الكاتب : فيصل نور ..
أمر بين الأمرين
أمر بين الأمرين هو عقيدة الشيعة في مسألة أفعال الإنسان الإختيارية وتقابل عقيدة الجبر وعقيدة التفويض. حيث طرحت في الساحة الاسلامية وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من المسائل العقائدية كمسألة كيفية صدور الفعل من الإنسان، حيث ذهب فريق إلى اختيار عقيدة الجبر، وقالوا بأن الإنسان فاعل مجبور، مسير. وفي المقابل ذهب فريق آخر إلى اختيار نظرية مخالفة، وقالوا إنّ الإنسان كائن متروك لحاله، ومفوّض إليه، وأنّ أفعاله لا تستند إلى الله مطلقاً.
في حين تبنّت المدرسة الإمامية موقفاً وسطاً انطلاقا بزعمهم من روايات أهل البيت يقوم على أساس قاعدة : "لا جبْر ولا تفويض، ولكن أمر بين الأمرين".
يعني أنّ فعل الإنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد، مستند إلى الله أيضاً، لأنّ الفعل صادر من الفاعل، وفي نفس الوقت يكون الفاعل وقدرته مخلوقين لله تعالى، وأن الفعل تتدخل فيه إرادتا الله والإنسان معاً.
أوّل من طرح نظرية أمر بين الأمرين حسب اعتقاد الشيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما قام إليه رجل ممنْ شهد وقعة الجمل فقال : "يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر. فقال: بحر عميق فلا تلجْه". فقال: "يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر". فقال: "بيت مظْلم فلا تدْخلْه". فقال: "يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر". فقال: "سر الله فلا تبحثْ عنه". فقال: "يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر". "فقال لما أبيْت فإنه أمْر بيْن أمْريْن لا جبْر ولا تفْويض".
وهناك روايات كثيرة في هذا المجال عن الصادق والرضا، وجاء عن الإمام الهادي شرح مفصّل لهذه النظرية أيضاً.
توضيح النظرية :
المراد من الأمرين الجبر والتفويض حيث ذهب أصحاب النظرية الأوّلى إلى سلب إرادة الإنسان وأنّ الفعل صادر حقيقة عن الله تعالى وأنّ الانسان مجرّد وعاء للفعل؛ فيما ذهب أصحاب نظرية التفويض الى القول بأنّ الفعل صادر من الانسان فقط؛ لأنّ الله تعالى قد فوّض للإنسان بعد خلقه جميع أعماله من دون تدخل للإرادة الإلهية في ذلك الفعل وإنّما ينحصر عمل الله تعالى بخلق الانسان وقدرته فقط.
أما نظرية الأمر بين الأمرين فقد حاولت رفع عمومية النظريتين فلا سلب إرادةٍ مطلق ولا تفويض فعلٍ مطلق بل فعل الإنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد، مستند إلى الله أيضاً وأنّ الفعل تتدخل فيه إرادتا الله والانسان معاً.
ولما كانت القضية مورد ابتلاء جميع المؤمنين بها من هنا وقعت مثار جدل بين الملل والنحل كافة وعلى مرّ التاريخ.
والأمر الآخر الذي يضفي على المسألة أهمية كبرى كونها تتوفر على البعدين العملي والنظري معاً.
ولها ارتباط وثيق بمسألة العدل الإلهي فهناك رابطة مباشرة بين الاختيار والعدل من جهة والجبر ونفي العدل من جهة أخرى، أي عندما يكون الإنسان مختارا فإنّه يصبح للجزاء والمكافأة العادل مفهوم ومعنى. أما الانسان المسلوب الإرادة والمحروم من الحرية أو الذي يقابل الإرادة الالهية أو العوامل الطبيعية مغلول اليدين مغمض العينين فإنّه لا معنى لتكليفه ولا معنى للجزاء بالنسبة اليه.
ولاريب أنّ نظرية أمر بين الأمرين ذات انعكاسات إيجابية كثيرة على المستويين الاجتماعي والعقائدي ونفي اللوازم الباطلة لنظريتي الجبر والتفويض معاً.
رأي المذاهب الأخرى :
تبنّى الفلاسفة والمتكلمون الإمامية نظرية أمر بين الأمرين.
كذلك نرى المذهب الماتريدي رغم قوله بنظرية الكسب الا أنّه فسّر الكسب بنحو ينسجم مع مذهب الإمامية في مسألة الأمر بين الأمرين فقد ذهب أبو منصور الماتريدي إلى القول بأنّ فعل الانسان معلول للقدرة الإلهية الخالقة ومعلول لقدرة الانسان الفاعل مستدلاً بمجموعة من الآيات والأحاديث بالإضافة إلى كون القضية عنده من الوجدانيات، وأنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب.
وهذا المعنى يظهر من كلمات أتباعه كالملا علي القاري والبياضي والبزدوي الذي جعل قول الماتريديّة في مقابل قول الأشعري- القائل بالجبر- وهو يترجم مذهبه بما يلي: "قال أهل السنّة والجماعة : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ومفعوله، والله هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل الله تعالى".
وهكذا فعل البياضي عند إشارته لرواية الإمام الباقر مصرحاً بقبولها.
كذلك نرى المدرسة الطحاوية- أتباع أبي جعفر المصري الطحاوي (229 - 321 هـ) - تنسجم في هذه المسألة مع ما ذهبت إليه المدرسة الإمامية.
ويظهر تبنّي تلك النظرية من بعض متكلمي الأشاعرة وإن لم يستعملوا مفردة الأمر بين الأمرين كشمس الدين محمود الاصفهاني وعبد الوهاب الشعراني والزرقاني ومحمد عبده ومحمود شلتوت.
أدلة القول بالأمر بين الأمرين :
استند أصحاب النظرية المذكورة الى مجموعة من الآيات والروايات بالإضافة الى الدليل العقلي البرهاني.
آيات الذكر الحكيم :
ومن تلك الآيات قوله تعالى في سورة الفاتحة "إيّاك نعبد وإياك نستعين".
فالآية لا تنسجم مع القول بالجبر؛ إذ لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال الانسان ولا دخل لإرادة الانسان في الفعل فلا معنى حينئذ لنسبة العبادة لنفسه في قوله "إياك نعبد"؛ وكذلك لا تنسجم الآية مع القول بالتفويض إذ لا معنى للاستعانة بموجود لا يمكنه التدخل والإعانة على الفعل، يضاف الى ذلك اذا كان اللّه تعالى هو بنفسه خالق الكفر والايمان والمعاصي فكيف يستعان به للتخلص من الكفر والمعاصي.
وقد استدل الإمام الصادق بهذه الآية حينما قال للقدري : "اقرأ سورة الحمد". فقرأها، فلمّا بلغ قول الله تبارك وتعالى: "إيّاك نعبد وإيّاك نستعين" فقال جعفر بن محمد : "قف! من تستعين؟ وما حاجتك إلى المؤونة أنّ الأمر إليك"، فبهت الرجل.
ومنها قوله تعالى في الآية 17 من سورة الانفال: "فلمْ تقْتلوكمْ ولكنّ اللّه قتلهمْ وما رميت إذْ رميت ولكن اللّه رمى".
فترى أنه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى ذاته، كما هو مفاد الآية، ولا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلا على القول بالأمر بين الأمرين، وهو أن نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة، دون اللّه سبحانه. ومثله في جانبه تعالى. فلأجل ذلك تصح النسبتان، كما يصح سلبه عن أحدهما وإسناده إلى الآخر. فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما نسبة المعلول إلى العلّة التامة، لم يكن مجال إلا لأحداهما.
وبعبارة أخرى: الآية تصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرمي وتنسبه إليه حقيقة وتقول: "إذ رميت"، لكنها تصف الله سبحانه بأنّه الرامي الحقيقي وما ذلك إلّا لأن النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له، وكان مفيضاً لها عليه حين الفعل، فيكون فعله فعلا لله أيضاً.
وهناك مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله، وهي كثيرة منها :
قوله سبحانه: "منْ عمل صالحاً فلنفْسه ومنْ أساء فعليْها وما ربك بظلامٍ للْعبيد"
ومنها قوله سبحانه: "وأن ليْس للإنسان إلا ما سعى".
في المقابل هناك طائفة من الآيات تصرّح بأن كل ما يقع في الكون من دقيق وجليل لا يقع إلّا بإذنه سبحانه ومشيئته، وأن الإنسان لا يشاء لنفسه إلا ما شاء اللّه له كقوله تعالى: "وما أرْسلْنا منْ رسول إلاّ ليطاع بإذْن اللّه" وقوله تعالى "وما تشاؤون إلا أنْ يشاء اللّه رب العالمين".
فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر وتفنّده، كما أن المجموعة الثانية تردّ التفويض وتبطله، ومقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر فيها ليس إلا التحفظ على النسبتين وأن العبد يقوم بكل فعل وترك، باختيار وحرية، لكن بإقدار وتمكين منه سبحانه، وأن إرادة العبد في طول إرادة الله تعالى، فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله وتركه. فهو يعمل في ظلّ عناياته وتوفيقاته.
الأحاديث :
تعرّضت الروايات لهذا الموضوع في أكثر من موضع منها باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين وباب المشيئة والإرادة، وباب الاستطاعة ويمكن تقسيمها الى خمس طوائف، هي:
الطائفة الأولى: الروايات التي ترى القول بالجبر منافياً للتكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب، ومنافيا للحكمة الالهية.
