آخر تحديث للموقع :

الأربعاء 12 ربيع الأول 1445هـ الموافق:27 سبتمبر 2023م 06:09:26 بتوقيت مكة

جديد الموقع

نهج البلاغة ..
الكاتب : فيصل نور ..

نهج البلاغة

     نهج البلاغة اسم وضعه عالم الشيعة الشريف الرضي على كتاب جمع فيه المختار من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنة، في الخطب والمواعظ والحِكَم وغيرها.
     ويعد جمع نهج البلاغة من أبرز ما تركه الشريف الرضي. اشتمل الكتاب على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على 238 خطبة، و 79 رسالة و 489 قول يرى الشيعة في الكتاب أنه أحد الكتب الهامة التي يجب على الشيعي قرائتها والأخذ منها والتعلم منها.
     حاول الشريف الرضي في نهج البلاغة إلى انتقاء أبلغ وأجمل الأحاديث المروية بزعمه عن علي ليضعها في هذا الكتاب. وهذه الخصوصية هي سر بقاء الكتاب وخلوده على الرغم من أحداث التاريخ العصيبة وسبب شهرته بين مختلف الفرق الإسلامية والشخصيات غير الإسلامية.
     عدّ بعض الباحثين نحواً من 370 مؤلفاً حول نهج البلاغة من الشرح والتفسير والترجمة وغيرها، وقد طبعت إلى الآن نحو من خمس عشرة ترجمة لنهج البلاغة.
     حاول بعض الباحثين جمع ما لم يأت به الشريف الرضي في نهج البلاغة من كلام الإمام علي رضي الله عنه. وأهم هذه المحاولات هو نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة. هذه المجموعة جمعها الشيخ محمد باقر المحمودي في ثمانية مجلدات. هناك معاجم ألفاظ وموضوعات لنهج البلاغة سهلت البحث والرجوع إليه. كما تم إعداد بعض البرامج الكمبيوترية لنهج البلاغة وبعض شروحه. من أشهر تحقيقات نهج البلاغة تحقيق محمد عبده وصبحي الصالح. كما يشتهر في اللغة الفارسية تحقيق فيض الإسلام.
 
     من شروح نهج البلاغة :

  1. شرح علي بن الناصر المعاصر للرضي اسمه أعلام نهج البلاغة وشرح آخر له يسمى المعارج.

  2. شرح الشيخ أبي الحسن البيهقي المتقدم ذكره المتوفى سنة 565.

  3. شرح قطب الدين الرواندي سعيد بن هبة الله المتوفى سنة 573 المسمى منهاج البراعة.

  4. شرح قطب الدين الكيدري فرغ منه سنة 576.

  5. شرح أفضل الدين الحسن بن علي بن أحمد الماهابادي شيخ الشيخ منتخب الدين توفي سنة 585.

  6. شرح القاضي عبد الجبار المردد بين ثلاثة مقاربين لعصر الشيخ الطوسي وهم : عبد الجبار بن علي الطوسي، وعبد الجبار بن منصور، وعبد الجبار بن فضل لله بن علي بن عبد الجبار. وذكر في أحوال عبد الرحمن العتائقي أنه اختار شرحه لنهج البلاغة من عدة شروح أحدها للقاضي عبد الجبار الإمامي.

  7. شرح فخر الدين الرازي محمد بن عمر المتوفى سنة 606 لم يتم , ذكره جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء.

  8. شرح عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المعتزلي المدائني المتوفى ببغداد سنة 656 طبع عدة مرات.

  9. شرح السيد علي بن طاوس المتوفى سنة 664.

  10. شرح الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني المتوفى سنة 679 مطبوع بإيران.

  11. شرح سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني صاحب المطول المتوفى سنة 792.

  12. الشرح الموسوم بالتحفة العلية في نهج البلاغة الحيدرية للسيد أفصح الدين محمد بن حبيب الله ابن أحمد الحسيني. كبير جداً فرغ منه منه سنة 881ه

  13. شرح العلامة الحلي المتوفى سنة 736.

  14. شرح قوام الدين يوسف بن حسن الشهير بقاضي بغداد المتوفى سنة 922 , ذكره في كشف الظنون.

  15. شرح كمال الدين الحسين بن عبد الحق الأردبيلي المتوفى سنة 950. اسمه منهج الفصاحة.

  16. شرح عماد الدين علي القاري الأسترابادي بنحو الحاشية، في أوائل القرن العاشر.

  17. شرح أبي الحسن علي  بن الحسن الزواري تلميذ المحقق الكركي بالفارسية. اسمه روضة الأبرار فرغ منه سنة 947.

  18. شرح فتح بن شكر الله الكاشاني بالفارسية المتوفى سنة 988 مطبوع.

  19. شرح عز الدين الآملي شريك المحقق الكركي في الدرس «القرن العاشر».

  20. شرح علي المعروف بالحكيم الصوفي بالفارسية فرغ منه سنة 1016.

  21. شرح الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي المتوفى سنة 1076 وهو شرح كبير.

  22. شرح السيد ابن المطهر بن محمد بن الحسين الجرموزي اليماني المتوفى سنة 1110 لم يتم.

  23. شرح محمد رفيع بن فرج الجيلاني المتوفى حدود سنة 1160 سلك فيه طريقة جامعة بين شرحي ابن ميثم وابن أبي الحديد.

  24. شرح ميرزا باقر النواب بالفارسية في القرن الثالث عشر مطبوع بإيران.

  25. شرح السيد محمد تقي الحسيني القزويني المتوفى سنة 1270 فرغ من المجلد الأول سنة 1268.

  26. شرح الشيخ جواد الطارمي الزنجاني المتوفى سنة 1325 بالفارسية.

