انها خارطة من نار، «ميليشياوية - طائفية» بامتياز، تتكرس ملامحها باضطراد، سواء على المستوى المحلي في اكثر من بلد، او حتى على المستوى الاقليمي، حيث تهيمن ميليشيات كالجيوش، او جيوش كالميليشيات، على مقدرات دول او بقايا دول او اقاليم او كانتونات.
ولعل العراق احد الامثلة التي استقرت فيها هذه المنهجية، وخاصة بعد انهيار الجيش الوطني للبلاد في شهر حزيران/يونيو الماضي امام ميليشيا تنظيم «الدولة»، وما تبعه من هيمنة ميليشيا الاكراد (البيشمركة) على كركوك ومناطق واسعة في الشمال، ثم استنفار الميليشيا الشيعية لوقف الزحف نحو بغداد. ومع المجازر والانتهاكات التي ارتكبها التنظيم ضد كافة الاقليات الدينية والعرقية، تشكلت قبل عدة شهور اول ميليشيا خاصة بالايزيديين، الطائفة المسالمة التي عاشت آمنة هناك لقرون طويلة. وبالامس فقط أعلنت الكتلة المسيحية في البرلمان العراقي عن تشكيل أول قوة مسيحية عراقية قوامها ألف مقاتل قيل انها تهدف للمشاركة في قتال تنظيم «الدولة». وستنضم هذه القوة إلى قوات «الحشد الشعبي» (شيعية تدعم الحكومة) تمهيدا لتحرير مناطق سهل نينوى (شمال)، من سيطرة «داعش». وجاء الاعلان غداة مطالبة نائب مسيحي في البرلمان العراقي باستحداث محافظة في العراق تكون خاصة بالمكون المسيحي بعد تحرير محافظة نينوى من سيطرة التنظيم.
وكانت الحكومة العراقية أقرت الاسبوع الماضي قانون تشكيل الحرس الوطني، وهو أحد البنود الأساسية التي جرى الاتفاق عليها إبان تشكيل الحكومة، ووافق على إثره السنة المشاركة فيها. واقر رئيس الوزراء حيدر العبادي، أن حكومته تعتمد بشكل واسع على قوات «الحشد الشعبي الشيعية في الحرب ضد تنظيم «الدولة» في اعتراف واضح بأن الجيش مازال غير جاهز لخوضها. ناهيك عن ميليشيات شيعية اخرى تعمل بامرة مراجع دينية، او سياسيين، او دول وجهات اقليمية، وتنشر القتل والرعب بدلا من الامن، ومثال ذلك ما حدث مؤخرا بشكل واسع في محافظة ديالى، وانتقل الى الانبار
قبل يومين عندما تم ذبح مدنيين على ايدي احدى الميليشيات.
ويجادل البعض بأن بعض هذه الميليشيات لعبت دورا في مقاومة الاحتلال الامريكي، ومن ثم اجباره على الرحيل. لكن الواقع انها بنيت على اساس طائفي، وسرعان ما كشفت عن وجهها الحقيقي، وهو ما دفع المواطنين السنة للمطالبة بتشكيل «جيشهم الخاص»، تعبيرا عن رفضهم لدخول تلك الميليشيات مناطقهم في حال تحريرها من تنظيم «الدولة». وبكلمات اخرى فانهم يرون انها لا تقل ارهابا عن التنظيم المذكور.
وهنا يكمن الخلل الذي يقوض بناء الدولة العراقية ذاته. اذ ان استشراء الفساد والاختراقات الطائفية والامنية ادى الى فشل مريع في تأسيس جيش وطني احترافي حقيقي لا يفرق بين المواطنين، ومع الانهيار الحتمي لهذا الجيش في اول اختيار له، كان طبيعيا ان يؤدي التدهور الامني الى ازدهار «ثقافة الميليشيات»، التي اصبحت الحل الوحيد للحصول على حد أدنى من الامن.
ومع الدعم او الاقرار الحكومي لهذا الواقع «الميليشياوي» باعتبار انه السبيل الوحيد لمواجهة تنظيم «الدولة»، لا يمكن هنا التغافل عن خطر داهم ربما لايقل عن التنظيمات الارهابية، وهو ان ذلك الواقع يمهد الساحة امام حرب مذهبية تكون هذه الميليشيات وقودها.
وقد احسن العبادي اذ بدأ مواجهة مافيا الفساد في الجيش، او ما عرف بظاهرة الفضائيين التي كلفت البلاد مليارات الدولارات خلال السنوات الثماني الماضي، الا ان هذا وحده لن يكفي لانهاء هذه الفوضى العسكرية- الطائفية.
وليس من الانصاف ان نتوقع من رئيس الوزراء الذي تولى منصبه قبل شهور فقط، ان يحقق هذا الانجاز بين ليلة وضحاها، الا انه مطالب برؤية سياسية تسرع من وتيرة اعادة بناء الجيش، على اسس حديثة، لتجعل منه الجهة الوحيدة المخولة شرعا بحمل السلاح في البلاد.
أما الاستمرار في المسار الحالي، فلا يمكن الا ان يكرس الاحتقان الطائفي، ويقرب برميل البارود من لحظة الانفجار.
رأي القدس