آخر تحديث للموقع :

الجمعة 17 جمادى الأولى 1445هـ الموافق:1 ديسمبر 2023م 10:12:15 بتوقيت مكة

جديد الموقع

الثورة الدستورية ..
الكاتب : فيصل نور ..

الثورة الدستورية

     ثورة اندلعت ضد مظفر الدين شاه القاجاري بين عامي 1905 و1907، مطالبة بالديمقراطية وتحديد صلاحيات الملك المطلقة، وإقامة برلمان منتخب، ودستور، وسميت بالثورة الدستورية، أو المشروطة (بالفارسية: مشروطيت)[1]. لأنهم اعتبروا مواد الدستور بمثابة "الشروط" التي يجب أن يتقيد بها الملك في حكم رعيته.
     ففي صيف عام 1906 خيم تقريبًا 12,000 رجل في حدائق السفارة البريطانية. ألقى الكثير منهم الخطب وكانت الأكثرية تنصت، فيما أُطلِق عليه مدرسة الهواء الطلق للعلوم السياسية وكان يتدارسون فيها الدستور. من هنا تولدت الحاجة للمجلس والتي كان هدفه هو الحد من سلطة الشاه. وفي أغسطس 1906، وافق مظفر الدين شاه القاجاري على السماح بالبرلمان، وفي الخريف، أُقيمت أول انتخابات. وتم انتخاب 156 عضوًا بأغلبية ساحقة أتت من طهران ومن طبقة التجار.
     وعقد في أكتوبر 1906 الاجتماع الأول للمجلس، والذي منح نفسه على الفور الحق في صياغة دستور، وبعدها أصبح الجمعية الدستورية. وبدأ الشاه يشيخ ويمرض، وكان حضوره افتتاح البرلمان أحد آخر أعماله كملك. ومع ذلك لم يكن ابن مظفر الدين شاه محمد علي مطلعًا على الدستور. ولهذا كان عليهم أن يعملوا سريعًا، وبحلول 31 ديسمبر من عام 1906 وقع الشاه على الدستور، وتمت صياغته بالأساس من الدستور البلجيكي. ومنذ ذلك، أصبح الشاه "تحت حكم القانون"، وبات التاج منحة إلهية للشاه "من قبل الشعب". ومات مظفر الدين شاه بعد ذلك بخمس سنوات.
     ولم تكن مواقف علماء الشيعة تجاه الثورة واحدة، ففي حين أيدها بعضهم، كمحمد كاظم الخراساني، عارضها آخرون، مثل محمد كاظم اليزدي، الذي كان "من المؤيدين للاستبداد ومن المناهضين لدعاة الدستور"[2].
 
     محطات في طريق الثورة الدستورية:

  •      وصل الشاه محمد علي القاجاري إلى السلطة في يناير التالي. وتحرك "لاستغلال الانقسامات داخل صفوف الإصلاحيين" والتخلص من المجلس. وقسمت الاتفاقية الأنجلو روسية في أغسطس من عام 1907 إيران إلى منطقة روسية في الشمال ومنطقة بريطانية في الجنوب. وحول البريطانيون دعمهم للشاه، متخلين عن الدستوريين.

  • في عهد محمد علي شاه القاجاري تم كتابة ملحق الدستور وأصبح لخمسة من المجتهدين العلماء الإشراف على صياغة القوانين والمصادقة عليها في المجلس النيابي وهذا الإقتراح الذي دخل حيز التنفيذ بعد ان تأطر بأطار دستوري كان قد تقدم به العالم فضل الله النوري.

  • لم يتقبل محمد علي شاه القاجاري الحركة الدستورية، فكان يبحث عن الذرائع لمحاربتها، فصار يبذل الأموال ويحشد الأنصار في سبيل القضاء على حركة المشروطة زاعماً أن الدستور بدعة مخالفة للشريعة الإسلامية. وقد أيد الشاه في موقفه هذا لفيف من علماء الشيعة منهم فضل الله النوري. وحدث في ذلك الوقت أن تعرضت العربة الملكية للشاه لهجوم من قبل بعض الأشخاص (يعتقد بعض المؤرخين أن هذا الهجوم خطة من تدبير البلاط القاجاري وذريعة لضرب الحركة الدستورية وتفتيتها). فأعلن الأحكام العرفية وطويق مجلس الشورى (البرلمان)، ثم أمر بإطلاق المدافع عليه. واعتقل الكثير منهم وتم شنق الميرزا جهانكير خان صاحب جريدة "صور اسرافيل" الثورية، والميرزا نصر الله الاصفهاني الذي كان من أشد وعاظ المشروطية تأثيراً في الجماهير حتى كان يلقب بـ "ملك المتكلمين" وتمثاله لازال قائماً في أحد شوارع طهران.

