على وقع هجمات الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني على مملكة البحرين، سارعت دول مجلس التعاوُن الخليجي لاستدعاء سفراء لبنان لدى عواصمها، موجِّهةً تحذيراً للحزب وللإدارة اللبنانية أن تتحرك صوناً لمصالحها وأمْن أشقائها. وموقف مجلس التعاون هذا حتى في مسألة البحرين، جديدٌ نسبياً. فقليلاً ما كانت دول الخليج تهتم لصراخ الميليشيات الإيرانية من حولها، مرةً من أجل «المظلومية» الشيعية، ومرة أُخرى من أجل الممانعة والمقاومة، وفي الفترة الأخيرة من أجل مكافحة الإرهابيين والتكفيريين! أما موقف الأمين العام لـ«حزب الله»، فهو جديدٌ وليس جديداً. فدعاوى المظلومية والمقاومة والتكفير تتكرر منذ سنوات. أما الجديد فهو المقارنة بين إجراءات حكومة البحرين والسياسات الصهيونية تجاه الاستيطان والفلسطينيين! وهذه دعوى خارجة عن الحدّ، لكنها ليست جديدةً تماماً في سياق تصرفات «حزب الله» في لبنان وسوريا والعراق واليمن: الاستيلاء على الأرض والمؤسسات بالسلاح، وتهديد من يشكل خطراً على المشروع الإيراني، وادعاء تمثيل المجتمعات في مواجهة الدول، والتساوم مع الأميركيين والإسرائيليين مقابل هذا أو ذاك من الأمور! يف حصل هذا التغول، ولماذا استطاع الاستمرار؟ حصل في البداية نتيجة اعتبار ولاية الفقيه الإيرانية ولياً لأمر الشيعة في العالم من جهة، ومساعدة شيعة لبنان على مواجهة إسرائيل، باعتبار أنّ الجيش اللبناني لا يستطيع ذلك. وفي النهاية أقام الحزب دولةً داخل الدولة، مستعيناً بالقوة المسلَّحة عن ادعاء حمل السلاح في مواجهة إسرائيل فقط. وبسبب نجاح التجربة في لبنان، مدَّتْها إيران إلى العراق وسوريا واليمن.. والبحرين والكويت وأفغانستان. فعندما تكون الدول قوية يظل التنظيم الإيراني بالبلاد سرياً، ويقوم بأعمال التفجير الاغتيال والابتزاز، والتحالفات الساترة. وعندما تكون الدول ضعيفة تخرج التنظيمات بالسلاح إمّا للاستيلاء الكامل أو لمشاركة الدول والأنظمة في الإدارة والقرار. وعندما قامت حركات التغيير عام 2011 اعتبرتها إيران مؤامرةً أميركيةً عليها فمضت خطوات إلى الأمام إذ تدخلت عبر «حزب الله» والميليشيات الشيعية الأخرى في سوريا والعراق واليمن وغزة ومصر، فاجتمعت على بعض البلدان العربية أصوليتان محترفتان: الجهادية السنية التي تريد إقامة الخلافة، وولاية الفقيه الشيعية التي تريد إقامة الإمامة! وهكذا وقع العرب ووقع الإسلام في قلب الصراع بين أُسطورتين قاتلتين: واحدة تريد إقامة دولة دينية متخيَّلة على النهج المذهبي السني، وواحدة تستحضر الإمامة الغائبة لتقديم زمان صنع السلطة المطلقة التي تستحضر علامات القيامة وملاحمها بين المهدي والقحطاني والخراساني واليماني والسفياني! ولذلك يبدو الأمين العام للحزب عصرياً جداً عندما يهتم بالمقاومة والممانعة والصهيونية والاستيلاء على المطار والمرفأ، بينما يحشد جمهوره من أجل دولة التمهيد والإمام الحي من آل البيت، وحماية مزارات موتاهم!
الميليشيات الإيرانية تمارس الاستيلاء على الدول والشرذمة للمجتمعات باسم التشيع والتكفير. والميليشيات الجهادية تستولي على البترول والغاز والأراضي، وتفتت الدول وتقتل الناس إرعاباً. والجهاديون يريدون فيما يزعمون إخراج الأنظمة والأميركان، وإحلال نظام الإسلام محلَّ الجاهلية. أما الميليشيات الإيرانية فتُساوم بالتخريب الولايات المتحدة، وتريد مشاركتها نفوذها في المنطقة.
المشروع الإيراني للاستيلاء والشرذمة سابقٌ على المشروع «القاعدي» و«الداعشي». ونجاحاته الظاهرة سببها أنّ الأنظمة والشعوب ما اتخذت مقاومتها له سِمة الشمول والاتّساق. وذلك لسببين: أنّ المنفذين المباشرين هم من أهل البلاد، وقد كان هناك اعتقاد أنّ وطنياتهم ستتغلب على مذهبياتهم. كما أنّ فئات شعبية عربية اغترت بعدائها الظاهر لإسرائيل، بحيث بدا ذلك باعتباره وظيفتهم الوحيدة. وما أزال أرى أنه رغم فظاعة «الداعشيات» وأشباهها؛ فإنّ فُرَص القضاء عليها أوضح وأرجح لأنّ الأنظمة والجمهور الأعظم واجهها من البداية من دون أَوهام!
لقد انكشف «حزب الله» في مناسباتٍ عدة: في الاغتيالات، وفي احتلال غزة، وفي احتلال بيروت، وفي القتال ضد الشعبين السوري والعراقي. لكن لأنه ذراعٌ إيرانية، فقد ظل التردد قائماً، باعتبار أنّ الوصول إلى حلٍ مع إيران، ينحّي ميليشياتها عن أعناق الناس في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين. وأنا أرى الآن، بل ومنذ العام 2012 (تدخل الحزب في سوريا) أنّ العكس قد يكون الحلَّ الأقرب: انكسار الميليشيات في لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن، هو الذي يعيد الإيرانيين إلى التعقل والتفاوض!
ـ ـ ــ ــ ـ ــ ــ ــ
د. رضوان السيد - أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية - الإتحاد
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video