؤذن, وجندب بن عبد الله بن سفيان, وعبد الله بن مغفّل, والمقداد, ومعاوية([580]) بن حيدة, وسهل بن حنيف, وحكيم بن حزام, وأبي ثعلبة الخشني, وأمّ عطيّة, ومعقل بن يسار, وفاطمة بنت قيس, وعبد الله بن الزّبير, وخبّاب بن الأرت, ومعاذ بن أنس, وصهيب, وأمّ الفضل بنت الحارث, وعثمان بن أبي العاص الثقفي, ويعلى بن أميّة, [وعتبة بن عبد]([581]) , وأبي أسيد السّاعديّ, وعبد الله بن مالك بن بُحينة([582]), وأبي مالك الأشعري, وأبي حميد السّاعديّ, ويعلى بن مرّة, وعبد الله بن جعفر, وأبي طلحة الأنصاريّ, وعبد الله بن سلام, وسهل بن أبي حثمة, وأبي المليح الهذلي, وأبي واقد اللّيثي, ورفاعة بن رافع, وعبد الله بن أنيس, وأوس بن أوس, وأمّ قيس بنت محصن, وعامر بن ربيعة, وقرّة, والسّائب, وسعد بن عبادة, والرُّبيّع بنت معوّذ, وأبي بردة, وأبي شريح, وعبد الله بن جراد, والمسور بن مخرمة, وصفوان بن عسّال, وسراقة بن مالك, وسبرة بن معبد الجهني, وتميم الدّاري, وعمرو بن حريث بن خولة الأزديّ, وأسيد بن الحضير([583]) , والنّوّاس بن سمعان الكلابي, وعبد الله بن [سرجس]([584]) , وعبد الله بن الحارث بن جزء, والصّعب بن جثّامة, وقيس بن سعد بن عبادة, ومحمد بن مسلمة, ومالك بن الحويرث الليثي, وأبي لبابة بن [عبد المنذر]([585]) , وسليمان بن صرد, وخولة بنت حكيم, وعبد الرّحمن بن شبل, وثابت بن الضّحّاك, وطلق بن عليّ, وعبد الرّحمن بن سمرة, و [الحكم]([586]) بن عمير, وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وكعب بن مرّة, وأبي محذورة, وعروة بن مضرّس, ومجمع بن جارية([587]), ووابصة بن معبد الأسديّ, وأبي اليسر, وأبي ليلى الأنصاري, ومعاوية بن الحكم, وحذيفة بن أسيد الغفاريّ, وسلمان بن عامر, وعروة البارقيّ, وأبي بصرة الغفاري, وعبد الرحمن بن أبزى, وعمرو بن سلمة([588]) , وسبيعة الأسلميّة, وزينب بنت جحش أمّ المؤمنين, وضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلب, وبسرة بنت صفوان, وصفيّة أمّ المؤمنين, وأمّ هاشم بنت حارثة الأنصاريّة, وأمّ كلثوم, وأمّ كرز, وأمّ سليم بنت ملحان, وأمّ معقل الأسديّة.
وضِعف هؤلاء, بل أكثر من ضعفهم ممّن لو ذكرناهم على الاستقصاء لطال ذكرهم وطاب نشرهم, فطالعهم –إن شئت- في كتاب ابن عبد البرّ ((الإستيعاب)) وغيره من كتب معرفة الأصحاب, فمعرفتهم أحد أنواع علم الحديث كما ذكره المصنّفون فيها كـ ((ابن الصّلاح))([589]) / وزين الدين العراقي([590]) , وغير واحد.
وقد ألّفوا في معرفة الصّحابة كتباً كثيرة.
فمنها: ((الصّحابة))([591]) لابن حبّان مختصر في مجلد.
و ((معرفة الصّحابة))([592]) لابن منده, كتاب جليل, ولأبي موسى المدينيّ عليه ذيل([593]) كبير.
ومنها: ((الصّحابة))([594]) لأبي نعيم الأصبهاني, جليل القدر, ومنها ((معرفة الصّحابة))([595]) للعسكري.
ومنها كتاب أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الأثير [الجزريّ]([596]) المسمّى بـ ((أسد الغابة في معرفة الصّحابة))([597]) وهو أجمع كتاب في هذا, جمع فيه بين كتاب ابن منده, وذيل أبي موسى عليه, وكتاب أبي نعيم, و((الاستعياب)), وزاد من غيرها أسماء.
واختصره([598]) جماعة, منهم: الحافظ أبو عبد الله الذّهبيّ في مختصر لطيف([599]), وذيّل عليه [زيــن الدّيــن بــعدّة أســماء]([600]) لم تقع له([601]) .
ومنهم: الكاشغريّ([602]) . وقد ذكروهم أيضاً في تواريخ الإسلام([603]) , وكتب رجال الكتب الستة([604]) , وأنفس كتاب فيهم كتاب: عزّ الدّين بن الأثير([605]) , وكتب الحافظين الكبيرين: أبي الحجّاج المزّيّ, وتلميذه أبي عبد الله الذّهبيّ, فبمعرفة هذه الكتب الحافلة أو بعضها يتميّز لك الصّحابي من الأعرابيّ, بل يتميّز معرفة الفاضل من المفضول, والسّابق من المسبوق, فقد بيّن علماء الحديث –في كتب ((علوم الحديث)) على الإجمال, وفي كتب ((معرفة الصّحابة)) على التّفصيل- أنهم رضي الله عنهم ينقسمون إلى اثنتي عشرة طبقة:
الأولى: قدماء السّابقين الذين أسلموا بمكّة كالخلفاء الأربعة –رضي الله عنهم-.
الثانية: أصحاب دار النّدوة.
الثالثة: مهاجرة الحبشة.
الرّابعة: أصحاب العقبة الأولى.
الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
السّادسة: أوّل المهاجرين الذين وصلوا إليه -u- إلى قباء قبل أن يدخل المدينة.
السّابعة: أهل بدر.
الثامنة: المهاجرين بين بدر والحديبية.
التّاسعة: أهل بيعة الرّضوان.
العاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة.
الحادية عشرة: مسلمة الفتح.
الثّانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح, وفي حجة الوداع وغيرهما.
قال ابن الصّلاح([606]) : ((ومنهم من زاد على ذلك)).
وأمّا ابن سعد فجعلهم خمس طبقات فقط.
قال ابن عبد البرّ في خطبة ((الاستيعاب))([607]) : ((قال الله جلّ ذكره: ]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمُ تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ[ [الفتح:29], إلى أن قال: وليس كذلك جميع من رآه وآمن به وسترى منازلهم من الدّين والإيمان, والله تعالى قد فضّل بعض النّبيين على بعض, وكذلك سائر المسلمين, والحمد لله رب العالمين)) تمّ مختصراً, وفيه ما يدلّ على معرفتهم بدقائق تفاصيل التّفضيل, وتمييزهم للمشاهير عن المجاهيل.
فيا أيها المعترض على أهل السّنّة بأحاديث جفاة الأعراب, واختلاطها بأحاديث الأصحاب, خذ من أحاديث هؤلاء الأعلام ما صفا وطاب, وأجمع على الاعتماد عليه أولوا الألباب, ودع عنك التّشكيك في صحّة السّنن / والاتياب, والتردد في ثبوت الآثار والاضطراب, وليأمن خوفك من ضياع السّنّة والكتاب, ولتطب نفسك بحفظ ما ضمن حفظه ربّ الأرباب.
قال: المسألة الثّانية: إن قيل: الصّحيح من حديث الرّسول ما أخرج البخاري ومسلم وأبو داود, وكذلك أصحاب الصّحاح, وهي معروفة عند المحدّثين والفقهاء, وفي بعضها خلاف. وأمّا ما روي في غير تلك الكتب فليس بصحيح –إلى قوله- أمّا هذا الفصل([608]) فزعم القائل به أنّ مؤلّفي الصّحاح أعرف النّاس به, وقد تعرّضوا لحصر([609]) الصّحيح, فما لم يذكروه فليس بصحيح, إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.
أصحاب الصّحاح لم يلتزموا الاستيعاب
|
|
أقول: كلام المعترض هنا لا يحتاج إلى جواب أكثر من تعريفه [بأنّه]([610]) أفرط في الجهل, ورمى أهل الحديث بما نصّوا على البراءة منه نصوصاً كثيرة متواترة, فممّن نصّ على ذلك البخاري ومسلم:
أمّا البخاريّ فإنّه اشتهر عنه أنّه خرّج صحيحه من مائة ألف حديث صحاح([611]), مع أنّ صحيحه لا يشتمل إلا على قدر أربعة آلاف([612]) حديث من غير المكرّر, وهذا في رواية الفِربريّ, ورواية حمّاد بن شاكر دونها بمئتي حديث, ودون هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل([613]) , فمن نصّ على أنّه أخرج أربعة آلاف حديث من مئة ألف صحاح كيف ينسب إلى دعوى حصر الصّحيح؟!.
وأمّا مسلم؛ فروى النّواوي عنه في ((شرح مسلم))([614]) النّصّ الصّريح على أنّه ما قصد حصر الصّحيح, وكذا روى النّواويّ في ((الشّرح))([615]) إنكار ذلك على ابن وارة وأبي زرعة, وذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة ((المستدرك))([616]) أنّ البخاريّ ومسلماً([617]) ما ادّعيا ذلك, وقد نصّ على ذلك علماء الحديث: منهم ابن الصّلاح, وزين الدّين, والحاكم وغيرهم, ولم يختلفوا في ذلك, وإنّما اختلفوا في عدد أقسام الصّحيح.
فالحاكم عدّ أقسامه عشرة([618]) , وجعل حديث البخاريّ ومسلم قسماً منها, وابن الصّلاح وزين الدّين [جعلا]([619]) أقسام الصّحيح سبعة أقسام([620]) , و[جعلا] حديث البخاري ومسلم ثلاثة أقسام: ما اتفقا عليه قسماً, وما انفرد به كلّ واحد منهما قسماً, وابن الأثير في ((الجامع))([621]) تبع الحاكم في تقسيمه المذكور.
ولم يزل علماء الحديث وأئمّته يستدركون على صاحبي الصّحيح ما تركاه مما هو على شرطهما, ويحتجّون بما حكم بصحّته غيرهما كالبرقانيّ, وابن خزيمة, وابن حبان, والدّارقطنيّ, والبيهقي, والحاكم, وعبد الغني المقدسيّ, وعبد الحقّ, وتقيّ الدين ابن دقيق العيد, وابن سيّد النّاس, وأبي الحسن بن القطّان, والزّكيّ عبد العظيم وغيرهم, وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تطويل, ومعلوم لا يفتقر إلى دليل.
إذا احتاج النّهار إلى دلــيــل
|
|
وليس يصحّ في الأفـهام([622]) شيء
|
قال: وأمّا الفصل الأوّل –وهو أنّ كلّ ما في هذه الكتب فهو صحيح- ففيه موضعان: الأوّل: في حكاية المذهب, والثّاني: في الدّليل. أمّا الأوّل فقد ذهب قوم إلى ذلك, وممّن قال به ابن الصّلاح / وحكى عن إجماع الفقهاء أنهم أفتوا من حلف بطلاق امرأته إن لم يكن [ما]([623]) بين دفّتي ((صحيح البخاري)) قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ امرأته لا تطلق. وليت شعري كيف كان هذا الإجماع؟ أكان بأن طاف هذا السّائل جميع البقاع, أم بأن جُمع له علماء الأمّة في صعيد واحد وأذّن فيهم بهذا السّؤال, وأجابوه جميعاً بأنّ امرأته له حلال؟ وأيّ إجماع صحيح بغير علماء أهل البيت الأطهار, وشيعتهم الأخيار؟
هل جميع ما في كتب السنة صحيح
|
|
أقول: الجواب على هذا الكلام يظهر بإيراد مباحث:
البحث الأوّل: أنّ المعترض روى عن ابن الصّلاح, وعن قوم مجاهيل القول بأنّ جميع ما في هذه الكتب صحيح, والظّاهر أنّه أراد بهذه الكتب([624]) : الكتب السّتّة؛ لأن الرّجل نصّ في كتابه ((علوم الحديث))([625]) أنّ كتب (السّنن الأربعة) يدخلها ما هو ضعيف, وإنّما تكلّم الرّجل في صحّة المسند من البخاري ومسلم دون التّعاليق([626]) كما سيأتي بيانه –إن شاء الله-, فالمعترض إن كان جهل الفرق بين السّتّة والاثنين, فليس من العقلاء, وإن كان حسب أنّ مثل هذا التّجاهل يمضي على أهل الحديث فليس من الفطناء.
وأمّا القوم المجاهيل الذين نسب هذا المذهب الغريب إليهم: فإن كان يريد أنّهم أهل الحديث([627]) ؛ فنصوصهم على خلاف ذلك تشهد بتكذيب المعترض عليهم, وتكفي في تسويد وجه المعترض نسبة([628]) ذلك إليهم, فإنّهم قد نصّوا في كتب علوم الحديث, وذِكر شروط الأئمّة على خلاف ذلك, وإن كان يريد أنّ أولئك القوم من غير أهل الحديث؛ فما الموجب للاعتراض على أهل الحديث بذلك؟!.
البحث الثاني: أنّه حكى عن ابن الصّلاح: أنّه الذي روى الإجماع على أنّ الحالف بصحّة ما في البخاريّ لا تطلق زوجته, والذي روى الإجماع على ذلك هو الحافظ أبو نصر السّجزيّ, وإنّما روى ابن الصّلاح ذلك عنه([629]) , وهذا يدلّ على عدم تثبّت المعترض في النّقل, وبناءه لكثير من كلامه على الوهم والجهل, ومن كان كذلك لا يصلح منه مناظرة الفطناء ومعارضة العلماء.
البحث الثالث: أنّه أثبت في كلامه سائلاً سأل الأمّة, والرّجل لم يقل إنّ أحداً سأل الأمّة, وإنّما قال: لو أنّ رجلاً سأل الفقهاء, فلو كان يلزمه ثبوت ما بعد ((لو)) لزم مثله([630]) في قوله تعالى: ¼ óéVÖ WÜVÒ :WÙXä~YÊ dàWäYÖ
ò PVMX
JðS/ @
&WTWW©WÉVÖ » [الأنبياء:22], والمعترض من المتصدّرين للتّدريس في غوامض العربيّة؛ فكيف نسي أنّ ((لو)) تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره؟.
البحث الرّابع: أنّ كلامه في القدح في الإجماع يلزمه زيادة شروط في صحّة الإجماع لم يشترطها أحد.
أحدها: أنّه يشترط في راوي الإجماع أن يطوف جميع البقاع, أو تجمع له الأمّة([631]) في صعيد واحد.
الثّاني: أن يؤذّن فيهم بالحادثة.
الثّالث: أن يجيبوه جميعاً, ولا يكون فيهم من سكت([632]) في تلك الحال, ثمّ أجاب بعد ذلك أو روى مذهبه بواسطة.
وهذا كلّه مجرّد تشنيع لا يفيد, وتهويل لا يمضي.
البحث الخامس: أن المعترض قد ادّعى في كتابه إجماعات كثيرة ولم يحصل فيها شيء من / هذه الشّرائط, وهذا من الحيف الذي لا يرتضيه أهل التمييز في المباحث العلميّة.
البحث السّادس: أنّه روى عن ابن الصّلاح في أوّل كلامه أنّه ادّعى إجماع الفقهاء, ثمّ ألزمه أن يجمع له جميع الأمّة في صعيد([633]) , ومن لم يفرّق بين الأمّة والفقهاء فليس بأهل لمراسلة العلماء, فإن الفقهاء لا تكون جزءاً من ألف جزء من الأمّة ولا ما يقارب ذلك.
البحث السّابع: قال: وأيّ إجماع صحيح بغير أهل البيت وشيعتهم؟!.
قلنا: ومن أين يلزمه دخولهم([634]) ؟ وأنت إنّما رويت عنه دعوى إجماع الفقهاء, وأهل البيت عندكم لا يدخلون في ذلك عرفاً ولا لغة, فإنّكم تروون الخلاف بين أهل البيت والفقهاء, كما أنّ أهل البيت لا يدخلون في المحدّثين وإن كانوا يعرفون الحديث ولا في القرّاء والنّحاة ونحو ذلك, والفقهاء عندكم اسم مختصّ في العرف بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم.
البحث الثّامن: أن الرّجل ادّعى إجماع العلماء لا إجماع الفقهاء, ولكن المعترض لا يدري ما ينقل ولا يعقل ما يقول!.
البحث التّاسع: من أين عرفت أنّ أهل عصر من علماء أهل البيت والشّيعة لم يجمعوا على صحة حديث البخاريّ؟ وما آمنك أنّهم قد أجمعوا على ذلك, وأنّك جهلت إجماعهم عليه؟ ألا ترى أنّ كثيراً من علماء أهل البيت والشّيعة ادّعوا الإجماع على قبول أهل التّأويل كما سيأتي ذكره, وأنت جهلت ذلك؟.
وأقصى ما في الباب أنّك طلبت فلم تجد, فليس عدم الوجدان يدلّ على عدم الوجود, وأنّك وجدت في ذلك خلافاً فليس ذلك يمنع من ثبوت الإجماع عند كثير من أهل العلم, وذلك حيث يكون المخالف من أهل عصر, والمجمعون أهل عصر آخر, لا سيّما إذا كانوا متقدّمين والمخالف بعدهم, و([635]) يكون المخالف شاذّاً نادراً, [أو] يكون ممن لا يعتدّ بخلافه, [أو]([636]) ينعقد الإجماع على رأسه لأحد الأسباب المذكورة في كتب الأصول.
ومع هذه الاحتمالات؛ كيف يحسن ممّن يدّعي الذّكاء والمعرفة أن يعترض على من يدّعي([637]) الإجماع؟ والاعتراض على هذا الوجه المقتضي لتقبيح الخلاف لا يحسن إلا فيما أدلّته برهانيّة قطعيّة دون المسائل الخلافيّة الظّنيّة.
رواية الزيدية عن
كتب السنة واعتمادها
|
|
البحث العاشر: أنّك إمّا أن تقبّح [التّمسّك]([638]) بالإجماع السّكوتي وتحرّم الاحتجاج له أو لا, إن حرّمته وقبّحته لزمك تأثيم أكثر الأمّة والأئمّة فإنّهم يقولون بصحّة الاحتجاج به, فقد ذكره الإمام المنصور بالله في: ((الصّفوة)) وغيره من أئمة الشّيعة وعلمائهم, وكذلك سائر علماء الفرق([639]) , وأكثر الإجماعات المدّعاة لا تكون إلا منه.
وإن كنت لا تنكر التّمسّك بالإجماع السّكوتي, ولا تحرّمه, فالظّاهر من [أقوال]([640]) أئمّة الزّيديّة من أهل البيت وشيعتهم؛ موافقة سائر العلماء من المحدّثين والفقهاء وأهل السّنّة على ما / ادّعوه من صحّة الصّحيح من حديث هذه الكتب, وإنّما قلنا: إنّ الظّاهر إجماعهم على ذلك, لأنّ الاحتجاج بما صحّحه أهل هذه الكتب ظاهر في كتبهم, شائع بين علمائهم من غير نكير, فقد روى عنهم الإمام أحمد بن سليمان([641]) في كتابه ((أصول الأحكام))([642]) على وجه يوجب القول بصحّتها, فإنّه صنّف كتابه في أحاديث الأحكام, وصرّح في خطبته بالرّواية منها, ولم يميّز حديثها من حديث أهل البيت, فتأمّل ذلك.
وكذلك الإمام المنصور بالله في كثير من مصنّفاته, منها كتاب: ((العقد الثمين))([643]) , ونصّ فيه على صحّة أسانيدها.
وكذلك الأمير العلاّمة الحسين بن محمد([644]) في كتابه ((شفاء الأوام))([645]) الذي لم يصنّف أحد من الزّيديّة في الحديث مثله, فإنّه صرّح فيه([646]) بالرّواية منها على سبيل الاحتجاج بحديثها, وكذلك صاحب ((الكشّاف)) فإنّه روى من ((صحيح مسلم)) وسمّاه: صحيحاً, وفي ((تعليق اللّمع)) الذي هو([647]) مدرس الزّيديّة أنّه يكفي المجتهد في معرفة الحديث: ((الموطأ)) أو ((سنن أبي داود)), ذكره الفقيه علي بن يحيى الوشلي([648]) في تعليقه([649]) , وكذلك قال القاضي العلاّمة عبد الله بن حسن الدّوّاري([650]) في تعليقه على ((الخلاصة))([651]) : إنه يكفي المجتهد ((أصول الأحكام)), وأحد الكتب الصّحيحة المشهورة, وكذا قال علاّمة الشيعة: علي بن عبد الله بن أبي الخير([652]) في تعليقه على ((الجوهرة))([653]) : إنه يكفي المجتهد كتاب جامع لأكثر الأخبار الشّرعيّة كـ ((سنن أبي داود)) وغيره.
فهذه كتب الزّيديّة المشهورة المتداولة بين علمائهم الأفاضل المدروسة على محقّقيهم الأواخر منهم والأوائل قد صرّحوا فيها بما يقتضي صحّة ((سنن أبي داود)) وأمثالها من كتب السّنن, فكيف بصحيحيّ البخاري ومسلم؟! وشاع ذلك وذاع ولم ينكره منهم أحد, فكيف تنكر على مدّعي الإجماع على صحّة مسند حديث البخاري ومسلم, وتقدح فيه بمخالفة أهل البيت وشيعتهم؟!.
وأقصى ما في الباب: أن ينقل إنكار ذلك عن بعض النّاس في بعض الأعصار, فذلك النقل في نفسه ظنّيّ نادر, واعتبار القدح بالنّادر الظّنّي في بعض الأعصار لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر, فلا طريق إلى تكذيب مدّعي هذا الإجماع على اعتبار كثير من أهل العلم في طريق الإجماع, وقد رأينا كثيراً من أهل العلم يثبتون الإجماع السّكوتي بمثل هذا وبأقلّ من هذا.
بحث في من حلف على صحة أمر ما
|
|
البحث الحادي عشر: أنّ الظّاهر إجماع الشّيعة من الفقهاء أن من حلف بالطّلاق على صحّة أمر, وهو يظنّ صحّته, ولم ينكشف بطلانه لم يحنث, لأنّ الأصل بقاء الزّوجيّة, فلا تبطل([654]) بمجرّد الاحتمال المرجوح, كما لو حلف بطلاقها إن([655]) خرجت من بيته, ولم يعلم خروجها, ولا علمت هي أنها خرجت, ولا ظنّا ذلك فإنّها لا تطلق.
ولهذا تأوّل النّواويّ تخصيص ((البخاري)) / بذلك بأنّ المراد: أنّه لا يحنث باطناً ولا ظاهراً, ولا يستحب له الاحتياط؛ لأنّ الأمّة تلقته بالقبول فهو معلوم الصّحّة بطريق نظريّ, هذا تأويل النّوويّ لمدّعي الإجماع([656]) , وليس هذا اختياره, فإنّ اختياره واختيار المحققين: أنّ ما تلقته الأمّة بالقبول يفيد الظّنّ ما لم يتواتر, وقد حكى النّواويّ القول الأوّل عن ابن الصّلاح ثمّ قال: ((وخالف ابن الصّلاح الأكثرون والمحققون))([657]) .
قلت: حجّة الجمهور أنّ الأمّة إنّما تلقّت الحديث الصّحيح بالقبول؛ لأنّهم ظنّوا صحّته, والعمل بالظّنّ واجب عليهم, والظّنّ قد يخطيء([658]) .
قال ابن الصّلاح: ((وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويّاً, ثمّ بان لي([659]) أنّ ظنّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطىء))([660]) .
قلت: فتبيّن أنّ موضع النّزاع هو: أنّ ظنّ المعصوم هل يجوز أن يخطىء أم لا, وفيه دقّة, ويلزم منه أن لا يكون الإجماع حجّة في المسائل الظّنيّة, والحجج من الجهتين ظنّيّة, وقد بسطت القول فيها في ((العواصم))([661]) وإنّما قصدت عنا بيان ظهور ما أنكره المعترض من قول العلماء: إنّ الحالف بصحّة البخاري لا يحنث, فنحبّ منه أن ينقل لنا مذاهب العلماء الذين قالوا بحنث الحالف, وطلاق زوجته, ويعيّن من قال بذلك من أهل العلم حتّى يظهر المحقّ من المبطل.
وهذا الموضع يحتمل ذكر فوائد ذكرتها في ((الأصل))([662]) منها ما ذكره النّوويّ في ((شرح مسلم)), ومنها ما لم يذكره, ثمّ اختصرتها لأنّها لا [تتعلّق]([663]) بنقض كلام المعترض.
أقسام الحديث في كتب السّنة
|
|
قال: والذي يذهب إليه علماؤنا ويجري على أصولهم أنّ في أخبار هذه الكتب: الصّحيح, والمعلول, والمردود, والمقبول.
أقول: الجواب: أنّ حديث هذه الكتب منقسم إلى أقسام:
أحدها: ما بيّنوا أنّه صحيح, وأجمعوا على صحّته, وهذا القسم العمل بمقتضاه واجب بلا خلاف بينهم, وإنّما اختلفوا في أنّه هل يفيد العلم القاطع, أو الظّنّ الرّاجح على ما مضى؟ ومن نازع في الإجماع فلمدّعي الإجماع أن يبحث عليه بأحد تلك الوجوه المتقدّمة, وهذا القسم هو أرفع أقسام الصّحيح السّبعة على ما بيّنه العلماء في كتب ((علوم الحديث))([664]) .
القسم الثّاني: ما اختلفوا في صحّته من أحاديث هذه الكتب, فيرجع فيه إلى كتب الجرح والتعديل, ثمّ يوزن عند التّعارض بميزان التّرجيح.
القسم الثّالث: ما نصّ([665]) علماء الحديث –أو أحدهم- على ضعفه, ولم يعارضهم من يقول بصحّته, فهذا لا يؤخذ به في الأحكام ويؤخذ به في الفضائل, فلا يخلو المعترض إمّا أن يريد أنّ المردود والمعلول في القسمين الأخيرين؛ فذلك مسلّم ولا خلاف فيه, أو يريد أنّه في القسم الأوّل؛ فذلك ممنوع, لأنّ المخالف إمّا أن يقرّ بورود التّعبّد بأخبار الآحاد, أو لا:
إن لم يقرّ بذلك فليس ينبغي أن يراجع في هذا المقام, لأنّه فرع لذلك الأصل, ومن جحد الأصل لم يراجع في الفرع.
وإن أقرّ بورود التّعبّد بأخبار الآحاد والعمل فيها بأقوى الظّنون / فلا يخلو: إمّا أن يقرّ أنّ أهل كلّ فنّ أعرف به, وأنّ المرجع في كلّ فنّ إلى أهله أو لا؛ إن لم يعترف بذلك؛ فهو معاند غير مستحق للمناظرة؛ لأنّ المعلوم من الفرق الإسلامية على اختلاف طبقاتها: الاحتجاج في كلّ فنّ بكلام أهله, ولو لم يرجعوا إلى ذلك لبطلت العلوم, لأنّ غير أهل الفنّ إمّا ألا يتكلموا فيه بشيء البتّة أو يتكلموا فيه بما لا يكفي ولا يشفي, ألا ترى أنّك لو رجعت في تفسير غريب القرآن والسّنّة إلى القرّاء, وفي القراءات إلى أهل اللّغة, وهي المعاني والبيان والنّحو إلى أهل الحديث, وفي علم الإسناد وعلل الحديث إلى المتكلمين, وأمثال ذلك لبطلت العلوم, وانطمست منها المعالم والرّسوم, وعكسنا المعقول, وخالفنا ما عليه أهل الإسلام.
وإن اعترف المعترض بالحقّ, وأقرّ أنّ كلام أهل كلّ فنّ مقدّم في فنّهم على غيرهم, معتمد فيه على تحقيقهم, فلا شكّ أنّه قد اشتهر عند كل منصف ما لأهل الحديث من العناية التّامّة في معرفته, والبحث عن علله ورجاله وطرقه, والاختلاف الكثير الواقع بينهم كثير منه, الدّال على عدم تقليد بعضهم في الحديث لبعض, وعدم المتابعة لمجرّد([666]) العصبيّة, بحيث لو كانوا في القلّة في حدّ يمكن تواطؤهم على التّعصّب؛ لوجب ترجيح كلامهم, وقبول قولهم في فنّهم, كيف وهم من الكثرة في حدّ لا يمكن معه تواطؤهم على ذلك؛ لاختلاف أزمانهم وبلدانهم وأغراضهم وأديانهم! ومع ذلك فقد اشتهر عن أئمتهم القول بصحّة مسند ((صحيحي البخاري ومسلم)), وادّعى غير واحد من ثقاتهم انعقاد الإجماع على ذلك؛ وخبر الثّقة في رواية الإجماع واجب القبول, كما هو المنصور المصحّح في موضعه من كتب الأصول([667]) .
وعلى تسليم أنّه ليس بمقبول([668]) , وأنّ ذلك الإجماع غير صحيح؛ فلا أقلّ من أن يكون ما ادّعي الإجماع على صحّته قول جماهير نقاد علم الحديث, وأئمة فرسان علم الأثر, وهذا من أعظم وجوه التّراجيح, بل أئمة علماء الأصول, والغوّاص على الدقائق والحقائق من أهل علوم المعقول, يقضون بوجوب التّرجيح بأخفّ أمارة, وأخفى دلالة تثير أقلّ الظّنّ, وتثمر يسير القوّة, فكيف بما نقّحه, وصحّحه([669]) إمام الحفّاظ الثّقات, والنّقّاد الأثبات: محمد بن إسماعيل البخاري, ومسلم بن الحجّاج النّيسابوريّ, وانتقياه من ألوف أحاديث صحاح, مع تواتر إمامتهما وأمانتهما ونقدهما ومعرفتهما, فلو لم يتابعهما غيرهما لكان التّرجيح بهما كافياّ, والتّعويل على قولهما واجباً, كيف وقد خضعت لهما رقاب النّقّاد! وأطبق على تصحيح دعواهما أئمة علماء الإسناد!.
الأحاديث المتكلم فيها في الصحيحين
|
|
فإن قلت: أليس قد اختلف في توثيق بعض رواتهما, وعلّل بعض الحفّاظ شيئاً من حديثهما, وصنّف الدّارقطنيّ في ذلك كتاب ((الاستدراكات والتّتبّع))([670]) وصنّف في ذلك أبو مسعود الدّمشقي([671]) وأبو علي الغسّاني الجيّانيّ([672]) , فكيف يصحّ مع ذلك دعوى الإجماع؟!.
قلنا: قد ذكر العلماء في علوم الحديث, وشروح الصّحاح جميع ذلك, واستوعبوا الجواب عليه وبيّنوا القول فيه, ولابدّ من ذكر / نكتة يسيرة من ذلك على قدر هذا (المختصر) فأقول:
اعلم أنّ المختلف فيه من حديثهما هو اليسير, وليس في ذلك اليسير ما هو مردود بطريق قطعيّة ولا إجماعيّة, بل غاية ما فيه أنّه لم ينعقد عليه الإجماع, وأنّه لا يعترض على من عمل به, ولا على من توقّف في صحّته, وليس الاختلاف يدلّ على الضّعف ولا يستلزمه, فقد اختلف في الرّاشدين الذين هم أفضل الصّحابة, وكفّرتهم طوائف الرّوافض والنّواصب والخوارج, وسلم من التّكفير والاختلاف من هو دون الخلفاء –رضي الله عنهم- من صغار الصّحابة, فليس مجرّد ذكر الاختلاف بضائر للثقات من رجال الصّحيحين, ولا مشعر بضعف حديثهم, وإنّما الحجّة في الإجماع لا في الخلاف, والإجماع لم ينعقد على ضعف شيء فيهما, وإنّما انعقد على صحّتهما إلا ما لا نسبة له إلى ما فيهما من الصّحيح, فإنّه وقع فيه الاختلاف الذي هو ليس بحجّة على الضّعف ولا على الصّحّة, إذ لو دلّ على شيء([673]) لم يكن بأن يدلّ على الضّعف أولى من أن يدلّ على الصّحّة, إذ كلّ منهما قد قال به قائل, بل يكون القائل بالصّحّة أولى لأنّه مثبت, والمضعّف للحديث إذا لم يبيّن سبب التّضعيف ناف والمثبت أولى من النّافي.
وقد ألف زين الدّين كتاباً في الجواب عن ذلك([674]) , وذكر النّووي في ((شرح مسلم))([675]) أنّه قد أجاب عن ذلك, أو عن أكثره في شرحه, على أنّ الأمر قريب في ذلك الخلاف, وهو ينحصر في نوعين:
النّوع الأوّل: تعليل بعض أحاديثهما, ومثاله: أن يرفع الحديث بعض الثّقات ويقفه الباقون, أو يسنده ويرسلوه, ونحو ذلك من العلل, وهذا النّوع مما اختلف في القدح به, وأكثر علماء الأصول على أنّه لا يقدح في صحّة الحديث ولا في الرّاوي, وأكثر المحدّثين على القدح به في الحديث إذا غلب على الظّنّ وقوع الوهم فيه, وفي الرّاوي إذا أكثر من ذلك, ومذهب المعتزلة والزّيديّة: أنّه لا يقدح بهذا النّوع في الحديث ولا في الرّاوي.
ومثال ما وقع في البخاري منه: ما أخرجه البخاري([676]) عن الشّعبيّ عن جابر مرفوعاً: ((لا تنكح المرأة على عمّتها)) هذا حديث رواته ثقات, لكن له علّة وهي: أنّ المشهور عن الشّعبيّ أنّه رواه عن أبي هريرة لا عن جابر, وقد خرّجه البخاريّ كذلك أيضاً, لكنّه رأى أنّه لا مانع من كون الشّعبيّ يرويه عن جابر وأبي هريرة [معاً]([677]) فرواه [عنه]([678]) عنهما.
والمحدّثون يرون أنّه لو كان يحفظه عنهما معاً لرواه كذلك لتلامذته وطلبة العلم منه, ولمن يقبل ذلك أن يقول: يحتمل أنّه ذكر تلك الطّريق الثّانية بعد نسيان, أو استفادها بعد جهل, أو تذكّرها بسبب سؤال عنها, أو ذكرها بحسب الدّاعي إلى ذكرها أو نحو ذلك, فمع هذه التّجويزات لا يحسن طرح مثل ذلك, فإن ترجّح طرحه لأحد؛ فلا وجه للاعتراض على من قبله, فبان لك أنّ الأمر في مثل هذا قريب النظر إلى الحديث في نفسه, وكذلك النّظر إلى راوي الحديث؛ لأنّه إنّما يدلّ على أنّ الثّقة وهم في روايته, والوهم جائز على الثّقات, / ولايقدح بمطلقه إجماعاً, بل ادّعى عبد الله بن زيد العنسي الإجماع على قبول حفظه أكثر من وهمه, ذكره في ((الدّرر المنظومة)), وذلك هو المشهور في كتب الأصول, ولكن لم يصرّحوا بدعوى الإجماع عليه.
وأمّا إذا استوى وهمه وحفظه؛ فاختلفوا: فالمشهور ردّ حديثه ببطلان رجحان صدقه, ومنهم من قال: لا يجوز ردّ حديثه لأنّ الأدلّة الموجبة لقبوله تعمّ هذه الصّورة, واستواء حفظه ووهمه لا ينتهض مخصّصاً مانعاً من العمل بالعام مسقطاً للتّكليف بقبوله, وممّن اختار هذا من الزّيديّة: عبد الله بن زيد في ((الدّرر)), والإمام المنصور بالله في ((الصّفوة)) وإنّما أجمع العلماء على ردّ حديث من([679]) وهمه أكثر من إصابته.
وأمّا المحدّثون: فهم أكثر النّاس تشديداً في القدح بالوهم؛ لأنّهم يقدحون به متى كثر, وإن لم يكن أكثر من الصّواب, ولهذا تجد كثيراً من أئمة الجرح والتّعديل يتردّدون في الرّاوي فيوثّقونه مرّة ويضعّفونه أخرى, وذلك لأنّ دخول وهمه حيّز الكثرة مما لا يوزن بميزان معلوم, وإنّما يُظنّ([680]) ويرجح فيه التّحرّي والاجتهاد, فصار النّظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث الظّنيّة, فلذا يكون لابن معين في الرّاوي قولان: التّوثيق والتّضعيف ونحو ذلك.
ومنهم من يغلو و([681]) يقدح بالوهم وإن لم يكثر, وإنّما يقدح بهذا من قلّ فقهه وبصره بمعنى العدالة, والاحتراز عن الوهم غير ممكن, والعصمة مرتفعة عن العدول, بل العصمة لا تمنع من الوهم إلا في التّبليغ, فقد وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه صلّى بعض الفرائض على الكمال, فقال له ذو اليدين: ((أقصرت الصّلاة أم سهوت([682]) يا رسول الله؟ فقال: كلّ ذلك لم يكن))([683]) الحديث, وهذا وهم, وبناء على ما اعتقده صلى الله عليه وآله وسلم, والحديث في ((الصّحيح)), وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((رحم الله فلاناً لقد أذكرني آية كنت أُنسيتها)) رواه [مسلم]([684]) , وفي ((الصّحيح))([685]) عن عائشة –رضي الله عنها- أنّها قالت في حق ابن عمر: ((ماكذب ولكنّه وهم)). وقد صحّ عن عمر رضي الله عنه أنّه نسي حديث التّيمّم الذي رواه عمّار([686]) ولم يذكره بالتّذكير مع أنّه مما لا ينسى [مثله]([687]) , ونسي أيضاً قوله تعالى: ]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ[ [الزمر:30] حتّى ذكّره ذلك أبو بكر رضي الله عنه حين خطب بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([688]) .
بل نصّ القرآن على جواز النّسيان على أهل رتبة النّبوّة الذين هم أعلى طبقات البشر, فقال تعالى: ]وَمَا أَرسَلنَا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيِّ/ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ [الحج:52].
أي: إذا تلا ألقى الشّيطان في تلاوته على سبيل السّهو, ثمّ ينسخ الله ذلك, يعرّف الله([689]) الأنبياء والرّسل به, حتّى لا تبطل العصمة به عن الخطأ في التّبليغ. وقال سبحانه وتعالى في حقّ آدم u: ]فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً[ [طه:115], ولو أردنا أن نستقصي ما ورد في هذا الباب لطال الكلام, والمقصود بهذا أن القدح على رواة الصّحاح بالتّهمة لهم([690]) بالوهم النّادر مما لا يقتضي جرحهم, ولا يقدح في حديثهم.
النّوع الثّاني: مما قدح به على البخاريّ ومسلم: الرّواية عن بعض من اختلف في جرحه وتوثيقه, وقد ذكر النّووي في ((شرح مسلم))([691]) وذكر الجواب عنه بوجوه قد ذكرها أيضاً ابن الصّلاح([692]) :
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده, ولا يقال: الجرح مقدّم على التّعديل؛ لأنّ ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتاً مفسّراّ بسبب, وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك, وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغداديّ وغيره: ما احتجّ البخاريّ ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطّعن فيهم من غيرهم محمول على أنّه لم يثبت الطّعن المؤثر مفسّر السبب. انتهى كلام النّوويّ.
قلت: فإن قيل: أليس قد ثبت في علوم الحديث أنّ الجرح الذي لم يفسّر سببه, وإن لم يجرح به لكنّه يوجب ريبة, فيجب التّوقّف عن قبول من قبل ذلك فيه, وعن ردّه؟.
فالجواب: أنّ ذلك إنّما يوجب الرّيبة في غير المشاهير بالعدالة والثّقة, وأمّا من وثّقه أهل الخبرة التّامّة من أئمّة هذا الشأن؛ فإنّ الجرح المطلق لا يزيل ظنّ ثقته, ومن زال عنه ظنّ ثقته بالرّاوي كان له ترك حديثه, ولم يكن له الاعتراض على من قبله ممّن لم يؤثّر ذلك في ظنّه لثقة الرّاوي وأمانته.
ألا ترى أنّهم قد اختلفوا [اختلافاً]([693]) كثيراً في جرح حمزة بن حبيب أحد القرّاء السّبعة([694]) , فلم يضرّه ذلك مع شدّة الاختلاف فيه([695]), بل انعقد الإجماع بعد ذلك على قبوله وتوثيقه, وكذلك كثير ممّن اختلف فيه من رواة البخاريّ ومسلم قد أجمع على قبوله وزال الخلاف, وأقلّ أحوال هذا الإجماع الظّاهر أن يكون مرجّحاً, فإنّ العلماء يتمسّكون في التّراجيح بأشياء ضعيفة لا تقارب هذا في القوة والله أعلم.
وهذا من نفيس (علوم الحديث) ولطيف كلام أئمة أهل هذا الشأن. وممّن ذكر هذا الجواب الإمام الحافظ زين الدين ابن العراقيّ في ((تبصرته))([696]) لكنّه لم يستوفه.
ومن لطيف علم هذا الباب: أن يعلم أنّ لفظة / ((كذّاب)) قد يطلقها كثير من المتعنّتين في الجرح على من يهم ويخطىء في حديثه, وإن لم يتبيّن أنّه تعمّد ذلك, ولا تبيّن أنّ خطأه أكثر من صوابه ولا مثله, ومن طالع كتب الجرح والتّعديل عرف ما ذكرته, وهذا يدلّ على أنّ هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسّر سببها, ولهذا أطلقه كثير من الثّقات على جماعة من الرّفعاء من أهل الصّدق والأمانة, فاحذر أن تغترّ بذلك في حقّ من قيل فيه من الثّقات الرّفعاء, فالكذب في الحقيقة اللّغوية ينطلق على الوهم والعمد معاً ويحتاج إلى التّفسير, إلا أن يدلّ على التّعمد قرينة صحيحة([697]) .
قال النّووي –رحمه الله تعالى-: الثّاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشّواهد, وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصّحيح, منهم: مطر الورّاق, وبقيّة بن الوليد, ومحمد بن إسحاق بن يسار, وعبد الله بن عمر العمريّ, والنّعمان بن راشد, وأخرج مسلم عنهم في الشّواهد في أشباه لهم كثيرين.
قلت: وقد صرّح مسلم بهذا كما يأتي في الوجه الرّابع, وقد استخرجت مثل ذلك للبخاري من وجه صحيح وهو: أنّه قد نصّ على تضعيف جماعة ثمّ روى عنهم في الصّحيح, ذكر ذلك الذّهبيّ في تراجمهم في ((الميزان))([698]) , ولم يذكر أنّ البخاريّ أخرج حديثهم متابعة, فدلّ هذا على أنّ صاحبي الصّحيح قد يخرجان من الطريق التي فيها ضعف, لوجود متابعات وشواهد, تجبر ذلك الضّعف, وإن لم تورد تلك المتابعات والشّواهد في ((الصحيحين)) قصداً للاختصار والتقريب على طلبة العلم, مع أن تلك المتابعات والشواهد معروفة في الكتب البسيطة والمسانيد الواسعة, وربّما أشار بعض شرّاح ((الصّحيحين)) إلى شيء منها.
قال النّوويّ: الثّالث: أن يكون ضعف الضّعيف الذي احتجّ به طرأ بعد أخذه عنه, باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته, كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب, فذكر الحاكم أبو عبد الله([699]) : أنّه اختلط بعد الخمسين ومئتين بعد خروج مسلم من مصر, وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة, وعبد الرزّاق, وغيرهما ممّن اختلط آخراً, ولم يمنع ذلك من صحّة الاحتجاج في ((الصّحيحين)) بما أخذ عنهم قبل ذلك.
الرّابع: أن يعلو بالشّخص الضّعيف إسناده وهو عند من رواية الثّقات نازل فيقتصر على العالي, ولا يطوّل بإضافة النّازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن في ذلك, وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصاً –يعني مسلم- وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثّقات أولاً ثمّ أتبعهم من دونهم متابعة, وكأنّ ذلك وقع منه بحسب حصول باعث النّشاط وغيبته.
تعليل الحديث
والحكم عليه مقام
وعر, لا يخوضه
إلا الجهابذة
|
|
رُوّينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنّه حضر أبا زرعة وذكر ((صحيح مسلم)) وإنكار أبي زرعة عليه روايته عن أسباط بن [نصر]([700]), وقطن بن نسير, وأحمد بن عيسى المصريّ –إلى قوله- فقال: ((إنّما أدخلت([701]) من حديث أسباط, وقطن, / أحمد: ما قد رواه الثّقات عن شيوخهم, إلا أنّه ربما وقع إليّ عنهم بالارتفاع, ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول, فأقتصر على ذلك, وأصل الحديث معروف من رواية الثّقات–إلى قوله-: فهذا مقام وعر, وقد مهّدته بواضح من القول لم أره مجتمعاً في مؤلف ولله الحمد)). انتهى كلام النّوويّ رضي الله عنه, وفيه ما يدلّ على أنّه لا يعترض على حفّاظ الحديث إذا رووا حديثاً عن بعض الضّعفاء, وادّعوا صحّته حتّى يعلم أنّه لا جابر لذلك الضّعف من الشّواهد والمتابعات, ومعرفة هذا عزيزة لا تحصل إلا للأئمّة الحفّاظ([702]) , أهل الدّربة التّامّة بهذا الشأن.
فقد رُئي عند([703]) بعض الحفّاظ الجزء النّيف([704]) و [العشرين]([705]) من مسند أبي بكر الصّدّيق لا تزيد على خمسين حديثاً, أو لا تكون خمسين حديثاً؟ فقال: إنّ الحديث يكون عندي من مئة طريق, أو قال: إذا لم يكن عندي من مائة طريق, فهو عندي يتيم أو نحو هذا, رواه الذّهبيّ في ((التّذكرة))([706]) و((الميزان))([707]) .
ومن الغرائب في هذا المعنى: أنّ كثيراً من أهل المعرفة بالحديث يذكرون أنّ حديث: ((الأعمال بالنيات)) حديث غريب ما رواه إلا عمر بن الخطّاب, ممّن نصّ على ذلك الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الخالق بن عمرو البزّار في ((مسنده))([708]) فإنّه ذكر أنّه لا يصح إلا من حديث عمر.
قال حافظ العصر ابن حجر([709]) : ((وكأنّه أراد بهذا اللّفظ والسّياق, وإلا فقد رُوّينا معناه من حديث: أنس, وعبادة بن الصّامت, وأبي ذرّ, وأبي الدّرداء, وأبي أمامة, وصهيب, وسهل بن سعد, والنّواس بن سمعان, وغيرهم, ورُوّيناه بلفظ حديث عمر من حديث: عليّ بن أبي طالب, وأبي سعيد الخدريّ, وأبي هريرة, وأنس, وابن مسعود)).
وأغرب من هذا أنّ الصّلاح –مع إمامته, وسعة معرفته- مثّل ما ينفرد به الثّقة من الزّيادة في الحديث بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كلّ حرّ أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين))([710]) فذكر ابن الصّلاح –وهو من أهل المعرفة بالحديث- أنّ مالكاً تفرّد بلفظ: ((من المسلمين)) في الحديث, وأنّ عبد الله بن عمر, وأيّوب وغيرهما رووا هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر بغير هذه الزّيادة([711]) .
وقال زين الدّين بن العراقي: ((هذا المثال غير صحيح, فقد تابع مالكاً على ذلك([712]) عمر بن نافع, والضّحّاك بن عثمان, ويونس بن يزيد, وعبد الله بن عمر, والمعلّى بن إسماعيل, وكثير بن فرقد, واختلف في زيادتها على عبيد الله بن عمر وأيّوب))([713]) .
وكذلك أبو عبد الله الذّهبي فإنّه قال في حديث أبي هريرة المرفوع: ((ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به))([714]) الحديث, قال الذّهبيّ في ((الميزان))([715]) : ((لولا هيبة الجامع الصّحيح لعدّوا هذا الحديث من منكرات خالد بن مخلد)) ذكره في ترجمته.
وردّ ذلك / على الذّهبيّ ابن حجر العسقلاني, فقال: ((إنّ لحديث خالد هذا شواهد في الحديث, وروى له ثلاثة شواهد:
أحدها: نحوه من حديث هشام الكناني عن أنس رضي الله عنه.
وثانيها: ببعضه من حديث معاذ.
وثالثها: نحوه من حديث عروة عن عائشة بإسناد لا بأس به([716]) .
فهذا يدلّك على أنّ الحكم على الحديث بالغرابة أو النّكارة أو الشّذوذ مقام وعر تدحض فيه أقدام أئمة الحفّاظ فكيف بغيرهم, فينبغي من القاصر الاعتراف لأهل الإتقان بالإمامة والتّقدّم في علومهم, وكفّ [أكفّ]([717]) الاعتراض على إمامي المحدّثين: البخاريّ ومسلم وأمثالهما, ومن وقف على قدح في بعض رواتهما أو تعليل لبعض حديثهما وكان ذلك من النّادر الذي لم يتلقّ بالقبول؛ فالذي يقوى عندي وجوب العمل بذلك لأنّ القدح بذلك محتمل.
والثّقة العارف إذا قال: إن الحديث صحيح [عنده]([718]) وجزم بذلك ولم يكن له في التّصحيح قاعدة معلومة الفساد, وجب قبول حديثه بالأدلّة العقليّة والسّمعيّة الدّالّة على قبول خبر الواحد, وليس ذلك بتقليد له, بل هو عمل بمقتضى ما أوجب الله تعالى من قبول أخبار الثقات, ولو كان مجرّد الاحتمال يقدح لطرحنا جميع أحاديث الثّقات لاحتمال الوهم والخطأ في الرّواية بالمعنى, بل احتمال تعمّد الكذب لا يمنع القبول مع ظنّ الصّدق, وقد ثبت عن عليّ رضي الله عنه أنّه كان إذا اتّهم الرّاوي حلّفه, فإذا حلف له صدّقه كما رواه الذّهبيّ في ((تذكرته))([719]) وحسّنه, والإمامان: المنصور في ((الصّفوة)), وأبو طالب في ((المجزي)).
فهذا أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه مع سعة علمه, وقرب عهده, احتاج إلى الأخذ بحديث من يتّهمه ولا تطيب نفسه بقبوله إلا بعد يمينه, فكيف بأهل القرن التّاسع إذا تعنّتوا في الرّواة وقدحوا في حديث([720]) أئمة الأثر وتعرّضوا لإبطال ما صحّحه كبار الحفّاظ؟ أليس ذلك يؤدّي إلى محو آثار العلم, وسدّ أبواب الفقه, وطمس معالم الدّين؟.
وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديث الأعرابيّ في الشّهادة على هلال رمضان كما صحّحه الحاكم([721]) وغيره من حديث ابن عباس([722]) . وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه بعث الرّسل إلى الآفاق معلّمين ومبلّغين مع أنّ أهل الآفاق لم يكونوا قد خبروا رسله إليهم على طريقة المتعنّتين في الخبرة, وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك من المفتي والمستفتي, والرّاوي والمرويّ له, والقاضي والمقضيّ عليه, ولم ينكر شيئاً من ذلك على أحد منهم. والعدالة شرط في صحّة الفتيا والرّواية والقضاء, وكذلك قد روى أبو الحسين في ((المعتمد))([723]) عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم كانوا يقبلون أحاديث الأعراب, فرحم الله امرءاً ترك التعمّق في الأمور, واقتدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وبأصحابه خير أمّة أخرجت للنّاس –رضي الله عنهم أجمعين- وعلى التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.
قال: والضّابط في ذلك: أنّ ما صحّحه أئمتنا من ذلك فهو صحيح, وما ردّوه أو طعنوا في رواته؛ فهو مردود, مثل: خبر الرّؤية عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله, وإنّما كان ما ردّوه وجرحوا رواته مردوداً, ومن جرحوه مجروحاً([724]) / لوجهين:
أحدهما: أنّ أئمتنا عدول لصحّة اعتقادهم, واستقامة أعمالهم, والقطع أنّه إذا جرح الرّاوي جماعة عدول, فإنّ جرحهم مقبول؛ لأنّ الجارح مقدّم على المعدّل.
الثّاني: أنّها إذا تعارضت رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدّمت رواية العدل الذي ليس على بدعة, وهذا مجمع عليه.
أقول: الجواب على هذه الجملة يظهر بذكر وجوه جمليّة ووجوه تفصيليّة.
عدم الاكتفاء بتعديل الزيدية
|
|
أمّا الجمليّة:
فالأول منها أن نقول: ما مرادك بالأئمة هنا؟ هل الجميع أو البعض منهم؟ إن أردت البعض فقولهم ليس بحجّة, لا عند الزّيديّة, ولا عند أهل الحديث, وإنّما هم من جملة الثّقات الذين يجوز عند جميع المسلمين أن تعارض رواياتهم برواية من هو مثلهم أو فوقهم في الحفظ والصّدق, فإنّ كلّ ثقة يجوز وجود من هو مثله أو فوقه في باب الرّواية, ولم نعلم أحداً من مصنّفي الزّيديّة والمعتزلة جعل الخلافة, ولا نسب فاطمة –رضي الله عنها- من أسباب التّرجيح في الرّواية, على أنّ في ولد فاطمة رضي الله عنها الشّافعيّ والحنفيّ والمالكيّ والحنبليّ, كما أنّ فيهم الزّيديّ والإماميّ, وقد بيّنّا من قبل اختصاص أحاديث البخاريّ ومسلم بوجه من وجوه التّرجيح لا يوجد في غيرهما, وهو تلقّي الأمّة لأحاديثهما بالقبول, وبيّنّا أنّ أهل البيت وأئمة الزّيديّة من جملة من تلقّى أحاديثهما بالقبول.
وإن أردت الكلّ من الأئمة فما أردت أيضاً بتخصيصهم بالذّكر؟ هل توهّمت أنّهم هم جميع أهل البيت حتّى ينعقد بإجماعهم إجماع أهل البيت؟ فهذا وهم فاحش, فلم يقل أحد إنّ أهل البيت هم الخلفاء دون غيرهم, على أنّ القول بأنّ إجماع أهل البيت حجة مسألة خلاف بين أهل البيت, فإنّ فيهم من لا يقول بذلك –أعني الزّيديّة منهم- أمّا سائر الفرق فظاهر, فهؤلاء المعتزلة أقرب الفرق إلى الزّيديّة يخالف أكثرهم في هذه المسألة.
أقصى ما في الباب: أنّ إجماعهم حجة قاطعة, لكنّا قد بيّنّا من قبل أنّهم مجمعون على صحّة أحاديث كتب السّنّة التي صحّحها أئمّة الحديث, وبيّنّا أنّهم يعوّلون في أحاديث الأحكام عليها ويفزعون في مهمّات حوادث الشّريعة إليها, وأنّ ذلك مستمر شائع ذائع في ديارهم من غير ظهور نكير, وهذه إحدى طرق الإجماع, أقصى ما في الباب أن ينازع في صحّة كتب الحديث, وهذا القدر –أعني أنّ فيهم من يقول بذلك- معلوم لا يمكن إنكاره, ومع ذلك بطل عليك إجماعهم, ولم تكن في الاحتجاج ببعضهم أولى من خصمك في الاحتجاج [بمن]([725]) خالف من قلّدته ونازع من تابعته.
الرجوع إلى الزيدية في التصحيح والتضعيف متعذّر
|
|
الوجه الثّاني: أنّ قولك بالرّجوع في الحديث وتصحيحه وتضعيفه وردّه وتعليله إلى أئمة الزّيديّة يحتاج إلى تمهيد قاعدة, وهي: أنّ يكون أئمة الزّيديّة قد صنّفوا في معرفة صحيح الحديث, ومعلومه, ومقبوله, ومردوده ما يكفي أهل الاجتهاد من أهل الإسلام, والمعلوم خلاف ذلك, فإنّ من أهل الاجتهاد من لا يقبل المرسل, ومنهم من لا يقبل [ما]([726]) وقفه الأكثرون ورفعه بعض الثّقات؛ أو وصله وقطعوه, أو أسنده وأرسلوه, ومعرفة هذا يحتاج إلى تأليف في العلل, والذي كتب العلل هم علماء الحديث: كالدّارقطنيّ وغيره, وليس لأئمة الزّيديّة في ذلك تصنيف / البتّة, ومن لم يفرد للعلل تأليفاً من المحدّثين ذكرها في تأليفه في الحديث كما يصنع أبو داود والنّسائيّ وغيرهما, بخلاف من جمع الحديث من الزّيديّة فإنّه لا يتعرّض لذلك, وكذلك المجتهد يحتاج عند تعارض الأحاديث إلى معرفة الرّاجح بكثرة الرّواة أو زيادة معدّليهم أو كون بعضهم مجمعاً عليه وبعضهم مختلفاً فيه, وهذا يحتاج إلى معرفة فنّين عظيمين:
فنّان عظيمان من فنون علوم الحديث
|
|
أحدهما: معرفة طرق الحديث, وهو فنّ واسع لا نعرف للزّيديّة فيه تأليفاً, وقد تعرّض لذلك جماعة من أهل المسانيد والصّحاح والسّنن من المحدّثين, وجمع الحافظ الماسرجسي([727]) في ذلك ((المسند الكبير)) الذي فرغ في قدر ثلاث مئة مجلّد كبار([728]) , واختصر الحفّاظ منهم أحاديث الأحكام وجرّدوها من هذه المؤلّفات الواسعة, وذكروا ما يجب معرفته من وجوه التّرجيح على أخصر ما يمكن تسهيلاً على الأمّة وتمهيداً لقواعد الملّة.
الفنّ الثّاني: علم الجرح والتّعديل, وما فيه من تعريف مراتب الثّقات والضّعفاء الذين لا يتم ترجيح حديث بعضهم على بعض إلا بعد معرفته, وهو علم واسع صنّف الحفّاظ فيه الكتب الواسعة الحافلة. حتّى جمع الفلكيّ([729]) فيه كتاباً فرغ في ألف جزء([730]) , ثمّ لم يزل الحفّاظ يهذّبونه ويختصرون ما لابدّ من معرفته حتّى انضبط ذلك بعد الانتشار الكثير في مقدار الخمسة المجلدات أو ما يقاربها, وليس للزّيديّة في هذا الفنّ تأليف البتّة.
