قد تبدو صورة الاتفاق النووي الإيراني في الإعلام الغربي، أنه انتصار للدبلوماسية الغربية في إنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني، وهو اتفاق تم بموجبه رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران. أما في المشهد الآخر، أي المشهد العربي؛ فقد برزت عدة تحاليل سياسية عن الاتفاق النووي الإيراني، منها أن إيران ستصبح "شرطيا" على الخليح العربي باتفاق أو بتفاهم أمريكي بعيدا عن العرب ومصالحهم بالمنطقة، خاصة دول الخليج العربي، إلا أن هناك نظرية أخرى يروج لها أصحابها تقول بأن الاتفاق النووي الإيراني كان بمثابة هزيمة لإيران وفقا لرؤيتهم عن الوضع الإيراني. ولكن هناك مشهدا آخر قد يكون الأهم في كل ما تم طرحه عن إيران؛ وهو المشهد الداخلي الإيراني بعد إبرام الاتفاق النووي الإيراني وتأثير هذا الاتفاق على صراع التيارات السياسية الإيرانية، ومن أبرزها "التيار الإصلاحي" ومعه الزعيم الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني الذي يمثل التيار البراغماتي بإيران، مقابل "التيار المحافظ" ومعه الحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي الذي أصبح موقفه يتأثر بشكل مباشر بمواقف الحرس الثوري الإيراني منذ عام 2009. الحرس الثوري ليس وحده وبالرغم من أن "الحرس الثوري الإيراني" يعتبر من أهم المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، ويسيطر على أهم الملفات الداخلية العسكرية الحساسة كملف البرنامج النووي الإيراني وملف الصواريخ البالستية، بالإضافة لنفوذه وهيمنته على مؤسسات اقتصادية وإعلامية وسياسية وثقافية كبيرة جدا ومنتشرة في عموم إيران، إلا إنه ليس كل شيء في إيران، إذ يشكل التيار الإصلاحي الإيراني الذي يتزعمه الآن الرئيس الإيراني حسن روحاني والزعيم الإيراني رفسنجاني، أهم منافسين لقوة التيار المحافظ ونفوذ حليفه الحرس الثوري. وتنظر جميع التيارات السياسية للبرنامج النووي الإيراني كمشروع قومي إيراني، يعزز من قوة إيران واستقلاليتها وسيادتها أمام الدول العظمى في العالم والمنطقة، لكنها تختلف حول إدارته، وحجم التكلفة التي يتحملها النظام والتيار المحافظ. وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، كان "الحرس الثوري الإيراني" الأكثر حماسا واندفاعا لمتابعة البرنامج النووي، وعمل عن طريق هيئة الطاقة النووية - إحدى المؤسسات المرتبطة به - على تنفيذ المشروع النووي، الذي ترتبط مصلحة الحرس الثوري به، لأن نجاحه يعني بقاء الحرس في السلطة حتى الجيل الثالث من الثورة الإيرانية، وهذا ما دفعه لتحمل التكاليف الاقتصادية باهظة الثمن التي عطلت تنمية البلاد منذ نجاح الثورة الإيرانية. إنجاز إصلاحي و"روحاني" وفي اليوم الثاني من الإعلان عن نجاح الاتفاق النووي الإيراني ورفع العقوبات الاقتصادية عن طهران، احتفل الإيرانيون الذين عانى أغلبهم من التضخم والفقر والبطالة وتعطيل أكثر من 85% من الشركات الصناعية في البلاد بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران بسبب أنشطتها النووية، وفقا لإحصائات "تابناك" الإيراني. ويدرك الجميع في إيران بأن هذا الاتفاق أو "النصر الإيراني" كما يسميه جواد ظريف، أصبح إنجازا إصلاحيا وروحانيا، ولا دخل للتيار المحافظ و"الحرس الثوري الإيراني" في هذا الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية التي أثقلت كاهل المواطن الإيراني. وبكل تأكيد، سيساهم هذا الاتفاق بارتفاع شعبية روحاني والتيار الإصلاحي الذي كان مصرا أن تنجح المفاوضات النووية بأي ثمن وأي تنازل ممكن، لأن شعاره كان إنهاء ازمة الملف النووي الإيراني، وهو ما حقق به أهم وعوده الانتخابية في إيران، عكس الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي يعتبره الإيرانيون لعنة التاريخ التي حلت عليهم بفترة رئاسته السابقة. ومما يزيد من أهمية الاتفاق النووي داخليا، تزامن هذا الاتفاق مع الانتخابات البرلمانية الإيرانية التي تعد أهم انتخابات بعد الانتخابات الرئاسية في البلاد. حرب داخلية معلنة وكان رد التيار المحافظ الإيراني و"الحرس الثوري" على الاتفاق النووي هو استخدام نفوذهم وسطوتهم على "مجلس صيانة الدستور"، ضد روحاني والتيار الإصلاحي من خلال رفض أكثر من 70% من مرشحي التيار الإصلاحي في عموم إيران. ويشرف هذا المجلس على الانتخابات، ويوافق على المرشحين لمجلس الشورى، ويتكون من اثني عشر عضوا، يعين المرشد نصفهم من فقهاء المذهب الاثني عشري، والستة الآخرون من المحامين يرشحهم رئيس السلطة القضائية، الذي يعينه أيضا المرشد بشكل مباشر. ويعد رد صلاحيات أكثر من 70% من مرشحي التيار الإصلاحي في الانتخابارت البرلمانية الإيرانية حربا داخلية، لم تعد صامتة، يقودها التيار المحافظ، وبتأييد من خامنئي و"الحرس الثوري"، ضد التيار الإصلاحي، الذي سيحصل على الأغلبية الساحقة في البرلمان الإيراني لو حصل على فرصته الكاملة، بعد نجاح الرئيس الإيراني روحاني برفع العقوبات الاقتصادية عن إيران. وتعتبر الإجراءات التي اتخذها "مجلس صيانة الدستور" بحذفه لمرشحي التيار الإصلاحي الإيراني خطوة خطيرة تمهد الطريق لنزاع واسع بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي الذي يمتلك قسما كبيرا من تأييد الشارع الإيراني. ويؤكد دخول الزعيم الإيراني رفسنجاني على خط هذه المواجهة أن الأزمة القادمة في إيران ستكون داخلية بامتياز، لأن رفسنجاني لا يمكنه اتخاذ موقف حاد ضد المرشد، إلا بوقوف أصوات نافذة من رجالات الدين في قم معه. ووصف رفسنجاني هذه الخطوة، في اليوم التالي لها مباشرة، بأنها "سطوة على حقوق الشعب الإيراني". ويستخدم روحاني الآن سياسة تختلف تماما عن سياسة مير حسين موسوي وكروبي اللذين لجأا للشارع في بداية الأزمة الانتخابية، وسط إدراكه التام لإمكانيات الحرس الثوري الإيراني في إجهاض أي حراك شعبي، ما دفعه للجوء إلى رفسنجاني للوصول إلى رجال الدين النافذين والبازار الإيراني، ليتمكن من مواجهة "غطرسة" خامنئي، والتيار المحافظ، في حال لم يتراجع خامنئي عن منع الصلاحيات لمرشحي التيار الإصلاحي في المشاركة في الانتخابات البرلمانية الإيرانية. دور رفسنجاني وبعد الاتفاق النووي، سيلعب دورا محوريا في المرحلة الجديدة التي يدرك بها تماما حجم التكاليف الباهضة التي تحملها النظام في المشروع النووي، والتدخلات الخارجية للحرس الثوري الإيراني، وسط قربه لرجالات الظل في قم، الذين يلعبون دورا أساسيا في دعم المرشد وقرارات المرشد في البلاد، كما أنه شكل علاقة واسعة مع زعماء الأقليات المذهبية والعرقية في البلاد تمهيدا لدخول مواجهة حقيقية مع الحرس الثوري بعد وفاة خامنئي، لأن رفسنجاني بعد وفاة المرشد أيضا لن يكون رفسنجاني اليوم وسوف تتغير سياسته وخطابه تجاه الحرس الثوري والتيار المحافظ. ويدرك رفسنجاني جيدا أنه لا يستطيع وحده مجابهة "الحرس الثوري" إلا بدعم قوي وشامل من قبل التيار الإصلاحي ورموزه في إيران، وقد ظهرت بوادر هذا التحالف من المواقف الواضحة التي اتخذها رفسنجاني دفاعا عن الإصلاحيين ضد التيار المحافظ الذي يريد إقصاء مرشحي الإصلاح من الدخول في مجلس "الشورى الإسلامي الإيراني" أو "البرلمان القادم". "الموت لأمريكا"؟ وبعد التفاهم الأمريكي الإيراني الذي تم في الاتفاق، وتبادل السجناء فيما بين البلدين وصفقات شراء الطائرات الأمريكية؛ فإنه لا يمكن لـ"الحرس الثوري" والتيار المحافظ الاستمرار بالترويج للعداء الأمريكي تجاه إيران. ويعتقد الإيرانيون اليوم بأن الخطر الأمريكي أو التهديد الخارجي تجاه إيران أصبح من الماضي بعد رفع العقوبات عن البلاد، وبهذه الحالة سوف تبرز الخلافات الأساسية الداخلية للهيمنة على السلطة في إيران، إذ يحاول الحرس الثوري استخدام نفوذ المرشد لإقصاء التيار الإصلاحي من الدخول في الانتخابات البرلمانية القادمة. من "حارس الثورة" إلى "صاحبها" وتحول الحرس الثوري الإيراني منذ عام 2009، من حارس للثورة الإيرانية، إلى صاحب القرار الأساسي في القرارات الخارجية السياسية، وحتى القرارات المتعقلة بالوضع الداخلي وأصبح يفرض رغبته السياسية على المرشد. ويرجع السبب في ذلك إلى دخول الحرس الثوري الإيراني ولأول مرة بشكل مباشر في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وقمع الثورة الخضراء عام 2009، بأوامر من المرشد الإيراني وبعد حشده الكامل لتحقيق أهداف المرشد في فوز أحمدي نجاد بوسائل كانت تعد تدخلا مباشر من الحرس. ويستطيع المرشد اليوم فرض جميع قراراته على الحرس، بعد وقوف الحرس الثوري بجانبه في عام 2009، وفتح المجال للحرس الثوري ودخوله المباشر في المعترك السياسي الإيراني، وبسط نفوذه الكامل على العديد من المؤسسات السيادية في البلاد. ثورة جديدة؟ وليس الشارع الإيراني منقسما حول أهمية رفع العقوبات الاقتصادية عن ايران، وإنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني، لأنه يدرك تماما بأن المتضرر الوحيد والمباشر من التضخم وفرض العقوبات الاقتصادية على البلاد هو الشعب الإيراني وليس "الحرس الثوري" الذي يمتلك دولة موازية داخل إيران. ورحب أغلب الإيرانيين بنجاح فريق ظريف المفاوض، وأصبحت صور ظريف وروحاني ترفع في الاحتفالات التي رافقت رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران وسط غياب صور المرشد خامنئي، ما يعني إعلان الشارع أنه مهيأ تماما للقيام بثورة عارمة ضد رأس السلطة في طهران، في حال تم إجهاض تطبيق بنود الاتفاق النووي الإيراني في الأشهر أو السنوات القادمة، ما يجعل موقف الحرس الثوري الإيراني والتيار المحافظ ضعيفا جدا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة. إلى المرشد مباشرة وأبدى منظرو "الحرس الثوري" مخاوفهم من مجيء رئيس إصلاحي يستطيع أن يدير العلاقة بين المرشد ورئيس الجمهورية، بعيدا عن تأثير الحرس الثوري، وبالتالي يكون الحرس الثوري الإيراني بعيدا عن القرارات التي سوف تتخذ تجاه الملفات المعلقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وعلى رأس هذه الملفات الملف النووي الإيراني المرتبط بنفوذ الحرس وقوته داخل إيران. وطبق روحاني السياسة نفسها التي كان قادة تيار المحافظ و"الحرس الثوري" يتخوفون منها، وعمل على إيجاد حلول للملف النووي الإيراني، والذي يعد أهم ملف خارجي لدى روحاني وتياره الإصلاحي من خلال إدارة هذا الملف في المفاوضات النووية عن طريق المرشد، بعيدا عن تأثير تيار المحافظ والحرس الثوري الإيراني. ويبدو أن الحرس الثوري أدرك اللعبة الجديدة التي استخدمها روحاني ضد نفوذهم على المرشد، وكانت ردة فعلهم غاضبة تجاه روحاني، ومن الممكن أيضا أن يتحول هذا الموقف الغاضب للحرس الثوري ضد المرشد الإيراني نفسه، في حال تدخل بشكل مباشر لإعطاء الصلاحيات لمرشحي التيار الإصلاحي للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الإيرانية. عربي 21
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video