  • بعد القضاء على الحركة في طهران، أبرق الشاه إلى ولاته في أنحاء إيران يأمرهم بإلغاء المشروطية وتشتيت شمل أنصارها وسد نواديهم. وأخذ الولاة ينتقمون من أنصار المشروطية، فكانوا يجلدون من يقع في أيديهم منهم أو يبعدونه أو يحبسونه".

  • اصدر علماء النجف فتاوى منددة بهذا الأعتداء منتقده للشاه ومدافعة عن الحركة الدستورية.

  • لم يهنأ الشاه بانتصاره طويلاً، فقد هبت الثورات عليه في بعض المدن إلى أن سيطرة المشروطة على المدن الإيرانية، ليتم عزل الشاه المستبد ويتولى مكانه نجله أحمد شاه، وعلى أثر ذلك كلفت الآراء الصريحة ضد الدستوريين صاحبها فضل الله النوري حياته فأعدم سنة 1909 م عندما عادت سيطرة المشروطة ثانية.

 
     بدأ نجم الحركة الدستورية في ايران بالأفول. وساهمت العديد من العوامل في تهيئة الأجواء لعودة الإستبداد مرة اخرى الى البلاد، من هذه العوامل:

  1. تواجد الروس والبريطانيين في إيران، وتدخلهم المباشر والمتزايد في شؤون البلاد.

  2. ضعف الحكومة المركزية في طهران.

  3. اعطاء الثقة لأناس معادين للحركة الدستورية مثل عين الدولة.

  4. انتعاش قوة الإنتهازيين والخانات وزعماء القبائل.

  5. بدء الحرب العالمية الأولى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين.

  6. تعدد المجاعات والمشاكل الإقتصادية واخفاق الحكومة القاجارية في توفير الأمن ومستلزمات المعيشة للناس.

  7. التفاوت في التفكير عند الدستوريين كان كبيراً في بعض الأحيان. فلم تكن الحركة الدستورية في ايران قائمة على فكر واحد او فئه اجتماعية واحدة. حيث ساهمت في بلورة الحركة الدستورية هذه العديد من الإتجاهات والقوى. ثم انه كان الغموض يكتنف الفكر الدستوري المطروح، وكان كل واحد يفسره حسب رأيه وتوجهاته. والمطالب الدستورية هي الأخرى لم تكن واضحة المعالم. وكانت النتيجة بعد هذا الأختلاف الصراع، فكل واحد كان يريد فرض رأيه وابطال آراء الآخرين. على ان هذا الأختلاف الواسع في الآراء جعل البناء الدستوري بناءاً هشاً، الأمر الذي قاد الى تصدعه وبالتالي انهيارة.

 
     نتائج الحركة الدستورية:

  • جاءت هذه الثورة بمفاهيم جديدة مثل الدستور والبرلمان والحرية والإنتخابات، واضفت الصفة الرسمية على مثل هذه المفاهيم.

  • اخذت الثورة الإسلامية في ايران بعين الإعتبار تجارب الثورة الدستورية، حيث قامت بالقضاء على النظام الملكي المستبد في ايران، وقطع ايادي التسلط الأجنبي على هذا البلد، والأخذ بعين الإعتبار الثقافة والقيم الذاتية.واستفادت الثورة الإسلامية من دروس الثورة الدستورية، فنفوذ العناصر الإنتهازية في الثورة الدستورية كان لدى القائمين على الثورة الإسلامية محفزاً للحؤول دون تغلغل مثل هذه العناصر في جسم الثورة الشفاف وبالتالي منع تكرار التجربة المرة التي مرّت بها الثورة الدستورية عندما تسرب اليها الأجانب والنفعيون.

 
من صور الصرع بين علماء الشيعة حول الثورة الدستورية:
     يقول الدكتور الوردي : أن الرسائل والاستفتاءات أخذت تنهال من إيران على كبار المجتهدين في النجف تسألهم عن المشروطة هل هي حلال أم حرام؟ ومن الإجابات على هذه الإستفتاءات : أن قوانين المجلس المذكور على الشكل الذي ذكرتموه هي قوانين مقدسة ومحترمة وهي فرض على جميع المسلمين أن يقبلوا هذه القوانين وينفذوها. وعليه نكرر قولنا: ان الاقدام على مقاومة المجلس العالي بمنزلة الاقدام على مقاومة أحكام الدين الحنيف، فواجب المسلمين أن يقفوا دون أي حركة ضد المجلس". وقد وقع على هذه الفتوى (الآخوند) الملا كاظم الخراساني بالنيابة عن زملائه المجتهدين، ولم يشد عنهم في ذلك سوى مجتهد واحد هو السيد كاظم اليزدي إذا امتنع عن التوقيع. وكان امتناع هذا المجتمع بداية الانقسام بين المجتهدين، ثم أخذ الانقسام يشتد ويستفحل بمرور الأيام".
     وأما السيد النجفي القوجاني، وهو أحد تلامذة الآخوند الخراساني فينقل أن سبب الخلاف والانقسام بدأ عندما رفض السيد اليزدي التوقيع على الدستور، حيث يقول: "وقد جيء بالدستور بعد ذلك إلى الميرزا حسين بن الميرزا خليل الذي كان من كبار العلماء وأكبرهم سناً وله كثير من المقلدين في طهران ونواحيها فختمه بختمه. وقد قال بعض الحاضرين هناك لنذهب به إلى بقية العلماء كالآخوند والسيد محمد كاظم اليزدي ليختموه أيضاً فقال الميرزا لا داعي لذلك، فإن أختامنا تكفي كي يُنفذ. إلا أنهم أخذوه إلى الآخوند فختمه. وحين أخذوه إلى السيد محمد كاظم اليزدي الذي كان قد بلغه قول الميرزا حسين أعلاه فقال لا ضرورة لختمي، فختم الميرزا كاف. ولم يختمه، فاستعاضوا عنه بختم الشيخ عبدالله المازندراني".
     فانقسم أهل النجف إلى فريقين متعادين: أحدهما يدعو إلى المشروطية بزعامة (الآخوند) الملا كاظم الخراساني، والآخر يدعو إلى الاستبداد بزعامة السيد كاظم اليزدي. وكان فريق المشروطة الذي تزعمه الآخوند الخراساني يضم طلبة الميرزا الشيرازي ومعهم أكثرية الطلبة الشباب، ويمكن القول بأن أكثر أنصار الآخوند الخراساني من النخبة ففي ظله انتعش النشاط الثقافي والأدبي في الحوزة العلمية، ونما تيار التجديد والاصلاح بخلاف منافسه السيد كاظم اليزدي الذي كان أكثر من قلده من العامة.
كان السيد محمد كاظم اليزدي في بداية الحركة الدستورية (المشروطة) متعاطفاً مع الدستوريين كالشيخ فضل الله النوري في إيران، ولكنه تخلى عنها بعد ذلك، وهناك عدة أمور قد تفسر اتخاذ السيد اليزدي لهذا الموقف السلبي منها:
     أن تطورات الوضع في طهران، لا سيما إعلان الشيخ فضل الله النوري اعتراضه على الدستور والمجلس، قد يكون أثار في نفس السيد اليزدي شكوكاً عميقة حول المصير الذي تتجه إليه إيران بسبب المشروطة. 
     أن أبا القاسم الشيرواني -وهو رجل دؤوب واسع الحيلة، عينته الحكومة الروسية حديثاً كقنصل فخري لها في النجف الاشرف- قد استطاع التأثير على اليزدي لجهة الحذر من أن تكون بريطانيا وراء المشروطة، أو أن تكون المشروطة مدخلاً للتحرر من قيود التقاليد والأعراف التي لها ظلال دينية. وثمة إشارات في مصادر أخرى إلى دور الشيرواني توكد انه كان يسعى فعلاً إلى انشقاق الحوزة العلمية ومنع اتحادها وراء الحركة الدستورية.  
أن التنافس المعتاد بين العلماء ربما كان المؤثر الأهم، أو انه احد المؤثرات الهامة في تباعد السيد اليزدي، فقد كان منافسه الأقرب هو الآخوند الخراساني، زعيم الدستوريين، وكان ارتفاع نجمه يعني نزول اليزدي إلى المرتبة الثانية، بينما كان يهيئ نفسه للمرجعية العامة.  
     يقول محسن الأمين يشرح موقف السيد اليزدي بقوله: "وفي أيامه ظهر أمر المشروطة في إيران وأعقبها خلع السلطان عبدالحميد في تركيا وكان هو ضد المشروطية وبعض العلماء يؤيدونها كالشيخ ملا كاظم الخراساني وغيره وتعصب لكل منهما فريق من الفرس وكان عامة أهل العراق وسوادهم مع اليزدي خصوصاً من لهم فوائد من بلاد ايران لظنهم أن المشروطية تقطعها وجرت بسبب ذلك فتن وأمور يطول شرحها وليس لنا إلا أن نحمل كلاً منهما على المحمل الحسن والاختلاف في اجتهاد الرأي".
 