الطائفة الثانية: الروايات التي ترى أنّ القول بالجبر والقدر منافيا لعموم القدرة الالهية مع عدم انسجامها مع التوحيد في الخالقية والتدبير.
الطائفة الثالثة: الطائفة التي تجعل العقيدة الحقّة وسطاً بين الجبر والتفويض.
الطائفة الرابعة: الروايات التي ترى أنّ قضية الْقدر بحر عميق وطريق مظلم وسر الله وأنّه يكفي للمؤمن الايمان ببطلان الجبر والتفويض.
الطائفة الخامسة: الروايات التي قربت فكرة الأمر بين الأمرين لأذهان عموم الناس من خلال المثال.
توضيح الأحاديث :
روى الصدوق عن المفضل بن عمر، عن أبي عبداللّه الصادق قال: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين" قال: فقلت: "وما أمر بين أمرين؟" قال: "مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصيةٍ فنهيْته فلم ينته، فتركْته، ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقْبلْ منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية".
قال الملا صدرا معلقا على الحديث: "فمن حيث نهيته لم تفوض له الفعل ومن حيث تركك الأمر وفسح المجال له لم تجبره".
وروى الصدوق عن البزنطي أنه قال لأبي الحسن الرضا : "إن أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: "اكتب: قال اللّه تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ما أصابك منْ حسنةٍ فمن الله وما أصابك منْ سيئةٍ فمنْ نفْسك وذلك أني أوْلى بحسناتك منك وأنْت أوْلى بسيئاتك مني وذلك أني لا أسْأل عما أفْعل وهمْ يسْألون".
والرواية صريحة في كون المشيئة والقوة أمرين ضروريين في وجود الانسان وكلاهما من الله تعالى؛ وذلك أنّ المشيئة الإلهية تعلّقت في كون الإنسان ذا مشيئة وإرادة، وأنّه تعالى وهب الإنسان القوة اللازمة لإنجاز الفعل، ومن هنا فالإنسان ليس بغنى عن هاتين الحيثيتين وعليه تنسب حسانته الى الله تعالى فيما اذا استعملهما في معصية الله لأنه الواهب لهاتين الخصوصيتين والآمر بالحسنات.
أمّا السيئات فإنّ الله تعالى واهب القوة والإرادة من جهة ونهاه عن المعاصي من جهة أخرى ولمصلحة لم يضع المانع أمام تحققها من هنا تنسب الأفعال الى العباد وهم الأولى بها.
الدليل العقلي :
ساق الفلاسفة والمتكلّمون مجموعة من البراهين العقلية لإثبات نظرية الأمر بين أمرين، منها:
ما ساقه المتكلّمون من أنّ نسبة إرادة الله والانسان للفعل لها أربع صور :
-
إما أن يكون الفعل ناتجا عن إرادة الله تعالى وحده فهذا هو الجبر.
-
وإما أن يكون ناتجا عن إرادة الانسان فقط فهذا هو التفويض،
-
وإمّا أن تشترك الإردتان في تحققه وهو الأمر بين الأمرين،
-
وإمّا أن يصدر بلا إرادة فهذا خلاف المفروض.
أما الفلاسفة فقد ساقوا الدليل بالنحو التالي :
إن قدرة الله تعالى على الأشياء وقبول الأشياء له لا تخرج عن قابلياتها المتفاوتة بحسب الإمكانات فبعضها صادرة عنه بلا سبب وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلا بعد سبق أمور هي أسباب وجوده وهو مسبب الأسباب من غير سبب وليس ذلك لنقصان في القدرة بل النقصان في القابلية وكيف يتوهم النقصان والاحتياج مع أن السبب المتوسط أيضا صادرة عنه فالله سبحانه غير محتاج في إيجاد شي ء من الأشياء إلى أحد غيره وقالوا: لا ريب في وجود موجود- على أكمل وجه في الخير والجود ولا في أن صدور الموجودات عنه يجب أن يكون على أبلغ النظام فالصادر عنه إما خير محض كالملائكة و من ضاهاها وإما ما يكون الخير فيه غالبا على الشر كغيرهم من الجن والإنس فيكون الخيرات داخلة في قدرة الله بالأصالة والشرور اللازمة للخيرات داخلة فيها بالتبع ومن ثم قيل إن الله يريد الكفر والمعاصي الصادرة عن العباد لكن لا يرضى بها على قياس من لسعت الحية إصبعه- وكانت سلامته موقوفة على قطع إصبعه فإنه يختار قطعها بإرادته لكن بتبعية إرادة السلامة ولولاها لم يرد القطع أصلا فيقال هو يريد السلامة ويرضى بها ويريد القطع- ولا يرضى به إشارة إلى الفرق الدقيق وأنت تعلم أن هذا المذهب أحسن من الأولين وأسلم من الآفات وأصحّ عند ذوي البصائر النافذة في حقائق المعارف فإنه متوسط بين الجبر والتفويض وخير الأمور أوسطها.