وبذلك تفقد إيران ورقة ضغط كبيرة استخدمتها ضد الغرب خلال المفاوضات، وسط تحذيرات من احتمال عدم التزام طهران ببنود الاتفاق، واحتفاظها بخطة تطوير برنامجها النووي بعيدا عن أعين الخصوم.
وبعد رفع العقوبات ستفتح إيران أبواب قطاعات اقتصادية للشركات الأميركية، وهي بيع الطائرات التجارية وقطع غيار للأسطول الإيراني المتقادم، شرط عدم استخدامها في النقل العسكري أو أي نشاط محظور بموجب الاتفاق النووي، كما ستتمكن الشركات الأميركية من عقد صفقات تجارية مع إيران.
وستشطب واشنطن من لوائحها السوداء أربعمئة اسم لأفراد وشركات وكيانات كانوا متهمين بانتهاك التشريع الأميركي بشأن العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي.
كما ألغيت عقوبات تمس أجانب ممنوعين من التعامل مع الإيرانيين في قطاعات اقتصادية مختلفة بينها البنوك والتأمين، والنفط والغاز والبتروكيميائيات، والنقل البحري والموانئ، وتجارة الذهب والسيارات.
استفادة اقتصادية
التحليلات تذهب في اتجاه أن العقوبات التي كانت مفروضة على إيران مسؤولة عن 20% فقط من مشاكل الاقتصاد الإيراني، وإن كان رفع تلك العقوبات سيحقق للبلاد نموا اقتصاديا يتراوح ما بين
3 و7%، كما هو متوقع.
وذلك يعني بشكل مباشر أن التخوفات بشأن استمرار الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني، وفي مقدمتها ارتفاع نسبة البطالة ستستمر. علما بأن الاستفادة من نتائج النمو المرتقب، وجبر الخسارة التي تكبدها الاقتصاد الإيراني طيلة فترة فرض العقوبات، يحتاج لفترة طويلة.
فـ الاقتصاد الإيراني يعاني من مشاكل متعددة بينها البطالة (14%)، بينما بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2014 نحو 1.9%، وارتفع قليلا عام 2015 ووصل إلى 3%، وصل معدل التضخم عام 2013 إلى 21.8% وفقا للمركزي الإيراني، وتحدث مراقبون اقتصاديون آنذاك عن أن النسبة الحقيقية للتضخم بلغت 40%.
وقد بادرت الإدارة الإيرانية تحت حكم الرئيس حسن روحاني إلى اتخاذ سلسلة إجراءات اقتصادية للتخفيف من حدة التضخم، وذكرت المصادر الرسمية أن النسبة وصلت بعد اتخاذ تلك الإجراءات إلى حوالي 15%.
يضاف إلى ذلك أن قطاع النفط، أهم مصدر للمداخيل وأكثر المتضررين من العقوبات السابقة، لن يسترد عافيته بالسرعة المطلوبة تقنيا ولوجستيا واستثماريا، علما بأن رفع العقوبات يتزامن مع انهيار مستمر بأسعار النفط حيث وصل سعر البرميل منتصف يناير/كانون الثاني 2016 إلى نحو 29 دولارا.
ومن شأن دخول إيران سوق الصادرات النفطية أن يزيد من تخمة المعروض النفطي، ما يعني استمرار الأسعار في النزول إلى مستويات قياسية.
وقد صرح أمير حسين زماني نائب وزير النفط الإيراني بأن بلاده مستعدة لزيادة صادراتها من النفط الخام بما مقداره خمسمئة ألف برميل يوميا بعد ساعات من رفع العقوبات الدولية.
وتحتاج إيران إلى دعم تقني هائل من طرف الشركات الغربية المتخصصة لرفع إنتاجيتها من النفط بحلول 2020، وتؤكد تقديرات أن حجم الاستثمارات المنتظرة لدعم خمسين مشروعا يتراوح ما بين مئة و150 مليار دولار حتى 2021.
ومع استمرار هبوط أسعار النفط، فلا يبدو أن الشركات الأجنبية متحمسة كثيرا للاستثمار في هذا المجال.
وتبقى معضلة الاستثمار من أكثر الملفات التي ستشهد تفاعلات في فترة ما بعد رفع العقوبات على إيران. فإلى جانب كونه ساحة للصراع بين التيار المحافظ المسيطر، والتيار الإصلاحي، فلا تزال المنظومة القانونية والبيروقراطية حجر عثرة أمام تنشيط حركة الاقتصاد، وقد فشل كل من رفسنجاني ومحمد خاتمي في تذليلها، حيث إن استمرارها تسبب في طرد الاستثمار، على الرغم من صدور قانون دعم وحماية الاستثمار الأجنبي الصادر عام 2002.