وهذه علوم جليلة لابدّ من معرفتها عند من يعتقد وجوب معرفتها من أهل الاجتهاد. فقول المعترض: إنّ الواجب هو الرّجوع إلى أئمّة الزّيديّة في علوم الحديث قول مغفّل! لا يعرف أنّ ذلك مستحيل في حقّ أكثر أهل العلم الذين يشترطون في علوم الاجتهاد ما لم تقم به الزّيديّة!! وإنّما هذا مثل قول([731]) من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علم الطّب إلى الأحاديث النّبويّة والآثار الصّحابيّة ولا يجوز تعدّيها إلى غيرها, ومثل من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علوم الأدب إلى أئمة الزّهادة وأقطاب أهل الرّياضة.
ولقد ذكر إمام الحرمين الجويني في كتاب ((البرهان))([732]) أنّه لا يجوز لأحد التزام مذهب أحد من علماء الصّحابة –رضي الله عنهم-, وقال شارح([733]) ((البرهان)): ((إنّ العلّة في ذلك كون الصّحابة –رضي الله عنهم- ليس لهم نصوص على الحوادث تكفي الملتزم لمذهب أحدهم كأئمة الفقه المتبوعين)), فكذلك أئمة الزّيديّة ليس لهم من التّأليف في علم الحديث ما يكفي المجتهدين, فما للمعترض والتّعرّض لانتقاص المحدّثين الذين قاموا بما قعد عنه غيرهم من علوم الدّين, وهذا أمر يعرفه من له أدنى تمييز, وإنّما أُتي المعترض في انتقاض المحدّثين من قلّة الإنصاف ومحبّة الاعتساف, ولله درّ من قال:
أقلّــوا عليهـم لا أبـا لأبيكــم
من اللّوم, أو سدّوا المكان الذي سدّوا([734])
قلّة المصنّفين من الزّيديّة في الحديث
|
|
الوجه الثّالث: أنّا لو رجعنا إلى تصانيف الزّيديّة في الحديث, لكنّا قد رجعنا إلى أضعف مما استضعفت([735]) وأنكر مما استنكرت, وذلك لأنّ المصنّفين من الزّيديّة في الحديث ليس إلا / القاضي زيد, والإمام أحمد بن سليمان, والأمير الحسين, والإمام يحيى بن حمزة, هؤلاء الذين توجد تصانيفهم في أيدي الزّيديّة في نجد اليمن.
أمّا القاضي زيد, فقد ادّعى في شرحه الذي يروي فيه الحديث إجماع الأمّة على قبول خبر أهل الأهواء.
وأمّا الإمام أحمد بن سليمان, فقد صرّح في خطبة كتابه بالنّقل من كتب المحدّثين, بل ذكر أنّ جميع([736]) كتابه, من كتب مسموعة, وكتب غير مسموعة, ولم يميّز ما رواه من الكتب المسموعة, مع أنّ كتابه عمدة عند علماء الزّيديّة معتمد عند المجتهدين منهم.
وأمّا الأمير الحسين فينقل من كتب المحدّثين, وهما معاً ينقلان من كتاب القاضي زيد, وكلّ كتبهم خالية عن الإسناد, وعن بيان من خرّج الحديث من الأئمة.
من لم يصنف في الحديث منهم
|
|
وأمّا الإمام يحيى بن حمزة فينقل عنهم الجميع, وعن جميع أهل التأويل ويصرّح بذلك([737]) .
وأمّا من لم يصنّف في الحديث من أئمة الزّيديّة ولكن توجد الأحاديث في كتبه؛ فمنهم من صرّح بقبول أهل الأهواء: فسّاقهم وكفّارهم كالمؤيد بالله, مع إجماع الزّيديّة على قبول ما أرسله, بل قال المؤيّد بالله: إنّ الظّاهر من قول أصحابنا قبول شهادة كفّار التّأويل بلفظة (أصحابنا), وهذا يقتضي روايته لذلك عن جميع [علماء]([738]) الزّيديّة؛ وهو مجمع على ثقته عند الزّيديّة فوجب قبول روايته, [وهي]([739]) تقتضي أنّ الرّجوع إلى حديث الزّيديّة مشكل على من لا يقبل حديث كفّار التّأويل. وكذلك المنصور بالله -u- فإنّه قال في ((المهذّب))([740]) ما لفظه: ((وقد ذكر أهل التّحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات. وروى عنهم المحقّقون بغير مناكرة)). هذا لفظه, وهو رواية منه عن أهل التّحصيل, وقد ادّعى الإجماع على قبول فسّاق التّأويل في كتاب ((الصّفوة)), وكذلك الإمام يحيى بن حمزة, والفقيه عبد الله بن زيد ادّعيا الإجماع على قبول فسّاق التّأويل, ودعواهم الإجماع يفيد روايتهم لذلك عن أسلافهم.
وأمّا الهادي والقاسم –عليهما السلام- فقد اختلفوا عليهما في ذلك, فرواية هؤلاء تفيد أنّهما يذهبان إلى ذلك, وكذا رواية أبي مضر عنهما, وتخريج([741]) المؤيد بالله -u- لهما وأحد تخريجيّ أبي طالب, وهو يقتضي أنّ ذلك مذهبهما, وهو أرجح من أحد تخريجي أبي طالب ورواية أبي جعفر, لأنّ هؤلاء أكثر [وأخير]([742]) , ولأنّ عمل الهادي -u- في الأحكام يوافق ذلك, فإنّه روى عن المخالفين, بل عن ضعفاء المخالفين, فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه([743]) , وروى عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة([744]) عن أبيه عن جدّه.
ضعف منهج الزّيدية في نقد الحديث
|
|
وعلى الجملة؛ فالزّيديّة إن لم يقبلوا كفّار التّأويل وفسّاقه؛ قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم, وإن لم يقبلوا المجهول؛ قبلوا مرسل من يقبله, ولا يعرف فيهم من يحترس من هذا البتّة. وهذا يدلّ على أنّ حديثهم في مرتبة لم([745]) يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل بل المقاطيع, وقبول المجاهيل, وقبول الكفّار والفسّاق من أهل التّأويل فكيف يقال مع هذا: إنّ الرّجوع إلى حديثهم أولى من الرّجوع إلى حديث أئمة الأثر ونقّاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته, وجمع متفرّقاته, وبيان صحاحه من مستضعفاته, فتكثّرت بهم فوائده, وتمهّدت بهم قواعده, وتقيّدت أوابده.
وهل هذا إلا مثل إنكار الشّعوبية لفضل علماء العربيّة, بل هو أقبح منه بدرجات عديدة, ومسافات بعيدة, / لأنّ الآثار النّبويّة هي ركن الإيمان, وأخت القرآن, وهي شعار الفقه والدثار, وعليها في أمور الإسلام المدار.
حديث جرير البجلي في الرؤية وبيان تواتره
|
|
وأمّا الوجوه التّفصيليّة: فقد اشتمل كلامه على مسائل:
المسألة الأولى: مثّل المردود من كتب المحدّثين بحديث([746]) : جرير بن عبد الله البجلي في الرّؤية([747]) وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم, فإنّ المحدّثين يروون في الرّؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصّحابة أكثر من ثلاثين صحابيّاً, منهم:
أبو هريرة, وأبو سعيد الخدريّ, وأبو موسى, وعديّ بن حاتم, وأنس بن مالك, وجرير بن عبد الله, وكلّ هؤلاء أحاديثهم متفق عليها مخرّجة في صحيح البخاريّ ومسلم معاً, وفي غيرهما من كتب الحديث.
ومنهم: بُريدة بن الحُصيب, وأبو رزين العُقيلي, وجابر بن عبد الله, وأبو أمامة, وزيد بن ثابت, وعمّار بن ياسر, وعبد الله بن عمر بن الخطّاب, وعمارة ابن رويبة([748]) , وأبو بكر الصّدّيق, وعائشة أمّ المؤمنين, وسلمان الفارسيّ, وحذيفة بن اليمان, وعبد الله بن العباس, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وكعب بن عجرة, وفضالة بن عبيد, والزّبير بن العوّام, ولقيط بن صبرة, وعمر([749]) بن ثابت الأنصاري([750]) , وعبد الله بن بُريدة, وأبو برزة الأسلميّ, وأبو الدّرداء, وأبو ثعلبة الخشني, وعبادة بن الصّامت, وأُبيّ بن كعب, وروى حديث الرؤية علماء الحديث كلّهم في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة, حتى رووه من طريق زيد بن عليّ –رضي الله تعالى عنهما-.
وفي الصّحيحين منها ثلاثة عشر حديثاً, اتفقا منها على ثمانية أحاديث, وانفرد البخاريّ بحديثين, ومسلم بثلاثة أحاديث, ولولا خوف التّطويل لذكرت ما في كتب السّنن, وقد استوفاها شيخنا الحافظ([751]) النّفيس العلوي اليمنيّ([752]) –أدام الله علوّه- في كتابه ((الأربعين))([753]) وذكر كثيراً منها الحافظ الكبير البارع الشّهير بابن قيّم الجوزيّة في كتابه ((حادي الأرواح إلى دار الأفراح))([754]) وغيرهما.
فاعتقاد المعترض أنّ حديث الرّؤية مرويّ من طريق جرير بن عبد الله فقط, وأنّ جريراً مطعون فيه بما لم يصحّ, من تخريب عليّ رضي الله عنه لداره, بل بما لو صحّ([755]) لم يكن قادحاً على مذهب المحدّثين ولا مذهب الزّيديّة, أمّا [المحدّثون]([756]) فظاهر, وأمّا الزّيديّة فلأنّ المتأوّلين عندهم مقبولون, وإن لم يكونوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فإذا كانوا أصحابه كانوا أولى بالقبول لأنّ صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب الزّيادة لا من أسباب النّقص, فثبت بهذا أنّه قدح بما لا يقدح به [في مذهبه, ولا]([757]) في مذهب خصمه, وأنّه باعتقاده لانفراد جرير بالحديث في مرتبة ينبغي أن يرحم صاحبها, لما هو عليه من البعد عن المعرفة والتّعاطي للرّدّ على من لم يحط من علمه بشيء يعتدّ به, فالله المستعان!.
وهذا كلّه من / تعرّضه لما لا يحسنه, ودخوله فيما لا يعرفه, فإنّ علم الحديث علم جليل القدر غزير البحر, والخوض مع نقّاده بغير البصيرة يؤدّي إلى التّخبّط في مثل هذه الجهالة. والتّورّط في مثل هذه الضّلالة, وإنّما الذي كان يحسنه هذا المعترض أن ينقل من (([تعليق]([758]) الخلاصة))([759]) كلام المعتزلة في الدّليل على استحالة رؤية الله تعالى في جهة, وأنّ الدّليل العقليّ يوجب تأويل ما ورد من السّمع بخلافه, ويقف على هذا الحدّ ولا يتعرّض بعده لأحد([760]) .
مسألة تعارض الجرح والتعديل
|
|
المسألة الثّانية: قال: والقطع أنّه إذا جرح الرّاوي جماعة عدول فإنّ جرحهم مقبول؛ لأنّ الجارح يقدّم على المعدّل.
قلت: هذا القطع الذي ذكره قطع بغير تقدير([761]) , ولا هدى ولا كتاب منير؛ لأنّ المسألة ظنّيّة لا قطعيّة, وخلافيّة لا إجماعيّة, بل الواجب التّفصيل في الجرح:
فإن كان مطلقاً غير مفسّر السّبب, فالجرح به مختلف فيه, والصّحيح عند المحقّقين: أنّه لا يجرح [به]([762]) لاختلاف النّاس في الأسباب التي يجرح بها, وتفسير جماعة من الثّقات ما أطلقوه من الجرح بأمور لا يوافقون على الجرح بها.
وأمّا إن كان الجرح مفسّر السّبب, فإما أن يعارضه تعديل جامع لشرائط المعارضة, مثل أن يقول [الجارح: إنّ الرّاوي]([763]) ترك صلاة الظّهر يوم كذا في تاريخ كذا, ويقول المعدّل: إنّه صلّى تلك الصّلاة في ذلك التّاريخ. أو يقول المعدّل: إنّه كان في ذلك الوقت نائماً أو مغلوباً على اختياره أو صغيراً غير مكلّف أو معدوماً غير مخلوق أو غائباً عن حضرة الجارح, أو نحو ذلك؛ فهنا يجب الرّجوع إلى التّرجيح أيضاً, ولا يجب قبول الجرح مطلقاً لا قطعاً ولا ظنّاً.
وأمّا إن لم يعارض الجرح توثيق معارضة حقيقيّة خاصة, ولكن معارضة عامّة, مثل أن يقول الجارح: إنّ الرّاوي كان ممّن يخلّ بالصّلاة ويتناول المسكر, ويقول المعدّل: إنّه ثقة مأمون ونحو ذلك, فلا يخلو: إمّا أن تكون عدالة الرّاوي معلومة بالتّواتر مثل: مالك والشّافعيّ ومسلم والبخاري, وسائر الأئمة الحفّاظ([764]) , فإنه لا يقبل جرحهم بما يعلم نزاهتهم عنه, ولو كان ذلك مقبولاً لكان الزّنادقة يجدون السّبيل إلى إبطال جميع السّنن المأثورة بأن يتعبد بعضهم ويظهر الصّلاح حتّى يبلغ إلى حدّ يجب في ظاهر الشّرع قبوله, ثمّ يجرح الصّحابة –رضي الله عنهم- فيرمي عمّار بن ياسر يإدمان شرب المسكر, وسلمان الفارسيّ بالسّرقة لما فوق النّصاب, وأبا ذر بقطع الصّلاة, وأُبيّ بن كعب بفطر رمضان, وأمثال هذا في أئمة التّابعين وسائر أئمة المسلمين في كلّ عصر, فإنّ من جوّز هذا فليس بأهل للمراجعة, ولا جدير بالمناظرة, وكثيراً ما / يقول أئمة الجرح والتّعديل في أهل هذه الطبقة: فلان ((لا يُسأل عن مثله))([765]) فإن تكلّموا فيهم بتوثيق, أو تليين, أو نحو ذلك؛ فإنّما يعنون به التّعريف بمقدار حفظهم, وأنّهم في العليا من مراتب الحفظ أو الوسطى.
وأمّا إن كانت عدالة الرّاوي مظنونة غير معلومة؛ فظاهر كلام الأصوليين تقديم الجرح المفسّر وقبوله من غير تفصيل, وتعليلهم بالرّجحان يقتضي أنّ ذلك يختلف بحسب اختلاف القرائن والأسباب المرجّحة لأحد الأمرين, وهذا هو القويّ عندي, ولا نضر [للنّظّار]([766]) يخالفه.
فنقول: لا يخلو إمّا أن تكون عدالة الرّاوي أرجح من عدالة الجارح له أو مثلها أو دونها, إن كانت عدالة الرّاوي أرجح وأشهر من عدالة الجارح؛ لم نقبل الجرح؛ لأنّا إنّما نقبل الجرح من الثّقة لرجحان صدقه على كذبه, ولأجل حمله على السّلامة, وفي هذه الصّورة كذبه أرجح من صدقه, وفي حمله على السّلامة إساءة الظّنّ بمن هو خير منه وأوثق وأعدل وأصلح. وأكثر ما يقول أئمة هذا الشّأن في أهل هذه الطّبقة إذا سُئلوا عنهم: أنا أُسأل عن فلان؟ بل هو يُسأل عنّي!.
وأمّا إن كان مثله في العدالة, فيجب الوقف لتعارض أمارتي صدق الجارح وكذبه, فإنّ عدالة الجارح أمارة صدقه, وعدالة المجروح أمارة كذبه, وهما على([767]) سواء, وليس أحدهما بالحمل على السّلامة أولى من الآخر, فإن انضم إلى عدالة المجروح مُعدّل كان وجهاً لترجيح عدالته.
وأمّا إن كانت عدالة الرّاوي أضعف من عدالة الجارح, فإنّ الجرح هنا يقبل إلا أن تقتضي القرائن والعادة والحال –من العداوة ونحوها- أنّ الجارح واهم في جرحه أو كاذب([768]) , فإنّ القرائن قد يعلّ بها حديث الثّقة وإن كان معيناً مثبتاً, ويسمّيه المحدّثون: معلّلاً, وقالوا في تفسير العلّة التي يعلّ بها حديث الثّقة:
((هي عبارة عن أسباب خفيّة غامضة طرأت علىالحديث, فأثّرت فيه, أي قدحت في صحّته, وتدرك العلّة بتفرّد الرّاوي وبمخالفة غيره له, مع قرائن تنضمّ إلى ذلك يهتدي النّاقد بها إلى اطلاع على إرسال في الموصول, أو وقف في المرفوع, أو دخول حديث في حديث, أو وهم واهم بغير ذلك بحيث غلب على ظنّه ذلك فأمضاه وحكم به, أو تردّد في ذلك فوقف وأحجم عن الحكم بصحّة الحديث, فإن لم يغلب على ظنّه التّعليل بذلك فظاهر الحديث المعلّ السّلامة من العلّة))([769]) هذا كلامهم بلفظه.
فأيّ فرق يجده النّاظر المنصف بين إعلال رواية الثّقة بحديث معيّن, وإعلال رواية الثّقة بجرح معيّن في رجل معيّن, بل العلل العارضة بين الجارح والمجروح أكثر من العلل العارضة بين الرّاوي والحديث, لما يقع بين النّاس في العادة من العداوة إمّا لأجل الاختلاف في المذاهب أو في غير ذلك, فهذه حجّة قويّة مأخوذة من نصوص أئمة الحديث.
وأمّا الحجّة على ذلك من أنظار علماء الأصول فهي أن نقول: الجرح المبيّن السبب([770]) إنّما قدّم على التّعديل لأنّه أرجح, إذ كان القريب في المعقول أنّ الجارح يطّلع على ما لم يطّلع عليه المعدّل, وفي قبوله حمل الجارح والمعدّل على السّلامة معاً, ولم يقل أحد: إنّ الجرح مقدّم لمناسبة طبيعيّة ذاتيّة بين اسم الجرح الذي حروفه الجيم والرّاء والحاء المهملة, وبين صدق / من ادّعاه, وحينئذ يظهر أنّ العبرة بالرّجحان الذي هو ثمرة التّرجيح, وإنّما هذا الذي أوجب تقديم الجرح في بعض الصّور, وهو نوع من التّرجيح أوجب الرّجحان, فإذا انقلب الرّجحان في بعض الصّور إلى جَنَبة التّعديل, وقامت على ذلك القرائن وترجّح ذلك في ظنّ النّاظر في التّعارض:
الدعوة إلى تأمل الكلام المقدّم وعدم الاغترار بما في كتب الأصول
|
|
فإمّا أن يوجبوا عليه أن يقضي بالرّاجح عنده؛ فذاك الذي نقول, أو يوجبوا عليه العمل بالمرجوح عنده؛ فذلك خلاف المعقول والمنقول.
فتأمّل هذا الكلام فإنّه مفيد مانع من المسارعة إلى قبول الجرح من غير بصيرة, وإيّاك والاغترار بقول الأصوليين: إنّ الجرح المفسّر مقدّم, فإنّ الرّجال ما أرادوا إلا تلك الصّورة التي نظروا فيها إلى تجرّدها عن جميع الأمور إلا الجرح المفسّر والتّعديل الجملي, وهذه الصّورة لم يخالف فيها, وهم أعقل من أن يطردوا هذا القول لما يلزمهم من جرح أئمة الصّحابة والتّابعين بقول من أظهر الصّلاح من الزّنادقة ليتوصّل([771]) إلى ذلك وأمثاله من مكايد الدّين.
فإن قلت: إنّما تخصّص عموم كلامهم في هذه الصّورة؛ لأنّها تؤدّي إلى تقديم المظنون على المعلوم لو لم يتأوّل كلامهم, بل خبر الثّقة حين صادم المعلوم لا يسمّى مظنوناً بل كذباً.
قلنا: وكذلك الصّور التي ذكرناها يجوز تخصيصها؛ لأنّها من قبيل تقديم الموهوم المرجوح على المظنون الرّاجح, وقد علم من قواعدهم أنّ ذلك لا يجوز فقواعدهم هي المخصّصة لعموم كلامهم, على أنّ مخالفتهم بالدّليل جائزة غير ممنوعة, وقد اتّضح الدّليل على ما أخبرته([772]), وبان بالإجماع بطلان قطع المعترض على أنّ الجرح مقدّم مطلقاً ولله الحمد.
المسألة [الثّالثة]([773]) : قال: الثّاني أنّه إذا تعارض رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع, قدّمت رواية العدل الذي ليس على بدعة, وهذا مجمع عليه.
والجواب عليه من وجوه:
أحدها: منع الإجماع الذي ادّعاه بشهرة الخلاف, فقد أجمع أئمة الحديث على تقديم الحديث الصّحيح على الحديث([774]) الحسن مع إخراجهم لأحاديث كثير من أهل البدع في الصّحيح, بل في أرفع مراتب الصّحيح وهو المتفق عليه المتلقّى بالقبول من حديث الصّحيحين, فحديث أولئك المبتدعة الذين اتفق الشّيخان على تصحيح حديثهم مقدّم عند التّعارض على حديث كثير من أهل العقيدة الصّالحة الذين نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان.
وقد نصّ الإمام المنصور بالله –من أئمة الزّيديّة- في الاحتجاج على قبول الخوارج الموارق من الإسلام: أنّ قبول من يرى أنّ الكذب كفر أولى من قبول من لا يرى ذلك, وهذا نصّ على ما ذكرناه, وذكر مثل ذلك أحمد([775]) بن الحسن الرّصّاص في ((جوهرة الأصول)), والحاكم في ((شرح العيون)), ولم ينكر ذلك أحد من أهل التّعاليق على ((الجوهرة)), بل ادّعى المنصور الإجماع من الصّحابة على خلاف ما ذكره المعترض فقال: ((إنّ اعتماد أحدهم على ما يرويه عمّن خالفه كاعتماده على ما يرويه عمّن يوافقه)), وكذلك أبو طالب حكى في ((المجزي)): أنّ الفقهاء ادّعوا العلم بإجماع الصّحابة على التّسوية / بين الكلّ من أهل التّنزّه عمّا يوجب الجرح من أفعال الجوارح في قبول شهادته وحديثه, مع العلم باختلافهم في المذاهب. فهذه ألفاظ تدلّ على دعوى الإجماع على نقيض ما ذكره المعترض, وهي ثابتة من طريق أوثق أئمة الزّيديّة, وسوف تأتي هذه المسألة عند ذكر قبول أهل التّأويل, وأذكر فيها الكلام مستوفى([776]) هنالك إن شاء الله تعالى, فقد ادّعاها في ذلك الموضع([777]) وهو بها أخصّ.
الوجه الثّاني: أنّا قد بيّنّا أنّ الزّيديّة أحوج النّاس إلى قبول المبتدعة, وأنّ مدار حديثهم على ما يخالفهم, وأنّ كثيراً من أئمتهم نصّوا على قبول كفّار التّأويل وادّعوا الإجماع على ذلك, وأن بقيّة الزّيديّة يقبلون مراسيل أولئك الأئمة؛ كالمنصور, والمؤيّد, والإمام يحيى بن حمزة, والقاضي زيد, وعبد الله بن زيد وغيرهم.
الوجه الثّالث: أنّ أهل الحديث لو سلّموا لك هذه المقدّمة –وهي أنّ حديث غير المبتدع مقدّم على حديث المبتدع- لم تكن منتجة لمقصودك حتّى يضم إليها مقدّمة أخرى, وهي: أنّ أهل الحديث هم المبتدعة, ولا شكّ أنّ هذه المقدّمة التي تركتها غير ضروريّة, وقد أجمع أهل البرهان على أنّ إحدى المقدّمتين لا تحذف إلا لجلائها وعدم التّنازع فيها, فكيف تركت محلّ النّزاع مع دعواك أنّك أوحد أهل الزّمان في علم البرهان, وليس كونك من أهل الحقّ يصلح عذراً لك من إظهار البراهين قال الله تعالى: ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ[ [البقرة:111].
قال: لأنّ رواية غيرهم لا تخلو من ضعف, وإنّما تقبل عند عدم المعارض –يعني رواية غير أئمة الزّيديّة-.
نقض دعوى الجهل بعدالة الرواة
|
|
أقول: هذا قصر للعدالة على أئمة الزّيديّة الذين ادّعوا الخلافة([778]) , وهذا غلوّ لم يسبق إليه, بل هذيان لا يعوّل عليه, ولو كان ما ذكره صحيحاً لوجب في الشّهود أن يكونوا أئمّة, وهذا يؤدّي إلى وجوب أربعة أئمة في شهادة الزّنا, وإمامين في الشّهادة على الأموال, وهذا خرق للإجماع, بل خلع لجلباب الحياء من الله تعالى.
قال: ((لأنّها رواية عمّن لا تعلم عدالته ونزاهته من فسق التّأويل)).
أقول: هذه دعوى للجهل بعدالة الرّواة([779]) , فإمّا أن يدّعي الجهل لنفسه أو يدّعيه على العلماء, إن كان الأوّل فمسلّم, ولا يضرّ تسليمه لأنّ الإقرار بما يدخل النّقص على المقرّ دون غيره صحيح وفاقاً؟ وإن كان الثّاني فغير مسلّم لأنّ الدّعوى على الغير تحتاج إلى بينة صحيحة أو إقرار من المدّعي عليه, وكلّ ذلك غير حاصل في هذه الدّعوى, أمّا الرّواية عن أهل التّأويل فقد [أجازها]([780]) أكثر العلماء وادّعوا الإجماع من الصّحابة وغيرهم على ذلك, واحتجّوا بحجج كثيرة يأتي بعضها في موضعه إن شاء الله تعالى, ومن لم يقبلها من أهل العلم لم يتمسّك بحديث حتّى يعرف براءة رواته من ذلك, ولا اعتراض على من قبلهم, ولا على من لا يقبلهم.
والعجب / من المعترض يقدح على المحدّثين بعدم علمهم بنزاهة رواتهم عن فسق التّأويل, وقد بيّنّا نصوص أئمة الزّيديّة على قبول كفّار التّأويل, بل([781]) على أنّ قبولهم مجمع عليه, وبيّنّا أنّ من لم يقبلهم من الزّيديّة قبل مرسل من قبلهم, فإنّه لا يعلم أنّ في الزّيديّة من لا يقبل حديث: المنصور, والمؤيّد, والقاضي زيد, وعبد الله بن زيد, ويحيى بن حمزة, ونحوهم ممّن صرّح بقبول أهل التّأويل, وادّعى الإجماع على جوازه كما سيأتي مفصّلاً محقّقاً –إن شاء الله تعالى-.
قال: ((هذا إذا كان النّاظر في الحديث مجتهداً, أمّا إذا كان غير بالغ رتبة الاجتهاد فليس له أن يرجّح بهذا الحديث قولاً ويجعله مختاره وإن كان الحديث نصّاً في ظاهر الحال, لأنّ التّرجيح بالخبر إنّما هو بعد كونه صحيحاً عن الرّسول, ولا يكون صحيحاً حتّى يكون راويه عدلاً, والعدالة غير حاصلة كما سنذكره)).
الرد على القول بنفي عدالة رواة الكتب الصحيحة
|
|
أقول: نفي العدالة عن رواة حديث الكتب الصّحيحة جهل مفرط لم يقل به أحد من الزّيديّة ولا من السّنّيّة, فقد بيّنّا إجماع أهل السّنّة على وجوب القبول لها, وإنّما يتعلّل هذا المعترض لمخالفتهم لمذهبه, وقد بيّنّا نصوص أئمة الزّيديّة على قبول مخالفيهم في الاعتقاد, ونقل مصنّفيهم في الحديث من كتب أئمة الحديث, ومجرّد المباهتة بإنكار الجليّات, وجحد المعلومات لا يطفىء نور الحق, ولا ينوّر دخان الباطل, بل يتميّز به المنصف من المتعسّف, والعارف من الجاهل.
وبمثل هذه الدّعاوى المعلومة الفساد, يفضح الله المستترين من أهل العناد, الذين يظهرون للعباد أنّهم دعاة([782]) إلى السّداد, وأدلّة على الرّشاد, والقول بانتفاء عدالة رواة السّنن النّبويّة, والآثار المصطفوية واللّغة العربيّة, مما لا يقول به مسلم, وقد بيّنّا –فيما تقدّم- أن مثل هذا لا يصلح إيراده ونصرته إلا من أعداء الإسلام –خذلهم الله تعالى-, وأنّ صاحب هذه الرّسالة حام على بطلان التّكليف فأبطل الطّريق إلى الثّقة بالحديث واللّغة والنّحو والتّفسير, وببطلان هذه العلوم أو بعضها يبطل الاجتهاد والتّقليد.
أمّا الاجتهاد: فظاهر, وأمّا التّقليد فلما شرحناه أوّلاً, ودلّلنا عليه كون جواز التّقليد مأخوذاً من هذه العلوم ومبنيّاً على هذه القواعد.
مسألة البحث عن الناسخ والمخصص والمعارض
|
|
قال: ((ولأنّه لا يرجّح بالخبر حتّى يعلم أنّه غير منسوخ, ولا مخصّص, ولا معارض بما هو أقوى منه من إجماع أو غيره)).
أقول: هذا الذي ذكره لا يجب على المجتهد عند جماهير علماء الإسلام, كما ذلك مقرّر في علم الأصول, وأنّه لا سبيل إلى العلم بعدم المعارض والنّاسخ والمخصّص, وإنّما اختلف العلماء في وجوب الظّنّ لعدم هذه الأمور في حقّ المجتهد فقط, ولا أعلم أنّ أحداً شرط ذلك في ترجيح المقلّد, [وإنّما اختلف العلماء في وجوب التّرجيح على المقلّد]([783]) بما يفيد الظّنّ, ولم يختلفوا في جواز ذلك وحسنه, وإنّما اختلفوا في وجوبه مع اتّفاقهم على([784]) أنّه زيادة في التّحرّي.
فلا يخلو المعترض؛ إمّا أن يقرّ أنّ التّرجيح بخبر الثّقة يفيد الظّنّ أو لا, إن قال: إنّه لا يفيد الظّنّ؛ فذلك ممنوع؛ لأنّ الظّنّ يحصل بخبر الثّقة من غير توقّف على العلم بعدم المعارض والنّاسخ والمخصّص, و[وجوب]([785]) الظّنّ / عند خبر الثّقة ضروري, ولو كان ظنّ صحّة الحديث النّبويّ يتوقّف على ذلك لتوقّف الظّنّ على ذلك في سائر أخبار الثّقات, وكان يجب إذا أخبرنا ثقة بوقوع المطر, أو نفع دواء, أو غير ذلك أن لا نظنّ صحّته حتّى يطلب المعارض والمخصّص, بل يلزم إذا أفتى المفتي أن لا تقبل فتواه حتّى يطلب معارضها من غيره فلا يوجد, وكذلك يلزم ألا يعتدّ بأذان المؤذن حتّى يطلب المعارض, وكذلك إذا شهد الشّاهدان.
وإمّا أن يسلّم أنّ الظّنّ يحصل بخبر الثّقة قبل طلب المعارض ونحوه؛ فالدّليل على وجوب الترجيح به من وجوه:
أدلة وجوب الترجيح بخبر واحد
|
|
الوجه الأوّل: أنّ مخالفته قبل طلب المعارض وغيره مع ظنّ صحّته تقتضي الإقدام على ما يظنّ أنّه حرام وأنّ مضرّة العقاب واقعة عليه, وتجنّب الحرام المظنون واجب سمعاً, وتجنّب المضرّة المظنونة واجب عقلاً.
الوجه الثّاني: أنّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد قائم قبل طلب هذه الأمور, وقبل ظنّ عدمها كما هو قائم بعد ذلك.
الوجه الثّالث: أنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه لما سئل عن سهم الجدّة([786]) ؛ فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة, لم يطلب المعارض والنّاسخ ونحو ذلك. وكذلك عمر بن الخطّاب لما أخبره عبد الرّحمن بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المجوس: ((سُنّوا بهم سنّة أهل الكتاب))([787]) عمل به ولم يطلب المعارض والنّاسخ ونحوه, وشاع ذلك وذاع ولم ينكر فكان إجماعاً من الصّحابة –رضي الله عنهم-.
الوجه الرّابع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ في حديثه المشهور([788]) : ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )) الحديث. وفيه ما يدلّ على تقرير معاذ على ما ذكره, ولم يذكر فيه طلب المعارض والنّاسخ بعد وجود الحكم في الكتاب أو السّنّة, وكان طلب ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالوجوب؛ لأنّه يطلب من النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذلك طلب مفيد لليقين.
وحديث معاذ هذا وإن كان في إسناده مقال عند بعض أهل الحديث, فقد قوّاه غير واحد, منهم: القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ([789]) والحافظ ابن كثير الشّافعيّ([790]) , وذكر أنّه جمع جزءاً([791]) في شواهده وطرقه وقال: ((هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس)), وكذلك علماء المعتزلة والزّيديّة احتجّوا به, بل قال الأمير الحسين في ((شفاء الأوام)): إنّه حديث معلوم.
فإن قلت: فهذه الوجوه تقتضي أنّ البحث عن المعارض والنّاسخ والخاصّ غير واجب في حقّ المجتهد.
قلت: هو كذلك, وهو اختيار الفخر الرّازي وحكاه في ((المحصول)) عن غيره, وفي المسألة خلاف مشهور, فإن دلّ دليل على دفع هذه الوجوه, ووجوب البحث على المجتهد, وجب تقرير ذلك حيث دلّ دليل في حقّ المجتهد دون المقلّد, وإن لم يدلّ دليل, فالحقّ أحقّ أن يتّبع, والدّاعي إليه أجدر أن يسمع.
الكلام على علم الناسخ والمنسوخ
|
|
قال: ((ولأنّ / التّرجيح بالأخبار اجتهاد, لأنّه يفتقر إلى أصعب علوم الاجتهاد وهو معرفة النّاسخ من المنسوخ, وغير ذلك, والغرض أنّ هذا النّاظرمقلّد)).
أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمرّة, لأنّه لا رابطة عقليّة بين الاجتهاد وأصعب علومه, إذ ليس بعض شرائط الشّيء إذا تصعّب كان هو ذلك الشّيء المشروط, ألا ترى أنّه لا يقال: إن([792]) الطهور في الماء البارد في البلاد الباردة هو الصّلاة لأنّه أصعب شروطها إلا على وجه مجازيّ لا يعتدّ بمثله في مواضع التّحليل والتّحريم, فكذلك معرفة النّاسخ والمنسوخ لا يقال فيها إنّها اجتهاد؛ لأنّه أصعب علوم الاجتهاد.
على أنّ تمثيله لأصعب علوم الاجتهاد بمعرفة النّاسخ والمنسوخ جهل مفرط؛ لأنّ معرفة ذلك يسيرة, فإنّ النّسخ قليل في الشّريعة بالنّظر إلى التّخصيص, وما يدخله ضرب من التّعارض, وقد جمع كثير من العلماء المنسوخ في مختصرات يسيرة([793]) .
وجملة ما أجمع العلماء على نسخه: استقبال بيت المقدس, والكلام في الصّلاة, وحكم المسبوق, وترك الصّلاة في الخوف, وصلاة الجمعة قبل الخطبة, والصّلاة على المنافقين, وتحريم زيارة القبور على الرّجال, وجواز الاستغفار للكفّار بعد موتهم على الكفر, ووجوب صوم عاشوراء, والسّحور بين طلوع الفجر وشروق الشّمس على خلاف شاذّ في تفسير الفجر, وجواز لحوم الحمر الأهليّة, ورجعة المطلّقة أبداً, واعتداد المتوفّى عنها حولاً, وجواز شرب الخمر, وتحريم الأكل والنّكاح ليلاً في رمضان, والتّخيير فيه([794]) بين الصّوم والكفّارة, وتحريم الجهاد بالسّيف للكفّار, وتحريم قتال آمّي([795]) البيت الحرام منهم, ووجوب قيام اللّيل على غير النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, واعتبار العشر الرّضعات في تحريم الرّضاع, وتحريم كتابة غير القرآن, ووجوب الوصيّة للأقربين, والتّوارث بغير القرابة, وحبس الزّانِيَيْن حتّى يموتا, ووجوب قتال المسلم لعشرة.
وأجمع المسلمون على أنّ الرّباعيّة من الصّلوات لا تصلّى ركعتين وإن كانت [كذلك]([796]) في الأصل, لكنّهم اختلفوا في الزّيادة في العبادة هل هي نسخ؟ على قولين, وأجمعوا على وجوب الحجاب للنّساء, فإن كان جواز تركه من قبل على أصل الإباحة؛ فليس من المنسوخ في شيء, وإن كان ترخيصاً شرعيّاً ناسخاً لشرع متقدّم فهو منسوخ, والأوّل أقرب, وفيما ذكرناه ما لم يجمع على ثبوته أوّلاً مثل اعتبار العشر الرّضعات, ولكن أجمعوا الآن على عدم اعتباره, فهو عند من ثبت عنده في حكم المجمع على نسخه.
وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه ولم أعلم فيه خلافاً, ولا تقل الإجماع فيه [من يوثق]([797]) به فيما أعلم, وذلك في: نسخ الأمر بالفرع([798]) , وقتل شارب / الخمر في الرّابعة, والأمر بأذى الزّانين, وتحريم كنز الذّهب والفضّة بعد إخراج الزكاة, وتحريم قتال الكفّار والبغاة في الأشهر الحرم, وجواز التّنفيل قبل القسم, ولبس خواتيم الذّهب, والأمر بقتل الكلاب إلا الأسود, وجواز المثلة.
وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه وذهب إليه المشاهير([799]) وشذّ المخالف فيه, وذلك مثل نسخ: ((الماء من الماء)), والوضوء ممّا مسّت النّار, والتّطبيق في الرّكوع([800]) , والأمر بضرب النّساء مطلقاً, وموقف الإمام بين الاثنين, والقول بأنّه لا ربا إلا النّسيئة, ووجوب حقوق في المال غير الزّكاة, والأمر بالعتيرة –وهي ذبيحة في رجب- ومتعة النّساء, وتحريم لحم الأضحية بعد ثلاث, والرّضاع بعد الحولين, وعدم وجوب الشّياه في زكاة البقر –على تفصيل فيه-, وشذّ المخالف في جواز لبس الحرير للرّجال مدّعياً نسخ التّحريم, والمخالف في المسح على الخفّين مدّعياً لنسخه شذّ في الصّدر الأوّل, ثم كثر القائل به من الشّيعة.
