منذ فتوى المرجع العراقي الإيراني الأصل علي السيستاني بتأسيس الحشد الطائفي -الذي استُدعي بحجة مواجهة داعش (تنظيم الدولة) ليستخدم ضد مدن الاستقلال المتمردة على النفوذ الإيراني ذات الغالبية السنية- سقط مئات القتلى المدنيين في مذابح مباشرة أو غير مباشرة وجُرح المئات وهُجّر الآلاف من العوائل مع النساء والأطفال، حيث نزحوا إلى بغداد للنجاة من القصف والمليشيات، وقد نفذت حكومة العبادي المدعومة من طهران وواشنطن حجزا قسريا عليهم لمنعهم من دخول بغداد إلا بكفيل.
وقد جرى هذا الحجز بعد تغيير تركيبة بغداد السكانية والتطهير الطائفي بعد الاحتلال الذي جرى للسّنة فيها.
تلك الإحصائيات التي نشرتها مصادر حقوق الإنسان، بعد الإعلان عن الحشد الشعبي (الطائفي) وتسليحه، وتوجيه الإعلام التابع لحكومة بغداد لحقن طائفي مشترك، مع الحسينيات التي توالي إيران، كل ذلك لم يكن إلا نموذجا واحدا من الهولوكوست الأكبر الذي شاركته فيه هذه المراجع.
ونحن اليوم نتحدث عن الإدانة السياسية الواضحة والجلية لمسؤولية هذه المراجع سواء السيستاني أو غيره في هذه الكوارث التي لا تزال تُنفذ حتى اليوم، ولا يزال هذا الحشد مفعلا وقائما ترعاه حكومة بغداد، دون أي اعتراض أو مساءلة أو رفع ملف حقوقي لمجلس الأمن أو غيره من قبل الولايات المتحدة أو الغرب، أو من قبل الدول العربية، وكل ما جرى هو مطالبة العبادي بعدم إشراك الحشد الطائفي في الاقتحامات والاكتفاء به كظهير تطهيري.
"رغم ما ارتكبه، لا يزال الحشد مفعلا وقائما ترعاه حكومة بغداد دون أي اعتراض أو مساءلة أو إحالة لمجلس الأمن أو غيره، من قبل الولايات المتحدة أو الغرب، أو من قبل الدول العربية، وكل ما جرى هو مطالبة العبادي بعدم إشراك الحشد الطائفي في الاقتحامات والاكتفاء به كظهير تطهيري"
وحتى هذا الطلب لم يُنفّذ، وعاث هذا الحشد في مناطق السنة وقتَل واستباح مدنييهم، ونفاق واشنطن والغرب مفهومُ المقصدِ كون أن حُكم بغداد منذ الاحتلال سُلم لهذه المليشيات لخدمة هدف الغرب المصلحي مع إيران ومنع عودة أي مشروع وطني عربي يجمع مصالح السُنة والشيعة وكل وطني عراقي، وخاصة حين تقهقر الاحتلال عام 2006 أمام المقاومة فأُشُعلت الأرض في وجهها بحرب طائفية استفادت من القاعدة وحماقاتها الطائفية ذلك الوقت.
لكن الغرابة في حجم التزييف العالمي الإعلامي الذي يتناول هذه الأحداث، ومع التأكيد على دموية داعش وحماقاتها التي ضربت السُنة ذاتهم وسُخر إعلامها الشنيع لتبرير هذا الهولوكوست، إلا أن ما تقوم به وسائط الإعلام ومؤسسات السياسة الغربية مغرق في النفاق والتجاهل، وخاصة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، وهذا التواطؤ ليس بريئا ولكنه جزء مهم من تغطية الهيمنة الإيرانية على العراق، لذات القرار الغربي بالاعتماد على طهران في رهن العراق لاحتلال دائم وفوضى طائفية.
وهنا تكمن أهمية تخصيص هذا البند المركزي بالاعتناء المهني والقانوني، لمواجهة هذه الحرب الطائفية الكبرى المسكوت عنها دوليا وتوثيقها لزمن قادم، والتحرك المباشر اليوم للضغط الإعلامي والسياسي على إيران ومليشياتها وخاصة عبر الراعي الأميركي، للحد من حجم الاستنزاف الواسع من الجسد العراقي والسني خاصة المحرض عليه طائفيا من هذه المراجع.
مع ملاحظة أن هذا التحريض يأتي بأسلوب ضخ ضمني يتوارى خلف مصطلحات أُسست في ضمير الفرد الشيعي على أن المقصود بها الإنسان السُني، في حين يطرح خطاب منافق للأغراض الإعلامية.
إن تتبع الحراك الديني وخطابه في هذه المراجع يعيد رسم صورة كارثية لدوره على المنطقة، وقبل هذه الفتاوى المباشرة فإن هذه المراجع رعت لعقدين من الزمن الدفع المتطرف للثقافة الشيعية وتكثيف احتقانها، الذي باشرته الثورة الإيرانية منذ قيامها، في رفع مشاعر المظلومية الطائفية، وتوسيعها، وهو ما خلق أرضية صدام طائفي في مناطق العالم الإسلامي راح ضحيته آلاف المدنيين من السنة والشيعة.
واستُخدمت هذه المراجع في تحييد دعوات الاعتدال الشيعية المعاصرة والقديمة، لتضمن ارتهان العقل الشيعي لمنظومة الخرافات والتحريض الطائفي على المسلم الآخر، ضمن الخطاب الأيديولوجي المنهجي، في حين تمارس إيران الجمهورية الدينية حملة علاقات عامة كاذبة في أوساط المسلمين لنشر التبشير المذهبي أو دعم التشيّع السياسي الذي يُساهم في خلق أرضية لمشاريع تقسيم الشرق الإسلامي، ولا يخلق مطلقا نظريات تعايش وتفاهم مدنية للحياة المعاصرة.
لكن ما جرى في العراق وسوريا يتجاوز المسؤولية السياسية والقانونية العامة إلى استسهال جرائم حرب مباشرة، عبر هذا التأسيس الأيديولوجي في فتاوى المراجع لتنظيم قوات إرهاب طائفية تحت رعاية دولة، وهو قمة الخرق والاستخفاف بالقانون الدولي والرأي العام العالمي، لكن ماكينة غالبية الإعلام الغربي المحترفة للنفاق والموقف السياسي لدول الغرب، هي التي صنعت هذا التبرير من التغول الطائفي وعسكرته وممارسة جرائم تنفيذية تحولت إلى حالة سياسية مقبولة عالميا.
"كل من يعرف تأسيس البناء السياسي في عراق ما بعد الاحتلال يُدرك أن الفرق بين نوري المالكي أو حيدر العبادي أو أي من قيادات مليشيات بدر وغيرها، هو فقط فرق في التكليف السياسي لهذه الشخصيات، وإلا فهي واحدة من حيث صناعتها الأيديولوجية"
صمتت الأمم المتحدة وأيضا صمت أمينها العام، فضلا عن مجلس الأمن، أمام هذه الفظائع ودور الفتاوى الدينية الإيرانية فيها، وكل من يعرف تأسيس البناء السياسي الحديث في العراق من بعد الاحتلال يُدرك أن الفرق بين نوري المالكي أو حيدر العبادي أو أي من قيادات مليشيات بدر وغيرها، هو فقط فرق في التكليف السياسي لهذه الشخصيات، وإلا فهي واحدة من حيث صناعتها الأيديولوجية.
وفضلا عن الدعم الذي تقدمه الدولة الطائفية، إيران والعراق، لتأسيس وتقوية مثل هذه التشكيلات التي أطلقت بفتاواها، فإن أحد أهم مصادر صناعة هذه الأيديولوجيات المستنسخة من لبنان إلى العراق، إضافة لدول آسيوية، هو إعادة تدوير المراجع للخمس المالي، الذي يضمن تدفق مليارات كبيرة يُديرها المرجع بتصرفه، وليس من مصارفها الفقراء ولا المساكين ولا دعم العمل المدني ولا الإغاثي لفقراء الشيعة فضلا عن بقية المسلمين.
هذه الأموال، التي توجه وقد كانت أحد أهم مصادر صناعة البناء الأيديولوجي لإيران في دول عربية، تضمن لهذه الحشود المعلنة أو المستترة تدفق الدعم لها ولمشاريعها الكبرى، دون أي مراقبة مالية أو تدقيق، وليس المقصود التدخل في الشؤون الدينية الاقتصادية، لكن المهم محاسبة ورصد تلك الأموال الطائلة التي تتحول إلى ذخائر قصف وبراميل موت ومُدى لذبح الأطفال، وأيضا مساءلتها قانونيا عن ذلك. علما بأن حاجة المجتمع الشيعي ذاته قائمة لتوجيه هذا المصدر لصحة الفقراء وإعاشتهم.
إن استعراض دور هذه المراجع منذ الاحتلال الأميركي الإيراني المزدوج للعراق، يعطي مؤشرا مروعا لمسؤوليتها ولكارثة الصمت القانوني والسياسي عنها، وأهمية تسليط الضوء عليها اليوم.
في الوقت ذاته تُستهدف المصادر السُنية بشراسة مع أن غالبية أعمالها أعمال إنسانية إغاثية، ومع ذلك تطارد، وأما في الحالة الشيعية فيصمت العالم والإعلام العربي قبل الدولي عن جرائم مرجعيات تعمل لقتل الناس لانتمائهم المذهبي، دون أي خوف، ويبدو أن الحذر لا لزوم له لديهم، ما دام نكاح المتعة السياسي قائما بين الشرطي الدولي والإقليمي. مهنا الحبيل - كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي