آخر تحديث للموقع :

الأربعاء 12 ربيع الأول 1445هـ الموافق:27 سبتمبر 2023م 06:09:26 بتوقيت مكة

جديد الموقع

عصر الحَيْرة ..
الكاتب : فيصل نور ..

عصر الحَيْرة

     هي الفترة الذي أعقبت وفاة الإمام الحسن العسكري رحمه الله، دون إعلانه عن وجود خلف له، وتفجر أزمة عنيفة في صفوف الشيعة الإمامية الذين كانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة الإلهية إلى يوم القيامة، وحدوث نوع من الشك والحيرة والغموض والتساؤل عن مصير الإمامة بعد العسكري، وتفرقهم في الإجابة على ذلك إلى أربع عشرة فرقة.
     التفاصيل:
     أدت وفاة الإمام الحسن العسكري، في سامراء سنة 260 للهجرة، دون إعلانه عن وجود خلف له، والوصية بتركته إلى أمه المسماة بـ:" حديث" إلى  تفجر أزمة عنيفة في صفوف الشيعة الامامية الموسوية ، الذين كانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة الإلهية  إلى يوم القيامة. وحدوث نوع من الشك والحيرة  والغموض والتساؤل عن مصير الإمامة بعد العسكري ، وتفرقهم  في الإجابة عن ذلك إلى أربع عشرة فرقة. كما يقول النوبختي في (فرق الشيعة)، وسعد بن عبد الله الأشعري القمي في (المقالات والفرق)، ومحمد بن أبي زينب النعماني في (الغيبة)، والصدوق في (إكمال الدين)، والمفيد في (الإرشاد) والطوسي  في (الغيبة) ، وغيرهم.. وغيرهم.
   ويقول المؤرخون الشيعة: إن جعفر بن علي الهادي، أخا الحسن العسكري، حاول أن يحوز كل تركة الإمام، ولما اتصل خبر وفاة الحسن بأمه وهي في المدينة، خرجت حتى قدمت (سرّ من رأى) وادعت الوصية عنه، وثبت ذلك عند القاضي.
     ويذكر المؤرخون الشيعة أيضا: أن جارية للإمام العسكري، تسمى صقيل ، ادعت أنها حامل منه، فتوقفت قسمة الميراث. وحمل الخليفة العباسي المعتمد الجارية صقيل إلى داره، وأوعز إلى نسائه،   وخدمه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبى الشوارب بتعهد أمرها والتأكد من حملها واستبرائها.. ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية ملازمين لها حتى تبين لهم بطلان الحمل فقسم ميراث الحسن بين أمه وأخيه جعفر.
     ولما كانت الإمامة تثبت عادة بالوصية من الإمام السابق للّاحق، فقد استغل أخو الإمام العسكري ( جعفر بن علي الهادي ) الذي كان ينافس أخاه على الإمامة في حياته ، استغل الفراغ الظاهري بعدم وجود ولد لأخيه ، وعدم وصيته أو إشارته إلى أحد، فادعى الإمامة لنفسه بعد أخيه ، وقال للشيعة:" مضى أبو محمد أخي ولم يخلف أحدا لا ذكراً ولا أنثى ، وأنا وصيه" و كتب إلى بعض الموالين في قم - التي كانت مركزا للشيعة يوم ذاك - يدعوهم فيها إلى نفسه ويعلمهم أنه القيّم بعد أخيه، ويدعي أن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه غيره وغير ذلك من العلوم كلها.
   وينقل الصدوق حديثا عن (أبي الأديان البصري) الذي يصفه بأنه خادم الإمام العسكري ورسوله إلى الشيعة في مختلف الأمصار، أن عامة الشيعة عزّوا جعفر وهنئوه، وكان من ضمنهم "النائب الأول" عثمان بن سعيد العمري.
  ويذكر النوبختي والأشعري القمي والمفيد، أن بعض شيعة الإمام العسكري ، وخاصة الفطحية ، اعترفوا بالظاهر وسلموا بعدم وجود ولد للعسكري ، وآمنوا بإمامة أخيه جعفر. وقالوا : إن الحسن بن علي توفي ولا عقب له والإمام بعده جعفر بن علي أخوه ، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الفطحية الذين جمعوا بين إمامة عبد الله وموسى ابني جعفر الصادق، والذين لم يكونوا يشترطون الوراثة العمودية دائما في الإمامة.  وكان رئيسهم  والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له (علي بن الطاحي الخزاز) وعلماء بني فضال، وأخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.