  27. شرح ميرزا إبراهيم بن الحسين بن علي بن عبد الغفار الدنبلي الخوئي المستشهد سنة 1325 اسمه الدرة النجفية. مطبوع بإيران.

  28. شرح السيد حبيب الله بن محمد الموسوي الخوئي المتوفى حدود سنة 1326.

  29. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة لمحمد تقي الشوشتري.

  30. نفحات الولاية شرح عصري جامع لنهج البلاغة لناصر مكارم الشيرازي.

  31. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لحبيب الله الخوئي.

  32. شرح نهج البلاغة لمحمد كاظم القزويني.

  33. في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية.

  34. شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار لالعلامة المجلسي.

 
منزلة نهج البلاغة عند الشيعة :
 
     ميثم البحراني (ت : 679 ه) : وكنت قد جعلت هذا الكتاب بعد كتاب الله وكلام رسوله مصباحاً أستضيء به في الظلمات، وسلّماً أعرج به إلى طباق السماوات، كنت في أثناء وقوفي على شيء من أسراره، واكتحالي بسواطع أنواره أتأسّف على من يعرض عنه جهلاً، وأتلهّف لو أجد له أهلاً[1].
     محمد جعفر كاشف الغطا (ت : 1228 ه) : : لو لم يكن في البرية قرآن، لكان (نهج البلاغة) قرآنهم[2].
     حبيب الله الخوئي (ت : 1324 ه) : لعمري إنّه كتاب شرع المناسك للناسك، وشرح المسالك للسالك، وهو خلاص المتورّطين في الهلكات، ومناص المتحيّرين في الفلوات، ملاذ كلّ بائس فقير، ومعاذ كلّ خائف مستجير، مدينة المآرب وغنية للطالب، لأنّ ما أُودع فيه كلام عليه مسحة من الكلام الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، ظاهره أنيق وباطنه عميق، مشتمل على أمر ونهي ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، يدلّ على الجنة طالبها، وينجي من النار هاربها، شفاء من الداء العُضال، ونجاة من ظلمة الضلال، دواء لكلّ عليل ورواء لكلّ غليل، وأمل لكلّ آمل، وبحر ليس له ساحل، وكنز مشحون بأنواع الجواهر والدرر، يفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر.
ومع ذلك قد احتوى من حقائق البلاغة، ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعان وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعية ما يعجز عن تقديره لسان البشر.
     هادي كاشف الغطاء (ت : 1361 ه) : : إنّ كتاب (نهج البلاغة) من أعظم الكتب الإسلاميّة شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسّك بعُراه، وبرهان لمن اعتمده، ولبّ لمن تدبّره، أقواله فصل، وأحكامه عدل، حاجة العالم والمتعلّم، وبُغية الراغب والزاهد، وبُلغة السائس والمسوس، ومُنية المحارب والمسالم، والجنديّ والقائد، وفيه من الكلام في التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق، والترغيب والترهيب، والوعظ والتحذير، وحقوق الراعي والرعيّة، وأصول المدنيّة الحقّة، ما ينقع الغلّة ويزيل العلّة، لم تعرف المباحث الكلاميّة إلاّ منه، ولم تكن إلاّ عيالاً عليه، فهو قدوة فطاحلها، وإمام أفاضلها.
     محمد حسين كاشف الغطاء (ت : 1373 ه) : : ما جادت العصور، ولا انجلت الدهور عن كتاب ـ بعد كتاب الله العظيم ـ أنفع ولا أجمع ولا ألمع وأنصع من نهج البلاغة في إقامة براهين التوحيد ودلائل الصنعة وأسرار الخليقة وأنوار الحقيقة وتذهيب النفس، وسياسة المدن، وحكمة التشريع والعظات البليغة، والحجج الدامغة، وإنارة العقول، وطهارة النفوس، بينا تراه يفيض بينابيع الحكمة النظريّة والعمليّة، ويرهق على توحيد الصانع، ويغرق في وصف الملائكة والمجرّدات بياناً، ويمثّل لك الجنة والنار عياناً كفيلسوف إلهي، وملاك روحيّ، وإذا به يعطيك قوانين الحرب وسوق الجيوش وتعبئة العساكر، كقائد حربي ومغامر عسكريّ، لا تلبث أن تجد فيه ما يبهرك من عجيب وصف الطاووس والخفّاش والذرة والنملة، فيصفها دقيقاً، ويستوعب فيها من عجائب التكوين وبدائع القدرة، حتى يُخيّل لك من دقّة الوصف أنّه هو الذي أبدع تصويرها، وقدّر مقاديرها، وركّب أعضاءها، وربط مفاصلها، هو صانعها ومبدعها، وصوّرها وقدّرها وشقّ سمعها وبصرها[3].
     هبة الدين الشهرستاني (ت : 1386 ه) : نهج البلاغة كتاب عربي اشتهر في مملكة الأدب الأمميّ اشتهار الشمس في الظهيرة، وهو صدف لئالٍ من الحِكَم النفيسة، ضمَّ بين دفّتيه 242 خطبة وكلاماً، و 78 كتاباً ورسالة، و 498 كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكلّ في الكلّ أمير المؤمنين علي عليه السلام، وذلك المختار من لفظه الحرّ وكلماته الغرّ وما جادت به يراعته الدفّاقة من لؤلؤٍ رطب ودرٍّ نضيد، وإنّ لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزاز وَجدٍ وتمايل طربٍ محسوسين، وذانك برهانان لتفوّق الغناء الروحي على نغمات قيثارة ماديّة، بل إنّ النغمات الموسيقيّة وأغانيها تتلاشى وتبيد بمرور الزمن، ورنّة النغم من كلم الإمام خالدة الأثر عميقة التأثير.
     آقا بزرك الطهراني (ت : 1389 ه) : لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهيّ كتاب أمسّ به ممّا دُوّن في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، وهو صدف لئالي الحكم وسفط يواقيت الكلم! المواعظ البالغة في طيّ خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاّب الحقائق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يعتكف بفنائه العارفون، وينقّبه الباحثون، وحريّ أن تُكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتّى يُشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر ليغترف أهل كلّ لسان من بحاره غرفة.
    وقال : هو كالشمس الطالعة في رائعة النهار، في الظهور وعلوّ الشأن والقدر وارتفاع المحلّ، قد جُعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً لا تخفى على أحد، فيقبح من العاقل البصير سؤال ما هي الشمس الطالعة؟ وهي ممّا يقتبس من إشراق نورها كافّة الكائنات في البرّ والبحر، كذلك النهج قد طبّقت معروفيّته الشرق والغرب، ونشر خبره في أسماع الخافقين، ويتنوّر من تعليمات النهج جميع أفراد نوع البشر لصدوره عن معدن الوحي الإلهيّ، فهو أخ القرآن الكريم في التبليغ والتعليم، وفيه دواء كلّ عليل وسقيم، ودستور للعمل بموجبات سعادة الدنيا وسيادة دار النعيم، غير أنّ القرآن أنزله حامل الوحي الإلهيّ على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وآله، والنهج أنشأه باب مدينة علم النبي وحامل وحيه، سيّد الموحّدين وإمام المتّقين علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من رب العالمين.
     محمد حسن القبيسي العاملي (ت : 1414 ه) : لقد احتوى نهج البلاغة من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعاني وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعيّة ما يعجز عن تقديره لسان البشر[4].
     محمد مهدي شمس الدين (ت : 1422 ه) : سواء نظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقلّ نظائرها في التراث الانساني على ضخامة هذا التراث، فقد قيل في بيان صاحبه إنّه دون الخالق وفوق كلام المخلوق، بيان معجز البلاغة، تتحوّل الأفكار فيه إلى أنغام، وتتحوّل الأنغام فيه إلى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حيّ متحرّك ينبض بالحياة ويمور بالحركة. وتلك هي آية الاعجاز في كلّ بيان. ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة ممّا اعتاده التافهون من الناس أن يكرّسوا له البيان. فلم يمجّد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوّة الأقوياء وإنّما مجّد نضال الضعفاء، ولم يمجّد غنى الأغنياء وإنّما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجّد الظالمين العتاة وإنّما مجّد الأنبياء والصُلحاء. إنّ الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والحرب والسلم، والنضال الأزليّ في سبيل عالم أفضل لإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة. فنهج البلاغة كتاب إنسانيّ بكلّ ما لهذه الكلمة من مدلول، إنسانيّ باحترامه للانسان وللحياة الإنسانية، وإنسانيّ بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد الإنساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنسانيّ بما يثيره في الانسان من حبّ الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموّها ونقاءها، لهذا ولغيره كان نهج البلاغة ـ وسيبقى ـ على الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث الانساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات. وحقّ له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الانسان)[5].
     علي السيستاني (معاصر) : ان ما تضمّنه هذا الكتاب الشريف من كلام مولانا امير المؤمنين (ع) يعدّ في ذروة الكلام ـــ بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه المصطفى (ص) ــــ لما فيه من بيان للمنهج الفطري للتفكر والتأمل في الكون وحقائقه وبيانٍ لاصول الإسلام ومعارفه وإيضاح لحكم الحياة والسنن التي يبتني عليها وتبيينٍ لسبل تزكية النفس وترويضها وتوضيحٍ لمقاصد الشريعة وما بني عليها من الاحكام وتذكيرٍ بآداب الحكم وشروطه واستحقاقاته وتعليمٍ لاسلوب الثناء على الله تعالى والدعاء بين يديه وغير ذلك كثير. كما انه من جهة اخرى مرآة صادقة للتاريخ الاسلامي وما وقع فيه من الحوادث بعد النبي (ص) خاصة في زمن خلافة الامام (ع) ويتضمن جانباً مهماً من سيرته وخلقه وسجاياه وعلمه وفقهه. وحريّ بالمسلمين عامة ان يستنيروا في امور دينهم تعلماً وتزكية بهذا الكتاب ويهتموا ـــ ولا سيما الشباب منهم ـــ بمطالعته والتدبر فيه وحفظ طرف منه، كما يجدر بمن يدّعون محبة الامام (ع) ويتمنون انهم لو كانوا في عصره ليستمعوا إلى مواعظه ويهتدوا بهديه ويسيروا على نهجه ان يفعلوا ذلك في ضوء ما ورد في هذا الكتاب، ولقد قال (ع) في حرب الجمل انه حضره في هذه الحرب قوم من الناس لم يزالوا في اصلاب الرجال وارحام النساء وانما عنى بذلك الذين علم الله منهم صدق النية فيما يتمنونه من الحضور في زمانه والاقتداء به في أفعاله، وهم الذين سيحشرون مع اوليائه (ع) يوم يحشر كل انسان خلف امامه، وذلك لانهم عملوا بما علموه من الحق من غير ان يعتذروا عن ذلك بالشبهات ويزيّنوا انتماءهم اليه (ع) بالأماني. وينبغي لرجال الحكم من المسلمين ان يطبقوا ما بيّنه من وظائف امثالهم ويقتفوا اثره ويتبعوا خطاه في سلوكهم واعمالهم وليقدّروا في انفسهم انهم بمثابة ولاته وعمّاله ليظهر لهم مقدار التزامهم بنهجه وتأسّيهم به. نسأل الله العلي القدير ان يأخذ بايدي الجميع إلى إتّباع الهدى واجتناب الهوى انه ولي التوفيق[6].
 وقالوا فيه : كتاب كان الله رصع لفظه * بجوهر آيات الكتاب المفصل[7].
 
     رأي أهل السنة والجماعة في الكتاب :
     اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة، منهم من اعتبره لعلي بن أبي طالب كابن أبي الحديد، ومحمد عبده، والفاضل الآلوسي، وابن نباتة، وصبحي الصالح، وآخرين غيرهم. ويرى بعض أهل السنة عدم صحة نسبة هذا الكتاب لعلي بن أبي طالب، وذلك لعدة أسباب وأهمها عدم وجود سند لهذا الكتاب لعلي حيث الذي ألفه هو الشريف الرضي والذي كان موجودًا بعد علي بما يقارب من أربع مئة عام، فالكتاب كما يراه هؤلاء قد سقط أصلا من ناحية الإسناد، ويرون في البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلامًا منقولًا عن غير علي بن أبي طالب وصاحب كتاب نهج البلاغة يجعله عن علي بن أبي طالب، كما يرون أن هذا الكتاب مكذوب على الإمام علي لأن فيه السب الصراح والشتم على أبي بكر وعمر وهذا لا يليق بعلي، كما يرون أن في كتاب نهج البلاغة من التناقض والعبارات الركيكة التي لا يتوقع أن تصدر من علي.
     وقال الخطيب البغدادي (ت : 463 ه) : ونظير ما ذكرناه آنفا أحاديث الملاحم، وما يكون من الحوادث، فإن أكثرها موضوع، وجُلها مصنوع، كالكتاب المنسوب إلى دانيال، والخُطب المروية عن علي بن أبي طالب[8].
     وقال ابن خلكان (ت : 681 ه) : وقد اختلف الناس في كتاب "نهج البلاغة" المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو من جمعه أم جمع أخيه الرضي؟. وقد قيل: إنه ليس من كلام علي رضي الله عنه، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه.
     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت : 728 ه) : فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة "كذب على علي، علي أجلُّ وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال إن كلام علي بن أبي طالب وغيره من البشر فوق كلام المخلوق فقد أخطأ، وكلام النبي فوق كلامه، وكلاهما مخلوق ... وأيضا؛ فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره، لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره .... ولهذا يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير الإمام علي وصاحب نهج البلاغة يجعله عن الإمام علي، وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها، فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا علم أن هذا كذب، وإلا فليبيِّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن الإمام علي، وما إسناده، وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد، ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها؛ علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها[9].
     وقال الذهبي (ت : 748 ه) : ومن طالع كتابه "نهج البلاغة"؛ جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصراح والحطُّ على أبي بكر وعمر، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرىن، جزم بأن الكتاب أكثره باطل[10].
     وقال ابن كثير (ت : 774 ه) في حوادث في سنة ست وثلاثين وأربع مئة عند ترجمة الشريف المرتضى ويقال: إنه هو الذي وضع كتاب نهج البلاغة[11].
     وقال الآلوسي (ت : 1270 ه) : ومن مكائدهم - أي الرافضة - أنهم ينسبون إلى الأمير من الروايات ما هو بريء منه ويحرفون عنه، فمن ذلك " نهج البلاغة " الذي ألفه الرضي وقيل أخوه المرتضى، فقد وقع فيه تحريف كثير وأسقط كثيرا من العبارات حتى لا يكون به مستمسك لأهل السنة، مع أن ذلك أمر ظاهر، بل مثل الشمس زاهر[12].
     قال القنوجي (ت : 1307 ه) عند ترجمة الشريف المرتضي : وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة، المجموع من كلام علي، هل هو جَمَعَه، أم جَمْعُ أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه[13].
     وقال : في ترجمة المرتضى علي بن حسين بن موسى الموسوي قلت: هو جامع كتاب "نهج البلاغة"، المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟! وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي ... وفي تواليفه سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من علم لا ينفع[14].
     وقال : فنقول أولاً: أين إسناد هذا النقل؟ بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلاً إليه، وهذا لا يوجد قط، وأنما يوجد مثل هذا في كتاب نهج البلاغة، وأمثاله، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم، ولا لها إسناد معروف، فهذا الذي نقلها من أين نقلها؟ ولكن هذه الخطب بمنزلة من يدعي أنه علوي، أو عباسي، ولا نعلم أحداً من سلفه أدعى ذلك قط، ولا أدعى ذلك له فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفاً من أصله حتى يتصل بفرعه، وكذلك المنقولات لا بد أن تكون ثابته معروفة عمن نقل عنه، حتى تتصل بنا. فإذا صنف واحد كتاباً ذكر فيه خطباً كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم يرو أحد منهم تلك الخطب قبله بإسناد معروف علمنا قطعاً أن ذلك كذب. وفي هذه الخطب أمور كثيرة قد علمنا يقيناً من علي ما يناقضها، ونحن في هذا المقام ليس علينا أن نبين أن هذا كذب بل يكفينا المطالبة بصحة النقل، فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه بل هذا ممتنع بالاتفاق، لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق، فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، فكيف يمكن الإنسان أن يثبت إدعاء علي للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في أثناء المائة الرابعة لما كثر الكذابون عليه، وصار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون سواء كان صدقاً أو كذباً، وليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل، وهذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر، وفيما بيننا وبين الله تعالى[15].
     وقال محب الدين الخطيب (ت : 1389 ه) : وهذان الأخوان تطوعا للزيادة على خطب أمير المؤمنين علي بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها؛ من التعريض بإخوانه الصحابة، وهو بريء عند الله عز وجل من كل ذلك، وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم[16].
     وقال : ومن المقطوع به أن أخاه علي بن الحسين المرتضى المتوفى سنة (426 هـ) شاركه في الزيادات التي دُسَّت في النهج، ولا سيما الجُمل التي لها مساس بأحباب علي وأولياء النبي صلى الله عليه وسلم كقول الأخوين أو أحدهما: لقد تقمصها فلان، وما خرج من هذه الحمأة[17].
     وقال صبري إبراهيم السيد (معاصر) : كانت نسبة ما في " نهج البلاغة" إلى الإمام عليّ مثاراً للشكّ عند العلماء والباحثين، المتقدمين والمتأخرين على مرّ العصور، كما أثار الجدل حول النّصوص ذاتها التي حواها الكتاب، فكثير من علماء القرن السادس الهجري كانوا يزعمون أن معظم ما في نهج البلاغة لا يصحّ إلى عليّ بن أبي طالب وإنما ألّفه قومٌ من فصحاء الشيعة، من بينهم السيد الرضي[18].
     ويقول صالح الفوزان (معاصر) : والذي يظهر لي أنه من وضع الاثنين. ومما يدل على أن كتاب نهج البلاغة إما من وضع المرتضى أو له فيه مشاركة قوية ما فيه من الاعتزاليات في الصفات، والمرتضى كما ذُكر في ترجمته من كبار المعتزلة[19].
 
     وقال زيد العيص (معاصر) بعد أن نقل كلام العلماء في تكذيب نسبة الكتاب إلى علي رضي الله عنه : ونعم ما قاله هؤلاء العلماء رحمهم الله، فإن الناظر في محتويات هذا الكتاب، وفي مضمون خُطبه يجزم بأنه مكذوب على علي إلا كلمات يسيرة وردت عنه[20].
 
     وخلاصة أهم أسباب طعن هؤلاء في صحة نسبة الكتاب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تتمثل بالآتي:

  • أن الكتاب جُمع بعد وفاة علي رضي الله عنه بقرابة أربعة قرون، فالشريف الرضى توفي سنة (406 هـ)، وأمير المؤمنين علي توفي سنة (40 هـ)، وليس هناك إسناد متصل بينه وبين علي رضي الله عنه.

  • اشتماله على كثير من المصطلحات التي لم يكن يتداولها الناس في عهد علي رضي الله عنه، وإنما عرفت بعد ذلك كـ (الأين، والكيف)، وكذلك ما فيه من كلمات تجري على ألسنة المتكلمين كـ (المحسوسات، والكل والبعض، والصفات الذاتية، والجسمانيات).

  • وجود كلمات مخالفة لقواعد اللغة والفصيح المشهور، منها مثل كلمة ( معلول ) في قوله : وكل خوف محقق إلا خوف اللَّه فانه معلول. وقوله : وكل قائم في سواه معلول. وقالوا : لم ترد هذه الكلمة في كلام صحيح : علّ يعل بالبناء للفاعل فهو عليل ، وأعلَّه اللَّه فهو معل.

  • اشتماله على مذهب المعتزلة في الصفات، والرافضة قد اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات، ومن ذلك ما جاء في الكتاب من قول علي رضي الله عنه: (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه.

  • اشتماله على أشياء يجلُّ قدر الإمام علي عن التفوه بها، مثل سبِّ وتنقص كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر ومعاوية وطلحة والزبير وعمرو بن العاص، وهذا خلاف ما عُرف عنه رضوان الله عليهم أجمعين، حتى إنه في الكتاب نفسه ما يخالف ذلك؛ من الثناء على الصحابة كما سيأتي.

  • اشتماله على المتناقضات التي لا يمكن الجمع بينها : فمثلًا وردت فيه نصوص تحُطُّ من شأن الصحابة، وخصوصًا الشيخينِ أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما، ووردت فيه نصوص أيضًا تمدح الصحابة المهاجرين والأنصار، وترى صحة ولاية الأئمة الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، إلى غير ذلك من التناقضات التي لا يقبلها عقل، ولا يمكن صدورها من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

  • أن فيه من السجع والتنميق والصناعة اللغوية ما لم يعرف في عصر الخلفاء، ومنهم علي رضي الله عنه، وإنما عُرف بعد ذلك، وكذلك التطويل في الكلام فقد ورد في عهدَ عليٍّ رضي الله عنه إلى الأشتر في خمس عشرة ورقة، وهذا خلاف المعروف من كلام علي رضي الله عنه وإيجازه.

  • أن فيه نسبة ادعاء علم الغيب لعلي رضي الله عنه، فقد جاء فيه أنه قال: (اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة، وتضل مائة- إلا أنبئكم بناعقها، وقائدها، وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلًا، ومن يموت منهم موتًا).

  • ثم يقال: لماذا يوجد هذا الكم من الخطب في كتب الشيعة دون أن يكون لها ذكر في كتب السنة، ولا حتى في كتب الأدب المعروفة، أو في كتب الغريب التي اهتمت بتفسير الغريب من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام صحابته؟! ولماذا ينفرد علي رضي الله عنه بهذا الكم الكبير من الخطب دون أن يحدث ذلك لغيره من الخلفاء؟!

  • وردت فيه كلمة «الوصيّ» و «الوصاية»، في حين أنّ هذين المصطلَحين لم يكونا معروفَين عند النّاس يومذاك.

  • الوصف الدّقيق لبعض الحيوانات، كوصف: الخفَاش، والطّاووس، والنّملة، وهو يُشابه غالباً ما جاء في ترجمة الكتب اليونانيّة والفارسيّة.

  • تقسيم المعاني والمسائل وتقطيعها، وهو أمر لم يُؤلَف يومئذٍ، وقد أصبح متداولاً بتأثير الترجمة.

  • وجود كلمات كثيرة في باب الزّهد وذكر الموت، وهو ما يمكن أن يدلّ على التقاء المسلمين بالنّصارى وتأثّرهم بأفكارهم من جهة، ويمثّل تأثّراً بأفكار الصّوفيّة من جهة أُخرى. وهذان كلاهما من الظّواهر المرتبطة بعصر ما بعد الإمام عليه السّلام.

  • فيه ما يصادم أحكام الشريعة كقوله عن النساء : لا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.

  • إسناد بعض الجمل والعبارات الواردة فيه إلى أشخاص آخرين في بعض الكتب والمصادر القديمة، كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلام عمر بن الخطاب وابن المقفع.

  • عدم الاستشهاد بنصوصه الأدبيّة في عدد ملحوظ من كتب اللغة والأدب.

 
جولة في كتاب نهج البلاغة :
بعض ما جاء في مدح الصحابة رضي الله عنهم :
     ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة . والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون : حي لا يموت إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن
للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم . ليس بعدك مرجع يرجعون إليه . فابعث إليهم رجلا محربا ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب ، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين[21].
     ومن كلام له عليه السلام ( وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه ) : إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة . وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده الذي أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع . ونحن على موعود من الله . والله منجز وعده وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه . فإن انقطع النظام تفرق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا . والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام وعزيزون بالاجتماع . فكن قطبا ، واستدر الرحى بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة[22].
     وقال رضي الله عنه : لله بلاء فلان (أي عمر، وقيل أبي بكر) فقد قوم الأود وداوى العمد . خلف الفتنة وأقام السنة . ذهب نقي الثوب ، قليل العيب . أصاب خيرها وسبق شرها . أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه . رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي[23].
     وقال عليه السلام في كلام له : ووليهم وال فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه[24].
     ومن كلام له عليه السلام لما اجتمع الناس عليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه فقال إن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم ووالله ما أدري ما أقول لك ؟ ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه . إنك لتعلم ما نعلم . ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشئ فنبلغكه . وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا . وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا[25].
     وقال عليه السلام : والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما[26].
     وقال رضي الله عنه : لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدا يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا وقياما يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم . كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم . إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم . ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء الثواب[27].
     ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا احمر البأس وأحجم
الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة[28].
     ومن كلام له عليه السلام ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا . ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم وصبرا على مضض الألم وجدا في جهاد العدو . ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين . يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون . فمرة لنا من عدونا . ومرة لعدونا منا . فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه. ومتبوئا أوطانه . ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود . ولا أخضر للإيمان عود . وأيم الله لتحتلبنها دما، ولتتبعنها ندما[29].
     وقال عليه السلام : أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه ، وقرأوا القرآن فأحكموه . وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها . وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفا صفا . بعض هلك وبعض نجا . لا يبشرون بالأحياء ، ولا يعزون عن الموتى . مره العيون من البكاء . خمص البطون من الصيام . ذبل الشفاه من الدعاء . صفر الألوان من السهر . على وجوههم غبرة الخاشعين . أولئك إخواني الذاهبون . فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم[30].
     وقال عليه السلام : أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل[31].
     وقال عليه السلام : فاز أهل السبق بسبقهم ، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم[32].
      وقال عليه السلام : إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به . ثم تلا " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا " ( ثم قال ) : إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته[33].
     ومن كلام له عليه السلام للخوارج أيضا فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت ، فلم تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله بضلالي ، وتأخذونهم بخطأي ، وتكفرونهم بذنوبي[34].
     ومن كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الأمصار يقتص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين : وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام . والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد ، ودعوتنا في الاسلام واحدة . لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله ولا يستزيدوننا . الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء[35].
     ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم إياهم . اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به[36].
     ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج : لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا ، ومضيا على الحق ، وتسليما للأمر ، وصبرا على مضض الجراح . ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل . فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها[37].
     ومن خطبة له عليه السلام : ألا وإني أقاتل رجلين : رجلا ادعى ما ليس له ، وآخر منع الذي عليه . أوصيكم بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الأمور عند الله . وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة[38].
     ومن كلام له عليه السلام في شأن الحكمين وذم أهل الشام : ليسوا من المهاجرين والأنصار ، ولا من الذين تبوأوا الدار[39].
 
بعض ما جاء في التوحيد :
     ومن وصية له للحسن بن علي عليهما السلام كتبها إليه بحاضرين منصرفا من صفين : وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه ونعم الخلق التصبر . وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز . وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنها صفحا فإن خير القول ما نفع . واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه[40].
     ومن خطبة له عليه السلام : إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله ، فإنه ذروة الاسلام ، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة . وإقام الصلاة فإنها الملة . وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة . وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب . وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب. وصلة الرحم ، فإنها مثراة في المال ، ومنسأة في الأجل . وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة . وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء . وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر . وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد . واقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى . واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن . وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور . وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم[41].
 
بعض ما جاء في الإمامة وصحة خلافة من سبقه :
     ومن كلام له عليه السلام كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة : والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة. ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها[42].
     ومن خطبة له عليه السلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه : دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان . لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول . وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت . واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب . وإن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم . وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا[43].
     ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك والسلام[44].
 
بعض ما جاء في نفي العصمة عن الأئمة :
     ومن كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله :
أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك ، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك  لا تدع لهواك انقيادا ، ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك . ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك. ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على خيانة فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله[45].
     ومن كلام له عليه السلام أنتم الأنصار على الحق ، والإخوان في الدين ، والجنن يوم البأس، والبطانة دون الناس. بكم أضرب المدبر ، وأرجو طاعة المقبل . فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب . فوالله إني لأولى الناس بالناس[46].
     ومن خطبة له عليه السلام بصفين : لا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها ، وفرائض لا بد من إمضائها ، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة . ولا تخالطوني بالمصانعة . ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي . فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه . فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني. فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره[47].
 
بعض ما جاء فيما يتعارض من التقية :
     ومن وصية له للحسن بن علي عليهما السلام كتبها إليه بحاضرين منصرفا من صفين : أمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك. وجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم . وخض الغمرات للحق حيث كان[48].
 
بعض ما جاء في ذم شيعته :
     ومن خطبة له عليه السلام : أيها القوم! الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلًا منهم! يا أهل الكوفة ! منيت منكم بثلاث واثنتين، صمّ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها! كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر. والله لكأني بكم -فيما إخالكم- أن لو حمس الوغى، وحمي الضراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبُلها، وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطًا[49].
     ومن خطبة له عليه السلام : منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم! ما تنتظرون بنصركم ربّكم، أما دين يجمعكم، ولا حميّة تحمشكم؟! أقوم فيكم مستصرخًا، وأناديكم متغوّثًا؛ فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون[50].
     ومن خطبة له عليه السلام في ذم أهل العراق : أما بعد يا أهل العراق! فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلمّا أتمت أملصت، ومات قيّمها، وطال تأيّمها، وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختيارًا، ولكن جئت إليكم سوقًا، ولقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ يكذب! قاتلكم الله تعالى! فعلى من أكذب؟ أعلى الله، فأنا أول من آمن به؟ أم على نبيه، فأنا أول من صدق به؟[51].
     ومن خطبة له عليه السلام : ألا وإني قد دعوتكم إِلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إِلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان». فهذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلُبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلًا منهم كُلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءًا مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا، بل كان به عندي جديرًا. فإِذا أمرتكم بالسير إِليهم في أيام الحرّ قلتم: هذه حمارّة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كلّ هذا فرار من الحرّ والقرّ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرون، فأنتم والله من السيف أفرّ![52].
     ومن خطبة له عليه السلام : يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم.. معرفة والله جرَّت ندمًا، وأعقبت سدمًا، قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسًا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراسًا، وأقدم فيها مقامًا مني! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وهأنذا قد ذرّفت على الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع![53].
     ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه : كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثياب المتداعية، كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشام، أغلق كل رجل منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في جحرها، والضبع في وجارها. الذليل والله من نصرتموه، ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل. إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكني والله لا أرى إصلاحكم بإِفساد نفسي. أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإِبطالكم الحق[54].
     وقال عليه السلام وقد بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار، فخرج بنفسه ماشيًا حتى أتى النخيلة، وأدركه الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين! نحن نكفيكهم، فقال: والله ما تكفونني أنفسكم، فكيف تكفونني غيركم! إِن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإني اليوم أشكو حيف رعيتي، كأنّني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة[55].
     ومن كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وهي لعدوكم أنهك . لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا . وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا . وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون[56].
     ومن خطبة له عليه السلام : ولوددت أن الله فرق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحق بي منكم، قوم والله ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي، مضوا قدمًا على الطريقة، وأوجفوا على المحجة، فظفروا بالعقبى الدائمة، والكرامة الباردة. أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم [57].
     ومن خطبة له عليه السلام : ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، وبموضع الشجا من مساغ ريقه. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرًا وجهرًا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا. شهود كغياب، وعبيد كأرباب، أتلو عليكم الحِكم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثّكم على جهاد أهل البغي، فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرّقين أيادي سبأ، ترجعون إِلى مجالسكم، وتتخادعون عن مواعظكم، أقوّمكم غدوة وترجعون إلي عشية كظهر الحنيّة عجز المقوُّم وأعضل المقوَّم.[58]
     ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام : أفّ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضًا، وبالذلّ من العز خلفًا، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة. يرتج عليكم حواري فتعمهون، فكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضلّ رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر. لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب والله المتخاذلون! وأيم الله! إِني لأظن بكم أن لو حمس الوغى، واستحرَ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس. والله إن امرءًا يمكّن عدوه من نفسه، يعرق لحمه وينهش عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك إن شئت، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. أيها الناس! إن لي عليكم حقًا، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم؛ وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم[59].
     وقال عليه السلام : أحمد الله على ما قضى من أمر، وقدّر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرتُ لم تطع، وإذا دعوتُ لم تجب. «إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجئتم إلى مشافة نكصتم. لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقكم! الموت أو الذل لكم، فوالله لئن جاء يومي وليأتينّي، ليفرقن بيني وبينكم، وأنا بصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير. لله أنتم، أما دين يجمعكم، ولا حمية تشحذكم، أوليس عجبًا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم -وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة الناس- إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتتفرّقون عني وتختلفون عليَّ. إنه لا يخرج إليكم من أمري رضىً ترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه، وإن أحب ما أنا لاقٍ إلي الموت. قد درّستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم، وسوغتم ما مججتم، لو كان الأعمى ينحط أو النائم يستيقظ![60].
     وقال عليه السلام : أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد! ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدَّين المطول. لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد. «أي دار بعد داركم تمنعون، ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون، المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم. ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبّكم؟ القوم رجال أمثالكم. أقولًا بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعًا في غير حق؟![61].
 
بعض ما جاء في وجوب إتباع الكتاب والسنة وذم البدع :
     ومن كتاب له عليه السلام إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة : مبيناً لمواقيب الصلاة: أما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس مثل مربض العنز، وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم، ويدفع الحاج إلى منى، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل، وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه، وصلوا بهم صلاة أضعفهم، ولا تكونوا فتّانين[62].
     ومن كلام له عليه السلام قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه : بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء، خصّصت حتى صرت مسلّيًا عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشئون، ولكان الداء مماطلًا، والكمد محالفًا، وقلاّ لك! ولكنه ما لا يملك ردّه، ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك![63].
     وقال عليه السلام : ينزل الصبر على قدر المصيبة . ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط عمله[64].
     وروي أنه عليه السلام لما ورد الكوفة قادما من صفين مر بالشباميين فسمع بكاء النساء على قتلى صفين ، وخرج إليه حرب ابن شرحبيل الشبامي وكان من وجوه قومه فقال عليه السلام له : تغلبكم نساؤكم على ما أسمع، ألا تنهونهن عن هذا الرنين، وأقبل يمشي معه وهو عليه السلام راكب فقال عليه السلام له : ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن[65].
     ومن كلام له عليه السلام قبل موته : وصيتي لكم و ألا تشركوا بالله شيئًا، ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فلا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين[66].
     ومن عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر : ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنّه تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك مما نقضت منها، وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك[67]


[1] شرح نهج البلاغة، لميثم البحراني، 1/ 21

[2] كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، لكاشف الغطاء، 16

[3] جنّة المأوى، لكاشف الغطاء، 136

[4] ماذا في التأريخ، 2/ 380

[5] دراسات في نهج البلاغة، لمحمد مهدي شمس الدين، 10

[6] http:/ / www.sistani.org/ arabic/ qa/ 02411/

[7] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - حبيب الله الهاشمي الخوئي - ج 1 / 245 ، دراسة حول نهج البلاغة - محمد حسين الحسيني الجلالي 171 ، الذريعة - آقا بزرگ الطهراني - ج 24 / 413 ، مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج 34 / 80 ، اختيار مصباح السالكين - ابن ميثم البحراني 11

[8] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، 2/ 161

[9] منهاج السنة، لإبن تيمية، 8/ 55

[10] ميزان الإعتدال، للذهبي، 3/ 124

[11] البداية والنهاية، لإبن كثير، 12/ 56

[12] مختصر التحفة الإثنى عشرية، للآلوسي، 36

[13] أبجد العلوم، للقنوجي، 3/ 67

[14] سير أعلام النبلاء، للذهبي، 17/ 589

[15] المصدر السابق، 7/ 86

[16] المنتقى من منهاج السنة، تعليق محب الدين الخطيب، 20

[17] المصدر السابق، 508

[18] في تحقيقة للنهج، 19

[19] البيان لأخطاء بعض الكتاب ، لصالح الفوزان، 72

[20] الخميني والوجه الآخر في ضوء الكتاب والسنة، لزيد العيص، 164

[21] نهج البلاغة، 2/ 18

[22] نهج البلاغة، 2/ 29

[23] نهج البلاغة، 2/ 222

[24] نهج البلاغة، 4/ 107 ، قال إبن أبي الحديد في شرحه للنهج: هو عمر بن الخطاب 20/ 218

[25] نهج البلاغة، 2/ 68

[26] نهج البلاغة، 2/ 233

[27] نهج البلاغة، 1/ 189

[28] نهج البلاغة، 3/ 9

[29] نهج البلاغة، 1/ 104

[30] نهج البلاغة، 1/ 234

[31] نهج البلاغة، 3/ 31

[32] نهج البلاغة، 3/ 17

[33] نهج البلاغة، 4/ 21

[34] نهج البلاغة، 2/ 7

[35] نهج البلاغة، 3/ 114

[36] نهج البلاغة، 2/ 185

[37] نهج البلاغة، 1/ 236

[38] نهج البلاغة، 2/ 86

[39] نهج البلاغة، 2/ 230

[40] نهج البلاغة، 3/ 39

[41] نهج البلاغة، 1/ 215

[42] نهج البلاغة، 2/ 184

[43] نهج البلاغة، 1/ 181

[44] نهج البلاغة، 3/ 7

[45] نهج البلاغة، 3/ 132

[46] نهج البلاغة، 1/ 231

[47] نهج البلاغة، 2/ 201

[48] نهج البلاغة، 3/ 39

[49] نهج البلاغة، 1/ 188

[50] نهج البلاغة، 1/ 90

[51] نهج البلاغة، 1/ 119

[52] نهج البلاغة، 1/ 68

[53] نهج البلاغة، 1/ 70

[54] نهج البلاغة، 1/ 117

[55] نهج البلاغة، 4/ 62

[56] نهج البلاغة، 2/ 186

[57] نهج البلاغة، 1/ 230

[58] نهج البلاغة، 1/ 187

[59] نهج البلاغة، 1/ 82

[60] نهج البلاغة، 2/ 100

[61] نهج البلاغة، 1/ 73

[62] نهج البلاغة، 3/ 82.

[63] نهج البلاغة، 2/ 228

[64] نهج البلاغة، 4/ 34

[65] نهج البلاغة، 4/ 76

[66] نهج البلاغة، 2/ 33

[67] نهج البلاغة، 3/ 89

عدد مرات القراءة:
6265
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :