الكاتب : فيصل نور ..
تقليد الميت
تكلمنا بإيجاز عن هذه المسألة في مادة "التقليد"، وذكرنا أن علماء الشيعة وفقهائهم قد اختلفوا في هذه القضية إلى عدة أقوال. فمنهم من:
أجاز الرجوع في التقليد إلى الميت ابتداءً، غير أن هذا الرأي لا يعتدّ به عند المراجع الحاليين، وتتميز المدرسة الأخبارية بأن معظم المراجع المنتسبين إليها يجيزون تقليد الميت ابتداءً، والمدرسة الأخبارية حالياً ليس لها أي مرجع حي فكل العوام المنتسبين إليها يرجعون في التقليد إلى مراجع متوفين كيوسف البحراني والحر العاملي وحسين العصفور وغيرهم، ولم تتفرد المدرسة الأخبارية في قولها بجواز تقليد الميت، فهناك عدد قليل من الأصوليين شذّوا عن العموم وذهبوا إلى القول بجواز تقليد الميت.
ومنهم من ذهب إلى وجوب تقليد الحي وحرمة تقليد الميت مطلقاً، وممن ذهب إلى هذا الرأي من المراجع المعاصرين صادق الروحاني، وبشير النجفي.
ومنهم من يرى تقليد الميت استدامةً أو البقاء على تقليد الميت. ومعظم مراجع الشيعة الحاليين على هذا الرأي بحيث أن المُكلّف لو قلّد مرجعاً في حال حياته فإنه من الممكن أن يبقى على تقليده بعد وفاة هذا المرجع، بل إنّ بعضهم يوجب تقليد الميت (استدامةً) إذا ابتدأ المُكلّف بتقليده في حال حياته وإحرازه شرط الأعلمية فيه. وقد أفتى بجواز تقليد الميت استدامةً محمد الصدر، وصادق الشيرازي، وشمس الدين الواعظي.
وقد أسهب علماء الشيعة في مصنفاتهم في الكلام في مسألة تقليد الميت، وإليك أنموذجاً من ذلك.
يقول الخوئي[1] : قد اختلفوا في اعتبار الحياة في من يرجع إليه في التقليد وعدمه، على أقوال ثلاثة:
أحدها: جواز تقليد الميت مطلقاً إبتداءً واستدامة. ونسب ذلك إلى الأخباريين ووافقهم من الاُصوليين المحقق القمي في جامع الشتات في موردين حيث سئل في أحدهما عن جواز الرجوع إلى فتوى ابن أبي عقيل؟ فأجاب بما حاصله: أن الأقوى عندنا جواز تقليد الميت بحسب الابتداء فلا مانع من الرجوع إليه. وقال في ثانيهما: إن الأحوط الرجوع إلى الحي، والاحتياط في كلامه من الاحتياط المستحب لافتائه بجواز تقليد الميت ابتداء.
وثانيهما: عدم جواز تقليد الميت مطلقاً.
وثالثهما: التفصيل بالمنع عن جواز تقليد الميت ابتداءً، والقول بجوازه بحسب البقاء.
وتحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعي التكلم في مقامين:
تقليد الميت إبتداءً
ذهبت العامة – أي أهل السنة - إلى جوازه ومن ثمّة قلّدوا أشخاصاً معيّنين من أموات علمائهم، ووقع ذلك عند أصحابنا مورد الكلام، والمشهور بل المتسالم عليه عندهم عدم الجواز، ونسب القول بالجواز إلى المحدّثين وإلى الميرزا القمي كما مرّ. والصحيح، أن خلافه كمخالفة المحدّثين غير مانعين عن دعوى التسالم على عدم مشروعية تقليد الميت إبتداءً، وسرّه أن المحقق القمى إنما جوّز تقليد الميت بحسب الابتداء تطبيقاً للمسألة على مسلكه وجرياً على ما هو الصحيح عنده من إنسداد باب العلم بالأحكام، وأن الامتثال الجزمي وهو الاحتياط متعذر على المكلفين، وأن العقل يتنزل معه إلى امتثالها ظناً، لأنّه المقدور في حقهم فالمتعين على المكلفين إنما هو العمل بالظن، بلا فرق في ذلك بين الظن الحاصل من فتاوى العلماء الأحياء وبين الظن الحاصل من فتاوى أمواتهم.
وهذا فاسد مبنى وبناءً، أمّا بحسب المبنى، فلما ذكرناه فى بحث الانسداد من أن دعوى انسداد باب العلم بالأحكام فاسدة من أساسها، حيث إنها تبتني على أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
أحدهما: دعوى عدم حجية الظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.