وشاع الخلاف في نسخ تحريم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة, وفي ترك الوضوء من مسّ الذكر, وفي متعة الحجّ, وفي طهارة جلود الميتة بالدّبغ, وفي التّيمّم إلى المناكب وصحّ نسخه, وفي جواز مسح القدمين في الصّلاة, وفي جواز إقامة غير المؤذّن, وفي قطع المارّ للصّلاة, وفي الصّلاة إلى التّصاوير, ووضع اليدين قبل الرّكبتين, والجهر بالتّسمية, وفي ثبوت القنوت, وفي القراءة خلف الإمام, وأفضليّة الإسفار بالصّبح, وصلاة المأموم جالساً إذا صلّى الإمام كذلك, وسجود السّهو بعد السّلام, والقيام للجنائز, ونسخ عدد تكبير صلاة الجنازة إلى أربع, والنّهي عن الجلوس حتّى توضع الجنازة, وفساد صوم المصبح جنباً والجمهور على صحّته, وفساد صوم المحتجم, ونسخ إباحة الفطر في السّفر إلى وجوبه والجمهور على خلافه, ونسخ النّهي عن شرب النّبيذ في الآنية المسرعة بالتّخمير, كالدّبّاء, والإناء المطليّ ولم يقل بعدم النّسخ فيه إلا أحمد بن حنبل وأتباعه.
واختلفوا في نسخ قوله تعالى في الممتحنة: ]فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَت أَزْوَاجُهُم مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا[ [الممتحنة:11]. لاختلافهم في معناها على ما هو مقرّر في كتب التّفسير, والنّهي عن الرّقى, وعن القران في التّمر, وعن قول ما شاء الله وشاء فلان, والاشتراط في الحجّ, وابتداء الكفار بالقتال في الحرم, وشهادة غير المسلمين في السّفر عند الحاجة إلى ذلك, وتحريم لحوم الخيل, وجواز المزارعة, والإذن للمتوفّى عنها في النّقلة أيّام عدّتها وصحّ نسخه, وقتل المسلم بالذّمّي, والتّحريق بالنّار في غير الحرب, واستيفاء القصاص قبل اندمال الجرح, وجلد المحصن قبل الرّجم, وحكم الزّاني بأمَة امرأَته, ووجوب الهجرة من دار الكفر, والدّعوة قبل القتال, وجواز قتل النّساء الكافرات, وقتل ولدان الكفّار, والنّهي عن الاستعانة بالمشركين, وأخذ السّلب بغير بيّنة, وجواز الحلف بغير الله, وقبول هداية الكفّار, والنّهي عن البول قائماً, ووجوب الغسل يوم الجمعة.
فهذه / تسعة وتسعون حكماً أجمع أهل العلم على حكم سبعة وعشرين منها, واشتهر النّسخ من غير خلاف نعرفه في ثمانية أحكام([801]), وشذّ المخالف في نسخ ثلاثة عشر حكماً, وشذّ القائل بنسخ حكمين, واشتهر الخلاف منها في ثمانية وأربعين حكماً؛ أكثرها أو كثير منها لم يجمع فيه شرائط النّسخ بل يكون من العموم والخصوص أو التعارض الذي يرجع فيه إلى التّرجيح.
وأحسن كتاب صنّف في ناسخ الحديث ومنسوخه كتاب ((الاعتبار))([802]) للحافظ الحازمي([803]) وهو مبسوط كثير الفوائد, وليس يخرج منه إلا منسوخ القرآن الكريم, وكثير منه معلوم ضرورة لا يحتاج إلى ذكر, مثل: نسخ شرب الخمر, واستقبال بيت المقدس, ونحو ذلك.
وقد صنّف الإمام محمد بن المطهّر كتاب ((عقود العِقيان في النّاسخ والمنسوخ من القرآن))([804]) , وطوّل تطويلاً مخرجاً عن المقصود بعيداً عن ملاءمة الاقتصار على موضوع الكتاب([805]) .
فإذا عرفت أنّ هذا الذي ذكرناه هو كلّ المنسوخ أو جلّه لا يفوت منه إلا ما لا يعصم البشر عن نسيان مثله, فكيف يقال: إنّه أصعب علوم الاجتهاد؟ (1 وأن معرفته اجتهاد[806]) ؟ ومن المعلوم لكلّ منصف أنّ تعلّم مثل هذا أسهل من تعلّم كتاب الصّلاة في كثير من الكتب الفقهيّة التّقليديّة, وقد تعرّض المتعلّمون من الطّلبة لمعرفة علم العربيّة, وكثير من العلوم الدّقيقة؛ فلم يعلم من أحد من أهل العلم أنّه قنّطهم من بلوغ المقصود في تلك الفنون, فكيف إلى معرفة مختصر لطيف في النّاسخ والمنسوخ؟! وهذا محض المخالفة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يسّروا ولا تعسّروا))([807]) فنسأل الله الهداية, ونعوذ به من الغواية.
قال: ((فكيف يستنتج العقيم ويستفتى من ليس بعليم))؟
أقول: الجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأوّل: إمّا أن يشير بهذا الكلام إلى الاستهزاء والسّخرية بمن أجاز للمميّز من القرّاء المقلّدين, أو أوجب عليه أن [يبحث عن]([808]) الأدلّة ويعرف نصوص السّنّة ثمّ يقلّد الأرجح من العلماء, أو يأخذ بما وافق النّصوص النّبويّة التي حكم لها نقّاد العلماء بالصّحّة وعدم النّسخ والتّخصيص والمعارضة, أو يشير بهذا الكلام إلى السّخرية بمن قال بتجزّىء الاجتهاد, وأنّ المطّلع على أدلّة المسألة, وجميع ما قيل فيها([809]) يصير مجتهداً فيها, يلزمه العمل باجتهاده, وكلّ واحدة من هاتين المسألتين صحيحة القواعد, نصّ عليها من جلّة العلماء غير واحد, والسّاخر من الذّاهب إليهما من علماء الملّة الإسلامية متعدّ لحدود القوارع القرآنية, قال الله تعالى: ]لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُواْ خَيْراً مِنْهُم[ [الحجرات:11] ونحن نذكر كلّ واحدة من هاتين المسألتين ليظهر للنّاظر أنّه ليس في شيء منهما ما يوجب / السّخرية والاستهزاء بمن ذهب إليهما, أو عوّل عليهما:
مسألة الترجيح في المسائل في حق المميز من طلبة العلم
|
|
المسألة الأولى: في وجوب التّرجيح أو جوازه في حقّ المميّز من طلبة العلم لا سيّما طلبة علم الحديث النّبويّ, فهذه مسألة قد ذكرها غير واحد من العلماء, وقد حكاه في ((مختصر المنتهى))([810]) عن أحمد بن حنبل, وابن سريج, وحكاه القطب الشّيرازي في الشّرح عنهما, وعن القفّال, وأبي حامد الغزّالي, وجماعة من الفقهاء والأصوليين وهو الذي اختاره المنصور بالله, واحتجّ على وجوبه في كتاب ((صفوة الاختيار)), وهو ظاهر حكاية عبد الله بن زيد العنسيّ عن الزّيديّة في كتاب ((الدّرر)), وهو الذي نصّ عليه المؤيّد بالله في كتابه ((الزّيادات)) فقال ما لفظه: ((فصل فيما يجب على العامّي والمستفتي, وما يكون الاشتغال به أولى من العلوم: عندي أنّ التّنقير والبحث واجب على العامّيّ, فإن كان ممن له رشد وثبت له وجه القوّة بين المسألتين أخذ بأقواهما عنده, وإن لم يكن له رشد فلابدّ أن ينظر إلى التّرجيح بين العلماء ويطلب ذلك)) إلى آخر كلامه.
وقال الإمام الدّاعي يحيى بن المحسن([811]) ما لفظه: ((من انتهى في العلم إلى حالة يمكنه معها التّرجيح بين الأقوال وجب عليه استعمال نظره في التّرجيح, وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد)).
بحث في قول الشّافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي
|
|
وذكر النّووي في ((شرح المهذب)):([812]) أنّه صحّ عن الشّافعيّ رضي الله عنه أنّه قال: ((إذا صحّ الحديث فاعملوا به ودعوا مذهبي)), قال النّووي في ((شرح المهذب))([813]) : ((وورد هذا المعنى عنه بألفاظ مختلفة)), وهذا يدلّ على ما قلناه, لأنّ قول الشّافعيّ هذا لا يجوز أن يوجّه إلى المجتهدين لأنّهم غير عاملين بمذهبه, سواء صحّ الحديث أو لم يصحّ, ولأنّهم غير محتاجين إلى مثل هذا التّعليم, وإنّما وصّى بهذا ملتزمي مذهبه إشفاقاً منه رضي الله عنه على أصحابه ومتّبعيه من الوقوع في العصبيّة [له و]([814]) تقديم قوله على ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهذا يدل على تعظيمه رضي الله عنه للسّنن النّبويّة ومحبّته لتقديم العمل بها على الآراء القياسيّة والأنظار المبنيّة على كثير من الأمارات العقليّة.
وذكر النّووي –رحمه الله-: أنّ كثيراً من علماء الشّافعيّة عملوا على مقتضى هذه القاعدة في مسائل كثيرة, منها اختيار التّأذين بالصّلاة خير من النّوم([815]) فإنّ قول الشّافعيّ الجديد أنّ ذلك ليس بسنّة, لكنّهم خالفوه لمّا صحّ الحديث في ذلك, وكذلك الحافظ عماد الدّين المعروف بابن كثير ذكر مثل ذلك في كتاب: ((إرشاد الفقيه إلى أدلّة التّنبيه))([816]) في مسألة تحريم الزّكاة على موالي بني هاشم [وبني المطّلب]([817]) , وقدّم الحديث على مذهب الشّافعيّ, وحكى مثل ذلك عن النّواوي –رحمه الله-, وهو الذي اختاره الإمام العلاّمة شيخ الإمام النّووي([818]) : عزّ الدّين ابن عبد السّلام الشّافعي الذي قال النّووي في ((شرح المهذب)) في ترجمته: إنّهم اتفقوا على براعته في العلوم كلّها, وعلى أمانته وديانته أو كما قال, ذكر ذلك عزّ الدين ابن عبد السّلام في كتابه ((قواعد الأحكام في مصالح الإنام)). وأجمع كلام / في هذا رأيته كلام الإمام النّواوي في ((شرح المهذب))([819]) وهو هذا بلفظه, قال –رحمه الله تعالى-: ((صحّ عن الشّافعيّ –رحمه الله- أنّه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولوا بالسّنّة ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة, وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التّثويب, واشتراط التّحلل([820]) من الإحرام بعذر المرض, وغيرهما مما هو معروف. وممّن أفتى بالحديث البويطيّ والدّاركيّ([821]) ونصّ عليه الكيا الطّبريّ, واستعمله من أصحابنا المحدّثين: البيهقيّ وآخرون.
وكان جماعة من متقدّمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشّافعيّ بخلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشّافعي ما وافق الحديث. ولم يتفق ذلك إلا نادراً لما نقل عن الشّافعيّ. وهذا الذي قاله الشّافعي ليس معناه أنّ كلّ من رأى حديثاً صحيحاً, قال: هذا مذهب الشّافعيّ بظاهره([822]) , وإنّما هو فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدّم من صفته أو قريب منه, وشرطه: أن يغلب على ظنّه أنّ الشّافعيّ لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحّته, وهذا إنّما يكون بعد مطالعة كتب الشّافعيّ كلّها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها, وهذا شرط صعب قلّ من يتّصف به. وإنّما اشترطوا ما ذكرناه لأنّ الشّافعيّ ترك العمل بظاهر أحاديث علمها ورآها, لكن قام الدّليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال ابن الصّلاح: ((ليس العمل بظاهر ما قاله الشّافعي, فليس كلّ([823]) فقيه يسوغ له أن يستقلّ بالعمل بما رآه حجة من الحديث. وممّن سلك هذا المسلك أبو الوليد موسى بن [أبي] الجارود([824]) – ممّن صحب الشافعيّ- قال: صحّ حديث: ((أفطر([825]) الحاجم والمحجوم له)) فأقول: قال الشّافعيّ: أفطر الحاجم والمحجوم. فردّوا ذلك عن أبي الوليد لأنّ الشّافعيّ تركه مع علمه بصحّته لكونه منسوخاً عنده, وبيّن نسخه.
قال أبو عمرو([826]) بن الصّلاح –فيمن وجد حديثاً يخالف مذهبه-: نظر إن كان من أهل الاجتهاد فيه مطلقاً أو في ذلك الباب أو المسألة كان له العمل به, وإن لم يكن, وشقّ عليه مخالفة الحديث بعد البحث عنه, ولم يجد جواباً شافياً؛ فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل, ويكون هذا [عذراً]([827]) في ترك مذهب إمامه. وما قاله متعيّن)). انتهى ما حكاه النّووي –رحمه الله تعالى- في هذا.
ونقلت من خط شيخنا الحافظ العلامة شيح الحرمين الشّريفين جمال الدين / كعبة الطّالبين: محمد بن عبد الله بن ظهيرة([828]) رضي الله عنه في ذلك عجباً عجيباً, وكان يقول: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي, إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط, وسلك في ذلك أسلوباً غريباً حتّى إنّ أكبر أصحابه أبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي كشط يوماً شيئاً من كتابه, فقيل له في ذلك؟ فقال: هذا صاحبنا أوصانا به, وحكى رضي الله عنه بإسناد([829]) إلى الربيع بن سليمان أنّه قال: سمعت الشّافعيّ رضي الله عنه يقول –وسأله رجل عن مسألة- فقال: روي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال كذا وكذا. فقال له السّائل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فارتعد الشّافعي واصفرّ وحال لونه وقال: ويحك! أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تُظلّني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً [و]([830]) لم أقل به!؟ نعم على الرأس والعين([831]) .
وفي رواية فقال الشّافعيّ: تراني في بيعة أو كنسية؟ تراني على زيّ الكفّار؟ هو ذا تراني في مسجد المسلمين على زيّ المسلمين, مستقبل قبلتهم أروي حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به))؟
وذكر شيخنا ابن ظهيرة –أمتع الله المستفيدين ببقائه- تفصيل ما أجمله العلاّمة النّووي من ألفاظ الشّافعيّ ونقل ذلك كلّه من طريق أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم, وقد تركت التّطويل بترك([832]) جميع ذلك؛ لشهرته عند جميع أهل المعرفة من أصحاب الشّافعيّ –رضي الله عنهم-.
وأمّا الدّليل على ما اختاره هؤلاء العلماء الأعلام فوجوه:
أحدهما: أنّه لو جاز([833]) للمقلّد أن يتخيّر عند الاختلاف ما يشاء من غير ترجيح لكان مخيّراً بين التّحليل والتّحريم, إن شاء حلّ([834]) الشّيء, وإن شاء حرّم, وإن شاء أوجب, وإن شاء حرّم ثم حلّ أو أحلّ ثم حرّم بغير دليل ولا ضابط, وهذا ممنوع؛ لأنّه يؤدّي إلى تمكّن العوامّ من سقوط جميع التكاليف الظّنّيّة الخلافيّة والإجماعيّة, أمّا الخلافيّة, فظاهر, وأمّا الإجماعيّة الظّنّيّة؛ فلأنّ في العلماء من يقول: إن الإجماع المنقول بالآحاد لا يجب([835]) العمل به فيقلّدون من قال بهذا, وحينئذ لا يجب عليهم إلا الضّروريات من الدين أو من الإجماع, لكن الضّروريات من الإجماع هي الضّروريات من الدين, فحينئد لا يجب عليهم إلا المعلوم ضرورة من الدّين, بل هذا القول يؤدّي إلى جواز تقليد من يقول: إنّ التّقليد غير جائز, وتقليد من يقول: إنّ الاجتهاد غير واجب, إمّا لأنّ في النّاس من هو قائم بفرضه, أو لأنّه قد عدم العلماء فتعذّر التعليم وسقط الوجوب.
فإن قيل: / ليس له أن يقلّد من يقول بسقوط التّقليد, وسقوط الاجتهاد, وإنّما يجوز له تقليد أحدهما؛ لأنّ المسقط للتّقليد يقول بوجوب الاجتهاد, والمسقط للاجتهاد يوجب التّقليد.
قلنا: قد قال بجواز مثل هذه الصورة في التّقليد بعض العلماء, فإذا [جاز]([836]) التّقليد مطلقاً جاز مثل هذا التّقليد, وهذا كلّه يؤدّي إلى تمكّن العامّيّ من عدم وجوب الرجوع إلى العلماء. لكن المعلوم وجوب ذلك على العوامّ من إجماع الصّحابة؛ فبطل ما أدّى إلى مخالفة إجماعهم.
الوجه الثّاني: أنّ الأدلّة على جواز التّقليد غير عامّة لهذه الصّورة ولا متناولة لها, أمّا قوله تعالى: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ[ [الأنبياء:7]. فلما تقدّم([837]) , وأمّا إجماع الصّحابة على تقرير العوامّ على التّقليد فلأنّه إجماع فعلي لا لفظي, والأفعال لا عموم لها, وهذه الصّورة لم تقع في زمانهم ولم تشتهر ويجمعوا على جوازها, فإنّه لم يعلم أنّ أحداً من طلبة العلم في زمنهم قلّد في مسألة يحفظ فيها حديثاً صحيحاً مخالفاً لما هو عليه, وأنّهم علموا([838]) [بذلك]([839]) كلّهم وأجازوه, ولا علم([840]) أنّ عامّيّاً اختلف عليه عالمان فقلّد المفضول منهما وعلموا بذلك وأجازوه.
الوجه الثّالث: أنّ كلامنا إنّما هو فيمن اعتقد وجوب التّرجيح, ومن اعتقد ذلك وجب عليه بالإجماع, ولم يكن لأحد أن يعترضه, بل من أمره بمخالفة ما يجب عنده فقد عصى الله تعالى وأمره بمعصيته نسأل الله السّلامة.
الوجه الرّابع: أنّ كلامنا أيضاً إنّما هو في الذي يوجب العمل بالتّرجيح بعد أن عرف الرّاجح, وحصل له الرّجحان الذي لا يمكن دفعه, بسماعه للأحاديث الصّحيحة, ووقوفه على كلام الحفّاظ, وأهل المعرفة التّامّة والاطّلاع الواسع, ونصّهم على صحّة الحديث, وعدم وجود ما يدفع العمل به, فأخبرني على الانصاف؛ ما الموجب لترك العمل بمقتضى الحديث؟ هل كونه مخالفاً لبعض العلماء؟ فقد صار العمل به موافقاً لبعضهم, وترك العمل به مخالفاً لبعضهم أيضاً.
[أو]([841]) الموجب لتركه كونه راجحاً مظنوناً, وكون ترك العمل به ضعيفاً مرجوحاً؟ فهذا عكس المعقول والمنقول, فاعجب من سخرية المعترض بمتّبع السّنن, والسّائر من الحقّ في مثل هذا السَّنن!!.
ويستشهد لهذا بولاد العقيم, وإعراضه عما يجب لحملة علم السّنّة من التّعظيم. يا هذا! إن الملائكة تفرش أجنحتها (2 تعظيماً لطالب العلم و[842]) لمن احتقرت من طلاب السّنّة, وتكريماً لمن أهنت من سالكي طريق الجنّة.
بمطـاعن الأوزاع والأخيـاف([843])
|
|
وإذا الأكابر عظّمتك فلا تبل
|
المسـالة الثانية: أنّ طالب الحديث والنّحو وسائر الفنون يجوز أن يكون مجتهداً في مسألة معيّنة أو في فنّ معيّن, وإن كان غير مجتهد في غير / ذلك, وهذا هو قول الأكثر, كذا قال قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح مختصر المنتهى)) وحكى فيه عن الغزالي أنّه قال: ((وليس الاجتهاد عندي [منصباً]([844]) لا يتجزّأ, بل يجوز أن ينال العالم منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون البعض))([845]) انتهى.
وحجّة الجمهور على ذلك: أنّ طالب العلم قد يعرف في بعض المسائل جميع ما يتعلق بها, وما يعرفه المجتهد العام في ذلك, وقول المخالفين يجوز أن يكون فيما لم يعلم ما يتعلّق بذلك ضعيف, لأنّ مجرّد التّجويز المرجوح لا يمنع الاجتهاد, إذ كلّ مجتهد يجوز ذلك [في حقّه]([846]) وإن اجتهد في جميع العلوم, لكن النّادر لا عبرة به.
وقد أجاب قطب الدّين بهذا وقال: ((الكلام مفروض فيما إذا كانت([847]) جميع الأمارات المتعلّقة بتلك المسألة حاصلة في ظنّ الفقيه عن مجتهد بأن يوقفه على الكلام عليها, أو الكلام مفروض بعد تحرير الأئمة للأمارات, وتخصيص كلّ بعض من الأمارات ببعض المسائل, وجمع كلّ إلى جنسه([848]) )). فهذه حجّة الجمهور.
وأمّا مسألتنا فإنّما هي فيمن ذهب إلى مذهب الجمهور, واعتقد صحّته, ثمّ إنّه بعد البحث الكثير في مصنّفات العلماء التي [حرّروا فيها]([849]) الأدلّة على الأبواب, وذكروا الخلاف والحجج على الإنصاف والاستيفاء, ثمّ ترجّح له بعض المذاهب لموافقة النّصوص الصّحيحة, وخاف أن يكون قد صار مجتهداً في تلك المسألة, وإن لم يكن مجتهداً فمقلّداً مرجّحاً, ولم يكن في دماغه من دخان العصبيّة ما يوجب اتباع المفضول, والعمل بالمرجوح الذي هو خلاف الأولى عند جميع العلماء, وإنّما اختلفوا في وجوبه لا في جوازه([850]) ولا في استحبابه.
أمّا من قال: بتجزّىء الاجتهاد؛ فظاهر, وأمّا من منعه؛ فإنّه يقول بجوازه لمن اعتقد جوازه, لأنّ المسألة ظنّيّة خلافيّة, لا قاطع فيها, ولا مانع من العمل بها, فالمستهزىء بالعامل بهذا, السّاخر منه, المشبّه لعلمه([851]) بما لا يستقيم من استنتاج العقيم, منتظم في سلك الذين: ]كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ, وَإِذَا مَرُّواْ بِهِم يَتَغَامَزُونَ, وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ, وَإِذَا رَأَوْهُم قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ, وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِم حَافِظِينَ[ [المطففين:29-33].
بقية الأوجه في الرد على المعترض
|
|
الوجه الثّاني في الجواب: أنّ المعترض قد ارتكب ما استقبح, وانتهك ما استعظم, فإنّه ضعّف القول بوضع اليمنى على اليسرى في الصّلاة, وضعّف القول بالتأمين فيها –أيضاً- وأخذ يرجّح مذهبه بما روى من الأخبار, انتصاراً لمذهبه المختار, هذا مع اعترافه أنّه من المقلّدين, وغلوّه في القول بعدم المجتهدين, فما باله أنتج وهو عقيم, وأفتى وليس بعليم!! وقد قال الحكيم([852]) :
عار عـليـك إذا فعـلت عظيم
|
|
لا تنه عن خلــق وتأتي مثله
|
/ الوجه الثّالث: أن نقول: ما مرادك بهذا الإنتاج؟ (2 هل إنتاج[853]) الاستدلال العامّ في جميع المسائل التي لا تصحّ([854]) إلا من المجتهدين في علوم الدّين, أو إنتاج التّرجيح لبعض المسائل التي ذهب خصمك إلى جوازه من المقلّدين كما هو مذهب الأكثرين؟ إن كان الأوّل؛ فليس فيه نزاع, وإن كان الثّاني؛ فليس يبطل بمجرّد الأسجاع. فهلمّ الدّليل, وتنحّ عن (5 التّعويل على مجرّد[855]) التّهويل.
الوجه الرّابع: أن نقول: ما قصدك بذكر استنتاج العقيم, واستفتاء من ليس بعليم؟ هل قصدك مجرّد السّجع في الكلام, أو الإفحام للخصم والإلزام؟ إن كان الأوّل؛ فالبلغاء لا يستطيبون من الأسجاع مواردها, متى كانت [تنقص من المذاهب]([856]) قواعدها, فإنّها لا تصلح إلا زينة للحجج الصّحيحة, فمتى أفسدتها كانت عند البلغاء قبيحة, لكن سجعك هذا يهدم قواعدك, ويخالف مقاصدك؛ لأنّك الذي أجزت للمقلّد العقيم أن يفتي وليس بعليم, وفي نصرة هذا المذهب أنشأت هذه الرّسالة؛ وأعدت وأبديت في نصرة هذه المقالة.
وأمّا إن كان المعترض قال ذلك الكلام على سبيل الإفحام لخصمه والإلزام؛ فقد عاد الإلزام أيضاً إليه, وخرج الاحتجاج من يديه, لأنّه الذي قضى بفقد المجتهدين, وحكم بمرتبة الفتيا للمقلّدين, وأنتج العقيم, وخبط من المناقضة في ليل بهيم, فبطلت حجّته واضمحلت, وجاء المثل: ((رمتني بدائها وانسلت))([857]) .
ومن العجائب: أنّ المعترض متصدّر للفتوى والتّدريس والمناظرة والتّصنيف, وهو معترف بالجهل, مدّع لخلوّ العالم من أهل العلم, منكر على من يرى جواز التّرجيح بالأخبار, مقتد في ذلك بالجلّة من العلماء الأخيار, زاعماً أنّ ذلك يؤدّي إلى إنتاج العقيم (2وفتوى من ليس بعليم, مصدّراً لكلامه بكيف الإنكاريّة, مصوّراً لذلك في أبعد صور المحالات العادية وهو ولاّد العقيم[858]) الذي لا يصحّ ولا يستقيم!! وهذا يقتضي أنه العقيم الولود, والظّئر الودود([859]) , فكيف يعيب خصمه بما هو فيه, ويلزمه من المحالات ما هو بالحقيقة مدّعيه؟ وما ذاك إلا أنّه غفل عن كون هذه من عيوبه, وتوهّم أنّه([860]) من عيوب خصومه, فباح به أشدّ البواح, وأكثر عليهم من الصّياح.
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
|
|
ولم تزل قلّة الإنصاف قاطعـة
|
قال: فأمّا أن يكون له في كلّ مسألة أن يرجّح ويخرج عن مذهب من كان قلّده؛ فالصحيح أنّ عليه التزام مذهب إمام معيّن, ذكره المنصور بالله, والشّيخ الحسن بن محمد, والشّيخ أحمد بن محمد, واحتجّ لهم بوجوه:
أحدها: بالإجماع, وهو أنّه لا يعلم أحد من المقلّدين يتردّد بين مذاهب علماء الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخّرين, ففي مسألة يقلّد أبا بكر, وفي أخرى عمر, وفي ثالثة ابن عباس, وفي رابعة ابن مسعود, وهلمّ جرّا, ولا من يكون مقلّداً لطاووس, وعطاء, والحسن, والشّعبي, ولابن المسيّب, ولغيرهم ممّن كان وراءهم, يقلّد في كلّ مسألة إماماً, ولا من / يكون حنفيّاً في مسألة, شافعيّاً في أخرى, مالكيّاً حنبليّاً هادويّاً ناصريّاً, هذا ما وقع, ولا علم به, ولو وقع زماننا لأنكره النّاس.
الرد على المعترض في إيجابه التزام مذهب معين
|
|
أقول: ضعف كلام المعترض في هذا التفصيل يتبيّن بذكر أنظار:
النّظر الأوّل: أنّ المعترض جاوز حدّ العادة في الغلوّ حتّى ادّعى الإجماع على ما المعلوم (1انعقاد الإجماع[861]) على نقيضه, وذلك أنّه ادّعى الإجماع على التزام مذهب [إمام]([862]) معيّن في زمن الصّحابة والتّابعين, واحتجّ على ذلك بأنه لم يعلم أنّ أحداً كان يقلّد أبا بكر في مسألة, وعمر في ثانية, وابن عباس في ثالثة, وابن مسعود في رابعة, هكذا قال بغير حياء من أهل العلم, والمعلوم أنّ العامّة ما كانت في زمن الصّحابة متحزّبة أحزاباً متفرّقة في التّقليد فرقاً بكريّة, وعمريّة, ومسعوديّة, وعبّاسيّة, كما أشار إليه, وإلا فأخبرنا من الإمام في زمن الصّحابة [الذي]([863]) لم تكن العامّة تستفتي سواه ولا ترجع إلى غيره.
فإن قلت: إنّك تلتزم هذاو وتصرّ([864]) على أنّه لم يكن في زمن الصّحابة إلا مفت واحد, فقد أنكرت الضّرورة, ولم يكن [لمناظرتك]([865]) صورة, فقد نقلت الفتيا عن أكثر من مائة نفس من الصّحابة, ذكرهم غير واحد من العلماء, منهم: الحافظ أبو محمد بن حزم([866]) , والشّيخ أحمد بن محمد في كتاب ((الشجرة))([867]) .
وتعيينهم وكمية عددهم, وإن نقلت بالآحاد فكثرتهم في الجملة معلومة بالضرورة, وأمّا إن أقرّ بما هو معلوم من أنّ العامّة لم يكونوا ملتزمين لمذهب صحابي واحدو وأنّ الصّحابة لم يكونوا مقتصرين على فتوى مفت واحد, فليت شعري أيّ البواطل تركب؟ هل القول بأنّ كلّ مفت من الصّحابة كان له أتباع؟ فهذا يفضي في تشعّب مذاهبهم إلى غاية الاتساع, فيكون العامّة في زمنهم أكثر من مئة فرقة على عدد المفتين, أو ترتكب القول بإلزام العامة لمذاهب جماعة مخصوصين, فهذا مثل دعوى الرّوافض للاختصاص بالعلم بالنّصّ على اثني عشر إماماً منصوصين.
والجواب عليهم الجميع: أنّ أهل العلم يشاركون لكم في معرفة الآثار, والبحث عن السّير والأخبار, ولم يعرفوا من هذا شيئاً, ولا عرفوا فيه علماً ولا ظنّاً, ولا يصحّ أن يوحي إليكم ذلك من دون النّاس, فما سبب الانفراد بهذا العلم والاختصاص؟.
وبالجملة: فالمعلوم ضرورة أنّ العامّيّ في زمن الصّحابة كان يفزع في الفتوى إلى من شاء منهم, من غير نكير في ذلك, وهذا من الأمور المعلومة, وقد احتجّ بذلك ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى))([868]) على أن الالتزام لا يجب وادّعى القطع بوقوعه, وكذلك الشّيخ أبو الحسن احتجّ في ((المعتمد))([869]) بإجماع الصّحابة على عدم الالتزام, قال قطب الدّين في شرح كلام ابن الحاجب ما لفظه: ((احتجّ المصنّف بالإجماع([870]) على الجواز بوقوعه –أي بوقوع المتنازع فيه / في زمن الصّحابة وغيرهم- من غير إنكار من [أحد]([871]) ولو كان ذلك منكراً لأنكر, ولم ينقل عن أحد من الصّحابة والتّابعين الإنكار ولا الحجر على المستفتي في تقليد إمام واحد.
فإن قلت: فهذا الإجماع يقتضي أنّه لا يجب التّرجيح, وأنت قد ذكرت أنّه يجب.
قلت: إنّما ذكرت أنّه يجب حين يختلف أهل الفتوى على العامّي فيزول ظنّه لصدق المفتي وصحّة فتواه, وهذه الصّورة التي أوجبت فيها التّرجيح, لم يظهر وقوعها في زمنهم, فكيف الإجماع عليها؟! وإنّما كان العامّي في زمنهم يسأل أحدهم وهو لا يعلم أنّ الآخر يخالفه, فإذا سمع الفتوى ظنّ صحّتها, وطابت نفسه بها, وكأنّما سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهذا هو المعروف من أحوال العامّة وأكثرهم, فإنّهم لا يعلمون أنّ المفتي قد يفتي برأي منه يخالف فيه من هو أعرف منه, وأنّما يعتقد أكثرهم أنّ الفتوى إنّما هي بنصوص واضحة من صاحب الشّريعة, فلا يدخل في حكمهم من عرف مراتب الضّعف والقوّة في مآخذ أهل الفتوى إذا سمع الخلاف, وتعارضت عليه الأقوال, ووقع في حيرة الشّكّ, وظلمة التّعارض, فإنّه يجب على هذا الرّجوع إلى النّظر في الأمارات والمرجّحات حتّى يلوح له ما تطيب به نفس من رجحان ما هو عليه, وصحّة ما يذهب إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))([872]) ولما قدّمنا من الأدلّة في ذلك, وسوف يأتي مزيد بيان لوجه الاحتجاج بهذا الحديث, وبيان معناه في مسألة قبول أهل التّأويل إن شاء الله تعالى.
النّظر الثّاني: أن المعترض قال في احتجاجه ما لفظه: ((إنه لم يعلم أحد من المقلّدين يتردّد([873]) بين مذاهب علماء([874]) الإسلام)), وهذا منه احتجاج بإجماع العامّة, وليس يعتبر بهم في الإجماع مع المجتهدين فكيف بهم منفردين؟ وفي الحديث الصّحيح المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو([875]) مرفوعاً: ((إنّ الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً, وإنّما يقبض العلم بقبض العلماء, حتّى إذا لم يبق عالماً اتخذ النّاس رءوساً جهّالاً فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا([876]) )). فهذا الحديث يقتضي([877]) أنّ العامّة قد يجتمعون على الضّلال والإضلال, ولا يكون إجماعهم حجّة يعصم من الضّلال.
النظر الثالث: أنّا لو سلّمنا أنّ إجماعهم حجّة لما دلّ على مذهبه, لأنّه فعل لا قول, وفعل الأمّة دليل على الجواز لا على الوجوب, لأنّهم إنّما عصموا عن الحرام لا عن المباح, فلا مانع من أن يكون فعلهم مباحاً, فلو قدّرنا أنّهم التزموا مذهباً لكان ذلك دليلاً على جواز ذلك لا على وجوبه, ونحن لا ننازعك في جواز ذلك وجواز خلافه, وإنّما نازعناك في مسألة مخصوصة لم ينقل أنّ الأمّة أجمعت فيها / بعينها إجماعاً قوليّاً ولا فعليّاً, فبان بهذه الأنظار أنّه وهم ثلاثة أوهام:
أحدها: أنّ الأمّة أجمعت على الالتزام, والإجماع إنّما انعقد على عدم الالتزام.
وثانيها: أنّ إجماع العامّة حجّة.
وثالثها: أنّ الإجماع الفعليّ دليل الوجوب, فلو أنّه احتجّ بتقرير العلماء للعامّة لكان أقرب له, وإن كان لا يسلم من وهمين, فوهمان خير من ثلاثة.
*وبعض الشّرّ أهون من بعض([878]) *
النّظر الرّابع: ادّعى أنّ التّنقّل ما وقع في المذاهب ألبتة, وأنّ أحداً من المقلّدين ما علم أنّه كان شافعيّاً في مسألة حنفيّاً في أخرى.
وهذا الكلام يدلّ على أحد أمرين: إمّا على شدّة تغفيله, وأنّه لا يدري ما يقول وإمّا على كثرة جرأته وقلّة مبالاته, وذلك أنّه لا يعلم أنّ أحداً من المقلّدين ما عمل بغير مذهب إمامه قطّ إلا الله سبحانه وتعالى, لأنّ الإحاطة بأعمال المقلّدين متعذّرة مع انتشارهم في أقطار الإسلام شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً, ومع وجود المتساهلين منهم وجود([879]) الفسّاق المصرّحين.
وليت شعري ما يقول هذا المعترض؟! هل يقطع بأن أحداً من المقلّدين ما زنى ولا سرق, ولا أربى ولا فسق؟ فهذا عناد عظيم, وبهتان مبين, أو يقرّ بذلك, فكيف قطع بأنّهم لا يفعلون –ولا أحد منهم- ما هو جائز عند كثير من علماء الإسلام؟ ومن أين علم عصمتهم عن هذا الذي لم يقل أحد من الأمّة: إنّ فاعله مستحلاًّ له يفسق ولا يعصي؟ والمعلوم خلاف ما ذكره من كثير من العامّة, بل من كثير من أهل التّمييز, بل قد قدّمنا كلام غير واحد من العلماء في وجوب ذلك على أهل التّمييز, ونصّ بعضهم على جوازه, منهم: المؤيّد والدّاعي من أئمة الزّيديّة, وعزّ الدّين بن عبد السّلام, والنّواوي, وابن الصّلاح من أئمة الشّافعيّة, بل بيّنّا أنّ كلام الإمام الشّافعيّ يقتضي ذلك كما تقدّم([880]) .
وأمّا قول المعترض: إنّه لا يوجد أحد من المقلّدين من يكون هادويّاً في مسألة, ناصريّاً في مسألة؛ فأعجب من هذا كلّه! وهو غفلة كبيرة, أو جحد للضّرورة, فإنّ العمل بمذهب النّاصر في أنّ الطلاق البدعي لا يقع؛ ظاهر مشهور في نجد واليمن من بلاد الزّيديّة, والعمل به معلوم فيما بينهم من المفتين والمستفتين من غير التزام([881]) لمذهب النّاصر, وإنكار هذا خلع لعروة المراعاة [كعادات]([882]) أهل العناد, وغلوّ لم يبلغه أحد من أهل اللّجاج.
النّظر الخامس: قال المعترض: ولو وقع هذا في زماننا لأنكره النّاس. وهذا عجيب أيضاً! لأنّه إمّا أن يريد أن هذه إجماعية, وهو الظّاهر من كلامه, فهذا لا يصحّ لوجوه:
أحدها: أنّه واقع ولم ينكره النّاس كما([883]) قدّمته.
وثانيها: أنّ قوله: لو وقع لأنكره النّاس؛ دعوى على النّاس, بل دعوى لعلم الغيب بما يكون من النّاس في المستقبل.
وثالثها: أنّا في علّة من كيفية العلم بإجماع العلماء فكيف بإجماع النّاس؟!.
الفرق بين المجتهد والمقلّد
|
|
ورابعها: أنّه قد حكم بالجهل على أهل زماننا, فمع ذلك كيف يحتج بإجماعهم, / وليس يحتجّ إلا بإجماع العلماء؟.
قال: الوجه الثّاني: أنّه لا يتميّز على هذا الوجه المجتهد من المقلّد, فإنّه إذا رجّح في كلّ مسألة, وعمل يما يترجّح [له]([884]) ؛ فهذا شأن المجتهدين, وكونه قد قال به قائل شرط في حقّ المجتهدين أيضاً.
أقول: هذا الوجه أضعف مما قبله؛ والقول بالتّرجيح لا يؤدّي إلى ما ذكره من عدم الفرق بين المجتهد والمقلّد, فالفرق بينهما واضح, وهو أنّ المقلّد ليس له أن يستقلّ بقول لم يسبق إليه, وإنّما هو تبع لغيره, وقد رام المعترض أن يبطل هذا الفرق فركب الصّعب الذّلول, وخالف المعقول والمنقول, والتزم أنّه لا يحلّ الاجتهاد لمجتهد حتّى يسبقه غيره إلى اختياره, وهذا معلوم البطلان لوجوه:
أحدها: أنّه يلزم بطلان اجتهاد خير الأمّة من الصّدر الأوّل الذين ابتكروا الكلام في الحوادث, وسبقوا إلى الاجتهاد في المسائل.
وثانيها: أنّه يلزم أنّ الحادثة إذا حدثت وليس فيها نصّ لمن تقدّم من العلماء لزم العمل فيها بغير اجتهاد ولا تقليد, لأنّ شرط كلّ واحد من الاجتهاد والتّقليد موافقة نصّ متقدّم, وقد عدم هذا الشّرط فيلزم من ذلك سقوط التّكليف في هذا الحكم والعمل بالإباحة, أو تكليف ما لا يطاق من موافقة مراد الله تعالى من غير اجتهاد ولا تقليد, وعلى هذا يكون ترك حفظ أقوال العلماء المتقدّمين أولى؛ ليبطل التّكليف, ويأمن الوقوع في المعصية فيما لم ينصّوا عليه, وهذا شيء لم يسبق هذا المعترض إليه!!.
الوجه الثالث: أنّ الأمّة مجمعة قديماً وحديثاً على أنّه لا يشترط في الاجتهاد ما ذكره, وإنّما اشترط العلماء عدم مصادمة الإجماع القطعيّ, واختلفوا في الظّنّيّ([885]) إذا لم يعارض بما هو أرجح منه, على ما هو مقرّر في علم الأصول.
قال: ((الموضع الثّاني في الدّليل على أنّ في أخبار هذه الكتب المسمّاة بالصّحاح ما هو غير صحيح)) إلى آخر ما ذكره في الموضع الثّاني.
أقول: كلامه في هذا الفصل مشتمل على أمرين:
أحدهما: الطّعن في صحّة حديث الصّحاح بما فيه من حديث المحاربين لعلي رضي الله عنه.
وثانيهما: الطّعن على أهل الحديث بمذاهب نسبها إليهم, وإنما لم أورد كلامه في هذا الفصل بلفظه, لأنّه (2 تقدّم شيء منه و[886]) تقدّم الجواب عليه, وسوف يأتي أيضاً كثير منه في الكلام على المتأوّلين, ويأتي الجواب عليه هنالك إن شاء الله تعالى.
وقد رأيت أن اقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل لا يخلو ذكرها من فائدة, معرضاً عمّا في سائر هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها, / فإنّ مجرّد التّعرّض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل, ولا يستكثر من ذكره فاضل. وقد أخّرت الكلام في البغاة على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى المسألة الثّالثة ليكون الكلام في أهل التّأويل, وما يتعلّق بهم في موضع واحد, فإنّ ذلك أحسن ترتيباً وأكثر تقريباً. وهذا بيان ما وهم فيه المعترض على أهل السّنّة حرسها الله تعالى:
مسألة تجويز الكبائر على الأنبياء
|
|
الوهم الأول: زعم صاحب الرّسالة أنّ أهل الحديث يجيزون الكبائر في الأنبياء عليهم السّلام, ولكنّه سمّاهم بغير اسمهم؛ فأفرط بذلك في وصمهم, فأقول:
كـلّ إمــــام بالأذى قـــد بلي
|
|
لا غـرو إن أوذي أهـــل الــتّقى
|
ولا نجـا مــن ناصـــبيّ([887]) علي
|
|
مـا سـلم الـصّـدّيق مــن رافض
|
تعارض الشّــكّ بــأمـــر جليّ
|
|
يأيـها الـرّامــي لهم في دجـــى
|
تعارض الــشّــكّ بــأمـر جلي
|
|
بأنجـم مــن عــلـم أعلامــهم
|
من ذلك ما ذكره القاضي الإمام العلامة عياض بن موسى اليحصبيّ المالكيّ في كتابه ((الشّفا)), في التّعريف بحقوق المصطفى))([888]) صلى الله عليه وآله وسلم, فإنّه اجاد الكلام (1 في هذه المسألة, وليس يتّسع هذا المختصر لذكر جملة شافية مما ذكره؛ فإنّه نوّع الكلام في هذا المعنى وذكر[889]) الأقوال, والحجج, والتّأويل حتّى بلغ كلامه في هذا قدر [ستّين]([890]) ورقة بخطّ وسط, أو يزيد قليلاً بحسب اختلاف خطوط([891]) النّسخ وأوراقها, ومن كلامه فيه ما لفظه: ((أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات, ومستند الجمهور في ذلك الإجماع هو مذهب القاضي أبي بكر, ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع, وهو قول الكافّة, واختاره الأستاذ أبو اسحاق. وكذلك لا خلاف أنّهم معصومون من كتمان الرّسالة والتّقصير في التّبليغ)).
وذكر الإجماع على عصمتهم عن الصّغيرة التي تؤدّي إلى إزالة الحشمة, وتسقط المروءة وتوجب الخساسة. ثمّ قال: ((بل يلحق بهذا ما كان من قبيل المباح فأدّى إلى مثل ذلك ممّا يزري بصاحبه, وينفّر القلوب عنه)). ثمّ ذكر القاضي الخلاف في عصمتهم قبل النّبوّة حتّى قال: ((والصّحيح تنزيههم من كلّ عيب, وعصمتهم من كلّ ما يوجب الرّيب)). وذكر أيضاً قبل هذا عصمة الأنبياء –عليهم السّلام- من الصّغائر واختاره واحتجّ عليه.
وقال الفخر الرّازي في ((محصوله))([892]) ما لفظه: ((والذي نقول به: إنّه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا صغير, ولا كبير, وأمّا السّهو فقد يقع منهم بشرط أن يذكروه([893]) في الحال, وينبّهوا غيرهم على أنّ ذلك كان سهواً. وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام, ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم)).
وقال الإمام الحافظ أبو زكريا النّووي في كتاب ((الروضة))([894]): ((أنّ الأنبياء -عليهم السّلام- معصومون من تعمّد الذنوب؛ صغيرها وكبيرها)) هذا معنى كلامه, ولم يحضرني لفظه.
/ وقال ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى))([895]): ((الإجماع على عصمتهم بعد الرّسالة من تعمّد الكذب في الأحكام, والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسّة)).
وقال أبو عبد الله الذّهبيّ في ((النّبلاء))([896]) وقد ذكر ما معناه: تنزيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأكل مما ذبح على النّصب قبل النّبوّة, فقال ما لفظه: ((ومازال المصطفى محفوظاً محروساً قبل الوحي وبعده, ولو احتمل جواز ذلك, فبالضرورة ندري أنّه كان يأكل ذبائح قريش قبل الوحي, وكان ذلك على الإباحة, وإنّما توصف ذبائحهم بالتّحريم بعد نزول الآية, كما أنّ الخمرة كانت على الإباحة إلى أن نزل تحريمها بالمدينة بعد يوم أحد.
والذي لا ريب فيه أنّه كان معصوماً قبل الوحي وبعده, وقبل التّشريع من: الزنا قطعاً, ومن الخيانة, والغدر, والكذب, والسّكر, والسّجود لوثن والاستسقام بالأزلام, ومن الرّذائل, والسّفه, وبذاء اللسان, وكشف العورة, ولم يكن يطوف عرياناً, ولا يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة, بل كان يقف بعرفة)). انتهى الكلام الحافظ الذّهبيّ.
فهذا ما تيسّر لي من نقل نصوصهم وقت تعليق هذا الجواب, مع البعد من ديارهم, وعدم التمكن من الاستمداد من سائر مصنّفاتهم, ومن الأخذ عن محقّقي علمائهم, وقد بان بهذا أنّ جلّة أئمّتهم نصّوا في كتبهم المتداولة بينهم على عصمة الأنبياء من تعمّد الصّغيرة, وهذا هو المنصوص لعياض في كتاب ((الشّفاء)), وللرّازي في ((المحصول)), وللنّواوي في ((الرّوضة)), فبان بهذا أنّهم أكثر تنزيهاً للأنبياء –عليهم السّلام- من المعتزلة والزّيديّة, لأنّ مذهبهم تجويز تعمّد الصّغائر على الأنبياء –عليهم السّلام-, إلا [البغداديّة من المعتزلة]([897]) فإنّهم يمنعون ذلك, لأنّ كلّ عمد كبيرة عندهم لا لتنزيه الأنبياء من تعمّد الصّغيرة, وإنّما أتي صاحب الرّسالة في رميهم بهذه الضّلالة من سببين:
السبب الأول في غلط المعترض
|
|
السّبب الأوّل: أنّه رأى هذا المذهب منسوباً إلى الحشويّة فظنّ أنّ المحدّثين هم الحشويّة كما قد سمّاهم بذلك في رسالته, وليس عليه في مجرّد الجهل ذنب, فأكثر عامّة المسلمين لا يدرون من الحشويّة ولا يعرفون أنّ هذه النّسبة غير مرضيّة, وإنّما الذّنب الرّجم بالظّنون الكاذبة, والخوض مع أهل العلم بغير معرفة.
ومن كان له أدنى تمييز عرف أنّ نقّاد الحديث وأئمة الأثر أعداء الحشويّة, وأكره النّاس لهذه الطائفة الغويّة, فإنّ الحشويّة إنّما سمّوا بذلك لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أي: يدخلونها فيها وليست منها, رواه النّفيس العلوي عن نشوان بن سعيد الحميري([898]) , وذكر ولده محمد بن نشوان([899]) في كتابه ((ضياء الحلوم))([900]) ما يدلّ على ذلك فقال: ((إن الحشويّة سمّوا بذلك لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار)).
الثناء على أهل الحديث وذكر فنونهم
|
|
فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّ المحدّثين [هم]([901]) الذين اختصّوا / بالذّبّ عن السّنن النّبويّة والمعارف الأثريّة, وحموا حماها من أكاذيب الحشويّة, وصنّفوا كتب الموضوعات, وناقشوا في دقائق الأوهام حفّاظ الثّقات, وعملوا في ذلك أعمالاً عظيمة, وقطعوا فيها أعماراً طويلة, وقسّموا الكلام فيه في أربعة فصول:([902])
أحدها: معرفة العلل.
وثانيها: معرفة الرّجال.
وثالثها: معرفة علوم الحديث.
ورابعها: معرفة الحديث وطرقه.
واشتملت هذه الفنون من المعارف النّبويّة, والقواعد العلميّة على ما يضطرّ كلّ عارف إلى أنّهم أتمّ الخلق عناية بحماية علم الحديث على التّبديل والتّحريف, وأنّهم الجهابذة النّقاد بعلم المتن والإسناد, فإنّهم الذين بيّنوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم, مثل: التدليس والإعضال, والاضطراب والإعلال, والنّكارة والإرسال, والوصل والقطع, والوقف والرّفع, وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة, وفوائده العزيزة, ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه مسير([903]) الكواكب, وانتفع بكلامهم فيه الوليّ الصادق, والعدوّ المناصب, والمتّهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التّامّة, دع عنك أهل المعارف الخاصّة([904]) .
وذلك لأنّه لا خفاء على العاقل: أنّ أئمة الفنّ لا يكونون هم المتّهمين فيه, إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرّة, فإنّا لو اتّهمنا النّحاة في النّحو, واللّغويين في اللّغة, والفقهاء في الفقه, والأطبّاء في الطّبّ؛ لم يتعلّم جاهل, ولا تداوى مريض, فياهذا! من للحديث إذا ترك أهله!؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه؛ لأظلمت الدّنيا على طالبه, وأوحشت المسالك([905]) على مريده.
بل يا هذا! فكر لم سمّوا: أهل الحديث, ولم [سمّي]([906]) أهل الكلام بذلك, وكذلك أهل النّحو وسائر الفنون؟ فإن كان أهل الحديث عندك سمّوا بذلك مع عدم معرفتهم بذلك, وكذبهم فيه, فهلاّ جوّزت مثل ذلك في سائر الفنون, بل في سائر أهل الصّناعات, بل في جميع أهل الأسماء المشتقّات, فيجوز أن يسمى الفقيه نحويّاً, والمتكلم عروضيّاً, والغنيّ فقيراً, والصّغير كبيراً, وهذا ما لا يقول به عاقل, ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل.
ومن أحبّ أن يعرف حقّ المحدّثين واجتهادهم [في التّحرّي للمسلمين]([907]) , فليطالع تآليف نقادهم في الرّجال والعلل والأحكام, مثل: ((ميزان الاعتدال في نقد الرّجال)) للذّهبيّ, و((التهذيب)) للمزّيّ, و((العلل)) للدّارقطني, و((علوم الحديث)) لابن الصّلاح, وزين الدّين العراقي, وغير ذلك, ثمّ ليطالع بعد ذلك كتب ((الصّحاح)), و((السّنن)) لاحظاً لما فيها من اختيار أصحّ الأسانيد, والإشارة إلى مهمّات ما يتعلّق بالأحاديث: من العلل القادحة, والمرجّحات الواضحة, ثمّ ليوازم بينها, وبين مصنّفات سائر الفرق في الحديث, يجد الفرق بين التّصانيف واضحاً, والبون بين الرّجال نازحاً([908]) .
ومن موازين الإنصاف العادلة, وأدلّة الأوصاف الفاضلة: أنّك تراهم يضعّفون الضّعيف من فضائل أبي بكر, وعمر, / وعثمان –رضي الله عنهم- ويصدعون بالحقّ في ذلك, وكذلك يضعّفون ما يدلّ على مذهبهم متى كان ضعيفاً, ويضعّفون كثيراً من علمائهم إذا كانوا ضعفاء, نصيحة منهم للمسلمين, واحتياطاً في أمور الدّين.
وهذه إشارة مختصرة على (1 قدر هذا (المختصر)[909]) , دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليّات, ودافع ما هو كالمعارف الأوّليّات, إذ من المعلوم أنّ أهل الحديث اسم لمن عني به, وانقطع في طلبه, كما قال بعضهم:
تــركــوا الابـــتداع للاتّبـاع
|
|
إنّ علم الـحـــــديث علم رجال
|
وإذا أصـبحــوا غـــدوا للسّماع
|
|
فــإذا جــنّ لـيـلــهم كــتبوه
|
فهؤلاء هم من أهل الحديث من أي مذهب كانوا, وكذلك أهل العربيّة, وأهل اللّغة فإنّ أهل كلّ فنّ هم أهل المعرفة فيه, وتحقيق ألفاظه ومعانيه, وقد ذكر أئمة الحديث ما يقتضي ذلك, فإنّهم مجمعون على أنّ أبا عبد الله الحاكم بن البيّع من أئمة الحديث, مع معرفتهم أنّه من الشّيعة([910]) وقد ذكروا في كتب الرّجال كثيراً من أئمة الحديث, ورواة الصّحيح منسوباً إلى البدع, وبهذا تزداد أقوال المعترض بطلاناً في نسبة المحدّثين إلى الحشويّة, ويظهر ([911]) أنّه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه([912]) وسائر الفرق, بل نسبة ذلك إلى خير الفرق([913]) , فإنّ المتمسّكين بالآثار([914]) النّبويّة هم خير الفرق الإسلاميّة, لأنّهم أشبه الخلق خلقاً وسيرة وعقيدة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والمحدّث إن كان مراعياً للسّنّة, مجانباً للبدعة, ملاحظاً لما كان عليه السّلف, فهو جدير بإجماع من يعتدّ به على صحّة ما هو عليه وقوّة ما استند إليه.
وإن كان من بعض الفرق المبتدعة؛ فهو خير تلك الفرقة, وأشبههم خلقاً وسيرة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهذا هو الغالب, ولا عبرة بالنّادر ولا بمن ليس من أهل الدّيانة, فنسبة خير الفرق إلى شرّ فرقة تلقيبهم بأخسّ لقب؛ من التّهافت في مهاوي الضّلال, والخبط في تيه الوبال.
الكرّاميّة, وتجويزهم الكذب في الحديث, ورد المحدثين عليهم
|
|
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقاً, وتزيد أئمة الحديث توثيقاً, وهي: أنّ المشهورين بتجويز الكذب في الحديث من الحشويّة الطّائفة المسمّاة بالكرّاميّة, وقد أطلق([915]) الرّازي([916]) نسبة هذا إلى الكرّاميّة, وحقّقه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السّمعاني([917]) فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلّق بالأحكام مما يتعلّق بالتّرغيب والتّرهيب, والمحدّثون براء من هذه الطّائفة, وقد تكلّموا عليهم في غير كتاب فممن تكلّم عليهم الذّهبيّ في ((ميزان الاعتدال))([918]) , فإنّه قال في ترجمة ابن كرّام -شيخ هذه الطّائفة- ما لفظه: ((محمد بن كرّام العابد المتكلّم ساقط الحديث على بدعته, أكثر عن أحمد الجويباري, ومحمد بن تميم السّعديّ, وكانا كذّابين.
قال ابن حبان / : خُذل حتّى التقط من المذاهب أرداها([919]) , ومن الأحاديث أوهاها.
وقال أبو العبّاس([920]) : شهدت البخاريّ, ودفع إليه كتاب من ابن كرّام يسأله عن أحاديث منها: الزّهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)), فكتب البخاريّ على ظهر كتابه: من حدّث بهذا استوجب الضّرب الشّديد, والحبس الطّويل.
وقال ابن حبان: جعل ابن كرّام الإيمان قولاً([921]) بلا معرفة.
وقال ابن حزم: قال ابن كرّام: الإيمان قول باللّسان, وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث ابن الذّهبيّ: ((هذا منافق محض في الدّرك الأسفل من النار, فأيشٍ ينفع ابن كرّام أن يسميه مؤمناً؟ قال الذّهبيّ: وقد سجن ابن كرّام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في((تاريخي الكبير))([922]) )) انتهى كلامه.
فيا من لا يفرّق بين الحشويّ والمحدّث! انظر إلى نصوص أئمة الحفّاظ في إنكار مذهب ابن كرّام في رواية الأحاديث الواهية, وفي القول بالإرجاء, وقد نصّ البخاريّ علي: أنّ راوي الحديث المقدّم الذي هو حجّة المرجئة يستوجب الضّرب الشّديد, والحبس الطويل, وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدّثين, وقل لي من الذي حبس ابن كرّام في نيسابور على بدعته؟ ولمن كانت الشّوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المئتين؟
فإن قلت: إنّك إنّما سمّيت المحدّثين بالحشويّة: لكون الحشويّة من فرقهم, والجامع لهم: ردّهم لمذهب الشّيعة والمعتزلة.
قلت: هذا ليس مما تعذر به, فإنّ المنصور بالله روى عن المطرفية وهم من فرق الزّيديّة –أنّهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصره ما اعتقدوه حقّاً, وذكر أنّهم صرّحوا له بذلك في المناظرة, وقد صحّ عنهم من البدع ما هو شرّ من ذلك.
وكذلك الحسينية قد صحّ تواتر أنّهم يفضّلون الحسين بن القاسم([923]) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهم من فرق الزّيديّة, والزّيديّة يكفّرون هاتين الطّائفتين, فكم