ووفق المراقبين، فإن الحكومة الإيرانية ستسعى بعد رفع العقوبات إلى اتخاذ إجراءات من شأنها تهيئة الاقتصاد لجلب الاستثمارات الأجنبية، وذلك من خلال إصلاح القطاع المصرفي وضبطه، إلى جانب دعم الصناعات المحلية، وحماية القطاعات الاقتصادية المؤثرة من المستثمرين الدوليين الكبار، لفائدة الهيئات والمؤسسات الداعمة للنظام الإيراني.
ويبدو أن أكثر ما ستستفيد منه طهران على المدى القريب بعد رفع العقوبات، هو الأموال المجمدة في الخارج، وتتضارب الأرقام بشأن حجمها، لكن بعض المصادر تتحدث عن أن لدى إيران ما بين مئة و140 مليار دولار من عائدات النفط مجمدة في مصارف أجنبية.
كما ستستفيد الهيئات البنكية والاقتصادية من سياسة الانفتاح على الغرب في المجالات الاقتصادية المتنوعة، حيث يقابلها من الطرف الغربي -وبخاصة ألمانيا- حماس كبير للاستثمار بالأساس في المجالات المرتبطة بصناعة النفط.
أوضاع "متفجرة"
سياسيا، جاء رفع العقوبات في ظروف قاسية تعيشها منطقة الشرق الأوسط عمقت الشروخ التي تحكم علاقات طهران بجيرانها، ما يجعل من الصعب توقع انفراجات دبلوماسية في المنطقة.
فقد تسبب التورط الإيراني المباشر في سوريا، ودعمها العسكري والدبلوماسي والسياسي لنظام بشار الأسد، والمليشيات المقاتلة إلى جانبه، في توسيع رقعة الخلاف بين إيران والدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج.
وزادت الخلافات اشتعالا مع التدخلات الإيرانية في الخارطة العسكرية والسياسية العراقية ومعها اليمنية ثم اللبنانية.
وبلغت الأزمة أوجها مع الاعتداء على السفارة والقنصلية السعودية بإيران بداية يناير/كانون الثاني 2016، ما دفع دولا خليجية وعربية لسحب سفرائها احتجاجا وتضامنا مع الرياض.
ولا تنفك التقارير تشكك في احتمال تأثير رفع العقوبات إيجابيا على العلاقات الدبلوماسية مع العرب تحديدا، ما دامت طهران مصرة على توطيد نفوذها -بكل الأشكال- في المنطقة.
علما بأن ما ترتكبه مليشيات شيعية مدعومة من إيران في كل من سوريا والعراق من جرائم قتل على الهوية لتبديل الواقع الديموغرافي (محافظة ديالى العراقية مثلا) صنع ثارات لا يمكن أن تنتهي بين عشية وضحاها.
ثم إن استمرار تلك التدخلات في بلدان مختلفة، أجج نار الطائفية التي زادت الأوضاع تأزما.
اتفاق ينهي الحرب
أما على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن الاتفاق النووي ينهي -ولو مؤقتا- فكرة شن الحرب التي راجت تهديدات بشأنها في ما سبق، بل إنه يعزز فرص حدوث تقارب بين الدولتين قد ينعكس في تنسيق الخطوات في بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك.
لكن التحليلات تذهب في اتجاه أن "الحذر والترقب" سيميز العلاقات بين طهران وواشنطن خلال فترة ما بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، حيث إن احتمالات عدم التزام طهران ببنود الاتفاق النووي تبقى قائمة في نظر الأميركيين.
كما أن استغلال ما يعرف بـ "التيار المحافظ" لانفراج العلاقة مع الغرب لتعزيز قوته، وكذلك استمرار حدة التوتر بين طهران وجيرانها وتأثير ذلك سلبا على استقرار المنطقة وتبعا لذلك تتأثر المصالح الأميركية، من شأن كل ذلك أن يعيد الأزمة بين الطرفين إلى المربع الأول، خاصة إذا جد جديد في سياسة من سيسكن البيت الأبيض من بعد باراك أوباما.
وتبقى روسيا، الحليف التقليدي لإيران، أحد أكبر المستفيدين من رفع العقوبات، علما بأن العلاقات ظلت مستمرة منذ سنوات طويلة ولم تكد تنقطع، وخاصة على الصعيد العسكري، حيث وصل حجم المشتريات الإيرانية من السلاح الروسي منذ 1991 وحتى 2015 نحو 304 مليارات دولار، في حين تتحدث أرقام عن أن حجم التبادل التجاري بينهما سيصل إلى سبعين مليار دولار سنويا.
ويرتقب أن تتطور العلاقات التجارية بين إيران والصين كذلك، وقد وصلت عام 2014 إلى رقم معاملات بلغ حوالي خمسين مليار دولار بالإضافة إلى توقع تحسن كبير في التعاملات التجارية مع مختلف القوى الغربية التي سارعت للهرولة نحو طهران منذ توقيع الاتفاق النووي.