وثانيهما: البناء على عدم حجية الخبر الموثوق به. وقد أثبتنا في محله حجية كل من الظواهر والخبر الموثوق به، وقلنا إن حجية الظواهر غير مختصة بمن قصد إفهامه والخبر الموثوق به كالمقطوع صحته، فدعوى الانسداد فاسدة مبنىً.
وأمّا بحسب البناء، فلأنّ لو سلّمنا إنسداد باب العلم كما يراه، فهذا إنما يقتضي اعتبار الظن على خصوص المجتهد، لأنه حينئذ يجب أن يعمل بظنه الحاصل من الأدلة، وأما العامّي فلا، لأنه كيف يحصل له الظن بالحكم الواقعي من فتوى الميت عند مخالفة الأحياء، بل الأموات أيضاً معه في المسألة، وبالأخص إذا كان الأحياء بأجمعهم أو بعضهم أعلم من الميت، والاختلاف في الفتوى بين العلماء مما لا يكاد يخفى على أحد، ومعه لا يحصل للعامّي أيّ ظن بأن ما أفتى به الميت مطابق للواقع، وأن فتوى غيره من الأموات والأحياء مخالف له كيف فإنه يحتمل خطأه حينئذ.
فالصحيح بناء على هذا المبنى الفاسد، أن يقال: إن العامي يجب عليه العمل على فتوى المشهور في المسألة، لأن فتواهم مفيدة للظن في حقه، هذا كلّه بالنسبة إلى خلاف المحقق القمي.
وأما مخالفة المحدّثين فهي أيضاً كذلك، وذلك لأنهم إنما رخّصوا في تقليد الميت بحسب الابتداء، بناءً على مسلكهم من إنكار مشروعية التقليد بالكلية، وأن رجوع العامّي إلى المجتهد إنما هو من باب الرجوع إلى رواة الحديث، كما في رواية إسحاق بن يعقوب : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا. فالمفتي ينقل الرواية لا أنه يفتي حقيقة حسب رأيه ونظره، ومن الظاهر أن حجية الرواية وجواز العمل بها لا يتوقفان على حياة الراوي بوجه، لأنها حجة ويجوز العمل بها كان المحدّث حياً أو ميتاً.
وهذه الدعوى أيضاً فاسدة مبنىً وبناءً، أما بحسب المبنى، فلما أسلفناه من أن المستفاد من الآيات والروايات أن الرجوع إلى المجتهد إنما هو من أجل أنه أهل الخبرة والاطلاع، وأن لنظره دخلاً في جواز الرجوع إليه، لا أنه من جهة كونه راوي الحديث. وقد دلت آية النفر على أن إنذار الفقيه حجة، ومعناه أن الفقيه بما أنه فقيه وناظر في الأخبار وقد جمع بين متعارضاتها وخصص عموماتها وقيّد مطلقاتها يجوز الرجوع إليه، فإنه لا يعتبر الفقاهة في الراوي كما مرّ، فهو من رجوع الجاهل إلى العالم والفقيه، لا من رجوع العامّي إلى رواة الحديث. فهذه الدعوى غير تامة مبنىً.
وأما بحسب البناء، فلأن لو سلّمنا أن الرجوع إلى المجتهد من باب الرجوع إلى راوي الحديث، فلا يمكننا إرجاع العامّي إلى فتوى الميت بعنوان راوي الحديث وذلك لأن كل شخص عامّي أو غيره على علم من أن المسائل الشرعية مورد الخلاف بين العلماء للاختلاف في مداركها وأخبارها، وبالأخص إذا كان ممن له حظ من العلم وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، لأنه إذا رجع إلى الكتب الفقهية رأى أن للشهيد قولاً وللشيخ قولاً آخر وهكذا، ومع فرض التعارض في الأخبار لا يجوز للعامّي كالمجتهد أن يرجع إلى شيء من المتعارضات. بل لا بدّ من ملاحظة المرجحات والأخذ بما له مرجح من المتعارضين، وعلى تقدير تكافئهما يلاحظ أن مقتضى القاعدة هو التساقط أو التخيير. فعلى القول بأن الرجوع إلى المجتهد من الرجوع إلى راوي الحديث، وفرض عدم المرجح في البين، والقول بأن القاعدة تقتضي التخيير في المتكافئين، لا بأس برجوعه إلى فتوى الميت فلا مجوّز للحكم بجواز رجوعه إلى الميت على نحو الاطلاق.
وملخص الكلام: أن مخالفة المحدّثين والمحقق القمي ليست مخالفة في المسألة ومحل الكلام، إذ لعلّها مبتنية على مسلكهما كما مرّ، وأمّا أن المحقق لو كان بانياً على الانفتاح، والمحدّثين لو كانوا بانين على أن الرجوع إلى المجتهد من باب الرجوع إلى العالم وأهل الاطلاع، كانا يجوّزان تقليد الميت إبتداءً فلا علم لنا به، وكيف كان فلا بدّ من التكلم فيما استدل به على جواز تقليد الميت إبتداءً.
أدلّة جواز تقليد الميِّت ابتداءً
أدلة المثبتين. وقد استدلوا عليه بوجوه:
منها: دعوى أن الآيات والروايات الواردة في حجية فتوى الفقيه غير مقيّدة بحال الحياة، فمقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق في حجيتها بين الحياة والممات، لأنها كما تشمل فتوى المجتهد الحي كذلك تشمل فتوى المجتهد الميت، فالنتيجة هو التخيير لا محالة.
ويدفعه: أن الآيات والروايات على تقدير إطلاقهما وشمولهما فتوى الميت في نفسها لا يمكن التمسك بهما في المقام، وذلك لما مرّ من أن العلماء أحياءهم وأمواتهم مختلفون في المسائل الشرعية ومع مخالفة فتوى الميت لفتوى الأحياء، بل مخالفتها لفتوى الأموات بأنفسهم، لا تشملها الاطلاقات بوجه لعدم شمول الاطلاق للمتعارضين، هذا.
على أن الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه وجواز الرجوع إليه لا إطلاق لها من تلك الناحية ليشمل فتوى الميت في نفسها، وذلك لأنها إنما دلت على وجوب الحذر عند إنذار المنذر والفقيه، أو على السؤال من أهل الذكر، أو على الرجوع إلى راوي الحديث أو الناظر في الحلال والحرام، أو غير ذلك من العناوين الواردة في الأخبار ولا شبهة في أن القضايا ظاهرة في الفعلية، بمعنى أن قولنا مثلاً: العالم يجب إكرامه ظاهره أن من كان متصفاً بالعلم بالفعل هو الّذي يجب إكرامه، لا الأعم من المتلبس بالفعل، ومن انقضى عنه التلبس. إذن مقتضى الأدلة المتقدمة أن من كان متصفاً بالانذار فعلاً أو بالفقاهة أو العلم أو غيرها من العناوين بالفعل، هو الّذي يجوز تقليده. ولا إشكال في أن الميت لا يتّصف بالانذار أو أهل الذكر أو بغيرهما من العناوين المتقدمة بالفعل، وإنما كان منذراً أو فقيهاً سابقاً إذ لا إنذار للميت، ولا أنه من أهل الذكر إلى غير ذلك من العناوين المتقدمة، وقد عرفت أن الأدلة غير شاملة لمن لم يكن متصفاً بالعناوين المأخوذة في الموضوع بالفعل.
وعلى الجملة، أن الميت لما لم يكن منذراً أو متصفاً بغيره من العناوين المتقدمة بالفعل، لم تشمله الأدلة القائمة على حجية فتوى المنذر، ففتوى الميت خارجة عن مداليل الأدلة رأساً. ولا نريد بذلك دعوى أن الحذر يعتبر أن يكون مقارناً للانذار وحيث إن هذا لا يعقل في فتوى الميت فإن الحذر متأخر عن إنذاره لا محالة فلا تشمله المطلقات، بل نلتزم بعدم اعتبار التقارن بينهما قضاءً لحق المطلقات لعدم تقييدها بكون أحدهما مقارناً للآخر.
وإنما ندعي أن فعلية العناوين المذكورة وصدقها بالفعل، هي المأخوذة في موضوع الحجية بحيث لو صدق أن الميت منذر بالفعل أو فقيه أو من أهل الذكر كذلك، وجب الحذر من إنذاره وحكمنا بحجية فتواه وإن لم يكن الحذر مقارناً لانذاره، كما إذا لم يعمل المكلف على طبقه بأن فرضنا أن المجتهد أفتى وأنذر وشمل ذلك زيداً مثلاً ثمّ مات المجتهد قبل أن يعمل المكلف على طبق فتواه، فإنه حجة حينئذ، لأن إنذاره المكلف إنما صدر في زمان كان المجتهد فيه منذراً بالفعل أي كان منذراً حدوثاً وإن لم يكن كذلك بحسب البقاء، ويأتي في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت أن هذا كاف في حجية الفتوى، ومن هنا قلنا إن المقارنة بين الانذار والحذر غير معتبرة لاطلاق الأدلة من تلك الجهة. وأما إذا لم يصدق المنذر أو الفقيه أو بقية العناوين المتقدمة على الميت ولو بحسب الحدوث كما في التقليد الابتدائي، نظير فتوى ابن أبي عقيل بالإضافة إلى أمثالنا فلا تشمله المطلقات لأن إنذاره ليس من إنذار المنذر أو الفقيه بالفعل.
ثمّ إن بما سردناه ظهر الجواب عن الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين كزكريا بن آدم، ومحمّد بن مسلم، وزرارة وأضرابهم حيث إن ظهورها في إرادة الارجاع إلى الحي غير قابل المناقشة، لأنه لا معنى للارجاع إلى الميت والأمر بالسؤال أو الأخذ منه، وذلك لوضوح أن الارجاع فيها إنما هو إلى هؤلاء الأشخاص بأنفسهم، لا أن الارجاع إلى فتاواهم ليقاس ذلك بالأخبار ويدعى أن الفتوى كالرواية لا يفرق الحال في حجيتها بين أن يكون المفتي حياً أو ميتاً، كما هو الحال في راوي الحديث. إذن لا موضوع للارجاع بعد موتهم فهذا الوجه غير تام.
ومنها: السيرة، بتقريب أن العقلاء قد جرت سيرتهم على رجوع الجاهل إلى العالم، ولا يفرّقون في ذلك بين العالم الحي والميت، ومن هنا لو مرض أحدهم وشخّص مرضه لرجعوا في علاجه إلى القانون وغيره من مؤلفات الأطباء الأموات من غير نكير، وحيث لم يردع عن هذه السيرة في الشريعة المقدسة فنستكشف أنها حجة وممضاة شرعاً.
ويرد على هذا الوجه: أن جريان السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً وإن كان غير قابل للمناقشة، إلاّ أنها لو لم تكن مردوعة بما يأتي من أن الأدلة الواردة في حجية فتوى الفقيه ظاهرة في فتوى أحيائهم، لا تقتضي جواز تقليد الميت في نفسها وذلك لما مرّ من أن العامّي فضلاً عن غيره لا تخفى عليه المخالفة بين العلماء الأموات والأحياء في المسائل الشرعية بل بين الأموات أنفسهم، ومع العلم بالمخالفة لا تشمل السيرة فتوى الميت بوجه، لأن الأدلة ومنها السيرة غير شاملة للمتعارضين.
ومنها: الاستصحاب، وذلك للقطع بحجية فتوى الميت قبل موته فإذا شككنا في بقائها على حجيتها وعدمه، إستصحبنا حجيتها وبه يثبت أن العمل على فتوى الميت مؤمّن من العقاب. نعم، لولا هذا الاستصحاب تعيّن الرجوع إلى فتوى الحي بمقتضى قاعدة الاشتغال لأنها المتيقنة من حيث الحجية، وهذا بخلاف فتوى الميت للشك في حجيتها بموته.
والجواب عن ذلك: أنا لو أغمضنا عن أنه من الاستصحابات الجارية في الأحكام لوضوح أن الشك إنما هو في سعة الحجية المجعولة وضيقها، وقد بيّنا في محله عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، وفرضنا أن لنا يقيناً سابقاً بحجية فتوى الميت بالإضافة إلى الجاهل المعدوم في عصره، بأن بنينا على أن حجية فتوى الميت إنما جعلت في الشريعة المقدسة على نحو القضايا الحقيقية، وموضوعها الجاهل المقدّر الوجود لتشمل الجاهل الموجود في عصر المجتهد الميت والجاهل المعدوم الّذي سيوجد بعد موته، ولم ندّع أن اليقين بالحجية إنما هو بالإضافة إلى الجاهل الموجود في زمانه وإلاّ فلا يقين بحجية فتواه على من يريد تقليده ابتداءً بعد موته، ولم نناقش بأن الحجية إنما ترتبت على الرأي والنظر، ولا رأي بعد الممات كما ذكره صاحب الكفاية بأن قلنا إن الرأي حدوثه يكفي في حجيته بحسب البقاء ولا يعتبر إستمراره في حجيته بعد الممات، وأغمضنا عمّا هو الظاهر من الأخبار والآيات المتقدّمتين، من أن الحجة إنما هو إنذار المنذر بالفعل لا من كان منذراً سابقاً وليس بمنذر بالفعل، كما إذا قلنا إن الرجوع إنما يجب إلى فتوى المجتهد وأقواله ولا يجب الرجوع إلى ذات المجتهد ونفسه، حتى تنتفي حجيته بموته كما هو الحال في الرواية إذ الحجية إنما تثبت للرواية ولم تثبت للراوي في ذاته ومن هنا لا تسقط عن الحجية بموته.
لم يمكننا المساعدة على جريان الاستصحاب في المقام، وذلك لأن المراد بالحجية المستصحبة إن كان هو الحجية الفعلية فلا يقين بحدوثها، لأن المتيقن عدم الحجية الفعلية بالإضافة إلى العامّي المتأخر عن عصر المجتهد الميت، لوضوح أن الفعلية إنما تتحقق بوجود المكلف العامّي في عصر المجتهد، والمفروض عدم تحققه فليست فتاوى الميت حجة فعلية على العامّي غير الموجود في عصره لتستصحب حجيتها الفعلية.
وإن اُريد بها الحجية التعليقية، أعني الحجية الانشائية فهي وإن كانت متيقنة على الفرض، إلاّ أنها ليست بمورد للاستصحاب وذلك للشك في سعة دائرة الحجية المنشأة وضيقها وعدم العلم بأنها هي الحجية على خصوص من أدرك المجتهد وهو حي أو أنها تعم من لم يدركه كذلك.
وبعبارة اُخرى إنا نشك في أن حجية رأي المجتهد وفتواه مقيدة بحالة حياته أو أنها غير مقيدة بها، فلا علم لنا بثبوت الحجية الانشائية بعد الممات ليمكن استصحابها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام، وذلك لأن الاستصحاب في المقام أسوء حالاً من الاستصحابات الجارية في الأحكام، لأن تلك الاستصحابات إنما تدعى جريانها في الأحكام بعد تحقق موضوعاتها وفعليتها كحرمة وطء الحائض بعد نقائها وقبل الاغتسال، لأن الحرمة في المثال فعلية بوجود الحائض فعلى القول بجريان الاستصحاب في الأحكام لا مانع من استصحابها للقطع بثبوتها، وهذا بخلاف المقام لأن الشك فيه إنما هو في سعة الحكم المنشأ وضيقه من دون أن يكون فعلياً في زمان، ومعه لا يمكن إستصحابه لعدم العلم بثبوت الجعل في زمان الشك فيه.
ومن هنا منعنا جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة وعدم النسخ في الشريعة المقدسة، ولو على القول بجريانه في الأحكام لرجوع الشك حينئذ إلى سعة جعل الحكم وضيقه، وما عن المحدث الاسترابادي من أن استصحاب عدم النسخ من الضروريات أمر لا أساس له، فلو وصلت النوبة إلى الشك في النسخ لمنعنا عن جريانه كما عرفت، إلاّ أنه إنما لا يعتنى باحتماله لاطلاق الأدلة المثبتة للأحكام أو لما دلّ على استمرار أحكام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم القيامة.
والمتحصل: أن ما استدل به على جواز تقليد الميت من الابتداء لا يمكن تتميمه بوجه.
أدلّة عدم جواز تقليد الميِّت ابتداءً
أدلة المانعين. وقد استدلوا على عدم جواز تقليد الميت إبتداءً بوجوه:
الأوّل: ما عن جملة من الأعاظم من دعوى الاجماع على عدم الجواز وأن ذلك مما امتازت به الشيعة عن أهل الخلاف، لأنهم ذهبوا إلى جواز تقليد الأموات، ومن هنا قلّدوا جماعة منهم في أحكامهم، ولم تقبل الشيعة ذلك لاشتراطهم الحياة في من يجوز تقليده. وقد بيّنا أن مخالفة المحقق القمي والمحدّثين ليست من المخالفة في محل الكلام وإنما هي مبتنية على مسلكهما الفاسدين، ولم يظهر ذهابهما إلى جواز تقليد الميت على القول بالانفتاح، وكون الرجوع إلى المجتهد من الرجوع إلى أهل الخبرة والاطلاع.
وفيه: أن الاجماع المدعى على تقدير تحققه ليس إجماعاً تعبدياً قابلاً لاستكشاف قول المعصوم (عليه السّلام) به، كما إذا وصل إليهم الحكم يداً بيد عنهم (عليهم السّلام) لاحتمال أن يستندوا في ذلك إلى أصالة الاشتغال أو إلى ظهور الأدلة في اشتراط الحياة في من يجوز تقليده أو غير ذلك من الوجوه، ومعه لا يمكن الاعتماد على إجماعهم، لوضوح أن الاتفاق بما هو كذلك مما لا اعتبار به، وإنما نعتبره إذا استكشف به قول المعصوم (عليه السّلام).
الثاني: أن الأدلة الدالة على حجية فتوى الفقيه ظاهرة الدلالة على اعتبار الحياة في جواز الرجوع إليه، لظهور قوله عزّ من قائل: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم). في إرادة إنذار المنذر الحي، إذ لا معنى لانذار الميت بوجه. وأمّا صحة حمل المنذر على الكتاب أو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنما هي بلحاظ أنهما إنما ينذران بأحكام الله سبحانه وهو حي، ولما ورد «من أن الكتاب حي وأنه يجري مجرى الشمس والقمر» ، وكذا قوله: (فاسئلوا أهل الذكر) لو تمت دلالته على حجية فتوى الفقيه، وذلك لأن الميت لا يطلق عليه أهل الذكر بالفعل. وقوله: «أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه» إذ الميت غير متّصف بشيء مما ذكر في الحديث، فإن لفظة «كان» ظاهرة في الاتصاف بالأوصاف المذكورة بالفعل، لا الاتصاف بها في الأزمنة السابقة.
وأمّا الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين، فقد تقدم أن ظهورها في إرادة الحي مما لا خدشة فيه، لأن الميت لا معنى للارجاع إليه.
وبما ذكرناه يظهر أن السيرة العقلائية المستدل بها على جواز الرجوع إلى الميت بحسب الابتداء مردوعة في الشريعة المقدّسة، لظهور الأدلّة في اعتبار الحياة في من يرجع إليه في الأحكام وعدم جواز تقليد الميت إبتداء.
ويرد عليه: أن ظهور الأدلة في اشتراط الحياة في من يجوز تقليده وإن كان غير قابل للانكار، لما بيّنا من أن كل قضية ظاهرة في الفعلية بالمعنى المتقدم، إلاّ أنها ليست بذات مفهوم لتدلّنا على حصر الحجية في فتوى الحي من المجتهدين وعدم حجية فتوى أمواتهم، ومعه يمكن أن تكون فتوى الميت حجة كفتوى الحي، غاية الأمر أن الأدلّة المتقدمة غير دالة على الجواز، لا أنها تدل على عدم الجواز، وبين الأمرين بون بعيد.
وأمّا رواية الاحتجاج «من كان من الفقهاء ... » فهي وان لم يبعد دلالتها على حصر الحجية في فتوى الفقيه المتصف بالأوصاف الواردة فيها، إلاّ أنها لضعفها غير صالحة للاستدلال بها كما مرّ. إذن لا يستفاد من شيء من الكتاب والسنة عدم جواز التقليد من الأموات. نعم، لو كان الدليل منحصراً بهما لم يمكننا الحكم بجواز تقليد الميت لعدم الدليل عليه إلاّ أن الدليل غير منحصر بهما كما لا يخفى. ثمّ إن الأدلة وإن لم تكن لها دلالة على عدم الحجية، إلاّ أنه ظهر بما قدّمناه أنه لا مجال للاستدلال باطلاقها على حجية فتوى الميت إذ لا إطلاق لها، بل الأمر كذلك حتى على تقدير إطلاقها لما عرفت من أنه غير شامل للمتعارضين على ما قدّمنا تقريبه.
الثالث: أن فتوى الميت لو قلنا بحجيتها لا يخلو إما أن نقول باعتبارها حتى إذا كان الميت مساوياً في الفضيلة مع الأموات والأحياء ولم يكن أعلم من كلتا الطائفتين وإمّا أن نقول بحجيتها فيما إذا كان الميت أعلم.
أمّا الصورة الاُولى: فالقول فيها بحجية فتوى الميت وجواز الرجوع إليه وإن كان أمراً ممكناً بحسب مرحلة الثبوت على ما التزمت به العامة وقلّدوا أشخاصاً معيّنين من الأموات، إلاّ أنه لا يمكن الالتزام به بحسب مرحلة الاثبات لقصور الدليل، وذلك لما تقدم من العلم بالاختلاف بين الأموات أنفسهم فضلاً عن الاختلاف بين الميت والأحياء، وقد تقدم أن الأدلة غير شاملة للمتعارضين.
وأما دعوى أن المكلف عند تساوي المجتهدين في الفضيلة يتخير بينهما للاجماع الّذي ادعاه شيخنا الأنصاري. فيدفعها: أن الاجماع على تقدير تسليمه أيضاً غير شامل لفتوى الميت، لاختصاصه بالمتساويين من الأحياء فإن الأموات قد ادعوا الاجماع على عدم جواز تقليدهم كما مرّ، ومعه كيف يمكن دعوى الاجماع على التخيير بينهم في أنفسهم أو بينهم وبين الأحياء. على أ نّا لا نلتزم بالتخيير بوجه حتى إذا كان كلا المجتهدين حياً فضلاً عمّا إذا كان أحدهما ميتاً.
وأمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا كان الميت أعلم من الكل فالحكم فيها بجواز الرجوع إليه وإن كان ممكناً بحسب مرحلتي الثبوت والاثبات، للسيرة العقلائية الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم من المتخالفين، بلا فرق في ذلك بين الحي والميت، ومن هنا قلنا إنهم إذا شخصوا المرض في المريض لراجعوا في العلاج إلى مثل القانون من الكتب الطبية للأطباء الأقدمين، وقدّموه على قول غيره من الأطباء الأحياء إذا كان مؤلّفه أعلم ولا يراجعون إلى الحي حينئذ، إلاّ أن السيرة مما لا يمكن الإستدلال بها في المقام، وذلك لاستلزامها حصر المجتهد المقلد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها لأن أعلم علمائنا من الأموات والأحياء شخص واحد لا محالة، فإذا فرضنا أنه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائية، وذلك للعلم الاجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا ويأتي أن مع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فحسب من دون فرق في ذلك بين عصر وعصر، وهو مما لا يمكن الالتزام به لأنه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة ولا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئمة ثلاثة عشر.
وبهذا تكون السيرة العقلائية مردوعة، فلا يبقى أي دليل يدل على جواز تقليد الميت إذا كان أعلم من كلتا الطائفتين، هذا كلّه في المقام الأول وهو تقليد الميت إبتداءً.
أدلّة جواز البقاء على تقليد الميِّت
أدلة المثبتين
الأوّل: الاستصحاب، أعني استصحاب حجية فتوى الميت قبل موته، ولا يرد عليه ما أوردناه على استصحابها في تقليده إبتداء، من أن الحجية الفعلية مقطوعة الخلاف إذ لا وجود للمكلف في عصر المجتهد فضلاً عن عقله وغيره من الشروط وقد مرّ أن الفعلية متوقفة على وجود المكلف في عصر المجتهد، والحجية الإنشائية على نحو القضية الحقيقية مردّدة بين الطويل والقصير، والقدر المتيقن منها هي الحجية مادام الحياة، وأمّا جعلها لفتوى الميت حتى بعد الممات فهو مشكوك فيه من الابتداء والأصل عدم جعلها زائداً على القدر المتيقن.
والوجه في عدم وروده على استصحاب الحجية في المقام، أن الحجية المستصحبة إنما هي الحجية الفعلية في محل الكلام لأن العامّي قد كان موجوداً في عصر المجتهد الميت واجداً لجميع الشرائط، بل قد كان قلّده برهة من الزمان ولكنّا نشك في أن الحجية الفعلية هل كانت مطلقة وثابتة حتى بعد الممات، أو أنها مقيدة بالحياة فلا مانع من استصحاب حجية فتواه بعد الممات.
وبهذا يتضح أن المستصحب هو الحكم الظاهري أعني حجية فتوى الميت قبل موته، ومعه ليس هناك أيّ خلل في أركان الاستصحاب لليقين بالحجية الفعلية والشك في بقائها، وليس المستصحب هو الحكم الواقعي الّذي أفتى به المجتهد حال الحياة ليرد عليه أن الاستصحاب يعتبر في جريانه اليقين بتحقق المستصحب وحدوثه لدى الشك في البقاء، وهذا في موارد ثبوت المستصحب باليقين الوجداني من الظهور بمكان لأن المكلف حينما يشك في بقاء المستصحب يتيقن من حدوثه بالوجدان، وكذا في موارد ثبوته بالعلم التعبدي، كما إذا ثبتت نجاسة شيء بالبينة أو ثبتت نجاسة العصير المغلي بالرواية وشككنا بوجه في بقائها، فإن لنا حينئذ يقيناً في ظرف الشك بحدوث المستصحب وتحققه وإن كان يقيناً تعبدياً، لوضوح أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون اليقين السابق وجدانياً أو تعبدياً، كما لا فرق من هذه الناحية بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية.
وأمّا في موارد استصحاب الحكم الواقعي الثابت بفتوى المجتهد بعد موته فلا يقين من حدوث المستصحب حينما يشك في بقائه وارتفاعه، فلو أفتى المجتهد بنجاسة العصير العنبي بالغليان وشككنا فيها بعد موته للشك في حجية فتواه بعد الممات، لم يكن لنا يقين وجداني لدى الشك من ثبوت النجاسة للعصير بالغليان حال حياة المجتهد، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان والاستدلال، كما لا يقين تعبدي بنجاسته للشك في حجية فتوى الميت بعد موته، وحيث إنه شك سار لاحتمال انقطاع حجية فتواه وطريقيتها بالممات، فلا طريق لنا بالفعل إلى استكشاف نجاسة العصير بالغليان حتى نستصحبها إذا شككنا في بقائها وارتفاعها.
والمتلخص: أن استصحاب الحجية على مسلك المشهور مما لا شبهة فيه. نعم على ما سلكناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا يمكننا التمسك بالاستصحاب في المقام لأن الشبهة حكمية، إذ الشك في أن الشارع هل جعل الحجية الفعلية مطلقة أو جعلها مقيّدة بالحياة، فيكون استصحاب بقاء الحجية الفعلية معارضاً باستصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت زائداً على القدر المتيقن وهو حال الحياة. إذن لا مجال للاستصحاب ولا بدّ من التماس دليل آخر على جواز البقاء.
الثاني: المطلقات، لأن آية النفر تقتضي وجوب العمل على طبق إنذار المنذر إذا أنذر وهو حي، ولم تدل على اختصاصه بما إذا كان المنذر باقياً على الحياة حال العمل بفتواه وإنذاره. وعلى الجملة أنها تدلنا باطلاقها على أن إنذار الفقيه حجة مطلقاً سواء كان حياً عند العمل به أم لم يكن، وكذلك آية السؤال والأخبار الآمرة بالأخذ من محمد بن مسلم أو زكريا بن آدم أو غيرهما، لأنهما إنما دلتا على وجوب السؤال من أهل الذكر أو الأخذ من الأشخاص المعينين، ولم يدلا على تقييد ذلك بما إذا كان أهل الذكر أو هؤلاء الأشخاص حياً عند العمل بقوله. نعم، يعتبر أن يكون الأخذ والسؤال كالانذار حال الحياة، وهو متحقق على الفرض.
فالمتحصل: أن المطلقات شاملة للميت والحي كليهما، لعدم العلم بمخالفتهما في الفتوى على الفرض وأن مقتضاها جواز البقاء على تقليد الميت.
الثالث: السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله من الحِرف والعلوم والموضوعات وغيرها، بلا فرق في ذلك بين أن يكون العالم باقياً على حياته عند العمل بقوله وعدمه، لوضوح أن المريض لو رجع إلى الطبيب وأخذ منه العلاج ثمّ مات الطبيب قبل أن يعمل المريض بقوله، لم يترك العقلاء العمل على طبق علاجه، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة لأن ما قدّمناه من الردع يختص بسيرتهم الجارية على الرجوع إلى العالم الميت من الابتداء، لأنها وإن كانت محرزة كما مرّ إلاّ أن قيام الضرورة على بطلان انحصار المقلد في شخص واحد رادع عنها كما عرفت وهذا لا يأتي في المقام كما ترى، إذ لا يلزم من البقاء على تقليد الميت محذور الانحصار، فالأدلة مقتضية لجواز البقاء ولا مانع عنه سوى الاجماع المدعى في كلام شيخنا الأنصاري حيث استظهر من كلمات المجمعين وإطلاقها عدم جواز تقليد الميت مطلقاً ولو بحسب البقاء إلاّ أنه غير صالح للمانعية، وذلك لما عرفت من أنّا لم نعتمد على إجماعهم هذا في تقليد الميت الابتدائي فضلاًعن أن نستدل به على عدم جواز التقليد البقائي، حيث إن جماً غفيراً ممن منعوا عن تقليد الميت ذهبوا إلى جواره.
إذن الصحيح فى تقليد الميت هو التفصيل بين الابتداء والبقاء فلا يجوز في الأول ويجوز في الثاني، بل يجب في بعض الصور.
أنظر أيضاً : التقليد.
[1] أنظر : التنقيح في شرح العروة الوثقى، للخوئي، 1 /73