   وكاد أهل قم أن يستجيبوا لجعفر، لأنهم لم يكونوا يعرفون غيره، وقد اجتمعوا إلى شيخهم احمد بن إسحاق، وكتبوا إلى جعفر كتاباً، جواباً عن كتابه، وطلبوا منه أن يجيبهم على عدة مسائل؛ قالوا: إن" أسلافنا  سألوا عنها آباءك ، فأجابوا عنها بأجوبة، وهي عندنا نقتدي بها ونعمل عليها، فاجبنا عنها بمثل ما أجاب آباؤك المتقادمون، حتى نحمل إليك الحقوق التي كنا  نحملها إليهم". وأرسلوا وفدا منهم إلى جعفر لمحاورته، فأوصل الكتاب إليه وسأله في البداية عن كيفية انتقال الإمامة إليه مع وجود خبر يقول بعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين؟ فاعتذر جعفر بحدوث البداء من الله، لعدم وجود ولد لأخيه الحسن.
     ويقول الخصيبي (وهو أحد أركان الامامية في تلك الفترة): "إن الوفد أقام عليه مدة يسال عن جواب المسائل فلم يجب عنها، ولا عن الكتاب بشيء منه أبدا". ولكن الصدوق  والطوسي، ومحمد الصدر لا يتحدثون عن هذه المشكلة البسيطة التي لا تصعب على من يدعي الإمامة مثل جعفر، وإنما يقولون:"إن الوفد سأل جعفر عن الغيب، وطالبوه بإخبارهم عن كمية الأموال التي يحملونها من قم وعن أصحابها، وقالوا: إن الحسن كان يخبرهم بذلك ، فرفض جعفر التحدث بالغيب واستنكر نسبته إلى أخيه".
      ويقول الخصيبي : إن جماعة من أهل قم، هم: (أبو الحسين بن ثوابة وأبو عبد الله الجمال وأبو علي  الصائغ والقزويني) كانوا يأخذون الأموال باسم جعفر ويأكلونها ولا يوصلونها إليه ويتهمونه بالكذب، مما يشير إلى أن قسما من شيعة قم آمنوا بإمامة جعفر ، بالفعل، وأخذوا يرسلون إليه الأموال.
     وكما يقول النوبختي والأشعري القمي، والكليني، والمفيد والصدوق، والطوسي، والحر العاملي، فان قسماً آخر من الشيعة الامامية ذهب إلى القول بالتوقف وانقطاع الإمامة، والقول بالفترة كالفترة بين الرسل ، وانهم اعتلوا في ذلك ببعض الأخبار عن الإمامين الباقر والصادق، حول إمكانية ارتفاع الأئمة وانقطاع الإمامة ، خاصة إذا غضب الله على خلقه، وقالوا: إن هذا عندنا ذلك الوقت.
     ويقول المؤرخان الشيعيان المعاصران لتلك الفترة (النوبختي، والأشعري القمي): إن وفاة الإمام العسكري عن دون ولد ظاهر، أدت إلى تراجع بعض الشيعة عن القول بإمامة العسكري نفسه ، كما تراجع بعض الشيعة الموسوية، قبل مائة عام، عن القول بإمامة عبد الله الأفطح الذي أصبح إماما بعد أبيه الصادق،  ولكنه لم ينجب ولدا تستمر الإمامة فيه ، وقال هؤلاء:" إن القول بإمامة الحسن كان غلطا وخطأ ، وجب علينا الرجوع عنه إلى إمامة جعفر ، وان الحسن قد توفي ولا عقب له، فقد صح عندنا انه ادعى باطلا، لأن الإمام بإجماعنا جميعا لا يموت إلا عن خلف ظاهر معروف يوصي إليه ويقيمه مقامه بالإمامة ، والإمامة لا ترجع في أخوين بعد حسن وحسين..فالإمام لا محالة جعفر بوصية أبيه إليه ".
   وكان السبب في تراجع هؤلاء عن القول بإمامة العسكري، هو إيمانهم بقانون الوراثة العمودية، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخ أو ابن أخ، أو عمّ أو ابن عمّ.
     وذهب قسم من هؤلاء المتراجعين عن القول بإمامة الحسن، إلى القول بإمامة أخيه محمد، الذي كان قد توفي قبل سبع سنوات، في حياة أبيه الهادي، فأنكروا وفاة محمد وقالوا :إن أباه قد أشار إليه ونصّبه إماما ونص على اسمه وعينه ، وهذا ما يتفق عليه الجميع، ولا يجوز أن يشير الإمام بالوصية والإمامة إلى غير إمام...إذاً  فإنه لم يمت ، بل إن أباه قد أخفاه (تقية) ، كما أخفى الإمام الصادق ابنه إسماعيل ، حسب قول الإسماعيلية، وانه هو المهدي المنتظر. وعرفت هذه الفرقة بـ:(المحمدية).
     وقال قسم من هذه الفرقة : إن محمد ابن علي قد توفي ، وانه أوصى إلى غلامٍ لأبيه اسمه "نفيس" ، وكان ثقة أمينا عنده ، ودفع إليه الكتب والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأمة ، وأوصاه :إذا حدث به حدث الموت أن يؤدي ذلك كله إلى أخيه جعفر.
     وكانت هذه الفرقة تتخذ موقفا عنيفاً من الإمام الحسن العسكري وتكفره ، كما تكفر من يقول بإمامته ، وتغلو في جعفر ، وتدعي انه القائم. وقد عرفت هذه الفرقة المتطرفة باسم :(النفيسية).
وقد ذهب قسم آخر من الشيعة إلى إنكار وفاة الإمام العسكري ، والقول بمهدويته وغيبته. وذلك بناء على عدم جواز وفاة الإمام دون ولد معروف ظاهر " لأن الأرض لا تخلو من إمام" إمام واعتبروا اختفاء الإمام نوعاً من الغيبة عنهم.
     ومنهم من اعترف بموت العسكري ، ولكنه قال بعودته إلى الحياة مرة أخرى.. وذلك استنادا إلى حديث حول معنى (القائم) :" أنه يقوم  من بعد  الموت ، ويقوم ولا ولد له" ، ولو كان له ولد  لصح موته ولا رجوع ، لأن  الإمامة  كانت  تثبت  لخلفه ، ولا أوصى إلى أحد.. فلا شك  انه القائم ، وانه حي  بعد الموت.  وقالوا: انه قد عاش بعد الموت !.. وقد رووا : " أن القائم إذا بلغ الناس خبر قيامه قالوا : كيف يكون فلان إماما  وقد بليت عظامه؟"  فهو اليوم حي مستتر  لا يظهر، وسيظهر  ويقوم بأمر الناس ويملأ  الأرض عدلا  كما ملئت جوراً".
     ومنهم من قال: إن العسكري سيعود إلى الحياة في المستقبل..وإنما سمي القائم لأنه يقوم بعد ما يموت.
     وقد اختلق هؤلاء، أو استوردوا أحاديث بهذا المضمون من بعض الحركات الشيعية الواقفية السابقة.
     ويقول الصدوق: إن هؤلاء  سُمُّوا بــ :(الواقفية على الحسن ) ، وقد ادعوا: أن الغيبة وقعت به، لصحة أمر  الغيبة عندهم، وجهلهم بموضعها.
     وقد دفعت أزمة وفاة الإمام العسكري دون ولد ظاهر، بكثير من الشيعة الامامية، الذين كانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة إلى يوم القيامة.. دفعتهم إلى البحث والتمحيص  والتفتيش عن ولد يحتمل أن يكون الإمام الحسن العسكري قد أخفاه لسبب من الأسباب ، كالخوف عليه من الأعداء مثلا، وأحجم بعضهم عن القول بأي شيء ، انتظارا لجلاء الأزمة، فلم يقولوا بإمامة جعفر ولم يقولوا بانقطاع الإمامة، ولم يقولوا بمهدوية الحسن العسكري، بل قالوا:" لا ندري ما نقول في ذلك..وقد اشتبه علينا الأمر، فلسنا نعلم أن للحسن بن علي ولداً أم لا؟.. أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد؟..وقد كثر الاختلاف ، إلا  أنا نقول:إن الحسن بن علي كان إماما مفترض الطاعة، ثابت الإمامة، وقد توفي وصحت وفاته ، والأرض لا تخلو من حجة. فنحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده ، إذ لم يصح عندنا أن له خلفا، وخفي علينا أمره ، حتى يصح لنا الأمر ويتبين ، ونتمسك بالأول  حتى يتبين لنا الآخر ، كما امرنا : ( انه إذا هلك الإمام ولم يعرف الذي بعده فتمسكوا  بالأول حتى يتبين لكم الآخر ) فنحن نأخذ بهذا ونلزمه، فانه لا خلاف بين الشيعة: أنه لا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه وصية ظاهرة".
     وفي غمرة أجواء الشك والحيرة  والخلاف والبحث عن الحقيقة هذه ، اعتمد بعض الشيعة الامامية على دعوى الجارية (صقيل ) أو (نرجس) بالحمل من الحسن ، عند وفاته ، وقالوا بولادة ابن له ولد بعد وفاته بثمانية اشهر ، وانه مستتر ، لا يعرف اسمه ولا مكانه ، واستندوا إلى حديث رووه عن الإمام الرضا ، يقول فيه : "إنكم ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع ".
     وذهب قسم من هؤلاء الذين قالوا بوجود الحمل بعد الوفاة ، إلى ادعاء استمرار الحمل في بطن أمه إلى أمد غير منظور ، بصورة إعجازية ، وقالوا بحتمية ولادة الجارية لولد ذكر تستمر الإمامة فيه وفي ذريته إلى يوم القيامة. واحتجوا بالخبر الذي روي عن الإمام الصادق: (إن القائم يخفى على الناس  حمله وولادته).
     وبقدر ما كان احتمال الولادة بعد الوفاة أمراً وارداً وممكناً، فان دعوى استمرار الحمل في البطن إلى ما يشاء الله، كانت غير معقولة، ومرفوضة جداً، خاصة وأن الجارية صقيل (أو نرجس) اختفت في زحمة الأحاديث، أو توفيت فيما بعد، ولم يستطع أحد أن يشاهدها وينظر إلى نتيجة حملها بعد ذلك. إلا انه لم يكن بعيداً ، في تلك الأزمة وأجواء الغلو البعيدة عن العقل والعرف ، أن يقول أي فريق بما يشاء من أقوال وفرضيات وأوهام.
     وبالرغم من عدم توصل كثير من الشيعة الذين بحثوا عن ولد للعسكري، إلى أية نتيجة، وفيما كانت الحيرة تعصف بعامة الشيعة الامامية، وكان الغموض يلف موضوع الخلف، والاختلاف يمزق الناس يمينا وشمالا، كان بعض أصحاب الإمام العسكري يهمسون في آذان الشيعة، بتكتم شديد، ويدعون وجود ولد له في السرّ، ولد قبل وفاة أبيه بسنتين أو ثلاث، أو خمس أو ستّ، أو ثماني سنين،  ويزعمون أنهم قد رأوه في حياة  العسكري، وأنهم على اتصال به، ويطلبون من عامة الشيعة التوقف عن البحث والتفتيش عنه، أو السؤال عن اسمه، ويحرمون ذلك. وكانوا يفسرون ادعاء الجارية صقيل بوجود الحمل عند وفاة العسكري، بأنها محاولة منها للتغطية على وجود الولد في السرّ.
     وكان منهم : عثمان بن سعيد العمري، وكيل الإمام العسكري المالي، ومحمد بن نصير النميري ، وأبو القاسم الجعفري ، واحمد بن هلال العبرتائي الكرخي ، واحمد بن إسحاق القمي.  وآخرون..وقد عرف هؤلاء الذين قالوا بوجود ولد مغمور للإمام العسكري، بعد حوالي مائة عام، بـ:(الاثناعشرية ).