 آثار الانقسام حول المشروطة والمستبدة في العراق.
     يقول الدكتور علي الوردي: "استطاع اليزدي ان يستميل إليه الكثير من العامة ومغاير المحلات من رجال "الزقرت" و"الشمرت"، فكان إذا خرج إلى الصلاة حف به المسلحون من أعونه وهم يهتفون بالصلاة على محمد وآل محمد- تحدياً لانصار المشروطية. وصار الاشاعات تروج في أوساط العامة حول المشروطية بأن المقصود منها هو هدم الدين وافساد الاخلاق".
  مهما يكن، فإنه مما زاد الاحتقان لدى اتباع السيد اليزدي هو أنه: "وفي أحد الأيام ظهر على بعض الجدران في النجف اعلان فيه صورة يد تمسك مسدساً وفيه تهديد لليزدي بأنه سيقتل إذا لم ينزل على إرادة أنصار المشروطية، فهاج العوام لذلك وثارت بهم "الغيرة على ابن رسول الله" باعتبار أن اليزدي سيد من ذرية الرسول. وصار أنصار المشروطية عرضة للاعتداء والضرب في الاسواق والطرقات بحجة أنهم زنادقة مارقين عن الدين".
ولم تقتصر في العراق على مدينة النجف الأشرف فقط، بل عمت مدن العراق، وينقل الدكتور علي الوردي أيضاً هذه القصة: "حدثني أحد المسنين من أهل الكاظمية عما جرى في هذه البلدة من نزاع شديد وجدال حول المشروطية، فقد كان أكثر العامة من دعاة الاستبداد ويعدون الملا كاظم الخراساني هو واتباعه كفاراً ولا يكادون يسمعون عن أحد العلماء أنه "مشروطة" حتى ينتفضوا عنه ويلعنوه ويتركوا الصلاة خلفه". ويضيف : "كان الوضع في كربلاء يختلف عن الوضع في النجف من بعض الوجوه، فقد كان في كربلاء حينذاك واعظ إيراني من أنصار الاستبداد واسمه السيد أكبر شاه، وكان خطيباً مصقعاً له لحية طويلة وتأثير قوي على العامة. إنه كان يعظ ضد المشروطية قبل اعلان الدستور العثماني، وظل يخطب بعد اعلانه من غير أن يخشى أحداً. وفي شهر آذار من عام 1909 وصل كربلاء واعظ إيراني من المشروطيين اسمه الشيخ جواد، وبدأ منذ ذلك الحين نزاع شديد بين الرجلين من على المنابر. وانقسم أهل كربلاء إلى فريقين، كل فريق التزم واعظاً، وصار يكفر بعضهم البعض.
كان قتل الحسين من المواضيع التي اتخذها الفريقان مستنداً لهما في الجدل. فأنصار المشروطية يعتقدون أن الحسين إنما قتل بسيف الاستبداد وأنه لو كان نظام المشروطية سائداً في زمانه لاختاره المسلمون خليفة عليهم بدلاً من يزيد. أما أنصار الاستبداد فرأيهم أن المشروطية تعنى الشورى وأن الشورى هي التي أدت إلى ضياع الخلافة من أهل البيت ووصولها إلى رجل مثل يزيد".
     يقول السيد محمد مهدي الموسوي الكاظمي -وهو من أنصار السيد اليزدي- في ذم المشروطة: " إنها هي التي أنزلت الملوك عن عروشها والسلاطين عن تخوتها، وقتل فيها العلماء الورعون والوزراء العادلون، وأحدثت في الإسلام ثلمة عظيمة لا يسدها إلا ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه وسهل لنا مخرجه، وقد ذهب أبالسة المشروطة إلى حجة الإسلام السيد محمد كاظم اليزدي، عليه الرضوان، ليخلوه في حزبهم العاطل. كما أغفلوا جماعة من معاصريه، ولكن سيدنا المعظم استعلم سراً عن أحوال الحزب المشروطي من أهالي بعض المدن الإيرانية، ممن يثق بقولهم، فلما كتبوا له حقيقة الأمر لم يدخل في الحزب، وقعد في داره خائفاً يترقب. وقد أرادوا قتله. لكن رؤساء أعراب النجف، وهم أهل الغيرة والحمية والديانة والفتوة حفوا به وطافوا حول داره كطوافهم حول الكعبة المشرفة لم ير العدو الفرصة في قتله".
     ينقل الدكتور الوردي هذه القصة بقوله: "حدثني أحد المسنين من أهل الكاظمية: أنه كان عند وفاة الخراساني صبياً وكان يسمع باذنه سب الخراساني وتكفيره شائعاً على ألسنة الكبار المحيطين به، وصادف أن ذهب إلى النجف مع أهله للزيارة في تلك الأيام فوجد المآتم والفواتح تقام للخراساني في كل مكان، فكان عجبه شديداً وأخذ يسأل أهله: كيف يجوز للناس أن يقيموا المآتم للكافر أي الخراساني؟ ولم يستطع أهله أن يقدموا له جواباً مقنعاً".
    وبعد اعلان الدستور العثماني، وبعد أن كان أنصار المشروطة مستترين في سراديب، تغير الحال وأصبح من صالحهم، "فقد انكمش العوام أتباع (السيد) اليزدي وأصبح الجو ملائماً لاتباع (الآخوند) الخراساني يصولون فيه ويجولون. ونظم الشيخ علي الشرقي قصيدة يهجو بها اليزدي ويتشفى به، كما نظم السيد صالح الحلي بعض الابيات اللاذعة من الشعر قارن في أحدها بين اليزدي ويزيد".
     يقول السيد النجفي القوجاني: "وكان الطلاب والفضلاء والزاهدون في الدنيا والنابهون وأهل الأذواق والسرائر النقية من مؤيدي الحركة الدستورية متحلقين حول الآخوند. أما الذين في قلوبهم مرض بل أمراض وزادهم الله مرضاً. الذين كانوا يعبدون ذواتهم من مؤيدي (المستبدة) فكانوا يحومون حول مركز الاستبداد ويسجدون لآلهتهم وجامعة جمعهم يوم التناد".
 ويقول: "وقد انهمك بعض أنصار اتجاه (المستبدة) من الحمير المتظاهرين بالقداسة ومن المحتالين في الشيطنة واستخدام الأساليب السياسية ضد أنصار (الدستورية) حيث عرضوا أرواح وأموال وأعراض وكرامات أولئك المساكين للخطر. ولم يتركوا تهمة أو بهتاناً وانتساباً للبابية أو الارتداد عن الإسلام إلا ألصقوه بهم. وقد ادعوا أن الشيخ الآخوند هو من أصل إفرنجي وأنه غير مختون. وإن أماكن الحجر الصحي في العراق التي أصبحت سبباً لإلحاق الأذى بالزوار بل موتهم قد أُقيمت بأمر من الآخوند وإلى غير ذلك من الاتهامات التي أُلصقت بطلبة العلوم الدينية التي كانت تهمة البابية واحدة منها. ولم تكن تلك الدعايات مقتصرة على داخل مدينة النجف، بل تعدتها إلى العراق بأسره وإلى العشائر إلى الحد الذي لاقى فيه الطلاب الأذى على أيدي إعراب البادية. ولم يكن هناك أمان حتى في النجف. وازداد الوضع تردياً حتى أن الطلاب لم يجرؤا على الذهاب لزيارة كربلاء لمدة سنة. كما لم يستطيعوا الذهاب إلى الكوفة للنزهة أو المبيت فيها وفي "السهلة" خوفاً على أرواحهم، وظلوا سجناء داخل جدران سور المدينة".
 ويردف بقوله: "وقد تحسن الوضع بعد إعلان الإصلاحات الدستورية العثمانية حيث نصت القوانين على ضرورة احترام طلاب العلوم الدينية في النجف وضمان سلامة أرواحهم. إلا أن الحمير اللابسين مسوح القداسة واصلوا تحريض أهالي الأرياف الذين تحمسوا لقتل أي طالب إيراني يرونه في خلوة. ولذا فقد حرم هؤلاء الطلاب من السفر من النجف إلى كربلاء أو الكوفة لإداء بعض الأعمال العبادية المستحبة كتلك الزيارة التي تعادل تسعين حجة وعمرة حجك وعمرة النبي (ص)".
 ومما قاله كذلك: "ولما كان أغلب الكربلائيين من علماء وعامة من مؤيدي (المستبدة) حتى أنهم قد أظهروا الأفراح ووزعوا المرطبات والحلوى وأقاموا الزينة عندما توفي الميرزا حسين بن الميرزا خليل وهو من المجتهدين الكبار الموقعين على ورقة الحركة الدستورية. فقد سمعنا منهم في تلك الأيام التي جئنا فيها نحن الطلاب من الكاظمية بعد أن توقفت حركة جند الله نحوها، سمعنا الكثير من اللوم والهزء من الكربلائيين أصدقاء كانوا أم أعداء. وقد استمروا في تلك السخرية طويلاً. كان هناك أمام الجماعة الهندي الذي كنت على علاقة معرفة به نظراً لعلاقة عائلة زوجتي به، والذي كانت (الدستورية) لديه تعني الكفر، ويرى في الآخوند كافراً.
    مهما يكن، فإن هناك بعض الكلمات والمواقف التي تدلل على أن أصل الخلاف حول المشروطة والمستبدة كان بين الآخوند الخراساني والسيد اليزدي، وليس بين أتباعهما فقط، ففي خطاب للآخوند الخراساني يخاطب فيه الشاه بشدة وينذره ويتوعده يقول فيه: يا منكر الدين ويا أيها الضال الذي لا نستطيع مخاطبتك بقلب شاه. كان المرحوم أبوك أعطى الدستور ليرفع الظلم والتصرفات غير القانونية عن الشعب الذي كان في ظلام دامس قروناً عديدة حيث انه لا يوجد المشروطية شيء يخالف الدين ... ولكنك من اليوم الأول الذي تبوأت فيه عرش السلطة وضعت تحت أقدامك جميع الوعود والايمان وعملت بجميع الحيل ضد المشروطية. وقد تجلى لنا خطأنا فيك حيث سعيت أن تجعلنا آلة بيدك ضد المجلس... والآن سمعنا أنك أرسلت إلينا أحد رجالك المقربين لشراء ذممنا بالذهب، ولست تعلم أن سعادة الشعب أثمن كثيراً من ذهبك... ان ذكرك للدين والشريعة كذب وهراء أردت بكذبك هذا اغفال البسطاء المتمسكين بالدين لتمنع الدستور وتجعل الناس في ذل وفقر. وعلى هذا انت عدو للدين المقدس وخائن للوطن وتشبه السارق الذي يسرق الناس باسم الدين والشريعة... إنك أنت والمجتهدون المرتزقة الذين يدعون بمخالفة المشروطية للشرع يتجاهلون حقيقة الدين بأن العدالة شرط حتى في الأمور الجزئية... وإذا حصل تأخير منك عما قلنا فاننا سوف نحضر جميعاً إلى إيران ونعلن الجهاد ضدك. ولنا في إيران اتباع كثيرون، والمسلمون كثيرون أيضاً. فإننا أقسمنا على ذلك".
     فهذا الخطاب الحاد من قبل الآخوند الخراساني ليس موجهاً للشاه فقط، بل ويشمل من أسماهم المجتهدون المرتزقة الذي يدعون مخالفة المشروطية للشرع كما جاء في كلماته.

     وهذه المواقف والخطابات الشديدة لأنصار المشروطة ضد من يقف ضدها، يقابله أيضاً مواقف شديدة من مناوئيهم، إذ تُنقل عن السيد اليزدي وأنصاره بعض المواقف، منها: عندما أنذرت روسيا الحكومة الإيرانية وأعطت مهملة لمجلس الشورى لتنفيذ مطالبها يومين وإلا سوف تزحف قواتها المرابطة في الشمال على العاصمة الإيرانية... وفي هذه الاثناء انشغلت النجف وكربلاء بالانذار الروسي، وعطلت الدروس وصلوات الجمعة، لا سيما إثر وصول برقية رئيس المجلس إلى السيد إسماعيل الصدر في (3 ديسمبر 1911) الذي يخبره فيها عن دخول الجيش الروسي إلى قزوين، ويطلب دعم العلماء لموقف المجلس الرافض للانذار، حيث عقد الصدر اجتماعات مع العلماء الاخرين. وبدا أن المشكلة الرئيسية التي تعترض قيام موقف قوي في الحوزة العلمية، هو الصراع الذي اشتد في الآونة الاخيرة بين الدستوريين وانصار اليزدي. ولذلك تركزت الجهود على مصالحة اليزدي والآخوند، فأرسل الآخوند الشيخ محمود النجفي إلى اليزدي مع رسالة السيد الصدر وبرقية رئيس المجلس، طالبا منه اقتراح ما يراه مناسبا وأنه سيكون طوع أمره. وكانت هذه مبادرة غير مسبوقة من جانب زعيم الحوزة، لكن اليزدي الذي علم بالأمر من أوساط الآخوند اعتذر عن مقابلة النجفي بحجة المرض. وكرر النجفي زيارة بيت اليزدي أملاً في أن يؤذن له بالمقابلة فلم يحصل على ما أراد. وفي الاسبوع التالي قام شيخ العراقين والصدر والميرزا محمد تقي الشيرازي بمحاولة ثانية مع اليزدي، لكن هذا كرر الاعتذار، فقرر العلماء تنظيم اجتماع شعبي في حرم الامام علي لعرض الموقف، ففوجئوا باليزدي يتقدم نحو مصلاه المعتاد، فحاول الصدر محادثته، كما حاول رجل آخر قادم من ايران الاستغاثة به واسترحامه، وانكب على قدميه يقبلهما راجيا منه ان يوحد موقفه مع بقية العلماء، الا انه اعرض عنه. وفي الاثناء بدأ بعض أتباع اليزدي يرفعون اصواتهم قائلين إن ثمة مؤامرة لقتل السيد، فاشتبك الناس مع بعضهم وضرب كثيرون، بينما انسحب اليزدي إلى احدى الغرف في صحن الحرم، ولم تهدأ الامور الا بعد تدخل الشرطة التي فرقت الناس بالقوة".


     وكل ما ذكرناه فيما سبق، سواءً عن الآخوند الخراساني أم السيد اليزدي يدلل على أن الخلاف بين هذين المرجعين لم يكن مقتصراً على الأتباع فحسب، بل كان بينهما أيضاً[3].


[1] المشروطية هو اللفظ الذي اختاره الدكتور علي الوردي، حيث ذكر أنها تلفظ في تركيا "مشروطية" وفي إيران "مشروطة" وأنه اختار في كتابه اللفظ التركي، لأنه شائع الاستعمال في المصادر العربية. راجع لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج3، ص133.

[2]  أنظر : المرجعية الدينية ومراجع الإمامية، لنور الدين الشاهرودي

[3] أنظر المشروطة والمستبدة قراءة معاصرة للصراع بين الآخوند الخراساني والسيد اليزدي وأنصارهما، لسلمان عبد الأعلى.

عدد مرات القراءة:
2517
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :