الكاتب : فيصل نور ..
الخطبة القاصعة
الخطبة القاصعة وهي أطول خطبة في نهج البلاغة تتمحور حول مجموعة من القضايا الأخلاقية والتربوية وذم التكبّر الذي يُعد المحور الأساسي للخطبة، كما تتضمّن ذمّ إبليس على استكباره وتركه السّجود لآدم . ويعود إهتمامه بمعالجة آفة التكبر لما شاع منها في المجتمع الكوفي في السنين الأخيرة من حكمه مما انعكس على الساحة الإجتماعية وظهور حالة من الصراع والتفكك في المجتمع الكوفي، من هنا حاول اشعار الكوفيين بمسؤولياتهم وضرورة التمسك بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذه الخطبة اشارة الى ما أثاره الناكثون والقاسطون والمارقون من حروب وتأجيج الشارع ضد حكمه ومدى تصديه لهم، مبينا مدى التصاقه برسول الله وثباته على خط الرسالة وقيمها منذ نعومة اظفاره : "ًأَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ ومُضَرَ وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وآله- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَة" مع الاشارة الى بعض معاجز النبي التي جرت على يديه بحضور كبار القرشيين الذين طلبوا منه ذلك. المحتويات
تسلسل الخطبة في نسخ نهج البلاغة :
يختلف تسلسل الخطبة باختلاف نسخ نهج البلاغة، فهي :
تحمل الرقم 192 في المعجم المفهرس لنهج البلاغة لصبحي الصالح.
وتحمل الرقم 234 في النسخة التي حققها فيض الإسلام وفي شرح ابن ميثم البحريني.
وتحمل الرقم 191 في شرح نهج البلاغة لحبيب الله الخوئي والملا صالح.
وتحتل الرقم 185 في طبعة محمد عبده.
فيما تحتل الرقم 238 في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي.
والرقم 273 عند الملا فتح الله.
والرقم 190 في الشرح الموسوم بظلال نهج البلاغة.
وجه التسمية :
ذكر شراح نهج البلاغة عدة توجيهات لبيان وجه تسمية الخطبة بالقاصعة منها :
إنّه كان يخطبها على ناقته، وهي تقصع بجرّتها، فجاز أن يقال : إنّ هذه الحال لما نقلت عنه في اسناد هذه الخطبة نسبت الخطبة إلى الناقة القاصعة، فقيل : الخطبة القاصعة ثم كثر استعمالها، فجعلت من صفات الخطبة نفسها.
أنّ الخطبة عرفت بهذه الصفة لملازمة قصع الناقة لانشائها، والعرب تسمّي الشيء باسم لازمه.
لما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردده من أولها الى آخرها، شبهها بالناقة التي تقصع الجرة.
ويجوز أن تسمّى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس واتباعه من أهل العصبية، من قولهم قصعت القملة، إذا هشمتها وقتلتها.
ويجوز أن تسمّى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه، أي أذهبه وسكنه، قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى :
الحقب لم تقصع صرائرهابيت وقد تشح فلا ريّ ولا هيم. بيت
ويجوز أن تسمّى القاصعة، لأنها تتضمن تحقير إبليس واتباعه وتصغيرهم، من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته، وغلام مقصوع، أي قمئ لا يشب ولا يزداد.
السبب الداعي لالقائها :
نُقل في سبب هذه الخطبة : أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته قد فسدوا وكانوا قبائل متعدّدة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدنى مكروه فيستعدي قبيلته، وينادى باسمها مثلا يا للنخع أو يا لكنده نداء عاليا يقصد به الفتنه وإثارة الشرّ فيتّألب عليه فتيان القبيلة الّتي قد مرّ بها وينادون يا لتميم يا لربيعة فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته ويستصرخ بها وتسّل بينهم السيوف وتثور الفتنة، ولا يكون لها أصل في الحقيقة ولا سبب يعرف إلّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، وكثر ذلك منهم فخرج إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة.
مضامينها :
تتوفر الخطبة القاصعة على كثير من المضامين الإجتماعية والأخلاقية والتربوية والكلامية نشير الى نماذج منها.
الإشارات الأخلاقية
ومن تلك الاشارت التي توفرت عليه الخطبة :
رفض العصبية : كان لخطب الإمام ومنها الخطبة القاصعة الدور البارز في ذم العصبية السلبية وتعزيز الروح الإنسانية في المجتمع وبيان قبح التفاخر بأمور لا ينبغي للانسان جعلها المعيار في التفاضل والتفاخر، وأن العصبية والتعصب انتهاج للمنهج الشيطاني وسير على الجادة التي اختطها إبليس "ولو رخَّصَ اللهُ في الكبرِ لأحَد من عباده لرخَّصَ فيه لخاصَّةِ أَنبِيَائِهِ وأَوليائه".
الحث على التواضع : يحث أمير المؤمنين على التواضع والتذلل للمؤمنين والصالحين ويؤكد أن التواضع من الصفات التي ارتضاها سبحانه للأنبياء والصالحين "ورضِيَ لهم التَّوَاضُعَ، فأَلْصَقُوا بِالاَْرْضِ خُدُودَهُمْ، وعفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ. قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ- وامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ ومَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى والسُّخْطَ بِالْمَالِ والْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ- والِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى والِاقْتِدَار، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِم.
الحث على التعصب المحمود : قال مشيراً الى بعض انواع العصبية المحمودة : فَإِنْ كان لا بُدَّ من العصبِيَّةِ- فليكنْ تعصُّبُكُمْ لمكارمِ الخصالِ- ومَحَامدِ الأَفعالِ ومحاسنِ الأُمُور- الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ والنُّجَدَاءُ- مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ويَعَاسِيبِ القَبَائِلِ- بِالأَخْلاقِ الرَّغِيبَةِ والأَحْلامِ الْعَظِيمَةِ- والأَخْطَارِ الجَلِيلَةِ والآثَار المحْمُودَةِ- فَتَعَصَّبُوا لخلالِ الحمدِ من الحفظِ لِلْجِوَارِ- والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ والطَّاعَةِ لِلْبِرِّ- والْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ والأَخْذِ بِالْفَضْلِ- والْكَفِّ عن الْبَغْيِ والإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- والإِنصَافِ لِلْخَلْقِ والكَظْمِ لِلْغَيْظِ- واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْض.
اشارات أجتماعية
لتأكيد على الإتحاد والإلفة : لا شك أن الرسالة المحمدية التي مثلها أمير المؤمنين أفضل تمثيل تولي مفهوم الاتحاد أهمية كبيرة في أكثر من موضع، منها ما جاء في الخطبة القاصعة : فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ (يعني الأنبياء والصالحين) - وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ- وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ- من الاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ واللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ- والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا والتَّوَاصِي بِهَا- واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وأَوْهَنَ مُنَّتَهُم. التحذير من الفرقة والتشتت : حيث حذر من هذه الآفة التي تؤدي الى تفكك المجتمعات والشعوب وسقوط الدول، قائلا : فانظُرُوا إِلى ما صَارُوا إِليه في آخرِ أُمورهمْ (الأمم السابقة) حينَ وقعت الفرقةُ وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ- واختلفتِ الكلمةُ والأَفئدةُ- وتشعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وتفرَّقُوا مُتحاربِينَ- وقد خلعَ اللَّهُ عنهُمْ لباسَ كرامته- وسلبهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ- وبقي قصصُ أَخبارهمْ فيكم- عبراً للمُعْتَبِرِين. فَاعْتَبِرُوا بحال ولَدِ إِسماعِيلَ- وبني إِسحاقَ وبني إِسْرَائِيلَ - فما أَشدَّ اعتِدَالَ الأَحْوَالِ وأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ في حالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- ليالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ والْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ- يَحْتَازُونَهُمْ عن رِيفِ الْآفَاقِ وبَحْرِ الْعِرَاقِ- وخُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ- ومَهَافِي الرِّيحِ ونَكَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ ووَبَرٍ- أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً وأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً. الحث على الثبات في طريق الله : قال في وصف المؤمنين الذين صبروا على الأذى في حبّ الله وما ترتب عليه من ثمار عظيمة : حتَّى إِذا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ- والاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ البلاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ و الأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً و أَئِمَّةً أَعْلاماً- و قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ - ما لم تَذْهَبِ الآمَالُ إِلَيْهِ بِهِم.
اشارات كلاميٌة :
أشار سلام الله عليه في الخطبة القاصعة الى مجموعة من النكات الكلامية والعقائدية، منها :
الحكمة من وراء الاختبار والإبتلاء : ولكنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ ما يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاخْتِبَارِ لَهُمْ و نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وإِبْعَاداً لِلْخُيَلاءِ مِنْهُمْ.
الحكمة في فقر الأنبياء : قال : ولو أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لأَنْبِيَائِهِ- حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ- ومَعَادِنَ الْعِقْيَانِ ومَغَارِسَ الْجِنَانِ- وأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ ووُحُوشَ الأَرَضِينَ- لَفَعَلَ- ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وبَطَلَ الْجَزَاء- واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ- ولا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ-. ولَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ- وضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأُ الْقُلُوبَ والْعُيُونَ غِنًى- وخَصَاصَةٍ تَمْلأُ الأَبْصَارَ والأَسْمَاعَ أَذًى ولَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لا تُرَامُ وعِزَّةٍ لا تُضَامُ- ومُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ على الخلقِ في الاعْتِبَارِ- وأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ- ولآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِم.
الحكمة في تشييد الكعبة في أرض قفراء : فَجَعَلَهَا - الكعبة- بَيْتَهُ الحرَامَ الَّذِي جعلهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً- ثُمَ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً وأَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ قُطْراً- بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ورِمَالٍ دَمِثَةٍ وعُيُونٍ وَشِلَةٍ و قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ ولا حَافِرٌ ولا ظِلْفٌ ... ابْتِلاءً عَظِيماً وامْتِحَاناً شَدِيداً واخْتِبَاراً مُبِيناً وتَمْحِيصاً بَلِيغاً، وَلوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ومَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وأَنْهَارٍ وسَهْلٍ و قَرَارٍ جَمَّ الأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ورَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ ورِيَاضٍ نَاضِرَةٍ و طُرُقٍ عَامِرَةٍ، لكانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ البَلاءِ.
علل بعض التشريعات وحِكَمها : قال : ما حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ والزَّكَوَاتِ ومُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ في الأَيَّامِ المَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ وتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ ولِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً والْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً ولُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ و غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْفَقْر.
التذكير بحال المؤمنين وتعرضهم للبلاء : وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ والبَلاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الخَلائِقِ أَعْبَاءً وأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاءً وأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالا اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ و جَرَّعُوهُمُ الْمُرَار.
النبي والتربية الإلهية :
يشير الى الرعاية الإلهية والتربية الربانية للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قائلا : ولَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ ونَهَارَه. ومن معالم التربية النبوية إليه :
تتلمّذه على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
بين علاقته بالنبي ومدى التصاقه به وتلمّذه عليه بقوله : وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ- ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ويُمِسُّنِي جَسَدَهُ- ويُشِمُّنِي عَرْفَهُ- وكانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ- ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- ويَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ- ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لا يَرَاهُ غَيْرِي- وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ- غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا.
رؤية الوحي وسماع صوته :
يشير الى قضية مهمة في الخطبة تكشف عن المرتبة الإيمانية العالية التي وصل إليها والمكانة السامية التي حظي بها الى جنب النبي، وهي أنّه بلغ مرتبة من الرقي الإيماني يصفها بقوله : أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ- ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ - فَقَالَ : هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ- وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر.
معجزة إنقلاع الشجرة :
وفي ختام الخطبة بيّن معجزة عظيمة وقعت على يدي الرسول بعد أن طلب منه كبار القرشيين ذلك، حيث قال : ولَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ- فَقَالُوا لَهُ : يا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً- لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ و لا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ- ونَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وأَرَيْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ ورَسُولٌ- وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَال صلى الله عليه وآله وسلم : ومَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا : تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : "إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ"- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟ قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ : فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ- وإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ…ومَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ. ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ- إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ- وتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ- حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وجَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ- وقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مُرَفْرِفَةً- وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم - وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ صلى الله عليه وآله وسلم. فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً : فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا ويَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا- كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً- فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالُوا كُفْراً وعُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كان- فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وآله وسلم فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا : لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وإِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ : كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ- عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ- وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي.
التراجم :
ترجمت الخطبة بالاضافة إلى ترجمتها ضمن نهج البلاغة بتراجم مستقلة، منها :
ترجمة إلى الفارسية تحت عنوان " قصة التحدي مع الشيطان"، المترجم مؤسسة نهج البلاغة.
شروح الخطبة :
تعرّض الكثير من الأعلام لشرح الخطبة القاصعة بصورة مستقلة، منها :
-
دروس من نهج البلاغة، شرح الخطبة القاصعة للشيخ حسين علي المنتظري.
-
شرح الخطبة القاصعة باللغة الفارسية، للملا عبد الكريم بن محمد يحيى القزويني من علماء القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
-
شرحت تحت عنوان الإستكبار في نظر أمير المؤمنين ، بقلم يد الله الإحساني.
-
شرح الخطبة القاصعة، تحت عنوان " استراتيجية شاملة للوحدة الإسلامية والتغلب على الضد النوعي والعدو الأجنبي، بقلم غلام حسين كميلي.