 
عصر الحيرة:
     وقد كان القول بوجود ولد للإمام العسكري، قولاً سرياً باطنياً، قال به بعض أصحاب الإمام العسكري، بعد وفاته. ولم يكن الأمر واضحاً وبديهيا ، أو مجمَعاً عليه بين الشيعة في ذلك الوقت، حيث كان جوٌ من الحيرة والغموض يلف مسألة الخلف، ويعصف بالشيعة بشدة. وقد كتب عدد من العلماء المعاصرين لتلك الفترة كتباً تناقش موضوع الحيرة وسبل الخروج منها، منهم الشيخ علي بن بابويه الصدوق، الذي ألَّف كتاباً أسماه: (الإمامة والتبصرة من الحيرة).
     وقد امتدت تلك الحيرة إلى منتصف القرن الرابع الهجري، حيث أشار الشيخ محمد بن علي الصدوق، في مقدمة كتابه: (إكمال الدين وإتمام النعمة) إلى حالة الحيرة تلك، التي عصفت بالشيعة وقال:" وجدت أكثر المختلفين إليّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة" " وقد كلمني رجل بمدينة السلام (بغداد) فقال لي: إن الغيبة قد طالت، والحيرة قد اشتدت ، وقد رجع كثير عن القول بالإمامة لطول الأمد". وذكر الكليني والنعماني والصدوق مجموعة كبيرة من الروايات التي تؤكد وقوع الحيرة بعد غيبة صاحب الأمر، واختلاف الشيعة ، وتشتتهم في ذلك العصر، واتهام بعضهم بعضا بالكذب والكفر، والتفل في وجوههم ، ولعنهم، وانكفاء الشيعة كما تُكفأ السفينة في أمواج البحر، وتكسرهم كتكسر الزجاج أو الفخار.
     وقال محمد بن أبي زينب النعماني، يصف حالة الحيرة التي عمّت الشيعة في ذلك الوقت:" إن الجمهور منهم يقول في الخلف: أين هو؟ وأنى يكون هذا؟ والى متى يغيب؟وكم يعيش هذا، وله الآن نيّف وثمانون سنة؟.. فمنهم من يذهب إلى أنه ميت، ومنهم من ينكر ولادته ويجحد وجوده بواحدة، ويستهزئ بالمصدق به، ومنهم من يستبعد المدة ويستطيل الأمد". ويقول النعماني:" أي حيرة أعظم من هذه التي أخرجت من هذا الأمر الخلق العظيم والجمّ الغفير؟ ولم يبق ممن كان فيه إلا النزر اليسير، وذلك لشك الناس".
     وهذا مما يدل على أن قضية وجود ابن للإمام العسكري لم تكن قضية مجمعاً عليها بين صفوف الشيعة الامامية في ذلك العصر، أو ان الشيعة الذين احتملوا وجوده بدءوا يتخلون عن إيمانهم هذا، بعد مضي سبعين عاماً على وفاة العسكري، وان دعاوى الإجماع والتواتر والاستفاضة التي يدعيها البعض على أحاديث وجود وولادة ومهدوية الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) لم يكن لها رصيد من الواقع في ذلك الزمان.
     ومن هنا لا بد أن نضع علامة استفهام على دعاوى الإجماع والتواتر المتأخرة، والمناقضة تماماً لحقائق التاريخ، خاصة وأن دعوى الإجماع والتواتر ، لا تمنع من المراجعة والنقد والتمحيص. بالإضافة إلى أن الإجماع لا يشكل لدى الشيعة الامامية الإثني عشرية حجة بديلة عن الأدلة العلمية... وحسبما يقول علماء الأصول: فإن الإجماع يمكن أن يؤخذ به، في غياب الدليل الشرعي، فإذا علمنا استناد دعوى معينة على أدلة نقلية أو عقلية، فعلينا مراجعة تلك الأدلة ، وعدم التشبث بالإجماع. ومن المعروف أن دعوى ولادة الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) تأتي بأدلة عقلية ونقلية وتاريخية، فلا بد إذاً من مراجعتها والتحقق منها بأنفسنا، وعدم الانسياق وراء المتكلمين الامامية، أو النفر  الذين ادعوا وجود ولد للإمام العسكري في السر، وعدم التسليم بدعاواهم وفرضياتهم واجتهاداتهم[1].


[1] نقلاً عن موضوع "المهدي حقيقة تاريخية أم فلسفية" لأحمد الكاتب

عدد مرات القراءة:
3240
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :